نهاية المرام في علم الكلام - ج ٢

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ٢

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-392-8
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٦١٦

البحث الثامن

في أنّ التضاد هل يثبت للإضافة أم لا (١)؟

اضطرب كلام الشيخ في هذا المقام ، فتارة منع من عروض التضاد فيها وتارة سوغ.

قال (٢) : لما بيّن أنّ العظيم لا يضاد الصغير ، إذ (٣) تقابل التضاد ليس نفس تقابل التضايف ؛ لأنّا نجد طبائع الأضداد (٤) لا تتضايف ، ونجد في الإضافات ما لا يتضاد كالجوار والجوار ، ثمّ نعلم أنّ التضاد من حيث هو تضاد من باب التضايف ، فيجب أن يكون في المتضادين شيء لا تضايف فيه ، فلما كان التضاد من حيث هو تضاد متضايفا بقي أن يكون الشيء الذي في المتضادين وليس بمضايف هو موضوعات التضاد ، فثبت أنّ المضادة لا توجد إلّا في موضوعات غير متضايفة.

__________________

(١) راجع المباحث المشرقية ١ : ٥٦٦ ؛ الأسفار ٤ : ٢٠٩.

(٢) في الفصل الثاني (في خواص الكم) من المقالة الرابعة من قاطيغورياس الشفاء : ١٣٨. بتصرف العلامة.

(٣) من هنا يبدأ الوجه الأوّل لاثبات انّ التضاد لا يعرض الاضافات ، وسيأتي الوجه الثاني.

(٤) كالسواد والبياض ، كما في المصدر.

٣٦١

الثاني : الإضافات طبائع غير مستقلة بأنفسها ، فيمتنع أن يعرض لها التضاد ؛ لأنّ أقلّ درجات المعروض أن يكون مستقلا بتلك المعروضية.

ثمّ إنّه قال في باب الإضافة : «إنّ المضاف يعرض له ما يعرض لمقولته ، فالضّعفية لمّا عرضت للكم وكان لا مضادة فيه ، لم يعرض لها التضاد. ولمّا كانت إضافة الفضلية عارضة في الكيف وفي الكيف تضاد ، جاز أن يعرض لهذه الإضافة تضاد. والحار لمّا كان ضدا للبارد كان الأحر ضدا للأبرد» (١).

ولا تناقض بين الكلامين في الحقيقة ؛ لأنّ الإضافة لمّا لم تكن طبيعة مستقلة بنفسها بل طبيعتها تقتضي أن تكون تابعة للمضاف ، وجب أن يكون في هذا الحكم تابعا أيضا ، فإن كانت معروضاتها متضادّة وجب أن تكون هي أيضا متضادة ؛ لأنّه لو لم يلزم من تضاد معروضاتها تضادّها كانت الإضافات مستقلة بأنفسها وغير تابعة لمعروضاتها ، فلهذا حكمنا بأنّ الأحر يجب أن يضاد الأبرد. وأمّا إذا كانت معروضاتها غير متضادة ، امتنع عروض التضاد لها ؛ إذ لو عرض التضاد لها دون معروضاتها كانت مستقلة بأنفسها ، فلهذا حكمنا بأنّ العظيم والصغير غير متضادين. فالكلام إنّما يسلم عن التناقض لو قيل على هذا الوجه. وإطلاقه في أنّ الإضافات لا تتضاد في باب الكم ، عنى بذلك أنّها لا تتضاد استقلالا لا أنّها لا تتضاد مطلقا ولا تبعا.

وفيه نظر ، فإنّه لا يلزم من استقلال العارض باقتضاء التضاد استقلاله عن معروضه واستغناؤه عنه مطلقا ؛ فإنّ الكيف قابل للضدية ، ومعروضه وهو الجوهر غير قابل لها.

وقيل : لا يلزم من تضاد المعروضات تضادهما لعدم البرهان عليه ، ثمّ ينتقض بالمساواة والمفاوتة فانّهما من لواحق الكم القابل للزيادة والنقصان

__________________

(١) الفصل الثالث (في المضاف) من المقالة الرابعة من قاطيغورياس الشفاء : ١٤٨. بتصرف العلّامة.

٣٦٢

وهما لا يقبلان ذلك ، فبطلت التبعية من هذه الجهة.

تذنيب (١) : حكم الشدة والضعف في هذا الباب حكم الضدية. فإن كانت المعروضات للإضافة قابلة لهما قبلتهما ، وإلّا فلا. فالحرارة والبرودة لمّا قبلتا الشدة والضعف قبلهما الأحر والأبرد.

وبعض الناس توهم أنّ الكمية لمّا قبلت الأقل والأكثر وجب أن يكون غير المساوي قابلا للأقل والأكثر ، كما أنّ الكيفية لمّا قبلت الأشد والأضعف كانت المشابهة قابلة لهما.

فنقول : غير المساوي لا يكون أشد وأضعف. نعم قد يكون أقرب وأبعد ؛ فالعشرة أبعد في المساواة للثلاثة من التسعة. والسبب في الأمرين ما عرفت من عدم قبول الكم للأشد والأضعف وإن قبل الأقل والأكثر ، فعلى هذا يكون غير مساو أقرب من غير مساو آخر ، فأمّا في كونه غير مساو فلا يقبل الزيادة والنقصان.

__________________

(١) جعله الرازي فصلا مستقلا في أنّ الإضافة قابلة للأشد والأضعف.

٣٦٣

البحث التاسع

في تفسير ألفاظ إضافيّة (١)

الأوّل : التتالي والمتتاليان (٢) هما : اللّذان ليس بين أوّلهما وثانيهما شيء من جنسهما. وقد يتفقان نوعا ، كبيت وبيت. وقد يختلفان فيه ، كصف إنسان وصف حجر ، فلا تكون متتالية من حيث إنّها مختلفة بل من حيث يجمعها أمر عام ، إمّا ذاتي كالجسمية ، أو عرضي كالانتصاب صفّا والشخوص حجما. والتشافع قريب منه.

الثاني : التماس والمتماسان (٣) هما : المتخالفان وضعا بالذات المتحد طرفاهما

__________________

(١) راجع طبيعيات الشفاء ، الفن الأوّل ، المقالة الثالثة ، الفصل الثاني (في التتالي والتماس والتشافع والتداخل والتلاصق والاتصال و...) : ٨٢ ؛ المباحث المشرقية ١ : ٥٦٨.

(٢) قال ابن سينا : «التتالي : كون الأشياء التي لها وضع ليس بينها شيء آخر من غير جنسها» رسالة الحدود.

وعرفه الآمدي بقوله : «التتالي ؛ فعبارة عن نسبة وضع شيء آخر إلى شيء أوّل من غير فاصل يفصل بينهما» ، المبين : ٨٧.

وفي المعجم الفلسفي : «تتال : تتابع أشياء في الزمان أو في المكان مع تميز بعضها من بعض ، وهو ضرب من العلاقات الثابتة» ، المعجم الفلسفي لمجمع اللغة العربية في جمهورية مصر العربية : ٣٨.

(٣) قال الشيخ : «المتماسان : هما اللّذان نهايتاهما معا في الوضع ليس يجوز أن يقع بينهما شيء ذو وضع» ، رسالة الحدود.

٣٦٤

بالوضع ، وذلك بحسب الإشارة لا بحسب المكان عند الأوائل ؛ لأنّ الأطراف لا أمكنة لها.

الثالث : التداخل والمتداخلان (١) هما : اللّذان تلقي كلّ ذات أحدهما كل ذات الآخر ، فإنّ الأطراف إذا تعدى لقاء كلّ واحد منها طرف الآخر حتى بلغ ذاته بالأسر لم تكن ذلك مماسة ، بل مداخلة ، إذ ليست المداخلة إلّا أن تلقي كلّية أحد المتلامسين كلّية الآخر حتى أن فصّل (٢) أحدهما لم يكن داخلة كلّه ، بل ما يساويه منه ، فهذا هو حقيقة المتداخلين. وأمّا كونهما في مكان واحد فذلك لازم المداخلة لا أنّه نفس ماهيتها.

قيل : الجسمان إذا تماسا تلاقيا بسطحيهما ، فالسطحان إمّا أن يتلاقيا بالكلية أو لا بالكلية.

والثاني يستلزم انقسام كلّ من السطحين في عمقه ، فيكون السطح جسما لا سطحا ، هذا خلف. ثمّ إنّه يحتاج إلى سطح آخر ويتسلسل.

والأوّل يقتضي تداخلهما واتحاد وضعهما ، فلا يتميز أحدهما عن الآخر ، لامتناع الامتياز بالماهية ، أو بشيء من لوازمها لتساويهما في الماهية واللوازم ، فإنّ الأطراف المتضايفة متحدة في تمام الماهية والحقيقة. ولا بالعوارض ، لأنّ ذلك إمّا المحل أو المكان أو الوقت ، وليس ولا واحد من السطحين مختصا بشيء من هذه دون السطح الآخر ، فلا تمايز. وأيضا السطحان لمّا اتحدا في الماهية والوضع امتنع أن

__________________

(١) عرفه الآمدي بقوله : «التداخل ؛ فعبارة عن ملاقاة شيء بأجمعه لآخر بأجمعه ويتبعه كون كلّ واحد من المتداخلين في مكان الآخر» نفس المصدر.

وقال الجرجاني : «التداخل : عبارة عن دخول شيء في شيء آخر بلا زيادة حجم ومقدار» (التعريفات : ٧٦).

(٢) الكلمة غير واضحة في النسخ ، وما أثبتناه من طبيعيات الشفاء.

٣٦٥

يختص أحدهما بشيء من العوارض دون صاحبه ، إذ ليس ثبوت العارض لأحد السطحين أولى من ثبوته لصاحبه بعد تساويهما في القبول وجهات الاختصاص. ولأنّه لو ثبتت الأولوية ثبت الامتياز سابقا على ما به الامتياز ، هذا خلف.

فإذن ليس بين السطحين المتحدين في الوضع امتياز أصلا ، فلا يكون هناك تعدد البتة ، فالسطحان واحد مشترك بين الجسمين. فالمتماسان ليس لهما طرفان ، بل طرف واحد فليسا بمتماسين ، بل متصلين. واستحال أيضا أنّ المتماسين هما اللّذان طرفاهما معا. وكذا الإشكال في تماس السطحين بالخطين وفي تماس الخطين بنقطتين.

وأيضا التماس كما يصدق في المقادير يصدق في النقط أيضا ، فإنّه يصدق أنّ النقطتين متماستان مع أنّه لا نهاية لها فلا يصدق عليها أنّ نهاياتها مجتمعة ؛ لأنّها نهايات لا ذوات نهايات ، فالتماس ليس هو اجتماع النهايات.

أجيب عن الأوّل (١) : بأنّ أحد الحدين يلاقي الآخر بالكلّية عند التماس ولا يرتفع التمايز ، بل هو ثابت بالعوارض لا بالماهية واللوازم ، فإنّه يصدق ـ حالة التماس في أحد السطحين ـ أنّه نهاية جسم من الجسمين دون الجسم الآخر ، ويصدق في السطح الآخر أنّه نهاية للجسم الآخر دون الأوّل ، وهذا الوصف قد كان حاصلا لهما قبل التماس فيبقى بعده ويحصل الامتياز به.

وفيه نظر ، فإنّهما قبل التماس متمايزان بهذا الاعتبار لا غير ، لا بالماهية ولوازمها ، لاستحالة التكثر بهما ، ولا بغير هذا الوصف ، لفرضنا خلوهما عن جميع الأوصاف سواه ، فعند التماس وحصول الوحدة إن بقى ذلك الوصف فلا وحدة حينئذ ، وإن عدم لزم المحذور.

__________________

(١) المجيب هو الرازي في المباحث ١ : ٥٦٩.

٣٦٦

وعن الثاني : بمنع صدق التماس على النقط.

فالحاصل : أنّ التماس هو ايجاد النهايات التي للمتماسين ، فسطحا الجسمين يصيران واحدا فلا يصدق عليهما التماس ، بل على الجسمين.

الرابع : التشافع وهو : حال مماسّ ثان من حيث هو كذلك. ولا يقتضي مفهوم اللفظ مشاركة الأمور المتشافعة في النوع.

الخامس : الالتصاق وهو : كون الشيء مماسا بغيره بحيث ينتقل بانتقاله. وتلك الملازمة إمّا لانطباق السطحين بحيث لا يكون أحد طرفي الجسم أولى بالانفتاح من الطرف الآخر ، فحينئذ لا يرتفع ، وإلّا لزم الخلاء ، أو يكون إنّما ينفتح بزوال صورة السطح في استوائه إمّا إلى تقبيب أو تقعير ، والجسم ربما لا يجيب إلى ذلك. أو لانغراز (١) أجزاء أحدهما في الآخر. وقد يحدث الالتصاق بين جسمين لتوسط جسم غريب من شأنه أن ينطبق جيدا على كلّ واحد من السطحين لسيلانه. ثمّ إنّه من شأنه أن يجف ويصلب كالغراء (٢) ، فيعرض بواسطة ذلك التزام سطحي الجسمين.

السادس : الاتصال (٣) ويطلق على معنيين :

أحدهما : صفة لشيء لا بقياسه إلى غيره ، وهو كونه بحيث يمكن أن تفرض له أجزاء تشترك في الحدود. والمتصل بهذا المعنى يطلق على فصل الكم ، وعلى الصورة الجسمية المستلزمة للجسم التعليمي. وقد يقال للجسم التعليمي عند ما يطلق المتصل على الصورة الجسمية اتصال أيضا. وقد يقال لهذه الصورة أيضا

__________________

(١) أي لادخال. عطف على قوله : «وتلك الملازمة إمّا لانطباق».

(٢) الغراء : الذي يلصق به الأشياء ويتخذ من أطراف الجلود والسمك. لسان العرب ، مادة غرا.

(٣) عرّفه الرازي في بحث الكم ١ : ٢٨٤. وكذلك المصنّف في أقسام الكم ١ : ٣٢٧. وانظر تفصيله في القبسات لميرداماد : ١٩٥.

٣٦٧

اتصال وامتداد بالمجاز ويقال للجسم بحسب ذلك متصل.

وثانيهما : صفة لشيء بقياسه إلى غيره ، وهو أيضا بمعنيين : أحدهما كون المقدار متحد النهاية بمقدار آخر ؛ ويقال لذلك المقدار : إنّه متصل بالثاني بهذا المعنى. والثاني كون الجسم يتحرك بحركة جسم آخر ؛ ويقال لذلك الجسم : إنّه متصل بالثاني بهذا المعنى. والاسم كان بحسب اللغة للذي بالقياس إلى الغير فينتقل بحسب الاصطلاح إلى الأوّل.

السابع : الكلّية والجزئية : وصفان إضافيان عارضان للماهيات. فالكلي (١) قد يراد به معروض هذه الماهيات ، أعني الكلي الطبيعي. وقد يراد به مجرد هذا الوصف ، أعني الكلي المنطقي (٢). وقد يراد به مجموعهما وهو العقلي (٣). والمراد هنا الأوسط ، وهو جنس للكليات الخمسة. وكلّ منها تصدق عليه الأمور

__________________

(١) وقد ذكر صدر المتألهين الكل والجزء أيضا من أقسام الإضافات ، فراجع الأسفار ٤ : ٢١٣.

(٢) عرفه ابن سينا بقوله : «اللفظ المفرد الكلي هو الذي يدل على كثيرين بمعنى واحد متفق إمّا كثيرين في الوجود ، كالإنسان ، أو كثيرين في جواز التوهم كالشمس. وبالجملة الكلّي هو اللفظ الذي لا يمنع مفهومه أن يشترك في معناه كثيرون». وعرّف الجزئي المنطقي بقوله : «واللفظ المفرد الجزئي هو الذي لا يمكن أن يكون معناه الواحد لا بالوجود ولا بحسب التوهم لأشياء فوق واحد ، بل يمنع نفس مفهومه من ذلك ، كقولنا زيد المشار إليه ...» ، منطق النجاة : ٦.

(٣) راجع إلهيات النجاة : ٢٢٠ (فصل في تحقيق معنى الكلي) ؛ الفصل الأوّل من المقالة الخامسة من إلهيات الشفاء : ٣٩٢.

فالكلي الطبيعي هو المعروض (والموضوع للكلي المنطقي) وهو الكلي بالحمل الشائع. والكلي المنطقي هو العارض وهو المضاف الحقيقي والكلي بالحمل الأوّلي. والكلي العقلي هو المجموع المركب من العارض والمعروض (أي من الطبيعي والمنطقي).

وقال القوشجي : «ولم يظهر لي بعد فائدة تقييد الكلي بالعقلي» فراجع شرحه على تجريد الاعتقاد للطوسي : ١٢٤.

٣٦٨

الثلاثة ، أعني : الجنس الطبيعي والمنطقي والعقلي ، وكذا البواقي. ثمّ الكلي الذي هو الإضافي جنس للخمسة الإضافية.

ثمّ إنّ النوع بهذا المعنى غير مندرج تحت الجنس بهذا المعنى ، بل هما متباينان تباين الأخصين تحت عام واحد ؛ وانّ مجرد وصف الجنسية لا يصدق على مجرد وصف النوعية. وإذا قيل : النوع مندرج تحت الجنس لم يعن به أنّ النوعية تحت الجنسية ، بل انّ معروض النوعية مندرج تحت معروض الجنسية ، فأمّا مجرد معنى النوعية فليست قسما داخلا تحت مجرد معنى الجنسية ، بل قسيما مباينا له مشاركا له في جنس واحد هو الكلية.

ثمّ حمل الجنسية على الكلية حمل عارض على معروضه (١). وحمل الكلية على الجنسية حمل مقوم على متقوم.

فإن قيل : الكلي من حيث هو كلي هل له وجود في الأعيان أم لا؟

قلنا : الكلي قد يراد به نفس الطبيعة التي تعرض لها الكلية. وقد يراد به كون الطبيعة محتملة لأن تعقل عنها صورة مشتركة بين كثيرين. وقد يراد به كون الطبيعة بالفعل مشتركة بين الافراد (٢). وقد يراد به كون الطبيعة بحيث يصدق عليها بعينها أنّها لو قارنت نفسها لا هذه المادة والأعراض (٣) لكان ذلك الشخص الآخر. والكلي الأوّل والثاني والرابع موجودات في الأعيان دون الثالث.

__________________

(١) ج : «معروض».

(٢) هذا المعنى الثالث ساقط في نسخة ج. والمراد منه الصور المفارقة الافلاطونية ، وقد اختلف القوم في وجودها.

(٣) العبارة كذا ، وهي في المباحث المشرقية ١ : ٥٧٣ هكذا : «وقد يراد به كون الطبيعة بحيث يصدق عليها أنّها لو قارنت بعينها لا هذه المادة والأعراض بل تلك المادة والأعراض لكان ذلك التشخص الآخر».

٣٦٩

الثامن : التام (١) هو : الذي يحصل له جميع ما ينبغي أن يكون له وهو الكامل أيضا. ثمّ إنّه يقال على أمور كثيرة :

الأوّل : يقال تام للعدد إذا كان جميع ما ينبغي أن يكون حاصلا للشيء من العدد قد حصل ، فلا يقول الجمهور لما هو أقل من الثلاثة أنّه تام ؛ لاجتماع المبدأ والوسط والمنتهى فيها ؛ والأصل فيه أنّه لا شيء من الأعداد يمكن أن يكون تاما في عدديّته ؛ فإنّ كل عدد يوجد من آحاده ما ليس فيه ، بل إنّما يكون تاما في العشرية والتسعية مثلا ، وأمّا من حيث هو مبدأ ومنتهى فإنّه يكون ناقصا من حيث إنّه ليس بينهما ما من شأنه أن يكون بينهما وهو الوسط ، وكذا إذا وجد الواسطة مع أحد الطرفين خاصة ، ولا يمكن أن يكون مبدءان في العدد ليس أحدهما وسطا يوجد (٢) إلّا بعددين (٣) ، وكذا المنتهى.

__________________

(١) عرفه ابن سينا بقوله : «التام هو الذي يوجد له جميع ما من شأنه أن يوجد له والذي ليس شيء ممّا يمكن أن يوجد له ليس له وذلك إمّا في كمال الوجود وإمّا في القوة الفعلية وإمّا في القوة الانفعالية وإمّا في الكمية. والناقص مقابله» إلهيات النجاة : ٢٢١ ـ ٢٢٢.

وعقد فصلا «في التام والناقص» في إلهيات الشفاء الفصل الثالث من المقالة الرابعة : ٣٨٩. وعبارات الرازي في المباحث ١ : ٥٧٣ والمصنف في هذا الكتاب مأخوذة منه ، فراجع.

وفي المعجم الفلسفي : «التام :) Complet (ما استكمل مقوماته. وعند «ليبنتز» المعنى التام هو الذي يصور تماما وبدقة موضوعه الخاص» : ٣٧.

فعلى هذا التعريف من التام لا يصحّ التمسك بقوله تعالى : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) (١٩٦ / البقرة) للحكم بوجوب الإتيان ببقية اعمال الحجّ والعمرة إذا فسدا ، كما ذهب إليه كثير من الفقهاء ، فلا يجب انهاؤهما إلى آخر الأعمال في صورة الفساد ؛ لأنّ كلمة (أَتِمُّوا) ليست بمعنى انتهوا ، بل بمعنى الإتيان بجميع الشرائط والمقومات. وبهذا التفسير وردت الروايات عن الأئمة الأطهار عليهم‌السلام ، مثل ما رواه عمر بن أذينة قال : كتبت إلى أبي عبد الله عليه‌السلام بمسائل ... وسألته عن قول الله عزوجل : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) قال : يعني بتمامها أدائها واتقاء ما يتقي المحرم فيهما ... الحديث ، الكافي ٤ : ٢٦٤ ؛ ومثله ما رواه زرارة عنه عليه‌السلام في تفسير هذه الآية في تفسير العياشي.

(٢) كذا ، وفي الشفاء : «بوجه».

(٣) في الشفاء : «لعددين».

٣٧٠

وأمّا الوسائط فقد تكثر إلّا أنّها تكون جملتها في أنها وسط كشيء واحد ، ثمّ لا يكون للكثير حدّ توقف عنده ، فحصول المبدئية والنهاية والوسط ، نهاية التمام ، وأقل عدد يوجد فيه ذلك الثلاثة.

الثاني : المقادير ، يقال إنّها تامة ، كما يقال فلان تام القامة ، وإذا كانت تلك أيضا محدودة ؛ لأنّ المقادير إنّما تعرف بالتحديد الذي يلزمه التقدير.

الثالث : الكيفيات والقوى ، يقال لها تامة ، كما يقال فلان تام القوة وتام الحسن وتام الخير.

الرابع : الحكماء يريدون بالتام هو أن تكون جميع كمالات الشيء حاصلة له بالفعل ، وربما شرطوا في ذلك أن يكون وجوده وكمالات وجوده حاصلة له من نفسه لا من غيره ، فإن كان الشيء كذلك ثمّ إنّه يكون مبدأ لكمال غيره ، فهو فوق التمام ؛ لأنّ منه الوجود الذي له وفضل ، عنه وجود غيره. وليس في الوجود شيء هو كذلك إلّا واجب الوجود. فالتام الذي هو فوق التمام هو واجب الوجود تعالى. أمّا العقول التي يثبتونها ، فهي تامة بالتفسير الأوّل ، وغير تامّة بالتفسير الثاني ، فإنّ الممكنات معدومة في حدّ ذواتها.

وأمّا الذي دون التمام فهو قسمان :

المكتفي وهو : الذي أعطي ما به يتمكن من تحصيل كمالاته ، كالنفس الفلكية (١). فإنّها ابدا في اكتساب الكمالات ولا تصير كمالاتها بالكلية حاضرة.

والناقص وهو : الذي يحتاج إلى غيره يفيده الكمال ، كالأشياء التي في الكون والفساد.

__________________

(١) قال صدر المتألهين : «وكذلك حال نفوس الأنبياء عليهم‌السلام ؛ لأنّهم أيضا مكتفون حيث أعطاهم الله ما به تمكنوا من تحصيل كمالاتهم وقرباتهم من الله» ، الأسفار ٤ : ٢١٥.

٣٧١

ولا يشترط (١) في التمام إحاطته بكثرة بالقوة أو بالفعل ، كالباري تعالى فإنّه تام ولا كثرة فيه. وأمّا التمام في المقدورات والمعدودات ، فهما متحدان في الموضوع (٢) والفرق أنّه بالقياس إلى الكثرة الموجودة المحصورة فيه كل ، وبالقياس إلى ما لم يبق خارجا عنه تمام.

__________________

(١) هذا هو الفرق بين التمام وبين الكل ، وتفصيله في الشفاء : ٣٩١ ، حيث قال : «ولفظ التمام ولفظ الكل ولفظ الجميع تكاد أن تكون متقاربة الدلالة ، لكن ...».

(٢) فالكلّ والتمام في المقدرات والمعدودات متحدان بالموضوع ومتغايران بالاعتبار.

٣٧٢

البحث العاشر

في حلّ شكوك تتعلق بمداخلة أنواع

من الكيف وغيره لأنواع المضاف

نقل الشيخ عمّن تقدمه : أنّ هنا اعراضا كثيرة عدّت في الكيفيات ، وهي من المضاف ، كالملكة والقوة والعلم.

وأجاب بأنّ هذه الأشياء ليست بذواتها من المضاف ، بل ممّا قد عرضت له الإضافة ؛ لأنّ لها وجودا غير ما هي به مضافة. فإنّها وإن كانت ماهياتها مقولة بالقياس إلى غيرها ، فإنّها لا يجب بذلك أن تكون من مقولة المضاف ، فإنّ العلم لو كان لذاته يقال ماهيته بالقياس إلى غيره ، ولوجوده الذي يتقوم به من كلّ وجه ، ولم تكن كيفية تلزمها إضافة ، فله(١) وجود أنّه كيفية ، ويلحقها وجود هو به مضاف ، لكان إذا حصل العلم وخصص أثر ذلك في تخصيصه كونه مقول الماهية بالقياس.

لكن ليس الأمر كذلك فإنّ نوعيات العلم ، كالنحو ، لا يقال ماهياتها بالقياس إلى غيرها في حدّ تخصصه ، بل من جهة معناه الأعم ، وهو كونه علما ، فلا

__________________

(١) في المصدر : «وله».

٣٧٣

يقال : النحو نحو بشيء ، بل يقال : إنّ النحو علم بشيء. فكما أنّ في الجوهر لا يقال : هذا الرأس هو هذا الرأس لشيء ، بل يقال : هذا الرأس رأس لشيء. ويستحيل أن يكون الجنس داخلا في مقولة ، وتكون أنواعه غير داخلة في تلك المقولة. فإذا لم يكن النحو من المضاف فجنسه الذي هو العلم لا يكون منه. إلّا أنّه يعرض له المضاف عروضا لازما ، لا على أنّه نوع من المضاف.

ويمكن أن يدخل الشيء في مقولتين على وجهين بأن يكون في إحداهما بالذات على أنّه نوع منه ، وفي الأخرى بالعرض على أنّه موضوع لمعروضه (١). أو على أن يكون فيهما معا بالعرض ، ويكون نوعا لمقولة ثالثة. فلا يلتفت إلى ظن من جوز أن يكون الشيء في جنس وأنواعه في جنس مباين له. فالنحو داخل تحت جنس الكيف ، وتعرض له الإضافة من خارج كما عرضت لجنسه.

لا يقال : حكم النحو حكم العلم ، فإنّ النحو نحو بالقياس إلى شيء ، وهو إعراب اللغة.

لأنّا نقول : إعراب اللغة ليست ماهيته ، من حيث هو إعراب اللغة ، مقولة بالقياس إلى النحو ، فكيف يكون النحو مضافا إليه والمتضايفان كلّ منهما مقول بالقياس إلى الآخر؟ وإعراب اللغة إنّما يقاس إلى النحو إذا كان معلوما ، فإنّ إعراب اللغة لو وجد ألف سنة (٢) ولم يعلم ، لم تكن ماهيته مقولة بالقياس إلى النحو. وإذا كان كذلك فمقابل المعلوم ، من حيث هو معلوم ، العلم أو العالم من حيث هو عالم ، فلما لحق إعراب اللغة المعلوم فصار إعراب اللغة معلومة ، صار بإزائه هيئة نفسانية ، هي علم. فالهيئة (٣) النفسانية التي علم ، جملتها مقولة

__________________

(١) في المصدر : «لعروضه له».

(٢) الكلمة في النسخ غير واضحة ، والصحيح ما أثبتناه من المصدر.

(٣) كذا في المصدر ، وفي النسخ : «بالهيئة».

٣٧٤

بالقياس إلى هذه الجملة ، وإذا فصلت الهيئة والتفت إلى كونها ماهية (١) ولم تلتفت إلى ما عرض لها من إضافة إلى خارج صار بها علما ، كان وجودا غير مضاف. وكذلك إذا التفت إلى إعراب اللغة وفصلت عنه كونه مطابقا له هيئة نفسانية حتى زال عنه أنّه معلوم ، كان وجودا غير مضاف. وكذلك هذا الرأس ، فإنّه من حيث هو رأس ، مضاف إلى البدن من حيث هو ذو رأس ، فإذا اعتبر الجوهر المشار إليه لم يجب أن يكون النظر إليه من حيث هو ، نظرا في أنّه رأس ، كان له وجود خاص ، وكذلك في جانب ذي الرأس. نعم الإضافة اللاحقة هناك ، لازمة للهيئة التي في النفس ، وليست لازمة للرأس» (٢).

__________________

(١) في المصدر : «هيئة».

(٢) الفصل الرابع (في حلّ شك يتعلق بمداخلة أنواع من الكيف وغيره ، لأنواع من المضاف) من المقالة السادسة من قاطيغورياس الشفاء ١ : ٢٢٣ ـ ٢٢٧.

٣٧٥

الفصل الثاني :

في الأين (١)

وفيه مباحث :

البحث الأوّل

إنّ هنا جسما بالضرورة ، ولكلّ جسم مكان هو بعد شاغل له بالضرورة ،

__________________

(١) أنظر جملة من التعريفات للأين :

الفارابي : «هو نسبة الجسم إلى مكانه» ، المنطقيات للفارابي ١ : ٦١.

ابن سينا : «نسبة المتمكن إلى المكان الذي هو فيه» ، الفصل الخامس من المقالة السادسة من مقولات الشفاء.

بهمنيار : «هو كون الجوهر في مكانه الذي يكون فيه» ، التحصيل : ٣٣.

الغزالي : «المراد به نسبة الجوهر إلى مكانه الذي هو فيه» ، معيار العلم في المنطق : ٢٣٥.

الجرجاني : «هو حالة تعرض للشيء بسبب حصوله في المكان» ، التعريفات : ٦٠.

الآمدي : «الأين ؛ فعبارة عن حالة تحصل للجسم بسبب نسبته إلى مكانه» ، المبين : ١١٦.

الرازي : «هو عبارة عن حصول الشيء في مكانه» ، المباحث المشرقية ١ : ٥٧٨.

التهانوى : «هيئة تحصل للجسم بالنسبة إلى مكانه الحقيقي ، أعني أنّه الهيئة المترتبة على الحصول في الحيز» كشاف اصطلاحات الفنون ١ : ٩٩.

٣٧٦

فالأين ليس هو الجسم الحاصل في المكان ، ولا المكان المشغول بالجسم ، بل هو حصول الجسم في مكانه. وهذا الحصول ليس في نفسه نسبة ، بل أمر حقيقي تعرض له النسبة ؛ فإنّ حصول الشيء في مكانه لو جرّد عن النسبة لكان حصولا مطلقا ، وليس ذلك إضافيا وإنّما عرضت الإضافة ، أعني النسبة باعتبار جزء من النسبة وهي خارجية ، فلهذا لم تكن مطلق النسبة جنسا.

قيل : إنّه ليس عبارة عن نسبة الشيء إلى مكانه ، بل عن أمر وهيئة تتميز بالنسبة إلى المكان.

واعترض عليه (١) : بأنّ ذلك الأمر والهيئة إن لم يكن نسبيا كانت الأعراض التي ليست نسبيّة أمورا زائدة على الكم والكيف ، وهو باطل. وإن كان نسبيا ، فتلك النسبة ليست إلى شيء آخر ، بل هي النسبة إلى المكان بالحصول فيه ، وهو المطلوب.

ولأنّ النسبة إلى المكان بالحصول فيه أمر معلوم ، فمن ادّعى غيره وجب عليه إفادة تصوره ، ثمّ إقامة الحجّة على ثبوته.

وفيه نظر ، فإنّا نمنع الحصر.

سلّمنا ، لكن الأعراض التي ليست نسبة لا يشير بها إلى اعراض تلزمها النسبة ، فإنّ ما عدا الإضافة من السبعة أعراض تلزمها النسبة ، والنسبة إلى المكان بالحصول فيه لو كان هو الأين نفسه لكان الجنس العالي متوسطا ، هذا خلف.

__________________

(١) المعترض هو الرازي في المباحث ١ : ٥٧٨.

٣٧٧

البحث الثاني (١)

الكون في المكان الذي هو عبارة عن الأين ليس هو الكون في الأعيان الذي هو الوجود (٢) ، لوجوه :

الأوّل : الوجود مشترك بين الموجودات ، فلو كان هو الكون في المكان لكانت الموجودات مشتركة فيه ، فتكون بأجمعها كائنة في المكان ، هذا خلف.

وفيه نظر (٣) ، فإنّ القائل بأنّ الأين هو الوجود لا يشير بذلك إلى أنّهما واحد ، بل إنّ الكون في المكان نوع مندرج تحت مطلق الكون في الأعيان ، ولا شكّ أنّ الحصول في المكان أخصّ من مطلق الحصول ، ولا يقول عاقل : إنّ الكون في المكان هو نفس الوجود مطلقا. نعم الكون المطلق ، أعني الوجود إذا أضيف إلى النسبة المكانية كان أينا باعتبار هذه الإضافة.

الثاني : لو كان الكون في المكان هو الوجود لكان الكون في الزمان كذلك. فإمّا أن يكونا شيئا واحدا ، أي وجودا واحدا منسوبا تارة إلى الزمان وتارة إلى المكان ، أو وجودين منسوبين إليهما. والأوّل باطل ؛ لأنّ كلّ واحد منهما مقولة ، فلو جعلناهما وجودا واحدا بالعدد لكانا مقولة واحدة لا مقولتين ، إلّا أن يجعل

__________________

(١) راجع المباحث المشرقية ١ : ٥٧٨.

(٢) قد أثبت في مباحث الوجود (في أوائل المجلد الأوّل) انّ الوجود نفس الكون في الأعيان ، فراجع.

(٣) ولصدر المتألهين أيضا نظر في هذا الوجه ، فراجع الأسفار ٤ : ٢١٦.

٣٧٨

الوجود داخلا في مفهومهما ، ويكون لكلّ منهما أمر زائد على نفس الوجود ، وهو المعنى النسبي ، فيكون الوجود جنسا لهما ، فيكون هو المقولة دونها ، وقد أبطلناه. وإن كانا وجودين ، لزم أن تكون للشيء الواحد وجودات كثيرة.

ثمّ اعترضوا عليه فقالوا : هذا بناء على أن كلّ واحد من الكونين ، أعني الكون في المكان وفي الزمان ، معنى جنسي ، فلو كان الوجود داخلا في حقيقتهما ، لزم كون الوجود جنسا ، وهذا غير مسلّم ؛ فانّهما ليسا بجنسين ، فإنّ كلّ واحد منهما نفس الوجود عارضا له الإضافة إلى ما يضاف إليه ، فيكون وجودا واحدا بعينه ينسب تارة إلى المكان وتارة إلى الزمان. وهذه النسبة لا تقترن به اقتران الفصول المقومة لطبائع الأجناس ، بل اقتران العوارض. فإذن الوجود الذي عرضت له النسبة إلى المكان هو الذي عرضت له النسبة إلى الزمان ، فلا يلزم أن تكون للشيء الواحد وجودات كثيرة.

والتحقيق أنّ للمتمكن في ذاته وجودا وله نسبة إلى المكان ، والمفهوم من وجوده غير المفهوم من كونه في المكان أو في الزمان.

وأمّا الذي اختلفوا فيه أنّه هل هو نفس الوجود في الأعيان أم لا؟ فإن عنوا به تلك النسبة فلا ، بل هما متغايران. وإن عنوا به أمرا آخر وجب عليهم إيضاحه حتى نعلم زيادته أم لا.

الثالث (١) : الأين منه أوّل حقيقي ، وهو كون الشيء في مكانه الخاص به الذي لا يسعه معه غيره ، كالماء في الكوز ؛ ومنه ما هو أين غير حقيقي ، مثل : كون زيد في الدار ؛ ومعلوم أنّ زيدا لم يشغل جميع الدار بحيث يماس ظاهره جميع الجوانب ، وأبعد منه البلد ، ثمّ الإقليم ، ثمّ المعمورة ، ثمّ الأرض ، ثمّ العالم.

ولا يمكن أن يتصف جسمان بأين واحد بالعدد والأين أوّل حقيقي ،

__________________

(١) انظر هذا البحث في الفصل الخامس من سادسة مقولات الشفاء ؛ المباحث المشرقية ١ : ٥٧٩.

٣٧٩

ويكونان موصوفين بأين واحد بالعدد والأين ثان غير حقيقي ، كجسمين في الدار.

ونقل الشيخ عمّن تقدمه : «أنّ الواحد من الأين قد يوجد فيه جواهر كثيرة ، كعدة في السوق». ثمّ نسبه إلى الغلط.

ثمّ نقل عن بعض الأحداث جوابا هو : «أنّه ليس الأمر كذلك ، فإنّ الأين الحقيقي لا يوجد فيه هذا المعنى ؛ وأمّا الأين الغير الحقيقي ، كالكون في السوق فليس هو نفس السوق ، فإنّه وإن كان لا بدّ من أن يكون السوق مكانا ثابتا مشتركا فيه ، فليس الأين هو السوق ، بل كون زيد في السوق هو الأين ، وهو صفة لزيد بها زيد كائن في السوق ، وليس بها بعينها عمرو كائنا في السوق ، وإن كان السوق واحدا فنسبة زيد إليه ، من حيث هو زيد ، غير نسبة عمرو غيرية بالعدد ، وهذا كالبياض ، فإنّه وإن كان متحدا بالنوع لكنّه متكثر بالعدد.

ثمّ إنّ بعض المتحذلقين لم يرض بهذا الجواب ، وأعان المتقدم فقال : ليس حال الأين كحال البياض ، فإنّ البياض الذي في زيد إذا عدم ، لم يجب أن يعدم الذي في عمرو ، وأمّا السوق فيكون واحدا للجماعة وحسب أنّه عمل شيئا ، إذ أرانا أنّ السوق واحد ، فإن كان السوق هو الأين كان السوق كونا في المكان لا مكانا ما ، فكان الشيء إذا سئل عنه أين هو؟ يصلح أن يقال : سوق ، لا أن يقال : في السوق. فإن كان الأين هو كونه في السوق، فزيد يبطل عنه (١) كونه في السوق ، وإن لم يبطل كون عمرو في السوق ، فهو كالبياض أيضا» (٢).

الرابع : من الأين ما هو جنسي وهو الكون في المكان ؛ ومنه نوعي وهو الكون في الهواء ؛ ومنه شخصي ككون هذا الشخص في هذا الوقت في مكانه الحقيقي ، أو كون هذا الشيء في هذا الوقت في الهواء ، وهو مكان ثان (٣).

__________________

(١) في المصدر : «ببطلان» بعد «عنه».

(٢) و (٣) الفصل الخامس من المقالة السادسة من مقولات الشفاء ١ : ٢٢٩ ـ ٢٣٠.

٣٨٠