نهاية المرام في علم الكلام - ج ٢

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ٢

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-392-8
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٦١٦

اعترضه أفضل المحققين : بأنّ المبصر هو زيد بغير شك. أمّا الإبصار فهو حصول مثاله في آلة المدرك ، وعدم التمييز بين المدرك والإدراك هو منشأ هذا الاعتراض. (١)

العاشر : كيف يكون الإدراك صورة ذهنية مطابقة لما في الخارج ، والشعور بالمطابقة إنّما يكون بعد الشعور بما في الخارج؟

اعترضه أفضل المحققين : بأنّ المطابقة غير الشعور (٢) بها ، وإنّما اشترط فيه الأوّل دون الثاني.

الحادي عشر : المعقول من السماء ليس بمساو للسماء الموجودة في الخارج في تمام الماهية ، وإلّا لجاز أن يكون السواد مثل البياض في تمام الماهية ؛ لأنّ المناسبة بين السواد والبياض ـ لاشتراكهما في العرضية والحلول في المحل وكونهما محسوسين ـ أتم من المناسبة بين المعقول من السماء الذي هو عرض غير محسوس حال في محل كذلك ، وبين السماء الموجودة التي هي جوهر محسوس موجود في الخارج محيط بالأرض.

اعترضه أفضل المحققين : بأنّ ماهية الشيء هي ما يحصل في العقل من ذلك الشيء نفسه دون عوارضه الخارجة عنه ، ولذلك اشتقت لفظة الماهية من لفظة ما هو ، فإنّ الجواب عنها يكون بها. ولمّا كان كذلك كان معنى قول القائل : «المعقول من السماء ليس بمساو للسماء الموجودة في الخارج» هو أنّ السماء المعقولة المجرّدة عن اللواحق ليست بمساوية للسماء المحسوسة المقارنة إيّاها ، وحينئذ إن أراد بعدم المساواة التجرّد واللّاتجرد كان صادقا ، وإن أراد به أنّ مفهوم السماء نفسه ليس بمشترك بين المجرّدة والمقارنة كان كاذبا. فإن زاد وقال : المعقول

__________________

(١) نفس المصدر : ٣٢٢.

(٢) في المصدر : «المشعور».

٢١

من السماء ليس بمساو للسماء الموجودة في تمام الماهية ، كان معناه أنّ المعقول من السماء ليس بمساو للسماء الموجودة في تمام المعقولية إذ ليس بمساو للسماء لها حال كونها معقولة. وهذا هذيان لما نسمعه ، فإنّ المعقول من السماء هو نفس ماهية السماء ، فضلا عن المساواة.

وأمّا كون السواد غير مساو للبياض في تمام المعقولية ، فظاهر. وظاهر أنّ المناسبة بين الموضعين غير صحيحة ، فإنّ الفرق بين السماء المعقولة والمحسوسة بكون أحدهما عرضا في محلّ مجرّد غير محسوس والآخر جوهرا محسوسا لا في محلّ ، فرق بين الطبيعة النوعية المحصّلة المأخوذة تارة مع عوارض وتارة مع مقابلاتها. والفرق بين السواد والبياض فرق بين الطبيعة الجنسية غير المحصلة المأخوذة تارة مع فصل يقومها نوعا وتارة مع فصل آخر يقومها نوعا مضادا للأوّل. على أنّ السماء المعقولة إذا أخذت من حيث هي عرض قائم بنفس ما ، لم تكن ماهيته السماء ، إنّما تكون ماهيته لها من حيث تكون صورة حصلت في العقل مطابقة لها.

وفيه نظر ، لأنّا لم نقصد بالماهية المعنى المعقول باعتبار كونه ثابتا في الذهن ، بل نريد به نفس الحقيقة والذات التي للشيء في نفس الأمر.

وليس المقصود من قولنا : المعقول من السماء ليس بمساو للسماء الموجودة في الخارج ، عدم المساواة في التجرّد وعدمه ، ولا أنّها ليست مساوية لها في المفهوم الذهني ، بل إنّه ليس بمساو لها في حقيقتها ، وكيف يجوز جعل السماء الثابتة في التعقل التي حكم عليها بالعرضية والحلول في محلّ مجرّد غير محسوس والسماء الثابتة في الخارج التي حكم عليها بالجوهرية والإحساس والاستغناء عن المحلّ ، مندرجتين تحت طبيعة نوعية محصلة مأخوذة تارة مع عوارض وتارة مع مقابلاتها ، فإنّ إحدى الصورتين جوهر والأخرى عرض ، وإحداهما حالّة في محلّ مجرّد غير محسوس والأخرى غير حالة في محلّ وهي محسوسة.

٢٢

المسألة الرابعة : في أنّ التعقل هل يتوقّف على الانطباع أم لا؟ (١)

اختلف الناس في ذلك ، فأكثر الأوائل عليه ؛ لأنّا (٢) نتصور أمورا لا وجود لها بالفعل سواء كانت ممكنة مثل كثير من الأشكال الهندسية ، أو ممتنعة كشريك الباري ، ونحكم على ما لا تحقّق له في الأعيان كالممتنعات بأحكام إيجابية ، كالامتناع. فذلك المحكوم عليه يجب أن يكون ممتازا عن غيره ، وإلّا لم يكن هو بذلك الحكم أولى من غيره ، وكلّ ممتاز فهو ثابت ، فإنّ العدم المحض والنفي الصرف لا يتحقق فيه امتياز ولا تعدد ولا تخصص ، ولو جاز في العدم الصرف أن يكون بعضه متميزا عن البعض بالمقدار واللون والشكل لجاز في هذه الأمور التي يتميز بعضها عن البعض بالبصر أن تكون معدومة ، وهو سفسطة ، بل هذه الامتيازات والمخصصات كلّها في لواحق الموجود الثابت.

وإذ ليس ذلك الثبوت والوجود في الخارج ؛ لأنّا فرضناه ممتنعا فيه معدوما ، ولأنّ ذلك الامتناع واجب الثبوت للممتنع لاستحالة أن ينقلب الممتنع غير ممتنع ، فلو كان ذلك الامتناع ثابتا في الخارج لكان وجود الممتنع واجبا في الخارج ، لوجوب وجود الشرط عند وجود المشروط ، فيكون ممتنع الثبوت في الخارج واجب الثبوت في الخارج ، هذا خلف ، فهو موجود في الذهن حتّى يتأتى للذهن أن يحكم عليه بامتناع أن يعرض له الوجود الخارجي.

لا يقال : لو كان كون الشيء ممتنع الوجود في الخارج لأجل حكم الذهن على الصورة الذهنية بامتناع حصولها في الخارج ، لكانت الممكنات بأسرها ممتنعة ؛

__________________

(١) قارن المباحث المشرقية ١ : ٤٣٩ ـ ٤٤١ ؛ المسألة الثالثة عشرة من مباحث الكيف من شرح العلّامة على تجريد الاعتقاد. والانطباع والارتسام والقبول من اصطلاحات المشاء.

(٢) بهذا الدليل استدل القوم على اثبات الوجود الذهني أيضا.

٢٣

لأنّ الصورة الحاصلة منها في الأذهان ممتنعة الحصول في الخارج.

لأنّا نقول : الصورة الذهنية لها ماهية ولها وجود ، ولا شكّ أنّ للماهية اعتبارا ، ولوجودها اعتبارا آخر مغايرا لاعتبارها. واعتبار الماهية من حيث هي هي وإن كان جزءا من اعتبارها من حيث إنّها موجودة ، لكنّهما متغايران تغاير الجزء والكلّ. وتلك الماهية إذا أخذت من حيث هي ذهنية فهي ممتنعة الحصول في الخارج ، سواء كانت تلك الصورة الذهنية مأخوذة عن الممتنع أو عن الممكن ، لكن إذا نظر إلى تلك الماهية من حيث هي هي مع قطع النظر عن اعتبار كونها ذهنية ، فإن حكم العقل بامتناع عروض الوجود الخارجي لها كانت ممتنعة ، وإلّا كانت ممكنة.

فالحاصل أنّ تلك الماهية لا بدّ في حقيقتها من الوجود الذهني ، لكن المحكوم عليه بالامكان والامتناع هو تلك الماهية فقط ، لا من حيث اعتبار وجودها وعدمه ، ولهذا (١) كان كون الإنسان إنسانا غير وكونه بحيث لا يمتنع نفس مفهومه من الشركة غير ؛ فإنّ أحد المفهومين ليس هو الآخر ، ولا داخلا فيه على ما عرفت ، فكونه بحال لا يمنع الشركة عارض عرض لتلك الماهية ، لكن يمتنع أن يعرض له ذلك العارض عند وجوده في الخارج ؛ لأنّ كلّ موجود في الخارج مشخص ويمتنع أن يكون بنفسه وهو بعينه محمولا على غيره على ما عرفت.

فإذن هذا العارض إنّما يعرض له عند كونه في العقل ، فإذن للماهيات المعقولة وجود في العقل.

وأمّا إنّ الإرادات الجزئية لا بدّ فيها من هذا الارتسام فسيأتي.

__________________

(١) هذا ممّا استدل به الرازي واختاره من البراهين الدالة على أنّ العلم بالشيء لا يحصل إلّا بانطباع صورة المعلوم في العالم ، وسيرد اعتراض المصنف عليه.

٢٤

وفيه نظر ، لأنّا نمنع استدعاء الامتياز الثبوت. وفرق بين المعدوم والعدم ، فإنّ المعدوم شيء اتّصف بالعدم. لا أقول إنّه شيء ثابت في الخارج بل إنّه مفهوم اتّصف في الذهن بالعدم لا على أنّه ثابت في الذهن أيضا.

وأيضا المحكوم عليه بالامتناع ليس هو الصورة الذهنية ، بل ما هذه الصورة صورته. وتلك الماهية لا ثبوت لها ذهنا ولا عينا ، لأنّا لا نقول : إنّ تلك الصورة الذهنية يمتنع وجودها في الخارج ، وإلّا لم يبق فرق بين الممكن والممتنع كما تقدّم ، بل الماهية التي هذه الصورة صورة لها هي التي يحكم عليها بالامتناع.

لا يقال : المتصورات لا تتميّز بعضها عن البعض قبل وجودها ، بل نحن قبل وجودها نعلم أنّها بعد وجودها يكون بعضها متميّزا عن البعض ، فالحاصل أنّ التميّز بصفات مترقبة الحصول.

لأنّا نقول : هذا باطل لأنّه إذا لم يكن هناك ما يشير العقل إليه ويحكم عليه بالامتياز استحال الحكم بأنّ بعضها متميز عن البعض بعد الوجود ، والمعتمد نفي هذه الصورة لوجوه:

الأوّل : الأدلّة الدالّة على امتناع كون العلم صورة تدل على نفي الصورة أيضا. ولأنّ(١) حصول الاستدارة والحرارة في القوّة المدركة يقتضي صيرورتها مستديرة حارة.

اعترضه أفضل المحقّقين : بأنّ الاستدارة إن كانت جزئية كانت ذات وضع ، فلا محالة يكون محلّها ذا وضع فيصير الجزء الذي هو محلّها مستديرا بها من حيث هو محلّها ، ولا يلزم من ذلك أن يصير المدرك الذي يكون ذلك المحلّ آلة له مستديرا. وإن كانت كلية لم تكن ذات وضع ، ولا تقتضي أن يصير محلّها

__________________

(١) برهان آخر على عدم كون العلم حصول ماهية المعلوم عند العالم.

٢٥

مستديرا. (١)

وأمّا الحرارة ، فإنّها لا تقتضي كون محلّها حارا ، إلّا إذا كان الحالّ هي بعينها ، والمحل جسما خاليا عن ضدّها من شأنه أن ينفعل عنها. ولا يلزم من ذلك أنّ صورتها المغايرة لها إذا حلّت جسما أو قوة جسمانية أن تجعلها حارة ، فضلا عن أن تجعل المدرك الذي يكون ذلك المحلّ آلة له حارا. (٢)

وقيل : الاستدارة ليست بنفسها حاصلة. (٣)

وفيه نظر ، فإن تدرك اشكالا كثيرة لا تحضر كثرة متضادة دفعة أو قريبا من دفعة ، ويمتنع حصولها في آلة واحدة لتضادها ، وفي آلات متكثرة بتكثر تلك الصور ؛ للعلم القطعي بقصور الآلة عن الإحاطة بهذه الأشكال المتكثرة. ثمّ إن فرضنا إمكان ذلك ، فكيف تطبع الآلة إلى التشكلات المتكثّرة بسهولة جدا مع تضاد المتشكلات واحتياجها إلى زمان يتهيأ المحل للانفعال على هيئتها؟

والاستدارة الكلية إذا عقلت فإنّما تعقل بحصولها نفسها في ذات العاقل عندهم ، أو لحصول صورة مساوية لها ، وعلى كلا التقديرين فإنّه يجب أن يكون المحلّ مستديرا ؛ لأنّا لا نعني به إلّا ما حلّ فيه الاستدارة أو صورتها. ولا فرق بين الكلي والجزئي في ذلك ، وإلّا لم يكن العلم حصول صورة مساوية للمعلوم في العالم ، ولا مدخل للجزئية والكلية في اتّصاف المحلّ بالاستدارة وعدمه ، بل إن حصلت الاستدارة أو صورتها في محلّ وجب أن يكون مستديرا ، سواء كانت الاستدارة كلية أو جزئية ، وإن لم تحصل لم يجب أن يكون مستديرا.

__________________

(١) حاصله : أنّ الاستدارة إن كانت جزئية فمحلّها الآلة ولا يلزم من استدارتها استدارة المدرك. وإن كانت كلية فلا يلزم أن يكون محلّها مستديرا.

(٢) شرح الإشارات ٢ : ٣١٨.

(٣) هذا ما أجاب به قطب الدين الرازي بعد اعتراضه على جواب الخواجه ، فراجع المصدر نفسه.

٢٦

فقوله : «إذا كانت كلية لم تكن ذات وضع» مسلّم ، لكن قوله : «ولا يقتضي أن يصير محلّها مستديرا» لا يجامع قولهم : التعقل حصول صورة مساوية للمعلوم في العالم.

وقوله : «الحرارة لا تقتضي كون محلّها حارا ، إلّا إذا كان الحال هي بعينها ، والمحلّ جسما خاليا عن ضدّها من شأنه أن ينفعل عنها» ، ضعيف.

لأنّا لا نعني بالحار إلّا ما حلّ فيه الحرارة ، فإن كانت الحرارة نفسها حالّة ثبت أنّه حار. وإن كانت صورتها ، فإن ساوتها من كلّ وجه فكذلك ، وإن ساوتها من بعض الوجوه لم تكن حقيقة الحرارة معلومة إلّا من ذلك الوجه ، لا من كلّ وجه. وإن كان حصول المساواة من بعض الوجوه مقتضيا للعلم بالماهية من كلّ وجه لم يكن لذلك الوجه الذي حذفناه عن درجة الاعتبار تخصص عن باقي الوجوه حتى تعتبر هي خاصة.

وقيل : إنّما يلزم كون الذهن مستديرا لو حصلت الاستدارة نفسها فيه ، أمّا إذا حصلت صورتها ومثالها (١) فلا.

وهو باطل ؛ لأنّ مثل الاستدارة وصورتها إن كان عين الاستدارة لزم كون الذهن مستديرا ؛ لأنّ معناه ما حصلت فيه الاستدارة ، وإن لم يكن ، لم يكن تعقل الاستدارة حصول الاستدارة في العاقل ، وهو المطلوب.

الثاني : الصورة الذهنية إن لم تكن مطابقة للخارج كانت جهلا ، وإن كانت مطابقة فلا بدّ من أمر في الخارج وحينئذ لم لا يجوز أن يكون الإدراك حالة نسبية بين

__________________

(١) قال الشيخ : إدراك الشيء هو أن تكون حقيقته متمثّلة عند المدرك يشاهدها ما به يدرك. وقال الخواجه في شرحه : يقال تمثّل كذا عند كذا ، إذا حضر منتصبا عنده بنفسه أو بمثاله. شرح الإشارات ٢ : ٣٠٨ و ٣١٠ ؛ راجع أيضا شرح الإشارات ٣ : ١٥٠ ـ ١٥١ و ٣٤٥ ، حيث يقول : وكمال الجوهر العاقل أن يتمثّل فيه جليّة الحقّ الأوّل قدر ما يمكنه أن ينال منه ببهائه الذي يخصّه ، ثمّ يتمثّل فيه الوجود كلّه على ما هو عليه مجرّدا عن الشوب.

٢٧

المدرك وبينه؟

اعترضه أفضل المحققين : بأنّ من الصور ما هي مطابقة للخارج وهي العلم ، ومنها ما هي غير مطابقة للخارج وهي الجهل. أمّا الإضافة فلا توجد فيها المطابقة وعدمها ؛ لامتناع وجودها في الخارج ، فلا يكون الإدراك بمعنى الإضافة علما ولا جهلا. (١)

وفيه نظر أمّا أوّلا : فللمنع من انحصار سبب الجهل في عدم المطابقة لها في الخارج ، فإنّا إذا جعلنا العلم إضافة أمكن وجود الجهل مع عدم تلك الإضافة ، ومع وقوعها على غير الشرائط المباينة لها.

وأمّا ثانيا : «كون كلّ ما لا يكون مطابقا للخارج جهلا» ، فيكون علمنا باستحالة المستحيلات وبالممتنعات في الخارج جهلا إذ لا مطابق لها في الخارج ، وهو باطل ؛ لأنّ قولنا : «شريك الباري ممتنع» حقّ وصدق.

الثالث : الصور المتخيلة جاز أن تكون موجودة قائمة بأنفسها ، كما قاله أفلاطون ، أو بغيرها من الأجرام الغائبة عنّا ، وهذا وإن كان مستبعدا لكنّه بالتزام أنّ صورة السماء في الذهن مساوية للسماء غير مستبعد.

اعترضه أفضل المحققين : بأنّ أفلاطون لم يذهب ولا غيره إلى أنّ المحالات المناقضة لأنفسها موجودة في الخارج ، ولا أمكن أن يذهب إلى ذلك ذاهب.

وأمّا القول بكون الصورة المدركة في جسم غائب عن المدرك ، ليس بمستبعد فقط ، إنّما هو مع ذلك من المحالات الظاهرة ، وليس كذلك القول : بأنّ صورة السماء المنطبعة في آلة الإدراك مساوية للسماء ، لاحتمال أن يكون الانطباع في مادة الجسم الذي هو آلة الإدراك ، أو في القوّة المدركة الحالّة فيه اللذين لاحظ

__________________

(١) شرح الإشارات ٢ : ٣١٦.

٢٨

لهما في الصغر والكبر من حيث ذاتيهما ، أو لاحتمال أن يكون المنطبع أصغر مقدارا من السماء. وذلك غير قادح في المساواة بحسب الصورة ، فإنّ الكبير والصغير من الإنسان متساويان في الصورة الإنسانية ، ولمّا لم يكن ذلك محالا ، فمجرّد الاستبعاد الذي ادعاه لا يقتضي بطلانه.

على أنّ هذا الاستبعاد ليس بوارد على القول بأنّ الإدراك إنّما يكون بصورة مطلقا ، بل غاية ما في الباب ، أنّه يرد على القائلين : بأنّ الإبصار إنّما يكون بانطباع صورة في الرطوبة الجليدية ، والتخيل يكون بانطباع صورة في الآلة الجسمانية الموضوعة للتخيل. ولا يرد على سائر الإدراكات الجسمانية (١) والعقلية ، ولا في الموضعين المذكورين أيضا على القائلين بالشعاع ، أو على من يذهب مذهب الشيخ أبي البركات في القول ، بأنّ الصورة المتخيلة تنطبع في النفس. (٢)

وفيه نظر ، فإنّ التعقل إذا كان إضافة بين العالم والمعلوم أو صفة حقيقية يلزمها الإضافة أو صورة مساوية للمعلوم في العالم ، لا بدّ من فرض ما يتعلّق به العلم وتحقّقه في نفسه لا في العلم المفتقر إلى تحقّق هذا الفرض ، ولو لا ذلك لم يبق فرق بين الأحكام الصحيحة والباطلة فيما لا وجود له في الخارج ، كما نقول شريك الباري ممتنع ، والجسم ممتنع. فإذن المعلوم أي شيء كان يجب أن يكون له تحقّق في نفس الأمر ، حتّى يتعلّق به العلم على ما يقف عليه. وهنا بحث معرفة الفرق بين الثابت في نفس الأمر والثابت في الخارج وسنذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى.

واستبعاد كون الصورة المدركة ثابتة في جسم غائب ، ليس في موضعه ، فإنّ محققي الأوائل ذهبوا إلى ثبوتها في العقل الفعّال ، فأيّ فارق بين الأمرين؟ إلّا بكون

__________________

(١) كالسمع والشم والذوق واللمس ؛ لانّها لا تحس إلّا بأشياء صغيرة ، فلا يلزم انطباع الكبير في الصغير.

(٢) نفس المصدر.

٢٩

الجسم ذا وضع بخلاف العقل.

أمّا انطباع الصورة المساوية للسماء في مادة آلة الإدراك فإنّه أشدّ امتناعا.

أمّا أوّلا : فلأنّ تلك المادة في غاية الصغر ، فكيف ينطبع فيه هذا المقدار الأعظم؟ فإن لم يشترطوا المساواة في المقدار أو أنّ الحالّ في المادة الصغيرة لا يكون له مقدار ، لزم أن لا يدرك المقدار العظيم على عظمه ، والصغير على صغره ، حيث لا صورة مساوية لهما في المادة.

وأمّا ثانيا : فلأنّ تلك المادة لا يمكن أن تقوم بغير مقدار لها فكيف يحصل فيها مقدار آخر؟ والمساواة بحسب الصورة غير كافية في العلم بالمقدار.

الرابع : إن لزم من قول الشيخ ، اثبات الصورة الذهنية فإنّما لزم فيما لا يكون موجودا. أمّا المحسوسات التي لا تدرك إلّا إذا كانت موجودة ، فيحتمل أن يكون إدراكها إضافة ما للمدرك إليها.

اعترضه أفضل المحققين : بأنّ الإدراك معنى واحد (١) ، إنّما يختلف بإضافته إلى الحس أو العقل ، فإذا دلّت ماهيته في موضع على كونه أمرا غير مضاف عرضت له الإضافة ، علم قطعا إنّه ليس نفس الإضافة أينما كان.

وفيه نظر ، لأنّا نمنع كون الإدراك معنى واحد ، فإنّ التعقل لا يفتقر حصوله إلى حضور مادة بخصوصيتها بخلاف الإدراكات الجزئية.

الخامس : لو كان التعقل لأجل انطباع المعقول وصورته في العاقل ، لكنّا إذا عقلنا أنّ السواد يضاد البياض ، يلزم أن تنطبع صورة السواد والبياض فينا ، ويلزم أن يكون محلّ السواد والبياض واحدا ، لأنّا حكمنا بالتضاد بينهما ، والقاضي على الشيئين لا بدّ وأن يحضره المقضي عليهما ، لكنّهما منافيان لذاتيهما.

__________________

(١) أي أنّ إدراك الموجودات والمعدومات بمعنى واحد فكما نحتاج في إدراك المعدومات والممتنعات إلى ارتسام الصورة فكذلك في ادراك الموجودات.

٣٠

اعترض (١) بأنّ من عقل مضادة السواد والبياض فقد ارتسمت في عقله ماهيتاهما ، وماهية الضدين تقتضيان التضاد لا مطلقا ، بل بشرط الوجود الخارجي ، فلا يلزم تحقق التنافي عند فوات هذا الشرط.

وفيه نظر ، لأنّ الصورة إن ساوت الماهية الخارجية لزم التضاد فيها ، كما في الماهية. وإن لم تكن مساوية لها لم تكن صورتها.

السادس : الماهية إذا انطبعت في العقل فهي من حيث إنّها صورة جزئية حاصلة في نفس جزئية موجودة في الخارج ، فوجوده الذهني إمّا أن يكون هو ذلك أو وجود آخر.

والأوّل يستلزم أن لا يبقى الفرق بين الوجود الذهني والخارجي أصلا ، وكان يجب أن يتوفر على تلك الماهية حينما تكون في الذهن جميع ما يتوفر عليها عند ما تكون خارجية ، فالحرارة المعقولة محرقة ، والسواد المعقول محسوس قابض للبصر ، وهو محال.

والثاني أيضا محال ؛ لأنّه يقتضي أن يكون للشيء الواحد وجودان فيكون موجودا مرتين ، وهو محال. فهب أن له وجودا آخر لكن الوجود الخارجي حاصل له ، فكان يجب أن يتوفر عليه جميع ما يفرض له في الخارج.

اعترض (٢) بأنّ للحرارة ماهية ولوازم ، ولا يجب أن يكون ما يلزمها بحسب قابل يلزمها بحسب كلّ قابل ، فإنّه من الجائز أن تختلف لوازم الشيء بحسب اختلاف القوابل حتى يكون للحرارة متى حلّت المادة الجسمانية تعرض لها عوارض مخصوصة ، ومتى حلّت (٣) النفس المجردة عن الوضع والمقدار لا يعرض لها شيء من تلك العوارض. وتكون الماهية في الحالتين واحدة لأنّها ليست هي هي

__________________

(١) والمعترض هو الرازي في المباحث المشرقية ١ : ٤٤١.

(٢) والمعترض هو الرازي في المصدر نفسه.

(٣) ج : «خلت».

٣١

بأنّها مسخنة ، وإلّا لكانت النار حينما لا تكون مسخنة لغيرها لا تكون نارا ، بل لأنّها شيء يلزمها السخونة عند حلول المادة الجسمانية. وهذا الحكم صادق عليها عند كونها ذهنية.

والحاصل أنّ النار عبارة عن الشيء الذي إذا وجد في الخارج كان محرقا ، وإذا كان كذلك فحقيقته النار وإن حصلت في الذهن ، إلّا أنّها لا تكون محرقة ؛ لأنّ شرط كونها محرقة كونها موجودة في الخارج ، وإذا كانت في الذهن صدق عليها أنّها لو كانت في الخارج لكانت محرقة.

ولو وجّه السائل الإشكال في نفس السخونة لم يندفع بهذا الجواب.

وفيه نظر سبق تقريره ، وهو أنّ الماهية الذهنية إن ساوت الخارجية في جميع ما به صارت ماهية ، لزم المحال من التساوي في جميع لوازم الماهية ، وإلّا لم تكن لوازم للماهية ، بل بتوسط الوجود. وإن لم تكن مساوية بطل قولهم بالصورة وبالوجود الذهني ، لأنّ الموجود حينئذ لا يكون هو نفس الماهية ، ولا ما يساويها ، فلا يكون تعقل الاستدارة هو حصول الاستدارة ولا صورتها المساوية في العاقل ، وهو المطلوب.

وإذا عقلنا أنّ النار هي التي إذا وجدت في الخارج لزمها الإحراق ، فقد عقلنا الإحراق ؛ لأنّ علمنا بأنّ شيئا يلزمه آخر بشرط مخصوص يتوقّف على العلم بحقيقة اللازم والملزوم ، وإذا كنّا قد عقلنا الإحراق ـ والتعقل حصول المعقول ـ فقد حصل في ذهننا الاحراق ، فيكون الذهن محترقا إذ معنى المحترق : ما فيه الإحراق.

إلّا أن يقال : نحن لا نعقل حقيقة الإحراق ، بل نعقل منه أنّه الأمر الذي يلزمه اللازم الفلاني عند وجوده في الخارج ، لكن كلامنا في اللازم الفلاني كالكلام في الأوّل. ولأنّ الموجود الذهني إن خالف الخارجي في مفهوم كونه موجودا ، كان

٣٢

لفظ الوجود واقعا بالاشتراك اللفظي ، وهو باطل عندهم ، وإن ساواه بطل عذرهم ؛ لأنّ الذهن ممكن الاتصاف بالوجود ، فلا منافاة بين ذات العقل وبين ماهية المعقول وبين وجوده.

فإذن يجب أن يوجد فيه هذه المعقولات ، وهو محال ، وإلّا لوجد فيه اللون والشكل والمقدار ، فتتصف بالألوان المختلفة والأقدار والأشكال المختلفة دفعة ، وهو محال. ولأنّه لا يبقى فرق بين الإنسان الموجود في الذهن وبين الإنسان في الخارج لتساويهما في الماهية والوجود ، وهو مكابرة. وإن لم يكن الذهن ممكن الاتصاف بماهيات هذه العلوم ، لم يكن التعقل حصول ماهية المعقول في العاقل ، وهو المطلوب.

السابع : العلم بمضادة السواد والبياض يجب أن يكون متعلّقا بهما ، وإلّا لكان متعلّقا بالمضادة المطلقة ، لا بمضادة السواد للبياض ، وإذا كان العلم المتعلق بمضادة السواد للبياض متعلّقا بهما فيكون العلم الواحد متعلقا بمعلومين ، وهو محال ؛ لأنّ شرط العلم المطابقة ، والشيء الواحد لا يطابق المختلفين. (١)

اعترض : بأنّ ذلك يلزم لو جعلنا العلم نفس الانطباع ، أمّا إذا جعلناه اضافة مخصوصة مشروطة بالانطباع فالمحال غير لازم ، وهو تسليم لكون العلم اضافة. (٢)

المسألة الخامسة : في أنّ العلم هل هو إضافة محضة أو صفة تلزمها الإضافة؟

اعلم أنّ الصفات تنقسم إلى حقيقية كالسواد والبياض ، وإلى إضافيّة محضة

__________________

(١) المباحث المشرقية ١ : ٤٤١.

(٢) نفس المصدر.

٣٣

كالتيامن والتياسر ، وإلى ما تكون حقيقة تلزمها الإضافة. وتنقسم إلى ما لا يتغير بتغير المضاف إليه كالقدرة ، وإلى ما يتغير كالعلم.

إذا عرفت هذا فنقول : العلم لا يعقل إلّا مضافا تارة إلى العالم ، بأن يقال : العلم علم للعالم ، والعالم عالم بالعلم ، وتختلف هنا حرف الصلة بين المضاف والمضاف إليه. وتارة إلى المعلوم ، فيقال : العلم علم بالمعلوم ، والمعلوم معلوم بالعلم ، فتتحد هنا حرف الصلة. فهل العلم نفس هذه الإضافة المحضة ، أو هي صفة حقيقية تتبعها الإضافة؟

واختلف الناس في ذلك ، فذهب بعضهم إلى الأوّل (١) ، وآخرون إلى الثاني. وبالجملة فالعلم لا ينفك عن الإضافة ، إمّا بأن يكون نوعا منها ، أو مشروطا بها ، والقولان متقاربان.

واستدل بعضهم على كونه إضافة ، بأنّه لا يمكننا أن نعقل كون الشيء عالما إلّا إذا وضعنا في مقابلته معلوما. (٢)

وهذا لا يدلّ على مطلوبه ، لجواز أن يكون أمرا تلزمه الإضافة.

ثمّ القائلون بكون العلم إضافة : منهم من سمّى هذه الإضافة بالتعلّق ، وهو أبو الحسين البصري ومن تبعه (٣) ، وأثبتوا معنى آخر يقتضي هذا التعلّق. ومنهم من قال : العلم عرض يوجب العالمية ، والعالمية حالة لها تعلّق بالمعلوم ، فأثبتوا أمورا ثلاثة : العلم والعالمية والتعلّق ، وهم القائلون بالأحوال (٤) ، وسيأتي

__________________

(١) هذا ما ذهب إليه الرازي في المباحث المشرقية ١ : ٤٥٠ وتلخيص المحصل : ١٥٧ ، حيث قال فيه : «وقيل إنّه أمر إضافي وهو الحقّ».

(٢) المستدل هو الرازي في المحصل (تلخيص المحصل : ١٥٧).

(٣) قال الايجي : «العلم لا بدّ فيه من اضافة بين العالم والمعلوم وهو الذي نسميه التعلّق». شرح المواقف ٦ : ٢.

(٤) منهم القاضي الباقلاني ، كما في المصدر نفسه.

٣٤

البحث معهم إن شاء الله تعالى.

قال أفضل المحققين : «من جعل العلم إضافة ، غفل عن استدعاء الإضافة ثبوت المتضايفين ، فلزمه أن لا يكون ما ليس بموجود في الخارج مدركا ، وأن لا يكون إدراك ما جهلا البتة ؛ لأنّ الجهل هو كون الصورة الذهنية للحقيقة الخارجية غير مطابقة إيّاها. (١) والمعلوم إذا كان معدوما ، فليت شعري أين يكون إن لم يكن في الذهن؟» (٢)

وفيه نظر ، فإنّه كما أنّ الإضافة تستدعي ثبوت المتضايفين ، كذا الصورة ؛ لأنّ فيها تضايفا ، وهي أنّها صورة لذي الصورة وحكاية له ومساوية إياه ، والمساواة تستدعي الاثنينية والتغاير ، فإن كانت ماهية في الذهن لزم إضافة الشيء إلى نفسه. ولأنّ ما في الذهن تابع لما في الخارج أو نفس الأمر ، فلا يجوز أن يجعل التعقل مضافا إلى التابع. ولزمه ما ألزم في المضافين.

ونمنع تفسير الجهل بما ذكر ، بل معنى الجهل عدم المطابقة بين العلم والمعلوم ، فإذا أخذت الإضافة إلى شيء على وجه لا يكون مطابقا ، كانت جهلا. ولا يجب في المعلوم المعدوم أن يثبت له اثنينية حتى يسأل عن خصوصياتها.

وإذا تقرر هذا ، فالعلم والإدراك والشعور صور حقيقية تلزمها حالة إضافية (٣) لا توجد إلّا عند وجود المضافين.

وقيل : إنّها حالة إضافية لا توجد إلّا عند وجود المضافين (٤). فإن كان المعقول هو ذات العاقل استحال من ذلك العاقل أن يعقل ذلك المعقول إلّا عند وجوده ، فلا جرم لا حاجة إلى ارتسام صورة أخرى منه فيه ، بل تحصل لذاته من

__________________

(١) شرح الإشارات ٢ : ٣١٤.

(٢) تلخيص المحصل : ١٥٧.

(٣) نسب هذا القول إلى الأشاعرة أيضا فراجع : شرح المواقف ٦ : ٢.

(٤) عبارة : «وقيل ... المضافين» موجودة في نسخة ج فقط. والقائل بهذا الرأي هو الرازي في المباحث المشرقية ١ : ٤٥٠.

٣٥

حيث هو عاقل إضافة إلى ذاته من حيث هو معقول ، وتلك الإضافة هي التعقل.

وإن كان المعقول غير العاقل ، أمكن لذلك العاقل من حيث هو هو أن يعقل ذلك المعقول من حيث هو ، حال كون ذلك المعقول معدوما في الخارج ، فلا جرم لا بدّ من ارتسام صورة أخرى من ذلك المعقول في العاقل لتحقّق النسبة المسمّى بالعاقلية بينهما. وعلى هذه القاعدة استمرت الأصول المثبتة بالدلالة ، فإنّ الحجّة لما قامت على أنّه لا بدّ من الصور المنطبعة ، لا جرم أثبتناها. وقامت الدلالة أيضا على أنّ العلم ليس هو نفس ذلك الانطباع ، لا جرم أثبتنا إضافة زائدة على تلك الصورة الحاضرة. ولما حصرنا الأقسام وبطل ما سوى هذا القسم تعيّن الحقّ فيه.

واعلم أنّ لنا في تعقّل الواحد نفسه كلاما سيأتي فيما بعد إن شاء الله تعالى.

وقوله : «لا بدّ من ارتسام صورة أخرى من ذلك المعقول في العاقل» ممنوع ، لما تقدّم من بطلان القول بالصورة. نعم الحقّ ما قدّمناه من كون العلم صفة حقيقية تلزمها الإضافة.

المسألة السادسة : في أنّ التعقّل لا يشرط فيه الاتحاد (١)

هاهنا مذهبان غريبان عجيبان لقدماء الحكماء في التعقل حدثا بعد المعلم الأوّل.

أحدهما قد كان مشهورا عند المشائين ، وهو : أنّ الجوهر العاقل إذا عقل صورة عقلية صار هو هو ، فاتحد العاقل بالصورة المعقولة عند تعقله إيّاها.

__________________

(١) راجع : المباحث المشرقية ١ : ٤٤٦ ـ ٤٤٩.

٣٦

وشنع الشيخ عليهم في كتاب الإشارات وغيره (١) ، لكن أفتى به في كتاب المبدأ والمعاد. (٢)

والثاني : أنّ النفس الناطقة إذا عقلت شيئا ، فإنّما تعقل ذلك الشيء باتصالها بالعقل الفعال ، وتتحد به وتصير مع نفس العقل الفعال.

والذي يدل على بطلان المذهبين معا بالشركة : انّ الاتحاد محال في نفسه مطلقا ؛ لأنّ المتحدين قبل الاتحاد قد كانا اثنين متعددين متمايزين ، فبعد الاتحاد إن بقيا كما كانا ، فلا اتحاد لأنّهما لم يكونا متحدين بل متعددين متمايزين ، والتقدير أنّهما بعد الاتحاد كذلك وأنّهما كما كانا قبل الاتحاد. وإن عدما وحدث ثالث ، فلا اتحاد أيضا ، بل كان إعداما لشيئين وإيجاد الثالث ، وهذا غير منكر ؛ ولأنّ الضرورة قاضية ببطلان اتحاد المعدومين. وإن عدم أحدهما وبقي الآخر ، فلا اتحاد لقضاء الضرورة بامتناع اتحاد الموجود مع المعدوم. (٣)

ويدل على إبطال الأوّل بخصوصيته : أنّ النفس إذا عقلت شيئا ما وليكن (الف) واتحدت به وصارت حقيقة النفس حقيقة (الف) ، فإذا عقلت شيئا آخر وليكن (ب) ، فإمّا أن تتحد به أو لا.

والثاني هو المطلوب ، وهو : أنّ التعقل لا يستلزم الاتحاد. ولأنّه لا أولوية في اتحادها مع المعقول الأوّل دون اتحادها مع الثاني.

__________________

(١) قال الشيخ الرئيس : «وما يقال من أنّ ذات النفس تصير هي المعقولات فهو من جملة ما يستحيل عندي ، فانّي لست أفهم قولهم ...» الفصل السادس من المقالة الخامسة من الفن السادس من طبيعيات الشفاء.

(٢) وقال في نفس المصدر أيضا : «نعم هذا في شيء آخر يمكن أن يكون على ما سنلمحه في موضعه». وهذا الموضع في كتابه «المبدأ والمعاد» كما صرّح به العلّامة المصنّف وستأتي عباراته إن شاء الله تعالى.

(٣) راجع : نفس المصدر.

٣٧

والأوّل يستلزم اتحاد النفس مع جميع المعقولات لكنّها غير متناهية فيكون ما لا يتناهى من الماهيات شيئا واحدا ، وهو محال ؛ لاستحالة أن يكون الشيء الواحد حقيقتان مختلفتان ، فكيف تكون له حقائق مختلفة غير متناهية؟ ولأنّه مع القول باتحاد العاقل بالمعقول يستلزم القول باتحاد جميع المعقولات ، وهو معلوم البطلان بالضرورة.

وأيضا إذا عقل العاقل (الف) فإمّا أن تبطل النفس عند تعقل (الف) أو لا تبطل. فإن بطلت النفس فلا بدّ من حدوث غيرها ، وإلّا لم يكن هناك شيء متعقل ، وإذا بطلت حال التعقل لم يكن في تلك الحالة متحدة بالمعقول بل ولا عاقلة له ، ولا تكون المتجددة عاقلة أيضا لعود البحث إليها ، مع أنّ الضرورة تقضي ببطلان هذا ، فإنّ العالم شيء ثابت قبل العلم ومعه وبعده.

وإن لم تبطل النفس مع أنّها قد تغيرت إذ هو التقدير كان التغير في حال من أحوال النفس لا في ذاتها ، بل ذاتها باقية في الحالين ، وذلك غير منكر إذ هو كسائر الاستحالات ، ليس على ما يقولون.

ولأنّ النفس لو اتحدت بالمعقول فإمّا أن تتحد كلّها به ، فلا تعقل غيره ، وإلّا لاتحدت المعقولات كما تقدّم ، فكلما عقله واحد عقله كلّ واحد أو بعضها فيلزم انقسامها ، وتعود المحالات المذكورة. ولأنّه إن كان للقدر الأوّل الذي وقع به الاتحاد تعيّن بحيث لا يزيد ولا ينقص ، لزم وجوده قبل التعقل ، لكن النفس يمكنها تعقلات غير متناهية فيشتمل على أجزاء بالفعل غير متناهية ، ويكون ذات مقدار ، وهو محال. وإن لم يكن لزم قبولها للقسمة والاتحاد فيكون كمّا. ولأنّه إذا عقلت صورة لم يكن تقدير البعض أولى مما هو أزيد منه أو أنقص ، وكلّ ذلك محال.

ويدل على إبطال الثاني بخصوصيته أنّ العقل الفعال إمّا أن يكون شيئا

٣٨

واحدا بعيدا عن التكثر ، أو يكون ذا أجزاء وأبعاض. والأوّل يوجب أن تكون المتحدية لأجل تعقل واحد أن تعقل جميع المعقولات ؛ لأنّ العقل الفعال عاقل لجميع المعقولات ، والمتحد بالعاقل لجميع المعقولات عاقل لها ، وإلّا لم يصيرا واحدا ، أو إن كان ذا أبعاض تتحد النفس عند تعقلها معقولا واحدا ببعض تلك الأبعاض ، وجب أن يكون للعقل الفعال بحسب كلّ تعقل ممكن الحصول لإنسان واحد جزء ، لكن التعقلات التي يقوى عليها البشر غير متناهية.

ثمّ إنّ كلّ واحد من تلك التعقلات يمكن فيه حصول أعداد غير متناهية ، فيكون كلّ واحد من تلك الأجزاء مركبا من أجزاء نوعية غير متناهية. فإذن العقل الفعال مركّب من أجزاء مختلفة الحقائق غير متناهية ؛ لأنّ المعقولات المختلفة الماهية غير متناهية.

ثمّ كلّ واحد من تلك المعقولات يمكن حصولها للأنفس الغير المتناهية ، فيكون تعقل زيد للسواد مثل تعقل عمرو. فإذن للعقل الفعال بحسبها أجزاء غير متناهية متحدة في النوع ، فللعقل الفعال أجزاء غير متناهية ، لا مرّة واحدة بل مرارا غير متناهية ، ولا مختلفة بالنوع بل متحدة به ، فتلك المتحدات بالنوع لا تتمايز بالماهية ولوازمها ، بل بالعوارض ، وذلك بسبب المادة. والعقل الفعال مجرّد فأجزاؤه مجرّدة ، فهي غير متميزة بالعوارض ، فلا تكون متكثرة ، فهو بسيط وقد كان مركبا ، هذا خلف.

وأيضا النفسان إذ عقلتا معقولا واحدا حتى اتحدتا بالعقل الفعال ، فإمّا أن يكون الذي اتحدت به إحدى النفسين هو الذي اتحدت الأخرى به فيلزم اتحاد النفسين ، فكل ما عقله زيد عقله عمرو ، فيلزم أن يكون كلّ عاقل عقل شيئا وعقل آخر ـ إمّا ذلك الشيء أو غيره ـ أن يتساويا في تعقل جميع الأشياء ، وهو معلوم البطلان ، أو يكون متغايرا ، فيكون للعقل الفعال بحسب التعقلات غير المتناهية

٣٩

أجزاء غير متناهية مختلفة ، فيكون له بحسب كلّ واحد من الأفراد غير المتناهية التي للنوع أجزاء غير متناهية ، لا مرة واحدة بل مرارا غير متناهية ، وهو محال لذاته. ولأنّ الامتياز بين الأمور المتخالفة إمّا بالماهية أو اللوازم أو العوارض ، والكلّ منتف هنا.

وهؤلاء قالوا : إنّ النفس إذا عقلت شيئا فإنّما تعقل ذلك الشيء باتصالها بالعقل الفعال ، واتصالها بالعقل الفعال هو أن تصير هي نفس العقل الفعال ؛ لأنّها تصير العقل المستفاد ، والعقل الفعال هو نفسه يتصل بالنفس ، فيكون العقل المستفاد. وصدّقهم الرئيس في الاتصال بالعقل الفعال.

ونحن نقول : إنّه يمتنع تحقّق الاتصال بالمعنى الذي ذهبوا إليه من الاتحاد به وبالمعنى الذي يكون بين الأجسام ، بل المراد به الاستعداد التام للنفس لقبول فيض المعارف منه.

قال الرئيس : كان لهم رجل يعرف بفرفوريوس (١) عمل في العقل والمعقولات كتابا يثني عليه المشّاءون ، وهو سخف (٢) كلّه ، وهم يعلمون من أنفسهم أنّهم لا يعلمونه ولا فرفوريوس نفسه ، وقد ناقضه من أهل زمانه رجل وناقض هو ذلك المتناقض ، بما هو أسقط من الأوّل. (٣)

ومع هذا التشنيع العظيم من الرئيس على فرفوريوس ذهب إلى قوله باتحاد النفس بالصورة المعقولة عند تعقلها إياها ، فإنّه قال : بهذه العبارة (كلّ صورة

__________________

(١) ـ porphurios ـ من مشاهير فلاسفة الاغارقة ، تولد في «تيروس» في سوريا عام (٢٣٢ م) وتوفّي في الروم عام (٣٠٤ م) وكان مفسّرا لكلمات بلوتاينوس (افلوطين) ومؤلفا لإيساغوجي) Eisagoge (وهو المدخل لمقولات أرسطو طاليس وقد كان على رأيه في جميع ما ذهب إليه. راجع الملل والنحل للشهرستاني ٢ : ١٥٥ ـ ١٥٨ ؛ نخستين فيلسوفان يونان للدكتور شرف الدين الخراساني : ١٧٤.

(٢) وفي المصدر : «حشف» بمعنى أردأ التمر ، ويقال أيضا للضرع البالي.

(٣) شرح الإشارات ٣ : ٢٩٥.

٤٠