نهاية المرام في علم الكلام - ج ٢

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ٢

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-392-8
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٦١٦

مجرّدة عن المادة والعوارض إذا اتحدت بالعقل بالقوة صيّرته عقلا بالفعل ، لا بأنّ العقل بالقوة يكون منفصلا عنها انفصال مادة الأجسام عن صورتها ، فإنّه إن كان منفصلا بالذات عنها ويعقلها كان ينال منها صورة أخرى معقولة. والسؤال في تلك الصورة كالسؤال فيها ، وذهب الأمر إلى غير النهاية).

هذا ما ذكره على سبيل الإجمال وأمّا على سبيل التفصيل (١) فقال :

إنّ العقل بالفعل إمّا أن يكون حينئذ هذه الصورة أو العقل بالقوة التي حصلت لها هذه الصورة أو مجموعها.

ولا يجوز أن يكون العقل بالقوة هو العقل بالفعل لحصوله ؛ لأنّه لا يخلو ذلك (٢) العقل بالقوة إمّا أن تعقل تلك الصورة ، أو لا تعقلها ، فإن كان لا تعقل تلك الصورة ، فلم تخرج بعد إلى الفعل ، وإن كان تعقلها ، فإمّا أن تعقّلها بأن تحدث لذات العقل بالقوة منها صورة أخرى ، أو تعقلها بأن تحصل هذه الصورة لذاتها فقط. فإن كان إنّما تعقلها بأن تحدث له منها صورة أخرى ذهب الأمر إلى غير النهاية ، فإن (٣) كان تعقلها بأنّها موجودة له : فإمّا على الإطلاق ، فيكون كلّ شيء حصلت له تلك الصورة عقلا ، لكن تلك (٤) الصورة حاصلة للمادة وحاصلة لتلك العوارض التي تقترن بها في المادة. فيجب أن تكون (٥) المادة والعوارض عقلا بمقارنة تلك الصورة ، فإنّ الصورة المعقولة موجودة في الأعيان الطبيعية ، ولكن مخالطة بغيرها لا مجردة ، والمخالط لا يعدم المخالط حقيقة ذاته.

وإمّا لا على الإطلاق ، ولكن لأنّها موجودة لشيء من شأنه أن يعقل فيكون

__________________

(١) قال : «بل أفضل هذا وأقول ...».

(٢) كذا في النسخ ، وفي المصدر : «ذات».

(٣) في المصدر : «وإن».

(٤) في المصدر : «وتلك».

(٥) ق : باضافة «تلك» بعد «تكون».

٤١

حينئذ معنى «أن يعقل» إمّا نفس وجودها فيكون كأنّه يقول : لأنّها موجودة لشيء من شأنه أن توجد له ، وإمّا أن يكون معنى «أن يعقل» ، ليس نفس وجود هذه الصورة له ، وقد وضع هنا (١) «أن يعقل» نفس وجود هذه الصورة له ، هذا خلف.

فإذن ليس «أن يعقل» بهذه (٢) الصورة نفس وجودها للعقل بالقوة ولا وجود صورة مأخوذة عنها.

فإذن ليس العقل بالقوة هو العقل بالفعل البتة ، إلّا أن يوضع الحال بينهما حال المادة والصورة المذكورتين.

ولا يجوز أن يكون العقل بالفعل هنا ، هي (٣) هذه الصورة نفسها فيكون العقل بالقوة لم يخرج إلى الفعل ؛ لأنّه ليس هذه الصورة نفسها قابل لها ، وقد وضع العاقل (٤) بالفعل هذه الصورة نفسها ، فيكون العقل بالقوة ليس عقلا بالفعل ، بل موضوعا للعقل بالفعل وقابلا ، فليس عقلا بالقوة ؛ لأنّ العقل بالقوة هو الذي من شأنه أن يكون عقلا بالفعل فليس هاهنا شيء هو عقل بالقوة.

أمّا الّذي يجري مجرى المادة فقد بيّناه. و (٥) الذي يجري مجرى الصورة ، فإن كان عقلا بالفعل فهو عقل بالفعل دائما ، ولا يمكن أن يوجد وهو عقل بالقوة.

ولا يجوز أو يكون هذا العقل بالفعل مجموعهما ؛ لأنّه لا يخلو : إمّا أن (يكون ذلك المجموع) (٦) يعقل ذاته ، أو غير ذاته. ولا يجوز أن يعقل غير ذاته ؛ لأنّ ما هو

__________________

(١) أي فرض هنا.

(٢) وفي المخطوطة : «هذه».

(٣) «هي» ليست في المصدر.

(٤) في المصدر : «لها العقل» بدل «العاقل».

(٥) في المصدر : «وأمّا».

(٦) ما بين الهلالين ليس في المصدر.

٤٢

غير ذاته ، فإمّا جزء لذاته (١) وهو (٢) الصورة والمادة المذكورتان ، أو شيء خارج عن ذاته فإن كان شيئا خارجا عن ذاته فهو يعقله بأن يقبل صورته المعقولة ، فيحل منه (٣) محلّ المادة، ولا تكون تلك الصورة هي الصورة التي نحن في بيان أمرها ، بل صورة أخرى بها يصير عقلا بالفعل.

وأيضا نحن إنّما نضع هاهنا الصورة التي بها يصير العقل بالفعل (عقلا بالفعل هذه الصورة) (٤) ؛ ثمّ مع ذلك فإنّ الكلام في المجموع مع بقاء (٥) تلك الصورة القريبة (٦) ثابت.

ولا يجوز أن تكون أجزاء ذاته أيضا ؛ لأنّه إمّا أن يعقل الجزء الذي هو كالمادة ، أو الجزء الذي هو كالصورة ، أو كليهما ؛ وكلّ واحد من هذه الأقسام ، إمّا أن يعقله الجزء (٧) الذي هو كالمادة ، أو الجزء الذي هو كالصورة ، أو كلاهما.

وأنت إذا تبيّنت هذه الأقسام بان لك الخطأ في جميعها ، فإنّه إن كان يعقل الجزء الذي هو كالمادة بالجزء الذي كالمادة ، فالجزء الذي كالمادة عاقلة لذاتها معقولة لذاتها ، ولا منفعة للجزء الذي كالصورة في هذا الباب لما بيّنا. (٨)

وإن كان يعقل الجزء الذي كالمادة بالجزء الذي كالصورة ، فالجزء الذي كالصورة هو المبدأ الذي بالقوة ، والجزء الذي كالمادة هو المبدأ الذي كالصورة

__________________

(١) في المصدر : «أجزاء ذاته».

(٢) في المصدر : «هي».

(٣) في المصدر : «منها».

(٤) في المصدر : «بهذه الصورة» بدل ما بين الهلالين.

(٥) «بقاء» ليست في المصدر.

(٦) في المصدر : «الغريبة».

(٧) في المصدر : «بالجزء».

(٨) في المصدر : «هاهنا».

٤٣

والفعل (١) ، وهذا عكس الواجب.

(وأيضا يعود الكلام المذكور من أنّه تعقلها لحصولها لها على الإطلاق ، أو لأنّها حصلت لشيء من شأنه أن يعقل. وقد أبطلناهما.

وإن كانت الصورة تعقل نفسها كانت عاقلة ومعقولة بذاتها) (٢). وإن كان يعقل الجزء الذي كالمادة بالجزءين جميعا ، فصورة الجزء الذي كالمادة حالّة في الجزء الذي كالمادة وفي الجزء الذي كالصورة فهي أكبر من ذاتها ، هذا خلف.

واعتبر مثل هذا في جانب الجزء الذي كالصورة. ولذلك إن وضع أنّه يعقل كلّ جزء بكلّ جزء ، فقد بطلت الأقسام الثلاثة ، وصحّ أنّ الصورة العقلية ليست نسبتها إلى العقل بالقوة نسبة الصورة الطبيعة إلى الهيولى الطبيعية ، بل هي إذا حلّت العقل بالقوة اتّحدت ذاتاهما (وصارتا) (٣) شيئا واحدا ، فلم يكن قابل ومقبول متميّزي الذات. فيكون حينئذ العقل بالفعل (٤) بالحقيقة هي الصورة المجردة المعقولة. وهذه الصورة إذا كانت تجعل غيرها عقلا بالفعل بأن تكون له ، فإذا كانت قائمة بذاتها فهي أولى أن تكون عقلا بالفعل ، فإنّه لو كان الجزء من النار قائما بذاته لكان أولى أن يحرق. والبياض لو كان قائما بذاته فهو أولى أن يفرّق البصر.

وليس يجب للشيء المعقول أن يعقله غيره لا محالة ، فإنّ العقل بالقوة يعقل لا محالة ذاته أنّه هو الذي من شأنه أن يعقل غيره (٥).

__________________

(١) في المصدر : «بالفعل».

(٢) ما بين الهلالين ليس في المصدر.

(٣) ما بين الهلالين ليس في المصدر.

(٤) ساقطة في المخطوطة وأثبتناها من المصدر.

(٥) في المصدر : «أن يعقله غيره». انتهى كلام الرئيس في المبدأ والمعاد : ٧ ـ ١٠.

٤٤

فقد ظهر من هذا أنّ كلّ ماهية جرّدت عن المادة وعوارض المادة فهي معقولة بذاتها بالفعل ، وهي عقل بالفعل ، ولا تحتاج في أن تكون معقولة إلى شيء آخر يعقلها. (١)

والجواب : أنّا نختار الأوّل ، وهو أنّ العقل بالفعل هو العقل بالقوة عند حلول الصورة المجرّدة فيه.

قوله : العقل بالقوة يعقل تلك الصورة لأجل حضورها فيه كيف ما كان (٢) ، أو لأجل حضورها في شيء من شأنه أن يعقل.

قلنا : نختار الثاني ، وهو أن يعقل تلك الصورة لأنّها حلّت في شيء من شأنه أن يعقل.

قوله : يلزم أن يكون إنّما عقلها لأنّها حلت في شيء من شأنه أن يحل فيه شيء.

قلنا : إنّما يلزم ذلك لو جعلنا التعقل نفس حصول صورة المعقول ونحن لا نقول به ، بل شيء آخر إمّا إضافة إليه أو غيرها. فإنّ المعقول إن كان هو ذات العاقل امتنع أن يكون التعقل بحصول صورة للمعقول في العاقل ، وإلّا لتضاعفت الصور ، بل يكون بإضافة تحصل لذاته من حيث هو عاقل إلى ذاته من حيث هو معقول وتلك الإضافة التعقل ، وإن كان غيره أمكن لذلك العاقل أن يعقل ذلك المعقول من حيث هو هو ، حال كون المعقول معدوما في الخارج. فلا بدّ

__________________

(١) قال صدر المتألهين ـ في مقام الدفاع عن الشيخ ـ : ولعلّ الشيخ تكلّم هاهنا على طريق التكلّف والمداراة مع طائفة من المشائيين من غير أن ينساق بطبعه إلى تحقيق هذا المرام وإلّا لوجب عليه أن يدفع بعض النقوض الواردة عليه لكونه مدافعا لكثير من الأحكام الّتي ذهب إليها هو وأشباهه من الحكماء. الأسفار ٣ : ٤٤٠ ـ ٤٤١.

(٢) أي على الإطلاق أو لا على الإطلاق.

٤٥

في ارتسام صورة أخرى من ذلك المعقول في العاقل لتتحقق النسبة المسماة بالعاقلية بينهما.

أو نقول بتحقق الإضافة بالنسبة إلى ذات المعقول من حيث هي هي ، لا من حيث إنّها ثابتة في الذهن أو في الخارج أو لا ثابتة ، فهما على ما اخترناه نحن. (١)

المسألة السابعة : في الفرق بين حلول الصورة العقلية في النفس وبين حلول الصورة في المادة وسائر الصور في الجسم (٢)

اعلم أنّ القائلين بإثبات الصورة المعقولة في النفس فرّقوا بين حلول هذه الصورة العقلية في النفس وبين حلول سائر الصور في الجسم من وجوه :

أوّلا : الصور المادية متمانعة لا يمكن اجتماع الكثير منها في مادة واحدة ؛ فإنّ المشكّل بشكل التربيع ـ مثلا ـ في الخارج ، لا يمكنه التشكّل بشكل التثليث مع حصول الأوّل ، بل تعدم الأوّل حتى يمكن تحقق الثاني في تلك المادة ، وليس كذلك الصور العقلية ، فإنّها تجتمع في النفس ، بل تتعاون في حصول بعضها مع

__________________

(١) والجدير بالذكر أن نقول : ليس المراد من الاتحاد بين العاقل والمعقول ، الاتحاد الشخصي والاتحاد في المفهوم والماهية ، لأنّ من البديهي أنّ ماهية العاقل لا تنقلب إلى ماهية المعقول ولا بالعكس ، كما لا يعقل الاتحاد بين مفهومين متباينين ، بل المراد إيجاد علاقة بين العاقل والمعقول بحيث تشمل اتحاد الرابط بالمستقل والرابطي بالموضوع ، والأوّل حاصل في علم العلّة والمعلول ببعضها علما حضوريا ويرجع هذا إلى التشكيك في حقيقة الوجود.

والثاني حاصل في العلوم الحصولية ـ بناء على القول بأنّ العلم كيف نفساني وانّ العرض يتحدّ بالجوهر ـ حيث إنّ المعلوم بالذات هو الصورة العلمية لا الأشياء الخارجية فتتحد الصورة بموضوعها وهي النفس ، فيصحّ القول باتحاد العاقل والمعقول بهذا المعنى فتأمّل.

(٢) قارن : المباحث المشرقية ١ : ٤٥٣ ـ ٤٥٤.

٤٦

بعض في النفس وتتعاضد ، فإنّ النفس الخالية عن جميع العلوم يكون تصورها لشيء من الحقائق شاقا شديدا ، وكلما ازداد ارتسام الأشياء فيها وتكثرت علومها ازداد استعدادها للباقي.

ثانيا : الصور الخارجية إذا حلّت في مادة وكانت عظيمة لم تكن المادة صغيرة ، فإنّ العظيم من الصور المادية لا تحل في مادة صغيرة ، والصور الذهنية بالعكس ، فإنّ قبول النفس للعظيم منها مساو لقبول الصغير ، ولهذا تمكنت النفس من تخيل السماوات والأرض والجبال والبحار حيث لم تكن للنفس مادة ولا للصورة مقدار في ذاتها بل لغيرها ، فنسبة القوة العقلية إلى جميع التقادير واحدة.

ثالثا : الكيفية الضعيفة إذا طرأ عليها الكيفية القوية في المادة عدمت الضعيفة ولم يبق لها أثر البتة ، بخلاف الصور العقلية النفسانية ، فإنّ القوي لا يزيل الضعيف بل يجامعه.

رابعا : الكيفيات المادية محسوسة ؛ فإنّ الحرارة الخارجية في النار محرقة لما يلاقيها ، والبرودة في الثلج مبردة ، بخلاف الصور العقلية فليس من تصور الحرارة بصورة مساوية للحرارة يحترق ذهنه ، ولا في تصور البرودة يبرد ذهنه. فالعقل لا يحكم على الصور الذهنية أنّها حينما يكون في الذهن محرقة أو مبردة ، بل أنّها أمور متى وجدت في الأعيان كانت محرقة أو مبردة.

خامسا : الصور العقلية بعد حصولها لا يجب زوالها بل تبقى ببقاء النفس دائما ، ولو زالت لم يحتج في استرجاعها إلى تجشّم كسب جديد ، بخلاف الصور المادية فإنّها واجبة الزوال لاستحالة بقاء القوى الجسمانية أبدا ، وإذا زالت افتقر استرجاعها إلى تجدّد السبب الأوّل.

٤٧

المسألة الثامنة : في كون الصورة العقلية كلّية (١)

إنّ هنا طبائع وحقائق كلّية لا نشكّ فيها ، وبأنّ (٢) الطبيعة المائية متحققة في ماء البحر والنهر وغيرهما ، والطبيعة الإنسانية ثابتة في الأشخاص الإنسانية كزيد وعمرو ـ مثلا ـ ، ولا نشير بذلك إلى أنّ ماء البحر والنهر قد اشتركا في إطلاق اسم الماء عليهما حتى يكون الاشتراك لفظيا لا غير ، ولا أنّ زيدا وعمرا اشتركا في صدق لفظ الإنسان عليهما من غير أن يكون بينهما شركة معنوية ، فإنّا لو فرضنا الواضع لم يضع لفظي الماء والإنسان لوجدنا الشركة بينهما ثابتة عقلية.

فإذن قول (٣) الماء والإنسان وغيرهما من الطبائع على الأشخاص المندرجة تحتها إنّما هو على سبيل الاشتراك المعنوي ، وذلك المشترك لا يمكن أن يدخل في مفهومه قدر معيّن وهيئة معينة وشكل معيّن ما لم يدخل في مفهومه بعض أفراده. ولا بشخص معيّن ، وإلّا لم يكن مشتركا بين الأشخاص ذوات الأعراض المختلفة.

وإذا تقرر هذا فنقول : إنّ القوة العقلية إذا استحضرت ذلك المشترك بحيث يكون مجردا عن جميع اللواحق الغربية والعوارض الخارجية ، فتلك الصورة تكون كلّية ، وهي وإن كانت في نفسها شيئا واحدا إلّا أنّه لا تختلف نسبتها إلى أيّ واحد واحد من الناس ، بمعنى أنّ أيّ واحد من الناس حضرت صورته عند الخيال ثمّ انتزع العقل منها المعنى الذي جرد عن العوارض الغربية والغواشي اللاحقة به والمشخصات المخصصة له حصل في العقل تلك الصورة بعينها. وإذا سبق واحد فتأثرت النفس منه بذلك الأثر ، لم يكن لغيره تأثير جديد ، إلّا بحكم هذا الجواز.

__________________

(١) قارن : المباحث المشرقية ١ : ٤٥٤ ـ ٤٥٥.

(٢) كذا.

(٣) أي حملها على الأشخاص المندرجة تحتها.

٤٨

ولو كان بدل أحد هذه المؤثرات شيء غير مجانس لها كفرس وثور ، كان الأثر غير هذا الأثر، فهذا معنى كون الصورة العقلية مشتركا فيها.

واعترض (١) بأنّ الصورة العقلية من حيث حلولها في نفس جزئية حلول العرض في الموضوع تكون جزئية ، ويكون تشخّصها وعرضيتها وحلولها في تلك النفس ومقارنتها بصفات تلك النفس ، عوارض غريبة لا تنفك عنها. وهذا يناقض قولهم : العقل يقدر على انتزاع صورة مجرّدة عن العوارض الغريبة.

وأيضا تلك الصورة التي في نفس زيد ـ مثلا ـ لا يمكن أن تكون جزءا في ماهية الأشخاص الموجودة في الخارج قبل زيد وبعده. فإذن تلك الصورة ليست بمجرّدة ولا بمشترك.

وأجيب : بأنّ الإنسانية المشتركة الموجودة في الأشخاص في نفسها مجرّدة عن اللواحق فالعلم المتعلّق بها ، من حيث هو ، علم كلّي مجرّد ؛ لأنّ معلومه كذلك ، لا أنّ العلم في ذاته كذلك ، ولهذا السبب سماه المتقدّمون كلّيا ، تعويلا على فهم المتعلّمين. والمتأخرون إذ لم يقفوا على أغراضهم ظنّوا أنّ في العقل صورة مجرّدة كلية. وليس الأمر على ما ظنوه ، بل على ما حققناه. (٢)

قال أفضل المحققين : الإنسانية التي في زيد ليست بعينها التي في عمرو ، فالإنسانية المتناولة لهما معا ، من حيث هي متناولة لهما ، ليست هي التي في كلّ واحد منهما ، ولا هي فيهما معا ؛ لأنّ الموجود منها في أحدهما حينئذ لا يكون نفسها ، بل جزءا منها ، فهي إنّما تكون في العقل فقط ، وهي الإنسانية الكلية فهي من حيث كونها صورة واحدة في عقل زيد ـ مثلا ـ جزئية ، ومن حيث كونها متعلّقة

__________________

(١) الاعتراض على دليل تجرّد النفس وكلّيتها ، والمعترض والمجيب هو الرازي في شرح الإشارات ٢ : ٣٢٥ ـ ٣٢٦.

(٢) انتهى اعتراض الرازي وجوابه.

٤٩

بكلّ واحد من الناس كلّية.

ومعنى تعلّقها (١) : أنّ الإنسانية المدركة بتلك الصورة التي هي طبيعة صالحة لأن تكون كثيرة ولأن لا تكون ، لو كانت في أيّ مادة من مواد الأشخاص لحصل ذلك الشخص بعينه. أو أيّ واحد من تلك الأشخاص سبق (٢) إلى أن يدركه زيد حصل في عقله تلك الصورة بعينها ، فهذا معنى اشتراكها.

وأمّا معنى تجريدها : فكون (٣) تلك الطبيعة التي انضاف إليها معنى الاشتراك منتزعة عن اللواحق المادية الخارجية وإن كانت باعتبار آخر مكفوفة باللواحق الذهنية المشخّصة ، فإنّها بأحد الاعتبارين ممّا ينظر به في شيء آخر ويدرك به (في) (٤) شيء آخر ، فالاعتبار(٥) الآخر ممّا ينظر فيه ويدرك نفسه.

فإذن الصورة التي ذكرها (٦) هاهنا هي الطبيعة الإنسانية التي ليست في الحقيقة كلية ولا جزئية. (٧)

وفيه نظر ، فإنّه أثبت صورة كلية متناولة لإنسانية زيد وإنسانية عمرو متعلّقة بكلّ واحد من الناس في الذهن خاصة.

وفسر تعلّقها بأنّ الإنسانية المدركة بتلك الصورة التي هي طبيعة صالحة للكثرة والتشخص لو كانت في أيّ مادة من مواد الأشخاص لحصل ذلك الشخص بعينه.

__________________

(١) في النسخ : «تعقلها» وهو من اقحام الناسخ ، صحّحناها طبقا للمصدر.

(٢) كذا في المصدر ونسخة ج ، وفي نسخة ق : «يتفق».

(٣) كذا في النسخ ، وفي المصدر : «فتكون».

(٤) ليست في المصدر.

(٥) كذا ، وفي المصدر : «وبالاعتبار».

(٦) أي الرازي.

(٧) انتهى كلام الطوسي في شرح الإشارات ٢ : ٣٢٦ ـ ٣٢٧.

٥٠

فنقول : هذه الطبيعة إن كانت في الخارج كانت شخصية ولم تصلح للكلية ، وإن كانت ذهنية تضاعفت الصورة. ثمّ لو كفى أحد هذين الاعتبارين في كلية الصورة الذهنية ، فليكف في كلية الصورة الخارجية ، بأن نقول : هذه الصورة الخارجية وإن كانت شخصية إلّا أنّ الطبيعة التي اشتمل ذلك الشخص عليها لو كانت في أيّ مادة من مواد الأشخاص كانت تحصل ذلك الشخص بعينه ، أو أي واحد من تلك الأشخاص سبق إلى أن يدركه زيد حصل في عقله تلك الصورة بعينها ؛ لصدق هذين الاعتبارين في الشخص الخارجي كما صدقا في الشخصي الذهني. فإنّ الكلّية بالمعنى الأوّل حصلت باعتبار تقدير فرض الطبيعة موجودة في أيّ مادة فرضت بدل المادة التي وحدت تلك الطبيعة فيها. وبالمعنى الثاني حصلت باعتبار أنّ أيّ صورة عقلت أوّلا ساوت الصورة المعقولة أوّلا غيرها.

واعلم (١) أنّ الصورة النفسانية هيئة جزئية في نفس جزئية ، فهي أحد أشخاص التصورات ، وكما أنّ الشيء الواحد باعتبارات مختلفة يكون عاما وخاصا ، كذلك باعتبارات مختلفة يكون كليا وجزئيا ، فمن حيث إنّ هذه الصورة صورة معينة هي صورة الإنسانية ـ مثلا ـ في نفس جزئية ، هي نفس زيد العاقل لها فهي جزئية ، ومن حيث إنّها مشتركة فيها متعلّقة بالأشخاص الخارجية على ما فسرنا التعلق به فهي كلّية من غير تناقض ؛ لاختلاف الاعتبار ، لأنّه ليس يمتنع أن تفرض للذات الواحدة شركة بالإضافة إلى كثيرين ، فإنّ الشركة في الكثرة إنّما يمكن بالإضافة لا غير ، ولو كانت الإضافة لكثرة إلى كثرة لم تكن هناك شركة ، فإذن يجب أن تكون هناك إضافات كثيرة لذات واحدة بالعدد ، وهذه الصورة وإن كانت بالقياس إلى الأشخاص المضافة إليها كلّية ، لكنّها بالقياس إلى النفس الجزئية التي انطبعت فيها شخصية.

__________________

(١) قارن : المباحث المشرقية ١ : ٤٥٤ ـ ٤٥٥.

٥١

ولمّا تعددت النفوس البشرية العاقلة وتكثّرت ، وأمكن أن تعقل كلّ واحد ما عقله صاحبه تكثرت الصورة الكلية بالعدد ، وصار للإنسانية الحاصلة في الذهن المعقولة صور متعددة بالقياس إلى العدد المحال ، فهذه الصور الكلية كثيرة بالعدد من الجهة التي هي بها شخصية. ثمّ يكون لها معقول آخر كلّي هو بالقياس إليها كهي بالقياس إلى ما في الخارج. وتتميّز إحداهما عن الأخرى ، بأنّ كلية إحداهما بالنسبة إلى أمور في النفس ، وكلية الأخرى بالنسبة إلى أمور في الخارج ، وكلية الصورة الثانية بالنسبة إلى نوع الصورة الأولى التي كليتها بالنسبة إلى أفراد نوع المعلوم. والكلام في الصورة [الثانية] كالكلام في الصورة الأولى إلى غير نهاية ، ثمّ هي شخصية بالنسبة إلى محلّها.

ولأنّ في قوة النفس أن تعقل وتعقل أنّها عقلت وإن تركّبت إضافات إلى إضافات إلى غير النهاية ، لكنّها تكون بالقوة لا بالفعل ؛ لأنّه ليس يلزم النفس إذا عقلت شيئا أن تعقل بالفعل معها الأمور التي يلزمها من غير وسط ، فضلا عمّا يلزمها بوسط ، كتراوح عدد بأعداد غير متناهية بالتضعيف (١) ، فإنّه ليس يلزم النفس في حالة واحدة أن تعقل تلك الأمور كلّها ، وهذا في النفوس الناطقة سهل.

أمّا في العقول المجرّدة ـ التي يثبتونها كاملة ـ ليس فيها شيء بالقوة ، بل يجب لها كلّ ما يمكن ، فالأمر فيها مشكل ؛ لأنّ هذه الدرجات غير متناهية في كلّ واحد واحد من المعلومات التي لا تتناهى ، وهي مترتبة ؛ لأنّ الصورة الثانية مسبوقة بالصورة الأولى ، لأنّها منتزعة منها وحكاية عنها ، وكذا الثالثة منتزعة من الثانية ، لا من الأولى ، فبينها ترتّب طبيعي ، فتكون هناك علل ومعلولات غير متناهية لا مرّة واحدة بل مرارا لا نهاية لها ، ولكن لها بداية وأوّل وهي الصورة الخارجية الأصلية التي انتزعت الصورة الذهنية منها بغير واسطة. والبرهان قام

__________________

(١) في المباحث المشرقية : «مثل مزاوجة أعداد بأعداد لا نهاية لها بالتضعيف».

٥٢

على وجوب البداية للأمور المترتبة ، ولم يقم على وجوب النهاية لها.

وفيه نظر ، فإنّ برهان التطبيق (١) آت فيها.

واعلم أنّ هذا المحال إنّما نشأ من القول بإثبات الصور الذهنية ، أمّا على ما اخترناه من أنّه إضافة أو صفة تلزمها الإضافة فلا.

المسألة التاسعة : في مراتب التعقل

قسّم الرئيس التعقل إلى مراتب ثلاث : (٢)

الأولى : أن يكون بالقوة ، وذلك عند ما لا يكون حاصلا للذات العاقلة ، ولكن النفس تقوى على تحصيلها واكتسابها. وهذه المرتبة تشتمل على مراتب مختلفة بحسب القرب إلى الحصول العقلي والبعد عنه.

الثانية : أن يكون حاصلا بالفعل التام على سبيل التفصيل بحيث يحضر عند المدرك جميع أجزاء ذلك المعلوم إن كان ذا أجزاء ، وبالجملة يكون حاصلا له من كلّ وجه بالفعل.

الثالثة : أن يكون حاصلا بالفعل على سبيل الإجمال لا التفصيل ، بل على الوجه البسيط ، كمن علم مسألة على سبيل التفصيل ثمّ غفل عنها فإذا سئل عنها حصل الجواب في ذهنه دفعة واحدة لا على سبيل التفصيل ؛ لأنّ التفصيل إنّما يحصل عند شروعه في بيان ذلك ، وأمّا في أوّل الأمر فإنّه يحصل العلم بذلك الجواب دفعة.

ولا يمكن أن يقال : إن علمه بذلك الجواب في تلك الحالة ، إنّما هو علم

__________________

(١) برهان التطبيق هو أحد براهين استحالة التسلسل وفيه نقاش فليراجع : ٢ لأسفار ٢ : ١٤٥ وما يليها.

(٢) الفصل الخامس من المقالة الأولى من الفنّ السادس من طبيعيات الشفاء.

٥٣

بالقوة لا بالفعل ، لأنّ الإنسان يجد من نفسه قوة بديهية بين الحالتين ، فإنّه قبل سماعه لتلك المسألة كان عالما بها بالقوة ، وبعد سماعه لم يبق كما كان ، بل حصل في ذهنه شعور وعلم لم يكن حاصلا قبل ذلك.

لا يقال : مراتب القوة مختلفة بالقرب والبعد ، فجاز أن يكون التفاوت هنا بسبب أنّ علمه قبل السؤال كان بالقوة البعيدة ، وبعد سماعه لذلك السؤال صار بالقوة القريبة.

لأنّا نقول : من المعلوم أنّه بعد سماعه لذلك السؤال عالم على سبيل التفصيل أنّه قادر على الجواب عن ذلك السؤال ، والعلم باقتداره على الجواب علم بإضافة أمر إلى أمر ، والعلم بإضافة شيء إلى شيء متوقف على العلم بكلّ واحد من المضافين ، فلو لا علمه بحقيقة ذلك الجواب لاستحال أن يعلم اقتداره على ذلك الجواب. فثبت أنّه عالم بحقيقة ذلك الجواب ، وأنّ ذلك العلم حاصل بالفعل لا على سبيل التفصيل ، بل على الوجه البسيط.

واعترض أفضل المتأخرين : بأنّ العلم إمّا أن يكون بالقوة ، وإمّا أن يكون بالفعل على التفصيل. (١)

فأمّا القسم الثالث : وهو البسيط ، فلا تحقّق له ؛ لأنّ العلم عندهم عبارة عن حضور صورة المعقول في العاقل ، فهذا العقل البسيط إن كان صورة واحدة مطابقة في الحقيقة لأمور كثيرة فهو باطل ؛ لأنّ الصورة العقلية الواحدة لو طابقت أمورا كثيرة لكانت مساوية في الماهية لتلك الأمور الكثيرة المختلفة في الحقيقة ، فتكون لتلك الصورة حقائق مختلفة ، فلا تكون الصورة الواحدة واحدة.

فإن قيل : بأنّ لهذا التعقل البسيط صورا مختلفة بحسب اختلاف

__________________

(١) المباحث المشرقية ١ : ٤٥٦.

٥٤

المعقولات ، فالعلم التفصيلي بتلك المعلومات حاصل ، إذ لا معنى للعلم التفصيلي إلّا ذلك، وهو أن تكون صور المعلومات تنحصر على الترتيب الزماني واحد بعد آخر.

فإن أرادوا به ذلك فهو صحيح لا منازعة فيه ، ولكنّه لا يكون مرتبة متوسطة بين القوّة المحضة والفعل المحض الذي يكون على التفصيل ، بل حاصله راجع إلى أنّ المعلوم قد يجتمع في زمان واحد وقد لا يجتمع ، بل يتوالى ويتعاقب.

وعلى القول بأنّ العلم إضافة (١) ، فبطلان ما قالوه ظاهر أيضا ، لأنّ الإضافة إلى أحد الشيئين غير الإضافة إلى غيره ، فإذا تعددت الإضافات فقد حصلت تلك العلوم على سبيل التفصيل ، لأنّ معنى حصولها مفصلا هو ذلك.

وقوله (٢) : علمه بقدرته على الجواب يتضمن العلم بالجواب.

فجوابه أنّه في تلك الحالة عالم باقتداره على شيء يدفع ذلك السؤال ، وذلك هو العلم بالجواب على سبيل الإجمال ، فأمّا حقيقة ذلك الشيء فهو غير عالم به.

والأصل فيه : أنّ الجواب ، له ماهية ولازم ، فماهيته مجهولة. ولازمه ـ وهو كونه واقعا للسؤال ـ معلوم على سبيل التفصيل ، كما أنّا نعرّف النفس من حيث إنّها شيء محرّك للبدن مديرة له ، ونجهل ماهيتها ، فالمعلوم لنا لازم من لوازمها على سبيل التفصيل ، والمجهول نفس الماهية إلى أن تعرف بطريق آخر. ويخرج من هذا بطلان كون العلم الواحد علما بمعلومات كثيرة.

والتحقيق أن نقول : إذا لم يسبق علمنا بشيء ولا علمناه الآن فإنّا نكون قادرين على العلم به ، لكنّا لا نعلم بالفعل ، وهذه القدرة هي العلم بالقوة ، فإذا علمناه فقد يكون ملحوظا بالفعل معتبرا ، وهذا هو العلم بالفعل ، وقد لا يكون

__________________

(١) وهو رأي الرازي والإيجي كما مرّ.

(٢) أي قول الشيخ الرئيس.

٥٥

ملحوظا بالفعل ولا معتبرا ، بل يكون مغفولا عنه ، وهو الذي أشار إليه الرئيس بالمرتبة الوسطى. فإن أنكرها أفضل المتأخرين فهو مكابر (١) ، وإن اعترف بإثباتها ولم يسمّها علما بالفعل بل بالقوة رجع النزاع إلى اللفظ. وإن ادّعى الرئيس أنّها حاصلة بالفعل فهو مكابر.

واعلم (٢) أنّ النفس الناطقة عند الأوائل وبعض المتكلمين : جوهر مجرّد له قوى وكمالات خلقه الله تعالى خاليا عن جميع العلوم وقابلا لها وله قوّة التعقل. وهذا التعقل إمّا أن يكون باعتبار تأثير هذا الجوهر في البدن الموضوع لتصرفاته مكملا له تأثيرا على جهة الاختيار والإرادة ، وإمّا أن يكون باعتبار تأثرها عمّا فوقها مستكملة في جوهرها بحسب استعدادها ، والأولى تسمى عقلا عمليا ، والثانية تسمى عقلا علميا ، والعقل يطلق على هذه القوى باشتراك الاسم أو تشابهه.

والعقل الاختياري الذي يختص بالإنسان لا يتأتى إلّا بإدراك ما ينبغي أن يعمل في كلّ باب وهو إدراك رأي كلّي مستنبط من مقدمات كلّية أوّلية ، أو تجريبية ، أو ذائعة ، أو ظنية يحكم بها العقل النظري ، ويستعملها العقل العملي في تحصيل ذلك الرأي الكلي من غير أن يختص بجزئي دون غيره. والعقل العملي يستعين بالنظري في ذلك. ثمّ إنّه ينتقل من ذلك باستعمال مقدمات جزئية أو محسوسة إلى الرائي الجزئي الحاصل فيعمل بحسبه ، ويحصل بعمله مقاصده في معاشه ومعاده.

__________________

(١) أي معاند ومانع مقتضى عقله.

(٢) قارن : شرح الإشارات ٢ : ٣٥٢ ؛ الفصل الخامس من الفن السادس من طبيعيات الشفاء ؛ طبيعيات النجاة : ١٦٣ ـ ١٦٦ ؛ التحصيل لبهمنيار مع تصحيح وتعليق للشهيد مرتضى المطهّري : ٧٨٩.

٥٦

وأمّا القوة النظرية فلها مراتب متعددة بحسب تعدد مراتبها في الاستكمال ، وتلك المراتب تنقسم إلى ما يكون باعتبار كونها كاملة بالقوة ، وإلى ما يكون باعتبار كونها كاملة بالفعل. والقوة تختلف بحسب الشدة والضعف. فأوّل تلك المراتب كما يكون للطفل من قوّة الكتابة (١) ، وأوسطها كما يكون للرجل الأمي المستعد لتعلم الكتابة ، وآخرها كما يكون للعالم بالكتابة القادر عليها الذي لا يكتب لكن له أن يكتب كما شاء.

فقوة النفس المناسبة للمرتبة الأولى تسمى عقلا هيولانيا ، تشبيها لها حينئذ بالهيولى الأولى الخالية في نفسها عن جميع الصور مع استعدادها لقبولها ، وهي حاصلة لجميع أفراد نوع الإنساني في مبدأ فطرتهم.

وأمّا القوة المتوسطة المناسبة للمرتبة المتوسطة ، فإنّها تسمى عقلا بالملكة ، وذلك إنّما يكون إذا حصلت للنفس البديهيات التي هي المعقولات الأولى ، واستعدت بواسطة ذلك لتحصيل المعقولات الثانية التي هي العلوم النظرية المكتسبة بالفكر أو الحدس.

وتختلف مراتب الأشخاص البشرية في تحصيلها كمّا وكيفا ، أمّا بحسب

__________________

(١) قال السبزواري في منظومته :

كقوّة الطفل ومن ترعرعا

لصنعة وماهر ما صنعا

فما هو استعداد الأوّلي

سمّي بالعقل الهيولانيّ

وعقل استعداد كسب المدركة

من أوّليّات له بالملكة

بالفعل ذو استعداد الاستحضار

للنظريّات بلا انظار

والعقل حيث انعدم استعداد

واستحضر العلوم مستفاد

شرح المنظومة ، قسم الحكمة ، ص ٣١١ ـ ٣١٢. راجع أيضا مراتب العقل النظري ، كليات أبي البقاء : ٤٥١ ـ ٤٥٢ ؛ المعتبر في الحكمة لأبي البركات البغدادي : ٤٠٧ ـ ٤١٣.

٥٧

الكمّ فبكثرة المتعقلات النظرية وقلّتها ، وأمّا بحسب الكيف فبسرعة الحصول وبطئه (١) ، فإنّ من الناس من يحصّل العلوم الكسبية لشوق بالنسبة إليها يبعثها على حركة فكريّة شاقّة في طلب تلك المعقولات ، وهو من أصحاب الفكرة. ومنهم من يظفر بها من غير حركة ، إمّا مع شوق ما إليها أو لا مع شوق ، وهو من أصحاب الحدس. وتتكثر مراتب الصنفين ، وصاحب المرتبة الأخيرة ذو نفس قدسية.

والفرق بين الحدس والفكر ظاهر ؛ فإنّ الفكر هو حركة ما للنفس في المعاني مستعينة بالتخيل في أكثر الأمر ، يطلب بها الحدّ الأوسط أو ما يجري مجراه ممّا يصار به إلى العلم بالمجهول حالة الفقد استعراضا للمخزون في الباطن ـ من الصور الجزئية والمعاني الجزئية المخزونتين في الخيال والذاكرة ـ وما يجري مجراه من الصور العقلية ، فربما تأدت إلى المطلوب وربما انبتّت. (٢)

وإنّما استعان الفكر بالتخيل في أكثر الأمر ؛ لأنّه يقع في الأكثر في الجزئيات ، وإذا وقع في الكليات استعان بالتفكّر ، وهما متغايران بالاعتبار.

فالفكر (٣) حركة في المعاني للنفس ـ بالقوة التي آلتها مقدّم البطن الأوسط من الدّماغ المسمى بالدودة ـ أيّ حركة كانت إذا كانت تلك الحركة في المعقولات ؛ لأنّها في المحسوسات تسمى تخيلا ، سواء كانت الحركة من المطالب إلى المبادئ التي هي الحدود الوسطى وغيرها ، أو من المبادئ إلى المطالب ، فربما تأدت تلك الحركة من المطالب إلى المبادئ فتتم حينئذ بحركة أخرى من الحدود الوسطى التي هي المبادئ إلى المطالب ، وربما انبتّت.

__________________

(١) فانّ من الناس من يصل فكره إلى المطلب في زمان قليل ومنهم من يصل إليه في زمان طويل.

(٢) أي انقطعت عن المطلوب ولم تصل إليه. لسان العرب ١ : ٣٠٨ ؛ الصحاح ١ : كلمة بتّ.

(٣) قارن شرح الإشارات ١ : ١٠ ـ ١١.

٥٨

وقد يطلق الفكر على ما هو أخصّ من ذلك ، وهو حركة من جملة الحركات المذكورة ، تتوجه النفس بها من المطالب ، مترددة في المعاني الحاضرة عندها ، طالبة مبادئ تلك المطالب المؤدية إليها إلى أن تجدها ثمّ يرجع منها نحو المطالب. (١)

وقد يطلق على معنى آخر ، وهو الحركة الأولى لا غير ، وهي الحركة من المطالب إلى المبادئ من غير أن يجعل الرجوع إلى المطالب جزءا منه وإن كان الغرض منها هو الرجوع إلى المطالب.

والأوّل هو الفكر المعدود في خواصّ نوع الإنسان ، والثالث هو الفكر الذي يستعمل بإزائه الحدس ، والثاني مركب منهما.

وأمّا الحدس (٢) فهو الظفر عند الالتفات إلى المطالب بالحدود الوسطى دفعة ، وتمثل تلك المطالب في الذهن مع الحدود الوسطى كذلك من غير الحركتين المذكورتين ، سواء كان مع شوق أو لا معه.

فالفرق بين الفكر والحدس من وجهين :

الأوّل : بإمكان الانبتات (٣) ولا إمكانه ، إلّا أنّ الفكر المنبتّ لا يكون مؤديا إلى علم ، وربما لا يسمى فكرا.

الثاني : بوجود الحركة وعدمها ، وهذا هو الصحيح في الفرق بينهما.

__________________

(١) قال بهمنيار : «الفكر حركة ذهن الإنسان نحو المبادي للمطالب ، ليصير منها إلى المطالب.» التحصيل : ٢٦٤.

(٢) عرفه بهمنيار : «الحدس : حركة النفس إلى إصابة الحدّ الأوسط ـ إذا وضع المطلوب ـ أو إصابة الحدّ الأكبر ـ إذا أصيب الأوسط ـ وبالجملة سرعة انتقال من معلوم إلى مجهول ، كمن يرى شكل استنارة القمر ، عند أحوال قربه وبعده من الشمس ، فيحدس أنّه يستنير من الشمس.» نفس المصدر.

(٣) أي احتمال عدم الوصول إلى المطلوب.

٥٩

ولمّا (١) كان لمراتب الحدس والفكر اختلاف في التأدية إلى المطلوب بحسب الكيف باعتبار سرعة التأدية وبطئها ، وبحسب الكم فلكثرة عددها وقلّته ، والأوّل (٢) يكون في الفكرة أكثر لاشتمالها على الحركة ، والثاني (٣) يكون في الحدس أكثر لتجرّده عن الحركة ؛ ولأنّ الحدس أنّما يكون لقوة في النفس. فكان لتلك المراتب حدّا نقصان وكمال. وحدّ النقصان هو أن ينبتّ جميع أفكار الشخص عن مطالبه. وحدّ الكمال هو أن يحصل لشخص ما ما يمكن أن يحصل لنوعه من العلوم بحسب الكم ودفعة ، أو قريبا من ذلك بحسب الكيف على وجه يقيني يشتمل على الحدود الوسطى لا تقليديّ.

ولمّا كان طرف النقصان مشاهدا فكذا طرف الكمال ممكن الوجود ، بل موجود في طرف الأنبياء والأوصياء وحذاق العلماء الذين يستغنون في أكثر أحوالهم عن التعلّم والفكر ، وهم أصحاب القوّة القدسية.

وأمّا القوة المناسبة للمرتبة الأخيرة فيسمى عقلا بالفعل ، وهي ما يكون عند الاقتدار على استحضار المعقولات الثانية بالفعل متى شاء بعد الاكتساب بالفكر أو الحدس.

فهذه القوى الثلاث ، أعني : القوة الهيولانية (٤) والقوة بالملكة والقوة بالفعل ، هي قوى النفس في الإدراك. وأمّا حصول تلك المعقولات بالفعل ، فإنّه كمال للنفس ، وهو المسمى بالعقل المستفاد لأنّها مستفادة من الله تعالى عندنا. وعند الأوائل من عقل فعال في نفوس الناس يخرجها من درجة العقل الهيولاني إلى درجة

__________________

(١) قارن شرح الإشارات ٢ : ٣٦٠ ـ ٣٦١.

(٢) أي الاختلاف بحسب الكيف.

(٣) أي الاختلاف بحسب الكمّ.

(٤) ق : «هيولائية».

٦٠