نهاية المرام في علم الكلام - ج ٢

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ٢

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-392-8
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٦١٦

الثالث : لو كانت الأجسام غير باقية بل يحدثها الله تعالى حالا فحالا ، جاز أن يصح من الله تعالى أن يحدث أحدنا في الوقت الثاني من كونه بالمشرق بالمغرب فيحصل بالمغرب من غير قطع تلك المسافة ، والتالي باطل بالضرورة ، فالمقدم مثله.

والشرطية ظاهرة ، وهو قول بالطفرة. وفرق بين هذا وبين ما نجوزه من أن يعدمه الله تعالى في الثاني ثمّ يعيده في الثالث بالمغرب ، لأنّ هنا حالة قد تخللت بعدم فيها ثمّ في الثالث يعود حاله إلى ما كان في الأوّل ، وما ألزمناه للنظام به أن يكون موجودا لا يرد عليه عدم وصول من المشرق إلى المغرب من دون قطع ما بينهما.

الرابع : لو لم تكن الأجسام باقية لم يكن حصول الواحد منا في مكانه ولا الجبل ولا غيرهما من الأجسام السفلية والعلوية آنين دائما ولا أكثريا ، والتالي باطل بالضرورة ، فالمقدم مثله.

بيان الشرطية : أنّ اختصاص الجسم بالمكان ليس لذات الجسم وإلّا لكان كلّ جسم في ذلك المكان ، هذا خلف ، وإنّما هو للفاعل المختار ، وفعل المختار لا يجب دوامه بل هو تابع لقصده وإرادته ، ونسبة الوجود والعدم إليه بالسوية فكان إذا أعدمه الله تعالى وهو في مكان لم يجب أن يحدث مثله ، بل ولا هو إن جوزنا إعادة المعدوم في ذلك المكان بعينه ، لكن الضرورة قاضية ببقاء الجبال وغيرها في أماكنها أزمنة متطاولة.

وفيه نظر ، فإنّه كما جاز أن يكون اختصاص الجبل الشخصي بمكانه أزمنة متطاولة لمصلحة لا تتم بدونه وإن استند إلى الفاعل المختار جاز أن يكون اختصاص نوع (١) الجبل لذلك.

__________________

(١) في النسخ : «قرع» ، وأصلحناها طبقا للمعنى.

٥٨١

الخامس : التأليف باق لا يحتاج إلى تجديد الفاعل أمثاله في كلّ حال ، فلهذا إذا وجد من أحدنا التأليف بقي ولم يؤثر فيه عدم الفاعل (١) أو عجزه ، وإذا كان التأليف باقيا فالجسم أولى ، لأنّه محلّه ويستحيل بقاء الحالّ مع عدم المحلّ.

وفيه نظر ، لأنّا نمنع وجود التأليف أوّلا.

سلمنا وجوده ، لكن نمنع بقاءه ، والتأليف في زمن الثاني يحدثه الله تعالى.

تذنيبات

الأوّل : إذا صحّ استمرار الوجود للجواهر صحّ وصفها بأنّها باقية حقيقة ، وهو اختيار أبي هاشم ، لأنّ حقيقة الباقي هو الموجود الذي لم يتجدد وجوده حالة الخبر عنه بأنّه موجود ، فللحادث بعد حدوثه حالتان :

الأولى : أن يكون وجوده متجددا حالة الخبر عنه وهو الحادث.

الثانية : أن لا يكون وجوده متجددا وهو باق.

وأجريت هذه القسمة عليه فرقا بين الحالتين. ولا يصح تحديد الباقي بأنّه الموجود وقتين ، لأنّ الله تعالى باق لم يزل ولا وقت أصلا. وأمّا أبو علي فقد حدّ الباقي بأنّه الموجود بغير حدوث فاقتضى أن لا يسمى غير الله تعالى باقيا حقيقة بل مجازا.

الثاني : حدوث الجوهر لا يستند إلى معنى (٢) ، خلافا لعبّاد وهشام بن عمرو الفوطي ، فانّهما قالا : المحدث محدث بإحداث. وحكي عن أبي الهذيل أنّه يجعل

__________________

(١) ق : «القابل».

(٢) راجع المحيط بالتكليف : ٥٠ ـ ٥٢.

٥٨٢

الإحداث معلقا من الله تعالى بقول وإرادة (١) ، ويقرب منه قول الكرامية حيث جعلوا الجوهر وغيره متولدا عن قوله كن (٢) ؛ لأنّ ذلك الحدوث يكون إمّا قديما أو محدثا ، وكلاهما باطل على ما قدمناه في باب العدم والحدوث.

ولأنّ ذلك المعنى إن كان قديما سواء كان معدوما أو موجودا اقتضى حدوث هذه الحوادث أبدا ، وهو يقدح في حدوثها ، فما أحال معلول العلة أحال وجودها على الوجه الذي يجب الحكم عنها ، وإن كان لمعنى محدث لم يصحّ ؛ لأنّ اختصاصه به إنّما يصحّ بعد وجوده ، فلو توقف وجوده على حدوث ذلك المعيّن دار.

وأيضا كان يخرجه من تعلقه بالقادر ؛ لأنّ ما يستند إلى علّة لا يضاف إلى الفاعل.

وأيضا يلزم التسلسل ، لأنّ الجوهر كما احتاج في حدوثه إلى معنى محدث فكذلك المعنى المحدث يحتاج إلى معنى آخر ، لتشاركهما في علّة الحاجة وهي الحدوث ويتسلسل.

ولا ينتقض بالمتحرك حيث احتاج في كونه متحركا إلى علة ولا تسلسل فيه. لأنّ الحركة غير مشاركة للمتحرك في وجه الحاجة إلى حركة أخرى ، وذلك المعنى المحدث قد شارك ذات الجوهر في الحاجة إلى معنى فافترقا ، ولأجل ذلك احترز أبو الهذيل هنا ، فقال : إنّ ذلك المعنى ليس بحادث ، كما أنّ الحركة غير متحركة ، وهو بعيد من جهة المعنى.

وأوجب معمر أن يحدث المحدث لمعنى ويحدث ذلك المعنى لمعنى آخر

__________________

(١) راجع الشهرستاني ، الملل والنحل : ١ : ٤٥.

(٢) قال الشهرستاني : «وعلى قول الأكثرين منهم (الكرامية) : الخلق عبارة عن القول والإرادة ...» ، المصدر نفسه : ١٠١.

٥٨٣

محدث وهكذا إلى ما لا يتناهى. وقد سلف بطلانه ، ولهذا يسمى هو ومن تبعه أصحاب المعاني (١).

الثالث : كما أنّ الجوهر لا يحدث لمعنى كذا لا يبقى لمعنى هو البقاء عند المشايخ خلافا للأشاعرة ولأبي القاسم الكعبي. ولأنّه لو كان البقاء ثابتا تسلسل ، وسيأتي البحث في ذلك إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) قال الشهرستاني في ترجمة معمر بن عباد السلمي : «قال : كلّ عرض قام بمحل فإنّما يقوم به لمعنى أوجب القيام ، وذلك يؤدي إلى التسلسل ، وعن هذه المسألة سمي هو وأصحابه أصحاب المعاني» ، الملل والنحل ١ : ٥٨ ـ ٥٩ ؛ راجع أيضا الفصل لابن حزم ٥ : ١٦١ (الكلام في المعاني على قول معمّر).

٥٨٤

البحث الثالث

في نسبة التلازم بين الجواهر والأعراض (١)

اختلف الشيخان فقال أبو هاشم : يجوز خلو الجواهر من جميع ما يصحّ وجوده فيه من لون وطعم ورائحة وغيرها إلّا الكون ، فإنّه يستحيل خلوه منه ؛ لأنّه لا يمكن أن يوجد إلّا متحيزا ولا يجوز وجود المتحيز إلّا في جهة ، ولا يحصل كذلك إلّا بكون ، بخلاف باقي المعاني. وهو مذهب الأوائل ، لكن أضافوا إلى الكون الشكل والمقدار ، لكن أبو هاشم جوز خلو الجسم من هذه المعاني في الأصل ، فإن وجد فيه لون لم يصحّ من بعد خلوه منه ما دام موجودا ، إلّا إلى ضدّ يشارك حاله الأوّل في صحّة البقاء عليه وأن لا ينتفي إلّا بضد. وإنّما يصحّ عدمه أصلا بعدم المحلّ ، وكذا باقي الأعراض.

__________________

(١) وهذا التلازم دفع بعض المتكلمين إلى أن يتصوروا أنّ الجواهر أعراض مجتمعة. أنظر البحث في الكتب التالية : المحيط بالتكليف : ٦٢ ؛ شرح الأصول الخمسة : ١١١. والبحث فيهما بعد البحث في إثبات الأعراض وحدوثها لكي ينتج بعد إثبات التلازم بين الجواهر والأعراض ، حدوث الجواهر والعالم وقدم الباري تعالى. راجع أيضا الشهرستاني ، نهاية الاقدام في علم الكلام : ١٦٥ ـ ١٦٦ ؛ أوائل المقالات : ٩٦ ؛ أبو رشيد النيشابوري ، المسائل : (جزء منه المطبوع ضمن كتاب التوحيد) : ٢١ (في أنّ الجوهر يجوز أن يخلو من كلّ عرض ما خلا الكون) وكتاب التوحيد : ١٤٨ ـ ١٩٥ ؛ الباقلاني وآراؤه الكلامية : ٣٦٥ ؛ البغدادي ، أصول الدين : ٥٦ (المسألة العاشرة من الأصل الثاني) ؛ نقد المحصل : ٢١٢ ؛ كشف المراد : ١٦٩ ؛ شرح المواقف ٧ : ٢٣٤ ؛ شرح المقاصد ٣ : ١٠٩.

٥٨٥

وقال أبو علي (١) : لا يجوز خلو الجوهر مما يحتمله أو ضده (٢) إن كان له ضد ، وإن لم يكن لم يخل منه أصلا. فلهذا امتنع عنده خلو الجسم من اللون وغيره من الأعراض. وهو مختار الأشعرية (٣). وهذا هو طريقة أبي القاسم الكعبي في الجملة. والحقّ الأوّل (٤).

__________________

(١) قال الأشعري : «وأحالوا تعرّي الجوهر من الأعراض ، والقائل بهذا القول محمد بن عبد الوهاب [أبو علي] الجبائي» ، مقالات الإسلاميين : ٣١٢. وقال فيه أيضا : «وأحال عبّاد ... أن يوجد الجسم مع عدم الأعراض كلها ... والقائل بهذا القول أبو الهذيل» ، ص ٣١١ ـ ٣١٢. واختار الشيخ المفيد مذهب الامتناع حيث قال : «فإنّه (الجوهر) لا يخلو منه أو ممّا يعاقبه من الأعراض ، وهذا مذهب أبي القاسم البلخي وأبي علي الجبّائي ومن قبلهما أكثر المتكلّمين» ، أوائل المقالات : ٩٦. وموافقة النظام في امتناع الخلو للمتكلمين أمر ظاهر ، وأنّه وإن خالفهم في تماثل الأجسام لكنّه يوافقهم في امتناع خلوها من الأعراض بناء على ما مرّ من مذهبه في تركب الجسم من العرض وذلك ظاهر لا سترة فيه ، شرح المواقف ٧ : ٣٣٤. ووافق أبو المعين النسفي من الماتريدية مختار الأشاعرة في ذلك. راجع النسفي : التمهيد لقواعد التوحيد : ١٢٦.

(٢) قال ضرار بن عمرو : «... لا تخلو الأجسام منه (العرض) أو من ضده نحو الحياة والموت ... والألوان والطعوم التي لا ينفكّ من واحد من جنسها ، وكذلك الزنة ، كالثقل والخفّة ، وكذلك الخشونة واللين والحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة و...» مقالات الإسلاميين : ٣٠٥.

(٣) قال البغدادي : «ذهب شيخنا أبو الحسن الأشعري إلى استحالة تعري الأجسام من الألوان والأكوان والطعوم والروائح» ، أصول الدين : ٥٦.

(٤) وهو مذهب صاحب «الياقوت» من النوبختيّين حيث قال : «وقد يخلو الجسم من اللون والطعم والريح ، كالهواء» ، أنوار الملكوت في شرح الياقوت : ٢١.

وقال النيسابوري في آخر هذا البحث : «فثبت بهذه الجملة صحّة خلو الجوهر من اللون ، إذ ليس بينهما علقة من وجه معقول» ، كتاب التوحيد : ١٥٩.

قال الأشعري : «جوّزوا أن يعرّي الله الجواهر من الأعراض وأن يخلقها لا أعراض فيها ، والقائلون بهذا القول أصحاب أبي الحسين الصالحي» ، مقالات الإسلاميين : ٣١٠.

والرازي أيضا خالف أصحابه الأشاعرة وقال بجواز خلو الأجسام عن الأعراض. راجع نقد المحصل : ٢١٢.

وكذلك ذهب إليه المحقّق الطوسي وجوّز خلو الأجسام عن الكيفيات المذوقة والمرئية والمشمومة. راجع كشف المراد : ١٦٩.

٥٨٦

لنا أنّ الهواء جسم لا لون له ولا طعم ولا رائحة ، وكالماء وظاهر العنبة والأجاصة حسّا ، وعدم الاحساس فيما من شأنه أن نحس به من غير مانع يقتضي النفي ، وإلّا لأدّى إلى السفسطة. وهذه حجّة أبي هاشم.

لا يقال : إنّ فيها طعوما مألوفة أو مختلفة أو يسيرة.

لأنّا نقول : لا تأثير للألفة فيما يجب عند الإدراك إن نجده ؛ ولا للاختلاف ، فإنّا ندرك الطعوم المختلفة في كثير من الأجسام ؛ ولا القلة ، فإنّ القليل مساو للكثير في صحّة الإدراك.

وأيضا لو لزم من صحّة الاتصاف بالشيء وجوده لزم وجود ما لا يتناهى من الأعراض في المحلّ الواحد دفعة ، والتالي باطل ، فالمقدّم مثله.

بيان الشرطية : أنّ كلّ محلّ اتصف بقدر من السواد مثلا أمكن اتصافه بقدر زائد عليه ؛ لأنّه لا قدر إلّا وتصح الزيادة عليه ، ووجود هذا الزائد في المحل على حدّ وجود الأصل في الصحة ، ويلزم أن توجد في قلب أحدنا ارادات واعتقادات غير متناهية.

لا يقال : الشرطية مسلّمة لو قلنا بصحّة الاتصاف بما لا يتناهى ، لكنّا نمنع صحّة الاتصاف بما لا يتناهى.

لأنّا نقول : كلّ فرد من الأفراد المفروضة يمكن الاتصاف به وبما زاد عليه ، وأيّ مرتبة من مراتب الزائد فرض أمكن فرض الاتصاف بالأزيد وهكذا إلى ما لا يتناهى ، لا تفرض زيادة إلّا ويمكن الأزيد.

وأيضا الجسم واللون متغايران ولا تعلق بينهما ، والقادر عليهما مختار ، فأمكن أن يوجد الجسم خاليا عنه ، لأنّه كما صحّ أن يجمع بينهما صحّ أن يوجد أحدهما منفردا عن صاحبه فهنا مقدمتان :

٥٨٧

المقدمة الأولى : نفي التعلق بينهما (١) ، لانتفاء تعلّق الفعل بفاعله ، إذ ليس الجسم فاعلا للسواد ولا بالعكس ، فلم يبق بينهما إلّا تعلّق الحاجة أو تعلق الايجاب. وليس بينهما تعلق الحاجة (٢) ؛ لأنّ تعلق الحاجة : إمّا أن يكون في نفس الوجود ، أو في بعض الصفات الثابتة له ، أو في بعض الأحكام له.

وليس بينهما تعلق الحاجة في الوجود ، فإنّ اللون محتاج إلى الجوهر ولا يجوز في الجوهر أن يحتاج إلى اللون ، وإلّا دار. ولا ينتقض بالكون ؛ لأنّ الجهة هناك مختلفة ، فانّ الكون يحتاج في وجوده إلى ذات الجوهر ، والجوهر يحتاج في كونه كائنا إليه ، ولا يمكن مثله هنا. فيقال : نجعل وجه الحاجة في الجوهر واللون مختلفا بأن يحتاج اللون إلى تحيز الجوهر والجوهر يحتاج إلى وجود اللون ؛ لأنّه إذا احتاج إلى تحيز الجوهر احتاج إلى وجوده من حيث يحتاج في التحيز إلى الوجود. ولأنّ الجوهر لو احتاج في وجوده إلى اللون لوجب أن يصحّ وجود اللون من دون الجوهر ؛ لأنّ من حقّ المحتاج إليه صحّة وجوده مع عدم المحتاج ، كالعلم والحياة وما يحتاج إليه من البنية (٣). ولو لا ذلك لم ينفصل المحتاج من المحتاج إليه حيث كان لا يصحّ وجود المحتاج إليه من دون المحتاج.

وليس بينهما تعلّق الحاجة (٤) في بعض الصفات ؛ لأنّ اللون يقع على الشيء ،

__________________

(١) أنظر تفصيل البحث في كتاب المسائل في الخلاف بين البصريين والبغداديين للنيسابوري : ٢٥ ، المطبوع قسم منه ضمن كتاب التوحيد.

(٢) أنظر تفصيل هذا الدليل من أوّله إلى آخره في كتاب التوحيد للنيسابوري : ١٥٠ وما يليها.

(٣) قال النيسابوري في كتاب التوحيد : «كما بيّنا في العلم والقدرة أنّهما يحتاجان في وجودهما إلى الحياة ، فلا جرم أنّه يصحّ وجود الحياة من دونهما» : ١٥١. وقال في المسائل : «ألا ترى أنّ الحياة لما احتاجت في وجودها إلى وجود البنية صحّ وجود البنية مع عدم الحياة» : ٢٨.

(٤) م : «للحاجة».

٥٨٨

كالسواد وضدّه (١). على أنّ صفات الجوهر تختلف بكونه جوهرا إذا لم تفارقه في العدم كيف يحكم بحاجته في كونه عليها إلى اللون مع ثبات الجوهرية حالة عدم اللون؟ ولأنّه مستحق للذات ، فلا يفتقر إلى معنى. وأمّا تحيزه ، فالحال فيه كالحال في كونه جوهرا فانّه واجب كما هو عليه في ذاته ، فلا يحتاج في ثبوته للجوهر إلى معنى.

وليس يحتاج الجوهر إلى اللون في بعض أحكام الجوهر ؛ لأنّ ذلك الحكم ليس احتمالا للأعراض ، لأنّه ثابت له لتحيزه لا لأجل اللون.

ولأنّه حكم واحد فلا يستند إلى الأمور المتضادة.

ولأنّ ذلك العرض إن كان هو اللون ، فلو احتاج إليه لاحتماله له وهو يحتمل ما لا يتناهى لوجب حاجته إليه ووجب وجوده فيه. ولأنّ القبول سابق فلا يجوز تعليله بالوجود.

وإن أريد به عرض آخر ، فليس بأن يحتاج إلى اللون ؛ لاحتماله ذلك (٢) العرض أولى من أن يفتقر إلى ذلك العرض لاحتماله للون (٣).

وإن أريد به منع غيره من أن يحصل بحيث هو ، فهو راجع إلى تحيزه لا إلى اللون. ولأنّه حكم واحد والألوان متضادة.

وإن أريد به صحّة إدراكه بالحاستين ، فهو لتحيزه يدرك لمسا ورؤية.

وليس بينهما تعلق الايجاب ؛ لأنّه لا يصحّ أن يكون بينهما تعلق إيجاب علّة لمعلول ، لأنّ تأثير العلّة إنّما هو في إيجاب الأحوال والأحكام للذات لا في

__________________

(١) ولا يجوز أن يحتاج في صفة من الصفات إلى أمرين ضدين. المسائل : ٢٨.

(٢) ج : «لذلك».

(٣) فلا يتميز الشرط من المشروط. ويؤدي إلى أن يكون كلّ واحد منهما مشروطا بصاحبه وذلك لا يصح. التوحيد : ١٥٥.

٥٨٩

وجودها (١) ، وإلّا لزم خروج الحوادث من تعليقها بالقادر ، ولا يجوز أن يكون الجوهر علّة في الكون. ولأنّه لا اختصاص بإيجاب بعض الألوان دون بعض.

ولا تعلق إيجاب سبب لمسبب ، لأنّه يعود بالبعض على القول باستحالة خلو الجوهر من اللون ، لأنّه كان يجوز أن لا يوجد ما يتولد عنه لعارض ، لأنّ هذا من حقيقة السبب والمسبب. وكان لا يختص بتوليد لون دون لون. وكذا لو جعل اللون مولدا للجوهر ، لأنّه كان لا يختص بتوليده إياه في جهة أولى من غيرها ، بخلاف توليد الاعتماد (٢) ، لأنّه يولد في أقرب المحاذيات من محاذاة محلّه حيث استحال الطفرة على المحال (٣).

المقدمة الثانية : إذا انتفى التعلق بينهما صحّ وجود أحدهما منفصلا عن الآخر والملازمة ظاهرة ، فانّه يجري اللون في الجسم كالجوهر مع الجوهر في جواز انفكاك أحدهما من صاحبه وانفراده عنه حيث انتفى التعلق بينهما.

احتجت الأشاعرة بوجوه (٤) :

الوجه الأوّل : قياس اللون على الكون (٥) ، فإنّه لمّا امتنع خلو الجسم عن الكون اتّفاقا بين الأشاعرة والمعتزلة امتنع خلوه عن اللون قياسا عليه.

الوجه الثاني : العرض قسمان : عرض يصحّ عليه البقاء وهي الأعراض القارة في الحس ، كاللون. وعرض غير قار ، كالأصوات. وقد اتّفق الفريقان على امتناع

__________________

(١) إذ قد ثبت أنّ الوجود في المحدثات بالفاعل. المصدر نفسه : ١٥٧.

(٢) الميل عند المتكلّمين يسمّى اعتمادا ، وهو إمّا إلى الفوق وهو الخفة ، أو إلى السفل وهو الثقل. راجع شرح الإشارات ٢ : ٢٠٨.

(٣) وفي كتاب التوحيد : «لاستحالة الطفر على الجواهر» : ١٥٨.

(٤) ذكرها النيسابوري والجواب عنها في المسائل في الخلاف بين البصريين والبغداديين : ٣٤ (ذكر جملة من أسئلتهم في هذه المسألة والجواب عنها).

(٥) قال الطوسي : «وادّعوا أنّ أبا الحسن [الأشعري] قاس اللون على الكون ...» نقد المحصل : ٢١٢.

٥٩٠

خلو الجسم عن النوع الأوّل بعد الاتصاف به. أمّا عند الأشاعرة ، فلإجراء الله تعالى العادة بخلق أمثالها عقيب زوالها. وأمّا المعتزلة ، فلامتناع انتفائها من غير طريان الضد عليها. وإذا امتنع خلو الأجسام عن مثل هذه الأعراض بعد الاتصاف امتنع خلوه عنها قبل الاتصاف بقياس احدى الحالتين على الأخرى.

الوجه الثالث : الجسم لا يرى إلّا على هيئة ، ولا يكون كذلك إلّا بلون.

الوجه الرابع : قد ثبت الفصل بين إدراك الجوهر رؤية وإدراكه لمسا على ما ثبت في التفرقة الحاصلة بين الضرير والبصير ، فإنّ الضرير يدرك لمسا لا رؤية ، وإلّا لوجب فيه إذا أدرك باللمس جسما أن يعرف لونه ، وهذا الفرق إنّما يتم لو كان البصير يراه مع اللون لا محالة.

الوجه الخامس : قياس حال الخلو على حال الاجتماع ، فيقال : إذا استحال وجود هذه الألوان في الجواهر استحال خلوه منها.

الوجه السادس : أنّ عند حدوث اللون يرى على هيئة مخالفة لما تقدم ، فيجب أن يكون في الأوّل على ضدّ هذا اللون.

والجواب عن الأوّل : أنّه (١) قياس خال عن الجامع.

وعن الثاني : أنّه يجوز خلوه عمّا لا يبقى بعد الاتصاف بها عند الأشاعرة ، وأمّا الباقي فانّه لا ينتفي عن المحل إلّا بضدّ ، وامتناع الخلو بعد الاتصاف موقوف على طريان الضد ، وقبل الاتصاف ليس هكذا ، فإن صحّ هذا ظهر الفرق ، وإلّا منعنا الحكم في الأصل ، وقلنا بجواز الخلو بعد الاتصاف وخالفنا الاتّفاق.

وعن الثالث : أنّه استدلال بالشيء على نفسه ، فإنّ الهيئة واللون سواء فمن أين أنّه لا يدرك إلّا كذلك؟ ثمّ إن كان على ما قدّروه فالواجب جواز وجوده ولا

__________________

(١) ق : «أنّه» ساقطة.

٥٩١

يرى ، لا أنّه يجب امتناع خلوه من اللون.

وعن الرابع : لا يجب رجوع الفصل إلى ما ذكرتم ، بل إلى اختلاف طريقي الإدراك، وقد يقع الفصل في الشيئين المثلين لاختلاف الطريق ، فإنّ أحد العلمين قد يكون مثلا للآخر ويتبين الفصل بينهما بحصول أحدهما عند نظر وحصول الآخر عند خبر.

وعن الخامس : أنّه قياس فاسد فإنّ المحتمل للاجتماع هو التضاد ، وهذا إنّما يثبت في حال الوجود دون حال العدم ، ولهذا يصحّ عدم الضدّين وإن لم يصح وجودهما.

وعن السادس : أنّه دعوى ، لأنّ الفصل إن وقع بين هاتين الحالتين فليس لأجل ان كان فيه معنى تضاد ما قد حصل الآن ، بل هو لوجود معنى لم يكن فيه من قبل.

٥٩٢

البحث الرابع

في أنّ الأجسام مرئية

اختلف الناس في ذلك (١) ، فذهب المتكلمون من المعتزلة والأشاعرة إلى أنّها مرئية. وقالت الفلاسفة : إنّها مرئية بالعرض لا بالذات (٢) على معنى أنّها من حيث هي أجسام أو جواهر مجردة عن الأعراض غير مرئية ، ومن اتصافها باللون والضوء تصير مرئية بواسطتهما. وحكى عن الصالحي أنّه جعل المدرك هو اللون دونه. وبالضد من هذا قول من زعم أنّ المدرك هو القائم بنفسه ، فأخرج اللون من كونه مرئيا على ما يقوله الكلاميّة (٣).

__________________

(١) فقال أبو الهذيل : الأجسام ترى. وكان الجبائي يوافقه. وقال النظام : محال أن يرى الإنسان إلّا الألوان والألوان أجسام ولا جسم يراه الرائي إلّا لون. وقال عبّاد بن سليمان : لا يرى الرائي إلّا الأجسام.

وقال أبو الحسين الصالحي : الأجسام لا ترى ولا يرى إلّا لون والألوان أعراض. وقال معمّر : إنّما تدرك أعراض الجسم ، فأمّا الجسم فلا يجوز أن يدرك. راجع مقالات الإسلاميين واختلاف المصلّين : ٣٦٢ ـ ٣٦٣.

(٢) قال الرازي : «الأجسام مرئية ، خلافا للفلاسفة». ودافع الطوسي عن الفلاسفة وبيّن مرادهم بقوله:«الفلاسفة لا ينكرون كون الأجسام مرئية ، بل إنّما يقولون : الأجسام مرئية بتوسط الألوان والأضواء ، وليست بمرئية بذاتها من غير توسط بشيء ، وإلّا لرئي الهواء» ، نقد المحصل : ٢١٣.

(٣) كذا.

٥٩٣

احتج المتكلمون بأنّا نرى الطويل العريض (١) ، والطول لا يجوز أن يكون عرضا ، لأنّه ثبت كون الجسم مركبا من الأجزاء التي لا تتجزأ فلو كان الطول عرضا لكان محله الجزء الواحد ، لاستحالة قيام العرض الواحد بأكثر من محل واحد ، فالجزء الموصوف بالطول يكون أكثر مقدارا مما ليس موصوفا به فيكون الطويل قابلا للقسمة ، وهو محال. وإذا كان الطول نفس الجوهر والطويل مرئي ، فالجوهر مرئي.

وأيضا الأمارة التي معها يثبت كون الشيء مرئيا حاصلة في الملون ولونه ، فليس جعل أحدهما هو المدرك أولى من الآخر ، فيجب كونهما جميعا مدركين.

بيان ثبوت الأمارة فيهما : أنّا نعلم في الجوهر عند استعمال الآلة في إدراكه الصفة المقتضاة عن صفته الذاتية ، كما نعلم الهيئة في السواد ، فإن جوزنا أن لا يكون الجوهر مرئيا جوزنا مثله في اللون.

وتوضيح ذلك : أنّا نفرق بين الطويل من الأجسام والقصير منها عند زوال الموانع ، ولا يمكن صرف هذه التفرقة إلى اللون ، لأنّه كان يلزم أن لا يثبت في الأغبر مع تجويزنا خلوه من اللون وتجويزنا خلافه ، ومع الشكّ في سبب الفصل لا يقع الفصل ، وكذا لو قال : إنّما يقع الفصل على طريق التبع للعلم باللون ، لأنّه كان يجب فيما يجوّز خلوه من اللون أن لا يقع هذا الفصل ، وقد عرفنا خلافه.

وأيضا لو لم يدرك الجوهر بالطريق الذي به يدرك اللون لجريا مجرى الصوت ومحله في أنّ العلم بالصوت يحصل من دون العلم على بعض الوجوه لما لم يدرك محل الصوت بالطريق الذي يدرك به نفس الصوت ، فإذا لم يصح هذا في اللون ومحله دلّ على أنّهما يدركان بطريق واحد وهو الرؤية.

__________________

(١) قال في مناهج اليقين : «بأنّا نرى الطويل العريض العميق وهو عبارة عن الجسم» : ٤٥.

٥٩٤

وأيضا قد بيّنا أنّ الجسم قد يخلو من اللون ، ولو قدرنا أنّ الله تعالى خلق أجساما عارية من الألوان لوجب على هذه القضية أن لا ندركها وهذا يؤدي إلى الجهالات.

واعترض على الأوّل : بأنّا لا نسلم أنّ الطول نفس الجوهر ، وإلّا لكان الجوهر الفرد طويلا فيعود الانقسام ، بل هو عبارة عن تأليف الجواهر في سمت مخصوص ، والتأليف عرض ، فلم لا يجوز أن يكون المرئي هو التأليف؟

وأجيب (١) : بأنّا نرى الطويل حاصلا في الحيز ، وذلك لا يعقل في العرض ، فعلمنا أنّ المرئي هو الجوهر.

والأشاعرة حيث جعلوا علّة الرؤية الوجود والجسم موجود ، حكموا برؤيته (٢).

والاستدلال بالطويل يقتضي كون الجوهر مع التأليف القائم به مرئيا ، ولا يقتضي كون الجوهر الذي هو جزؤه مرئيا.

والجواب بأنّ الطويل يرى حاصلا في الحيز ، دليل آخر وليس جوابا عمّا

__________________

(١) أنظر الجواب من صاحب الياقوت في أنوار الملكوت : ٢٢.

(٢) ومن هنا التزموا بصحّة رؤيته تعالى. أنظر هذا الالتزام والنقض والابرام في نهاية الاقدام : ٣٥٧ (القاعدة السادسة عشرة) ؛ شرح المقاصد ٤ : ١٨٨ ـ ١٩١. راجع أيضا النيسابوري ، التوحيد : ٢٥. وقال الطوسي : «والأشاعرة يقولون عند إثبات الرؤية في الله سبحانه : إنّ مصحح الرؤية هو الوجود والجسم موجود ، فيكون مرئيا» ، نقد المحصل : ٢١٣. وقال الايجي : «فذهبت الأشاعرة إلى انّه تعالى يصحّ أن يرى ...» ، شرح المواقف ٨ : ١١٥.

وقال الرازي في نهاية العقول : «من أصحابنا من التزم أنّ المرئي هو الوجود فقط ، وأنّا لا نبصر اختلاف المختلفات بل نعلمه بالضرورة ، وهذا مكابرة لا نرتضيها ، بل الوجود علّة لصحّة كون الحقيقة المخصوصة مرئية» ، شرح المقاصد ٤ : ١٩١ نقلا عن نهاية العقول. واختار الرازي أيضا صحّة رؤيته تعالى كما يرى البياض والسواد ، أصول الدين : ٧٣.

٥٩٥

تقدم ، وهو أنّ المرئي يرى حاصلا في الحيز فليس بعرض ، والدليل الأوّل أنّ المرئي يرى طويلا فليس بعرض ، وهما ضعيفان.

والاعتراض على الثاني : بمنع ثبوت الأمارة فيهما معا ، وبمنع عدم الأولوية ، وبمنع ثبوت صفة مقتضاة عن الذات ، ولا نسلم أنّا ندرك الطويل والقصير ولا نفرق بينهما إلّا بواسطة إدراك اللون والضوء. وإذا فرضنا الخلو من اللون لم يحصل الإدراك ولا التفرقة.

وعلى الثالث : بالمنع من كون العلّة اتحاد طريق الادراك.

وعلى الرابع : بالتزام أنّا لا ندرك ما يخلقه الله تعالى من الأجسام خاليا عن اللون.

واعلم أنّ التحقيق في هذا الباب أن نقول : شرط رؤية الجسم كونه ذا لون وضوء (١) ، بل شرط رؤية كلّ مرئي. فإن أراد نافي الإدراك أنّا لا ندرك الجسم العاري فحق ، وإن أراد مثبته أنّا ندركه مع هذين فحق ، وخلافهما باطل.

__________________

(١) قال الطوسي : «ويجوز رؤيتها (الأجسام) بشرط الضوء واللون وهو ضروري» ، كشف المراد : ١٧٠.

٥٩٦

البحث الخامس

في بقايا أحكام الجواهر على رأي المشايخ

وهي اثني عشر :

الأوّل : قالوا : حقيقة الجوهر ما له حيز عند الوجود (١). والمتحيز هو : المختص بحال لكونه عليها يتعاظم بانضمام غيره إليه ، أو يشغل قدرا من المكان ، أو ما يقدر تقدير المكان (٢) ، فيكون قد جاز ذلك المكان ، أو يمنع غيره من انتقاله عن أن يحصل بحيث هو.

وإنّما يحتاج الجسم إلى مكان عند حالتين :

إحداهما : أن يكون الجسم حيا منصرفا ، فلا بدّ له من مكان نقله (٣) ويثبت عليه.

__________________

(١) قال القاضي عبد الجبار : «إنّ الجسم لا بدّ من أن يكون متحيزا عند الوجود» ، شرح الأصول الخمسة : ١١٢. وقال النيسابوري : «وجود الجوهر شرط في تحيزه ، فلا جرم لا يصحّ أن يوجد الجوهر من دون التحيّز ...» ، التوحيد : ٢٧.

وهكذا قال الفلاسفة ، كما في الشفاء : «فإنّه لا جسم إلّا ويلحقه أن يكون له حيز ...» ، الفصل الحادي عشر من المقالة الرابعة من الفن الأوّل من طبيعيات الشفاء.

(٢) هكذا عرفه الباقلاني حيث قال : «والحيز هو المكان ، أو ما يقدر تقدير المكان» ، الباقلاني وآراؤه الكلامية : ٣٢٢ نقلا عن الانصاف للباقلاني : ١٦.

(٣) كذا.

٥٩٧

والأخرى : أن يختص الجسم بالثقل ، ولا بدّ له ممّا يمنع ثقله من النزول فيه.

فإذا خرج عن هذين استغنى عن المكان. ويشيرون بالمكان إلى الذي يستقر عليه الجسم ويمنعه من النزول. ولو احتاج كل جسم إلى مكان والمكان بهذا التفسير جسم لزم التسلسل. ولأنّه لو احتاج إلى مكان لكان إذا ازيل من تحته يعدم لأنّ شأن المحتاج إليه ذلك ، والتالي باطل بالضرورة (١) ، فالمقدم مثله.

الثاني : قالوا : إذا كانت الذات تثبت بطريق ، فصفاتها تثبت بذلك الطريق إمّا بنفسه أو بواسطة. ولمّا كان طريق إثبات الجوهر الإدراك وجب في صفاته مثل ذلك. والذي يتناوله الإدراك من صفات الجوهر كونه متحيزا ، إلّا أنّه ينبئ عن صفة ذاتية لا تنفك عنها وجودا أو عدما ، وكونه متحيزا مشروط بالوجود ، فثبت له الوجود أيضا. ولا يظهر تحيزه إلّا بكونه كائنا في جهة ، فصار من توابعه ، ولهذا إذا كان متحيزا موجودا صحّ فيه كونه كائنا في جهة(٢) ، فإذا خرج عن الوجود والتحيز استحال ذلك فيه ولم يمكن تعلقه بأمر سواه ، فلهذا أثبتوا للجوهر أربع صفات (٣) : الجوهرية والتحيز والوجود وكونه كائنا في جهة. وباقي الحوادث له ثلاث صفات : صفة الذات ، والمقتضى عنها ، والوجود ، وقد سلف (٤). وليس

__________________

(١) في النسخ كلمة مشوشة بعد «بالضرورة» ، وهي من زيادة النساخ.

(٢) قال القاضي عبد الجبار : «إنّه لا بدّ عند وجوده (الجسم) من أن يكون متحيزا ، ولا بدّ في المتحيز من أن يكون كائنا في جهة ...» ، المحيط بالتكليف : ٦٢.

وقال أيضا : «إنّ الجسم لا بدّ من أن يكون متحيزا عند الوجود ، ولا يكون متحيزا إلّا وهو كائن ، ولا يكون كائنا إلّا بكون» ، شرح الأصول الخمسة : ١١٢.

(٣) قال أبو رشيد النيسابوري : «إنّ صفات الجوهر ما عدا الوجود ثلاثة : كونه جوهرا ومتحيزا وكائنا». التوحيد : ١٥٣.

(٤) قال الرازي بعد نقل هذه الصفات : «فهذا هو المذهب الذي استقر جمهورهم عليه ، وهو قول أبي علي ، وأبي هاشم ، والقاضي عبد الجبار ، وأبي رشيد ، وابن متويه ...» ، نقد المحصل : ٨٣.

٥٩٨

للجوهر صفة سوى الأربع ، لانتفاء الطريق إليها ، ولو جوزناه لأدى إلى كلّ جهالة.

الثالث : يجب للجوهر إذا حصل له الوجود أن يكون كائنا في جهة ، بمعنى أنّه يحصل موجودا على حدّ لو كان هناك غيره إمّا أن يقرب منه أو يبعد عنه أو يكون يمينا أو يسارا أو غيرهما من الجهات الست (١) دون أن يحصل بحيث هو. وهذا أولى من قولهم : يوجد في مكان ، لأنّ المكان هو ما يقل الثقيل ويمنع ثقله من توليد الهبوط. ومن قولهم : المحاذاة لأنّه نسبة ، فإنّ التقابل والمحاذاة إنّما يفهم بين اثنين ، ولا يتحقّق في الجوهر الواحد.

وللجوهر بكونه كائنا في جهة حالة كماله حالة بالوجود والتحيز وغيرهما ، لاستحالة كونه في مكانين في وقت واحد. وليس لهذه الاستحالة وجه إلّا أنّه يحصل على صفتين ضدّين بكونه في جهتين ، فلو لم يختص في كونه كائنا في جهة بحال لم يكن ليستحيل ذلك. فأشبه هذا ما نقوله في إثبات الحال للعالم بكونه عالما : إنّه لمّا استحال أن يكون عالما بالشيء جاهلا به ، وإن تغاير محلّ العلم والجهل ، دلّ هذا على أنّ له بكونه عالما حالا.

الرابع : ليس للجوهر بكونه معدوما حال ، خلافا لأبي عبد الله البصري. نعم يثبت له بكونه معدوما حكم ؛ لأنّه عند عدمه يصحّ من القادر عليه إيجاده والفرق بينه وبين ما لا يصحّ إيجاده يرجع إلى حكم.

وكلام أبي عبد الله البصري (٢) باطل ؛ لأنّه لو ثبت له بكونه معدوما حال

__________________

(١) أنظر تعريف الجهات الست في الفصل الثالث عشر من المقالة الثالثة من الفن الأوّل من طبيعيات الشفاء ١ : ٢٤٦ ؛ شرح الإشارات ٢ : ١٧٠ ـ ١٧١.

(٢) أحد شيوخ القاضي عبد الجبار (٣٠٨ ـ ٣٩٩ ه‍).

قال الرازي : «اختلفوا (المعتزلة) في أنّ المعدوم هل له بكونه معدوما صفة؟ فالكل أنكروه ، إلّا أبو عبد الله البصري ، فانّه قال به» ، نقد المحصل : ٨٤.

٥٩٩

لضادت صفة الوجود ، فكنا لا نعلم ضرورة أنّ المعلوم إمّا أن يكون موجودا أو معدوما ؛ لأنّ الضرورة لا طريق لها في أنّ الذات لا تخرج عن صفتين إلى ثالث ، وإنّما يعلم ذلك بتأمل ونظر. فوجب إذا حصل العلم الضروري بما ذكرنا أن يكون المرجع بالمعدوم إلى أنّه معلوم ليس له صفة الوجود وللضرورة مدخل في مثل ذلك ؛ لأنّا نعلم أنّ الذات إمّا أن تكون لها صفة الوجود أو ليس لها صفة الوجود ، فإذا كان الكلام في ثبوت صفة وانتفائها أمكن فيه ما لا يمكن في إثبات صفتين.

لا يقال : هلا جعلتم للمعدوم بكونه معدوما صفة ويرجع بالموجود (١) إلى ما انتفت عنه هذه الصفة؟

لأنّا نقول : لا نعلم الموجود أوّلا ثمّ نعلم المعدوم ، كما نعلم الإثبات ثمّ نعلم النفي ، ولو كان كما قلتم لكنّا نعلم المعدوم أوّلا ، لأنّ العلم بانتفاء الصفة فرع على العلم بثبوتها.

الخامس : قالوا : صفات الجوهر لا يصحّ فيها التزايد إلّا في كونه كائنا ، فإنّه يتزايد عند كثرة الأكوان ؛ لأنّ المعاني إذا كثرت لم يصحّ أن تشرك في اقتضاء صفة واحدة ، بل لا بدّ من تزايد الصفات لتزايدها. وإنّما منعنا من صحّة وقوع التزايد في كونه جوهرا ومتحيزا ؛ لأنّ الجوهر يستحق كونه جوهرا لنفسه ، فلو تزايدت الصفة له بكونه جوهرا لكان قد استحق صفتين مثلين للنفس ، وهو يقتضي أن يصير مثلا لنفسه ، لأنّ هذه الصفة الزائدة لو أنّها حصلت لذات أخرى لماثلته لها (٢) ، فإذا حصلت له وجب أن يصير مثلا لنفسه ، وإن حصلت الصفتان مختلفتين أدى إلى أن يصير مخالفا لنفسه.

__________________

(١) في النسخ : «بالوجود» ، ولعلّ الصواب ما أثبتناه.

(٢) كذا في النسخ ، ولعلّ الصواب : «لما ثبت له» طبقا للمعنى.

٦٠٠