نهاية المرام في علم الكلام - ج ٢

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ٢

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-392-8
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٦١٦

تنقسم لما مرّ ، وهكذا إلى أن تنتهي الحركة. فثبت تركب الحركة من أجزاء لا تتجزأ.

فنقول : إنّ المسافة التي تقع عليها الحركة أيضا كذلك ؛ لأنّ الحركة التي لا تنقسم إنّما تقع على مسافة ، فتلك المسافة إمّا أن تكون منقسمة أو لا ، والأوّل باطل ؛ لأنّ الحركة تنقسم بانقسام المسافة كما انقسمت بانقسام الزمان ، لأنّ الضرورة قاضية بأنّ الحركة في نصف المسافة نصف الحركة في كلّ المسافة ، فإذا فرضنا الحركة في كلّ المسافة غير منقسمة وجب أن لا تكون المسافة التي وقعت الحركة فيها منقسمة ، وإلّا لانقسمت الحركة بانقسامها ، وقد فرضناها غير منقسمة ، هذا خلف. فقد ثبت هنا مسافة غير منقسمة. ثمّ المسافة التي تقع فيها الحركة الثانية أيضا غير منقسمة.

والحاصل أنّ هذه الأمور الثلاثة : الزمان والحركة والمسافة متطابقة أيّها انقسم انقسم الباقيان ، وأيّها امتنع عليه القسمة امتنع على الباقيين (١).

قال أفضل المحقّقين : «الخصم يقول : الحركة لا وجود لها إلّا في الماضي أو في المستقبل ، وأمّا الحال فهو نهاية الماضي وبداية المستقبل وليس بزمان (٢) ، وما ليس بزمان لا تكون فيه حركة ؛ لأنّ كلّ حركة في زمان ، وكذلك سائر الفصول المشتركة للمقادير (٣) ليست بأجزاء لها ، إذ لو كانت الفصول المشتركة أجزاء للمقادير التي هي فصولها لكانت القسمة إلى قسمين قسمة إلى ثلاثة أقسام والقسمة إلى ثلاثة أقسام قسمة إلى خمسة أقسام ، هذا خلف.

__________________

(١) أنظر الإشكال على هذا الوجه في شرح الشريف الجرجاني على المواقف ٧ : ١٥.

(٢) صرّح الطوسي بأنّ الزمان لا ينقسم إلى الماضي والمستقبل والحال ، وأنّ الحال حدّ مشترك هو نهاية الماضي وبداية المستقبل ، والحدود المشتركة بين المقادير لا تكون أجزاء لها وإلّا لكان التنصيف تثليثا. شرح الإشارات ٢ : ٣٤ ـ ٣٥.

(٣) في المصدر : «للمقادير الأخر».

٤٢١

فإذن ، الحاضر ليس الحركة ، وهو (١) ادّعى أنّه الحركة وبنى عليه بيانه. والمخالف لا يسلّم أنّ الماضي من الحركة كان موجودا في آن حاضر ، إنّما يقول : هو الذي كان بعضه بالقياس إلى ما قبل الحال مستقبلا وبعضه ماضيا وصار في الحال كلّه ماضيا ، وهكذا في المستقبل. وفي الآن الفاصل بين الماضي والمستقبل لا يمكن أن يتحرك ، فإنّ الحركة إنّما تقع في زمان وليس شيء من الزمان بحاضر ، لأنّه غير قارّ الذات» (٢).

وفيه نظر ، لأنّ الحركة لو لم يكن لها وجود في الحال بل إمّا في الماضي أو في المستقبل ، لم يكن لها وجود ؛ لأنّ الماضي معدوم بالضرورة وكذا المستقبل. والخصم يسلّم ذلك لأنّه يقول : الزمان غير قارّ الذات ، ومعناه عدم الاستقرار ، فإذا لم يكن قارّ الذات وجب أن لا يوجد جزءان منه معا بل دائما إنّما يوجد منه جزء واحد ، فذلك الجزء إن انقسم كان قارا وقد فرضناه غير قار ، أو أن يكون الموجود أحد أجزائه لا كلّه ، هذا خلف ، وإن لم ينقسم ثبت المطلوب.

وكذا المستقبل فإنّه بالضرورة لم يوجد بعد ، ولو لم يكن الحال زمانا لم يكن للزمان وجود البتة.

والقول بالفصول المشتركة مبني على نفي الجوهر الفرد ، إذ على تقدير ثبوته لا مشترك بين الأجزاء إلّا في الحس لا في نفس الأمر ، ولو كان الموجود من الحركة بعضه ماضيا وبعضه مستقبلا لم يكن موجودا ، لأنّ الماضي والمستقبل معدومان ، وإلّا لزم أن يكون زمان الطوفان بل ما قبله وزمان القيامة إلى ما لا يتناهى موجودا ، وهو باطل بالضرورة. ثمّ كيف يصير المستقبل ماضيا إذا لم يوجد؟!

الوجه الثاني (٣) : إذا وضعنا كرة حقيقية على سطح مستو مستقيم لا

__________________

(١) أي الرازي.

(٢) نقد المحصل : ١٨٥.

(٣) استدل به الجويني ، كما في نهاية الاقدام للشهرستاني : ٥٠٧.

٤٢٢

تضريس فيه ولا انخفاض ، بل كان أملسا (١) ، فلا بدّ وأن تلاقيه ويمنعها من الهبوط بواسطة التماس ، فموضع الملاقاة إمّا أن يكون منقسما أو لا يكون ، والأوّل محال لاستلزامه تضليع الكرة الحقيقية ؛ لأنّ ذلك الموضع المنقسم منطبق على السطح المستقيم والمنطبق على المستقيم مستقيم ، فيكون ذلك الموضع مستقيما ، ثمّ إذا حركنا الكرة على ذلك السطح وزالت الملاقاة الأولى عن ذلك الموضع وحصلت الملاقاة على موضع آخر يتلو الأوّل ويلاصقه ، فذلك الموضع إمّا أن يكون منقسما أو لا يكون ، فإن كان لزم أن يكون منقسما لما تقدم من انطباقه على المستوي ، وهكذا إلى أن تتم الكرة الدورة فتكون مضلّعة ، وهذا خلف ، فبقي أن تلاقيه في كلّ حال تعرض ملاقاتها له بنقطة ، ثمّ إذا زالت عن الملاقاة الأولى فإنّها لا تخرج بذلك عن الملاقاة البتة بل تكون ملاقية له ويجب أن تكون بنقطة ، فتكون هناك نقط متعاقبة ؛ لأنّ الملاقيات متعاقبة وإلّا لكان في بعض أزمنة حركات الكرة لا تكون مماسة لذلك السطح ، هذا خلف.

وأيضا برهن اقليدس على أنّ كلّ خط مستقيم يصل بين نقطتين من الدائرة فإنّه يقع داخلها ، فلو كان موضع الملاقاة منقسما لارتسم خط على ظاهر الكرة منطبقا على السطح فيقع ذلك الخط داخل الكرة وخارجها ، وهو محال.

ولأنّ موضع الملاقاة إن كان منطبقا على السطح المستقيم وكان بمنقسم أمكن أن يخرج من المركز خطان ينتهيان إلى طرفي موضع الملاقاة وهما طرفا الخط الذي به (٢) تقع الملاقاة ، فيصير مع الخط المرتسم من موضع الملاقاة خطوط ثلاثة محيطة بسطح ، فيحصل مثلث قاعدته موضع الملاقاة ، فإذا أخرجنا من مركز الدائرة إلى قاعدة المثلث الواقع في الدائرة عمودا قائما عليه كانت الزاويتان

__________________

(١) قال الشيخ في رسالة الحدود : «الأملس هو جرم سطحه ينقسم إلى أجزاء متساوية الوضع».

(٢) ساقطة في ق.

٤٢٣

الحاصلتان على جنبي العمود القائم على القاعدة قائمتين ، وينتصف ذلك المثلث بمثلثين قائمي الزاوية ، ويكون الخطان الطرفيّان وترين للزاويتين القائمتين ، ويكون العمود وترا للحادّة ، ووتر القائمة أعظم من وتر الحادّة ، فالخط العمودي أقصر من الخطين الطرفيين ، مع أنّ الخطوط الثلاثة خرجت من المركز إلى المحيط ، هذا خلف. فوجب أن يكون موضع الملاقاة غير منقسم ، فإذا أدرنا الكرة على السطح حتى تممت الحركة ، فكلما زالت الملاقاة الحاصلة بنقطة حصلت الملاقاة بأخرى ، وليس بين النقطتين شيء يغايرهما ، فإنّ الكلام في الملاقاة الحاصلة في أوّل حصول عدم الملاقاة بالنقطة الأولى ، فقد حصل الخط عن تركيب النقط ، فحصل السطح عن تركيب الخطوط ، والجسم من تركيب السطوح ، وذلك هو المراد.

اعترض بوجوه (١) :

الأوّل : قال أفضل المحقّقين : «ملاقاة الكرة الحقيقة للسطح الحقيقي المستوي تكون عندهم بنقطة هي طرف قطر يمرّ بمركز الكرة وبموضع التماس ، وإلّا فإذا ماسّت الكرة سطحا آخر مستويا بالطرف الآخر من ذلك القطر ومرّت دائرة عظيمة بنقطتي التماس ، انقسمت تلك الدائرة بسبب التماس (٢) إلى أربع قسيّ اثنتان مماستان للسطح واثنتان غير مماستين ، ويلزم من ذلك انطباق القوس على السطح المستقيم ، وذلك محال» (٣).

الثاني : قال بعضهم : النقطة لا توجد بالفعل في الكرة ، لأنّه لو حدثت نقطة

__________________

(١) قال صدر المتألهين : «وللناس كلمات عجيبة في دفع هذه الشبهة». ثمّ ذكر بعضها وأجاب عليها ، راجع الأسفار ٥ : ٤٨.

(٢) في المصدر : «التماسين».

(٣) نقد المحصل : ١٨٤.

٤٢٤

بالفعل فيها ونقطة أخرى في سطح أو كرة أخرى تلاقيها ، فالنقطتان إن لم تتلاقيا بالأسر انقسمت النقطتان ، وإن تلاقيا بالأسر تداخلتا واتحدتا ويصير التماس اتصالا.

الثالث : قال الرئيس : «إنّا لا ندري هل يمكن أن توجد كرة على سطح بهذه الصفة في الوجود أو هو من الأمور الوهمية على ما يكون في التعليميات؟ ولا ندري أنّه لو كان في الوجود ، فهل يصحّ تدحرجها عليه أم لا يصح؟ وربما استحال. وبعد هذا فالكرة إنّما تماس السطح بالنقطة في حال السكون ، فإذا تحركت ماسّت بالخط في زمان الحركة ولم تكن في زمان الحركة مماسة على النقطة إلّا بالتوهم إذ ذلك لا يتوهم إلّا مع توهم الآن ، والآن لا وجود له بالفعل.

وبالجملة ، فإنّ هذه المسألة لا تتحقّق مسلّمة ، لأنّ المسلّم أنّ الكرة لا تلقى السطح في آن واحد إلّا بنقطة ، وليس يلزم من هذا أن تكون في حال الحركة تنتقل من نقطة إلى نقطة مجاورة لها ومن آن إلى آن مجاور له ، فإنّه لو سلم هذا لما احتيج إلى ذكر الكرة والسطح ، بل صحّ أنّ هناك نقطا متتالية منها يأتلف الخط وآنات متتالية منها يأتلف الزمان. فإذا كان المسلّم هو أنّ الكرة تلاقي السطح في آن ، وكان الخلاف في أنّ الحركات والأزمنة غير مركبة من أمور غير متجزّئة ومن آنات كالخلاف في المسافة ، وكان (١) إنّما يلزم تجاوز النقط لو صحّ تجاور الآنات ، كان (٢) استعمال ذلك في تتالي النقط كالمصادرة على المطلوب الأوّل» (٣).

الرابع : القول بالجزء الذي لا يتجزأ يمنع (٤) من إمكان وجود الكرة

__________________

(١) في المصدر : «فكان».

(٢) جواب لقوله : «فإذا كان المسلم هو أنّ الكرة الخ».

(٣) الفصل الخامس من المقالة الثالثة من الفن الأوّل من طبيعيات الشفاء. بتصرف العلّامة.

(٤) ق : «إن يمنع».

٤٢٥

والدائرة ، فكيف يستدل بوجود الكرة وحركتها على وجود الجزء؟

الخامس : أنّه سيظهر أنّ الحركة لا يعقل وجودها مع القول بالجزء الذي لا يتجزأ ، فلا يمكن أن يستدل بها على وجود الجزء الذي لا يتجزأ.

السادس : النقطة إنّما توجد في الكرة بالمماسة ، فعند زوالها تعدم تلك النقطة وتحدث أخرى ، فلا توجد أبدا إلّا نقطة واحدة.

السابع : لو سلّمنا أنّ المماسات إنّما تحصل بالنقط ، لكن لم لا يجوز أن يقال : بين كل نقطتين خط؟

والجواب عن الأوّل : أنّه تسليم لما ادعيناه ، فإنّا لم ندع إلّا أنّ الكرة تماس السطح بنقطة ، فالاستدلال عليه لا يفيد في الجواب شيئا.

وعن الثاني : أنّ هذا القول ينفي الحكم الضروري بتماس الأجسام وتلاقي السطوح والخطوط بعضها لبعض ؛ لأنّ الجسم إذا ماس جسما فالسطحان إن تلاقيا بالأسر تداخلا واتحدا ولم يبق فرق بين المماسة والاتصال ، كما قال في النقطة (١) ، وإن لم يتلاقيا بالأسر بل بالبعض انقسما في جهة التلاقي حتى يكون بأحد جانبيه ملاقيا لأحد الجسمين وبالآخر لا يلاقيه ، فكان لكلّ من السطحين عمق وقد كان لهما طول وعرض ، فالسطحان جسمان ، هذا خلف. ولمّا بطل القسمان لزم أن لا يماس جسم جسما ، ولا سطح سطحا ، ولا خط خطا.

وأيضا النقطة نهاية الخط والخط قد يتناهى بالفعل ، فكيف يكون متناهيا بالفعل ولا تكون النهاية حاصلة بالفعل؟ إلّا أن يقول الكرة ليس فيها خط متناه بالفعل ، وحينئذ يكون منكرا لما دلّ العقل عليه. واتّفقت كلمة الفلاسفة عليه بأنّ الكرة إذا تحركت تميز الخط الذي هو محددها عن سائر الخطوط بالفعل ، ولا شكّ في تناهيه بالفعل وطرفاه قطبا الكرة ، فهما موجودان بالفعل.

__________________

(١) ج : «النقط».

٤٢٦

وعن الثالث (١) : أمّا إنكار الكرة الحقيقية فغير مسموع منه ، وخصوصا ومذهبه أنّ الشكل الطبيعي للأجسام البسيطة إنّما هو الكرة والتركيب لا يضاده ، فكيف يسمع منه هذا المنع؟ وهل هو في ذلك إلّا مكابر؟

وأمّا إنكار السطح المستوي فغير مسموع أيضا ؛ لأنّ سبب الخشونة : الزاوية ، ولا بدّ وأن تكون من سطوح صغار ملس ، وإلّا لذهبت الزوايا إلى غير النهاية ، وإذا جاز سطح صغير مستو جاز كبير. ولأنّ المطلوب يحصل بالصغير (٢) أيضا ، لأنّا نفرض كرة أصغر منه حقيقية ملاقية له. ولو منع الوجود لم يضر ، لأنّ الكلام غير مبني على الوجود ، بل على إمكان الوجود ، فإنّ ما يمكن أن يوجد إذا فرض موجودا لا يلزم منه محال وإن لزم الكذب ، لكن الكذب مغاير (٣) للمحال وكذب غير المحال لا يلزم منه محال ، وما يلزم من الممكن ممكن لا محالة.

والمنع من إمكان الدحرجة منع مكابرة ، فإنّ الضرورة قاضية بإمكان تحريكها قسرا أو إمكان انزلاقها عليه ، ويلزم منه وجود النقط المتتالية في السطح والكرة.

وقوله : «المماسّة حال الحركة بالخط».

باطل ؛ لأنّ المماسة عبارة عن انطباق طرف كلّ واحد من السطحين على طرف الآخر ، فلو ماسّت الكرة السطح بالخط لوجب أن ينطبق من الكرة خط على خط في ذلك السطح فيكون ذلك الخط مستقيما ، لأنّ المنطبق على المستقيم مستقيم ، فتكون الكرة مضلّعة ، فإذن الكرة لا يمكن أن تماس السطح بالخط.

__________________

(١) راجع المباحث المشرقية ٢ : ٣٩ ؛ المطالب العالية ٦ : ٥٠ ؛ مناهج اليقين : ٢٧.

(٢) ق : «في الصغير».

(٣) ق : «غير مغاير».

٤٢٧

قوله : «المماسة بالنقطة إنّما تكون في الآن (١) ولا وجود له بالفعل».

قلنا : البحث في كون الزمان غير مركب من الآنات كالبحث في أنّ الجسم غير مركب من الجواهر الأفراد ، فكيف تندفع حجّة الخصم بذلك مع أنّه نفس المتنازع؟

سلّمنا أنّ الآن لا وجود بالفعل ، فهل ينبغي المماسة بانتقاله فعلا أم لا؟ فإن قلتم بالأوّل لزم المكابرة الصريحة في المماسة وغيرها ممّا وجوده آني وهو جميع الماهيات القارة من الأجسام والأعراض والمجردات. وإن لم ينتف بل كانت ثابتة بالفعل يثبت وجود النقطة ، فإذا زالت المماسة حين حصلت أخرى عقيبها لزم تتالي النقط.

قوله : «هذه المسألة لا تتحقق مسلّمة إلى آخر جوابه».

ضعيف ؛ لأنّا إذا فرضنا آنا تكون الكرة فيه ملاقية للسطح على نقطة واحدة ثمّ زالت الملاقاة عن تلك النقطة ، فقد حدث أمران :

أ. زوال الملاقاة.

ب. حصول اللاملاقاة (٢).

فأمّا زوال الملاقاة ، فهو حركة لا بداية له يكون هو فيه حاصلا. وأمّا حصول اللاملاقاة (٣) ، فهو آني الوجود ويستمر في جميع الزمان الذي بعده ، فاللاملاقاة (٤) لها بداية هي حاصلة فيها ، فنقول : الآن الذي حصلت فيه اللاملاقاة إمّا أن يكون هو الآن الذي حصلت فيه الملاقاة أو غير ذلك الآن. والأوّل باطل ، وإلّا لكانت الكرة في الآن الواحد بالنقطة الواحدة ملاقية للسطح وغير ملاقية له ، وهو محال. وإن كان غير ذلك الآن ، فإمّا أن يكون بين آن الملاقاة

__________________

(١) ق : «بالآن».

(٢) و (٣) و (٤) «الملاقاة» في المباحث المشرقية ٢ : ٤٠ ـ ٤١.

٤٢٨

وبين آن اللاملاقاة زمان أو لا. فإن كانت الكرة في ذلك الزمان ملاقية للنقطة الأولى فتكون الكرة ساكنة وقد فرضناها متحركة ، هذا خلف. وإن لم يكن بين الآنين زمان فقد تتالى الآنات ، وهو المطلوب.

وأيضا الآن الذي هو أوّل زمان اللاملاقاة (١) إمّا أن تكون الكرة فيه ملاقية بنقطة أخرى أو لا تكون ، فإن لم تكن ملاقية بنقطة أخرى فإمّا أن تكون ملاقية بالنقطة الأولى أو لا تكون ملاقية بشيء من النقط ، فإن كانت ملاقية بالنقطة الأولى لزم أن تكون الكرة ملاقية للسطح بنقطة حال ما يصدق عليها أنّها غير ملاقية لذلك السطح بتلك النقطة ، هذا خلف. وإن لم تكن ملاقية بشيء من النقط وجب أن لا تكون ملاقية للسطح عند مماستها له ، هذا خلف.

فإذن الكرة في الآن الذي هو أوّل زمان اللاملاقاة (٢) ملاقية بنقطة أخرى ، فإن كان بين النقطتين واسطة كانت ملاقاة الكرة السطح بذلك المتوسط قبل ملاقاتها (٣) السطح بالنقطة الثانية ، فلا تكون ملاقاتها السطح بالنقطة الثانية في أوّل زمان اللاملاقاة (٤) بالنقطة الأولى ، وذلك محال ، فليس بين النقطتين واسطة ، فتتالى النقط ، وهو المطلوب. فهذه الحجّة تستلزم تتالي النقط في المسافة والآنات في الزمان من غير مصادرة على المطلوب.

وعن الرابع : أنّا ذكرناه في معرض الالزام للخصم لمذهبه.

وعن الخامس : ما سيأتي.

وعن السادس : أنّ النقطة قد يمكن فرض بقائها باعتبار حصول عرض لها

__________________

(١) «الملاقاة» في المباحث المشرقية : ٢ : ٤٠ ـ ٤١.

(٢) «الملاقاة» في المباحث المشرقية.

(٣) في النسخ : «ملاقتها» ، والصحيح ما أثبتناه.

(٤) «الملاقاة» في المباحث المشرقية.

٤٢٩

يميزها عند المماسة وقبل زوال ذلك تحدث الملاقاة بنقطة أخرى ، فيلزم تتاليهما. على أنّكم لا تشترطون في امتناع تتالي النقط والآنات التقارن في الوجود.

وعن السابع : أنّ ذلك الخط إن حصلت به الملاقاة لزم تضلّع الكرة أو تحدّب السطح ، وإلّا فلا خط ، إذ لا ملاقاة.

الوجه الثالث : إذا فرضنا خطا قائما على خط آخر ثمّ تحرك عليه حتى أنهاه ، فلا بدّ وأن يكون قد ماس بطرفه كلية الخط المتحرك عليه ؛ لأنّ الحركة على الشيء بدون مماسته غير معقولة ، ثمّ إنّ طرف الخط نقطة لا يمكن أن تماس بها إلّا مثلها ، فإذا انتقل من المماسة الأولى إلى المماسة الثانية ، فإمّا أن لا يكون بين النقطتين وسط أو يكون. والأوّل يستلزم تتالي النقط والآنات ، وهو المطلوب. والثاني يقتضي أن لا تكون المماسة الثانية ثانية ، بل إمّا ثالثة أو غيرها ، هذا خلف. أو يلزم الطفرة ، وهو محال. وإذا كانت المماسة دائما إنّما تكون بالنقطة وهي متحقّقة في جميع زمان الحركة ، وجب أن يكون الخط المتحرك عليه مركبا من النقط المتتالية ، وهو المطلوب.

لا يقال : لا نزاع في أنّ الخط المتحرك إنّما يلقى المتحرك عليه بنقطة وأنّه يلقاه بعد ذلك بنقطة أخرى ، لكن لم لا يجوز ان يقال بين تينك النقطتين خط وبين ذينك الآنين زمان؟ فإن أنكرتم ذلك ، فقد صادرتم على المطلوب.

لأنّا نقول : حصول الملاقاة من النقطتين آني ولا حصوله أيضا آني وإن كان زوال الملاقاة زماني لأنّه حركة ، لكن لا حصول الملاقاة ليس حركة ، فإذا كان آنيا فالآن الذي هو أوّل زمان حصول اللاملاقاة بتلك النقطة إمّا أن يكون ملاقيا للشيء أولا ، ويعود ما تقدم.

الوجه الرابع : إذا فرضنا خطا منطبقا على خط حتى تكون النقطة التي في أحدهما محاذية للنقطة التي في الآخر أو ملاقية لها ثمّ تحرّك الخط ، فقد صارت

٤٣٠

النقطة المماسة غير مماسة واللامماسة إنّما تحصل دفعة ، والآن ـ الذي هو أوّل زمان حصول اللامماسة ـ لا شكّ أنّ الخط فيه صار ملاقيا لنقطة أخرى تالية للنقطة الأولى ، فتكون النقط متتالية في كليهما ؛ إذ الكلام في لا مماسة النقطة الثانية كالكلام في لا مماسة النقطة الأولى ، وكذا إلى آخر النقط.

الوجه الخامس : دائرة معدل النهار تطلع على سكان خط الاستواء منتصبة وهي في دورانها مسامتة لهم وتكون تقاطع تلك الدائرة مع دائرة الأفق في المشرق والمغرب أبدا على نقطتين ، وليس يتهيأ لنا في وقت من الأوقات أن نتوهم إلّا وفي المشرق نقطة ودائرة معدل النهار متحرك ودائرة الأفق ساكنة ، فإذا تحركت دائرة معدل النهار حتى أكملت الدورة فلا بدّ وأن تلاقي تلك النقطة من الأفق ، وإلّا لزم الطفرة ؛ لأنّه حينئذ تكون تلك النقطة من الأفق ملاقية لنقطة معينة من معدل النهار ، ثمّ تكون ملاقية لنقطة أخرى غير متصلة بالأولى مع أنّها لم تصر ملاقية لما بين النقطتين ، وهذا هو الطفرة (١) المعلوم بطلانه بالضرورة. وإذن ثبت أنّ تلك النقطة من الأفق لاقت جميع ما يفرض في معدل النهار ، ومعلوم أنّ الملاقي للنقطة نقطة ، فيكون معدل النهار مركبا من النقط المتتالية ، وهو المطلوب.

الوجه السادس : النقطة أمر وجودي باتّفاق الفلاسفة ، لأنّها شيء مشار إليه غير منقسم لأنّها طرف الخط ، فلو انقسمت كان الطرف أحد قسميها فلا يكون الطرف كلّه طرفا ، هذا خلف. ولأنّها لو انقسمت لتفاوتت انصاف أقطار الدائرة. ولأنّ الخصم وافق عليه ، وإنّما تقع الإشارة إلى الموجود. ولأنّ الخط متناه بالفعل ، ونهاية الخط النقطة ، ونهاية الموجود وطرفه موجود. ولأنّ الخط بها يماسّ غيره ، وما

__________________

(١) ج : «الطفر». وفسروا الطفرة : بانتقال الجسم من مكان إلى مكان آخر ، من غير أن يمر بها بينهما. راجع الفصل الثالث من المقالة الثالثة من الفن الأوّل من طبيعيات الشفاء ؛ المطالب العالية ٦ : ٢٢ و ٦٩. وسيأتي إبطاله من المصنف.

٤٣١

به يماس الشيء غيره لا يكون عدما صرفا ، فلا يخلو إمّا أن تكون متحيزة بالاستقلال أو بالتبعية ، لامتناع تجردها مع قبولها الاشارة وثبوت الوضع لها. وكونها نهاية لذي الوضع فإن كان الأوّل ، فالمطلوب ، وإن كان الثاني ، فمحلّها إمّا أن يكون منقسما أو لا ، والأوّل محال ، وإلّا وجب انقسامها ؛ لأنّ الحالّ في المنقسم منقسم للبرهان السابق ، ولاتّفاق الفلاسفة عليه حيث بنوا عليه حجّتهم في إثبات النفس الناطقة ، وإثبات أنّ القوة الجسمانية لا تقدر على أفعال غير متناهية. والثاني ، إن كان ذلك المحل جوهرا فهو المطلوب ، وإن كان عرضا نقلنا الكلام إليه ، فإمّا أن يتسلسل أو ينتهي إلى محلّ جوهري غير منقسم ، وهو المطلوب.

قال أفضل المحقّقين : «الخصم قسّم الأعراض إلى السارية في محالّها وإلى غير السارية ، ويعدّ النقطة من غير السارية. ويقول : إنّ غير السارية لا يجب انقسامها بانقسام محلّها»(١).

وفيه نظر ، فإنّ مفهوم غير الساري هو الذي لا يشيع في جميع أجزاء المحل بل يوجد في بعضها ، فلننقل الكلام إليه.

قيل : إنّها عدمية ، لأنّها عبارة عن نهاية الخط ، ونهاية الشيء عبارة عن فنائه وعدمه وانقطاعه ، وعدم الشيء لا يكون ثابتا.

أجيب بوجهين :

الأوّل : النقطة على ما مرّ مشار إليه ذو وضع به يتناهى الخط بالفعل وذلك يدل على وجودها.

الثاني : للحركات المحسوسة بداية ونهاية ، فالأمر الذي يقع فيه ابتداؤها وانتهاؤها لا بدّ وأن يكون موجودا بالفعل ، فهو إمّا منقسم أو لا. والأوّل باطل ،

__________________

(١) نقد المحصل : ١٨٤.

٤٣٢

لأنّه لو كان كذلك لكان إمّا أن يكون كلّ واحد من نصفيه مبدأ للحركة معا حتى يكون الشيء الواحد ملاقيا للشيئين دفعة ، وهو محال ، أو يكون أحد نصفيه هو المبدأ فيكون المبدأ ذلك النصف لا الكل وقد فرض الكل ، هذا خلف. ثمّ إنّا ننقل الكلام إلى ذلك النصف ، فإن كان منقسما عاد المحال ، وإن لم ينقسم وهو موجود بالفعل ، فإن كان مستقلا بذاته فهو الجوهر الفرد ، وإن افتقر إلى محلّ عاد التقسيم.

الوجه السابع : اتّفقت الفلاسفة على امتناع الانقسامات الغير المتناهية وأنّه يستحيل وقوعها بالفعل ، وما كان ممتنعا استحال كون الشيء قابلا له. فإذن يستحيل أن يكون الجسم قابلا لما لا يتناهى من الانقسامات ، فهو إذن إنّما يقبل القسمة المتناهية ، وهو المطلوب.

اعترض (١) بأنّ قبول الجسم لانقسامات غير متناهية ليس أنّه قابل يقبلها بمجموعها بحيث يحصل جميعا في الوجود ، بل المراد أنّه لا ينتهي إلى حدّ إلّا ويقبل بعد ذلك تقسيما آخر ، وذلك لا ينافي قولنا : إنّه يستحيل قبول التقسيمات الغير المتناهية. وسيأتي بطلان هذا.

الوجه الثامن (٢) : الجسم قابل للقسمة فيكون ذلك لأجل التأليف ، لأنّ قبول القسمة ليس لذاته ولا لشيء من لوازم ذاته ولا لتحيزه ، فإنّ الشيء بعد القسمة تكون ذاته ولوازم ذاته وتحيزه موجودة مع أنّه لا يقبل تلك القسمة ؛ ولا للفاعل ، لأنّ الفاعل لا يجعل غير المنقسم منقسما. فقبول القسمة إذن لأجل معنى

__________________

(١) المعترض هو ابن سينا في الفصل الخامس من المقالة الثالثة من الفن الأوّل من طبيعيات الشفاء. راجع أيضا المباحث المشرقية ٢ : ٤٢.

(٢) قال ابن سينا : «وهذا الاحتجاج مبدؤه لذيمقراطيس إلّا أنّه حرّف منه بشيء يسير» ، نفس المصدر من ابن سينا ، الفصل الثالث.

٤٣٣

قائم بالجسم. والله تعالى كما هو قادر على خلق ذلك المعنى فهو قادر على إزالته ، فإذا اعدم الله تعالى تلك التأليفات بقيت تلك الأجزاء غير قابلة للقسمة ؛ لأنّه متى زال المصحح وجب زوال الحكم.

وأيضا التجزي لا يصحّ رجوعه إلى كونه ذاتا وما يختصّ به من الصفة ولا إلى وجوده ولا إلى عدمه ولا إلى الفاعل ، فليس إلّا لأنّه يرجع إلى وجود معنى هو الافتراق وعدم معنى هو التأليف ؛ لأنّ ما عدا ذلك ممّا لا يؤثر في هذا الحكم ؛ فإنّ التأليف متى زال عنه فقد انقسم وتجزأ وإن بقيت كلّ المعاني ، ومتى وجدت المعاني كلّها غير التفريق فلا تجزّؤ ولا انقسام ، لأنّ التجزّؤ والانقسام راجعان إلى التأليف وزواله ، ومتى كان المرجع بالتجزي إلى رفع التأليف بطل قول من قال : إنّه متجزئ بالقوة دون الفعل.

واعترض (١) بأنّه إن عنى بذلك أن يكون فيه جزءان متميزان بالفعل بينهما مماسة وأنّ التفريق هو تبعيد أحدهما عن الآخر ، فهو محلّ النزاع ، فانّه لو قلت ذلك لما احتاجوا في تتميم حجّتهم إلى فرض زوال التأليف عنها إن كانت الأجزاء حاصلة في ذلك المؤلّف ومتميز (٢) عن كلّ واحد منها عن الآخر بالفعل لوجوب الواحد في كلّ كثير. وإن عنوا بكونه مؤلفا كونه مستعدا لقبول التجزئة ، فذلك ممّا لا يمكن ارتفاعه عنه ، لأنّ ذلك هو صورته الجسمية أو لازم صورته الجسمية.

الوجه التاسع : لو كان في الجسم أجزاء غير متناهية لاستحال قطعه بالحركة إلّا بعد قطع نصفه ولا يمكن قطع نصفه إلّا بعد قطع نصف ذلك النصف وهكذا إلى ما لا يتناهى، فلو كان الجسم يشتمل على ما لا يتناهى لامتنع قطعه في زمان متناه.

__________________

(١) المعترض هو الشيخ في الفصل الخامس من المقالة الثالثة من طبيعيات الشفاء ١ : ١٩٨.

(٢) كذا في ج ، وفي ق : «مميز».

٤٣٤

وفيه نظر (١) ، لأنّهم كما قالوا باشتمال الجسم على ما لا يتناهى من الأجزاء وإن كان متناهيا ، كذا قالوا باشتمال الزمان المتناهي على أجزاء غير متناهية ، فيقع قطع كلّ جزء من أجزاء المسافة في جزء من أجزاء الزمان ، وهما على التساوق غير متناهيين ، فلا يرد عليهم ذلك حينئذ.

وهم اعتذروا عن ذلك بالطفرة ، وسيأتي بيان بطلانها.

وهذا كما يلزم النظّام كذا يلزم الحكماء القائلين بأنّ الجسم واحد لكنّه يقبل القسمة إلى ما لا يتناهى ، لانّهم يقولون : اختلاف الاعراض توجب القسمة الفعلية والمماسات هنا ثابتة بالفعل فكان يجب الانقسام الفعلي ، فلا ينفع الاعتذار بوحدة الجسم مع أنّ الاختلاف في الأعراض يوجب التكثر.

الوجه العاشر : لو كان في الجسم أجزاء غير متناهية إمّا بالفعل أو بالقوة لصحّ أن يوجد في الخردلة ما يغشي بها وجه العالم بأسره ، وهذا محال بالضرورة ، فما أدى إليه محال.

اعترض (٢) بأنّه مشترك الالزام ، لأنّه (٣) بتقدير تسليم الجزء لا يمكننا المنع من ذلك ، إذ ربما تكون في الخردلة من الأجزاء التي لا تتجزأ ما تبلغ كثرتها إذا

__________________

(١) راجع نفس المصدر ؛ المباحث المشرقية ٢ : ٤٢ ؛ نقد المحصل : ١٨٦ ـ ١٨٧.

وقال الرازي : «واعلم : انّ أبا الهذيل العلاف لما احتج بهذا الدليل على النظام ، أجاب النظام عنه : بأنّ المحال إنّما يلزم لو كان المتحرك تحرك على جميع أجزاء المسافة ، وليس الأمر كذلك ، بل إنّه تحرك على بعضها وطفر على الباقي ... قال : والقول بالطفر ، وإن كان بعيدا جدا ، إلّا أنّ القول بإثبات الجوهر الفرد ، يلزم عليه تفكك حجر الرحى. فإذا جاز لكم التزام ذلك المستبعد ، فلم لا يجوز أيضا التزام مثل هذا المستبعد» ، المطالب العالية ٦ : ٦٩.

(٢) المعترض هو ابن سينا في الفصل الخامس من المقالة الثالثة من طبيعيات الشفاء ١ : ١٩٩ ـ ٢٠٠.

وذكره الرازي في المباحث المشرقية ٢ : ٤٢.

(٣) ق : «لأن».

٤٣٥

بسطت إلى تغشية سطح العالم ، فإذا لم يكن ذلك بيّن الامتناع مع فرض وجود الجزء ، فكيف يبين بامتناعه وجود الجزء؟

وفيه نظر ، لأنّ العقل قاض بعدم اشتمال الخردلة على مثل تلك الأجزاء.

الوجه الحادي عشر : برهن أقليدس (١) على وجود زاوية هي أصغر الزوايا الحوادّ وذلك يدل على الجزء الذي لا يتجرأ.

اعترض (٢) بمنع عدم انقسامها ، فإنّ هناك زوايا هي أصغر منها بالقوة بغير نهاية. وإنّما قام البرهان على أنّه لا تكون زاوية بين (٣) خطين مخصوصين ، أعني مستقيمين أصغر من تلك. وليس إذا قيل : «إنّه ليس شيء نصفه كذا أصغر من كذا» ، وجب أن يقال : إنّه ليس شيء أصغر منه البتة ، فجاز أن تكون هناك زاوية أصغر منها تحدث من خط مستقيم ومستدير.

وفيه نظر ، لأنّ تلك الزاوية لو انقسمت بخط مستدير ومستقيم لانقسمت بخطين مستقيمين ، إذ لا مدخل لاستقامة الخط الواقع على المنقسم به واستدارته في صغر الخط وكبره وقبوله للقسمة وعدمها. على أنّ تلك الزاوية لو انقسمت بنصفين مثلا لكان المنتصف نقطة ، ولنفرض نقطة أخرى بين الخط المستقيم والمستدير محاذية لتلك النقطة ، فلنا أن نصل بين هاتين النقطتين بخط مستقيم على ما قرّر أقليدس في مصادراته التي بنى عليها أكثر براهينه ، فيلزم انقسام تلك الزاوية بخطين مستقيمين أيضا.

__________________

(١) في الشكل الخامس عشر من المقالة الثالثة من كتاب الأصول ، كما في المباحثات : ٣٦٣ ؛ شرح المواقف ٧ : ١٦.

(٢) المعترض هو ابن سينا في الفصل الخامس من المقالة الثالثة من طبيعيات الشفاء ١ : ٢٠١. راجع أيضا المباحث المشرقية ٢ : ٤٢ ـ ٤٣.

(٣) في المصدر : «من».

٤٣٦

الوجه الثاني عشر : التفاوت حاصل بين الكبير والصغير ، وإنّما يحصل ذلك بكثرة أجزاء الكبير وقلّة أجزاء الصغير ، فلو كانت أجزاء الكبير والصغير غير متناهية لوجب تساوي جميع الأجسام في الحجم ؛ فإنّ ما لا يتناهى لا يقبل الأقل والأكثر.

واعترض (١) بأنّهما يتساويان في العدد لا في المقدار ، فأجزاء الخردلة غير متناهية وكذا أجزاء الجبل ، لكن أجزاء الخردلة أصغر من أجزاء الجبل ، وهذا كما لو ضعّفنا الجبل مثل تضعيف الخردلة فانّهما تتساويان في عدد التضعيف لا في مقداره.

الوجه الثالث عشر : لو كان الجسم قابلا لانقسامات غير متناهية لحصلت فيه بالفعل ، والتالي باطل ، فالمقدم مثله.

بيان الشرطية : أنّ اختلاف المماستين يوجب الانقسام بالفعل فيما يقبل الانقسام ، واختلاف المماسات حاصل أبدا ، لأنّ كلّ جزء يفرض فإنّه يلاقي بأحد جانبيه شيئا غير ما يلاقيه بالجانب الآخر منه ، فلو كان قبول الانقسام لا إلى نهاية لكان السبب القابل والسبب الفاعل لتلك الانقسامات الغير المتناهية حاصلين (٢) ، فيجب حصول تلك الانقسامات. وأمّا بيان امتناع ذلك فلما بيّنا أنّ ذلك ينافي وجود الجزء الواحد وما ينافي وجود الواحد ينافي وجود الكثرة ، فإذن يجب أن تكون الكثرة حاصلة وأن لا تكون ، هذا خلف.

الوجه الرابع عشر : ما تقدم أوّلا في وجود النقطة ، وهو أنّ الجسم متحرك بالمشاهدة بعد أن لم يكن متحركا ، فالموضع الذي وقع فيه مبدأ الحركة من المسافة إن انقسم استحال أن يكون كلا قسميه مبدأ ؛ لأنّ الجسم الواحد لا يتحرك دفعة

__________________

(١) المعترض هو ابن سينا في نفس المصدر : ١٩٩.

(٢) في النسخ : «حاصلان» ، أصلحناها طبقا للسياق.

٤٣٧

في مكانين ، بل يقع في القسم الأوّل لاستحالة أن يقع في الثاني قبل وقوعه في الأوّل ، وإلّا لم يكن الثاني ثانيا بل أوّلا. فذلك الأوّل إن كان منقسما عاد البحث ، وإن لم يكن منقسما استحال أن يكون عرضا ، لأنّ الموضع الذي وقع فيه مبدأ الحركة أمر مشار إليه بالذات ، فلو كان له محل لكان محلّه إمّا أن يكون مشارا إليه أو لا يكون ، فإن كان مشارا إليه فالكلام فيه كالأوّل ، فإمّا أن يتسلسل ، وهو محال ، أو لا يتسلسل مع أنّه شيء غير منقسم ، فهو شيء قائم بذاته غير منقسم ، وهو المطلوب. وإن لم يكن محلّه مشارا إليه استحال حلوله فيه.

أمّا أوّلا : فلأنّ المشار إليه في الجهة المعينة مختصة بتلك الجهة وما لا يكون مشارا إليه في تلك الجهة لم يكن مختصا بتلك الجهة ، وحصول المختص بتلك الجهة بما لا يكون مختصا بتلك الجهة محال بالضرورة.

وأمّا ثانيا : فلأنّه لو جاز حلول الحاصل في الحيز في غير الحاصل فيه لكان يجب تجويز أن يقال : العالم حالّ في الباري تعالى مع أنّ العالم مختص بالحيز والباري يستحيل اختصاصه بالحيز.

فظهر أنّ موضع ابتداء الحركة شيء قائم بذاته ذو وضع غير قابل للقسمة البتة ، وهو المطلوب.

٤٣٨

البحث الثاني

في إبطال وحدة الجسم

قد عرفت مذاهب الحكماء والمتكلمين في ذلك ، وأنّ الحكماء ذهبوا إلى أنّ الجسم واحد في نفسه كما هو عند الحس (١) ، وأنّه يقبل انقسامات لا نهاية لها ، وأنّه متصل بذاته ، وأنّ الاتصال جزء مقوم له ، وأنه متى انفصل عدم ذلك الجسم ووجد جسمان آخران غير ذلك الجسم الذي كان أولا ، فإذا اتصلا بعد ذلك صارا واحدا وعدم الجسمان الأوّلان وتجدد ثالث.

وهنا مذهب آخر ينسب إلى ديمقراطيس وهو : أنّ الجسم الواحد منقسم بالفعل مركّب من أجزاء لا تتجزأ بالفعل ، لكن كلّ جزء منها قابل للقسمة الفرضية وأنّ تلك الأجزاء أيضا تسمى أجساما. وسيأتي البحث في ذلك.

والمتكلّمون أبطلوا قول الفلاسفة بوجوه (٢) :

الوجه الأوّل : وحدة الجسم إن كانت نفس الجسم أو جزءا منه أو لازما لذاته كان قسمة الجسم إعداما له أو متضمنا له ؛ لأنّ القسمة إعدام للوحدة ، فإذا كانت نفس الجسم أو جزء من الجسم وجب عدمه عند عدم الوحدة. وكذا إن

__________________

(١) قال الشيخ : «بل هو في نفسه كما هو عند الحس» ، شرح الإشارات ٢ : ٣١.

(٢) راجع المطالب العالية ٦ : ٢٣ و ٦١ ـ ٦٨ ؛ المباحث المشرقية ٢ : ٣٢ ؛ نقد المحصل : ٨٦.

٤٣٩

كانت لازمة ؛ لاستحالة عدم اللازم وبقاء الملزوم. فإمّا أن لا يقبل الجسم الانقسام البتة أو يعدم عند حصوله ، لكن الجسم قابل للقسمة فلا يكون واحدا ؛ لأنّ كلّ واحد لا يقبل القسمة وينعكس بالنقيض إلى ما قلناه.

وإن كانت وحدة الجسم عارضة له ، فالجسم الذي قامت الوحدة به إمّا أن يكون قابلا للقسمة أو لا يكون ، فإن كان قابلا لها وجب انقسامها لانقسام محلّها ، فالوحدة غير وحدة بل كثرة ، هذا خلف. ولأنّها إذا كانت قابلة للانقسام فإن قامت بها وحدة أخرى لزم التسلسل ، وإن لم تقم بها وحدة أخرى كانت تلك الوحدة منقسمة بالفعل ، فالموصوف بها كذلك ، فالجسم منقسم بالفعل. وإن لم يكن قابلا لها ، ثبت المطلوب.

ولأنّ الوحدة لو كانت صفة قائمة بالجسم ، والعرض لا يحدث في المحل ولا يحصل فيه إلّا إذا كان ذلك المحل متعيّنا في نفسه متميزا عن غيره ولا يعقل من وحدته إلّا تعيّنه في نفسه وتميّزه عن غيره ، فيلزم أن يكون قيام الوحدة بالجسم متوقفا على كون الجسم واحدا ، ثمّ الكلام في تلك الوحدة كالكلام في الأوّل ويلزم التسلسل ، وهو محال. وبتقدير إمكانه فلا بدّ وأن ينتهي الأمر إلى وحدة تقوم بالذات لا بتوسط وحدة أخرى ، وإلّا لم تكن الذات موصوفة بالوحدة أصلا ، وذلك هو المطلوب.

الوجه الثاني : الجسم البسيط لو كان واحدا لكنّا إذا قسّمناه أبطلنا وحدته ووحدة كلّ شيء هو (١) هويته ؛ لأنّه لا معنى للهوية إلّا الخصوصية التي بها تتميز عن الآخر وتلك الخصوصية هي الوحدة ، فإذن لمّا أوردنا القسمة على الشيء الذي كان واحدا فقد أبطلنا هويته وإذا أبطلنا هوية الشيء فقد أعدمناه ، فإذن لمّا أوردنا التقسيم على الجسم فقد أعدمنا تلك الجسمية ، فلا يخلو إمّا أن يكون قد

__________________

(١) ساقطة في المباحث.

٤٤٠