نهاية المرام في علم الكلام - ج ٢

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ٢

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-392-8
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٦١٦

غيرها من الذوات ، لكن إنّما توجد بالفعل بواسطة الصورة ، كما يوجد المعلول بواسطة علّته وكما يوجد المشروط بوجود شرطه ، وأنّ لها وجودا عينيّا متحقّقا يتصف به عند اتصافها بالصورة فهو مسلّم ، لكن ذلك لا يخرجها عن كونها بالفعل ، وإلّا لخرجت جميع المعلولات عن الوجود الفعلي.

ومسلّم أنّه المبدأ لكونها بالقوة ذاتها ولكونها بالفعل صورتها ، لكن ذلك غير مفيد لكم ، فإنّ المبدأ لكون المعلول بالقوة ذاته ولكونه بالفعل صورته.

ونمنع افتقار الاستعداد في النفس إلى سبب زائد على ذات النفس هو البدن وعلاقته ، فإنّ النفس لذاتها قابلة ، وإلّا لامتنع أن تقبل بواسطة الغير ، فإنّ الذات إذا لم تكن قابلة لشيء يمتنع أن يحصل لها القبول له بواسطة شيء ما من الأشياء ، لأنّ مقتضى الذات لا يعدم إلّا بعدم الذات.

والقبول والفعل ليسا أثرين بل الأثر هو الفعل خاصة ، أمّا القبول فلا ، وإلّا لزم التسلسل.

الوجه الرابع : أنّ الكون والفساد على الفلك محال ، فلا يمكن أن يتغير الفلك في مقداره وشكله وصورته وموضعه ، فالجسمية التي للفلك المعيّن يلزمها شكل ذلك الفلك بعينه ومقداره بعينه. فسبب هذا اللزوم ليس مفهوم الجسمية ، وإلّا لكان كلّ جسم كذلك ؛ لاشتراك الأجسام بأسرها في الجسمية ، هذا خلف. فإن كان لأمر زائد وراء الجسمية ، فإمّا أن يكون ذلك الأمر حالا في تلك الجسمية ، أو تلك الجسمية حالّة فيه ، أو لما لا يكون حالا فيها ولا محلا لها.

والأوّل باطل ؛ لأنّ ذلك الحال إن كان ليس لازما لتلك الجسمية لم يكن الشكل اللازم بسبب تلك الجسمية لازما وقد فرض لازما ، هذا خلف.

وإن كان لازما لتلك الجسمية عاد التقسيم في سبب لزومه وكيفيته ، فإمّا أن يتسلسل أو ينتهي إلى ما يلزم الجسمية لنفس الجسمية ويعود المحال من

٥٢١

أنّ كلّ جسم يجب أن يكون كذلك.

وإن كان لمباين غير حالّ ومحلّ ، فإمّا أن يكون ذلك الشيء جسما أو قوّة حالّة في جسم أو موجودا ليس بجسم ولا بجسماني.

والأوّل باطل ، لأنّ ذلك الجسم إن اقتضى ذلك اللزوم بجسميته ، فكل جسم كذلك ، ولكانت الجسمية التي هي الملزوم لتلك الفلكية أولى بذلك الاختصاص (١) من جسمية أخرى ، وقد أبطلناه.

والثاني إن كانت تلك القوة من لوازم محلها عاد السؤال في المقتضي لذلك اللزوم ، وإن لم يكن من لوازم محلها فإذا (فارقت) (٢) محلها ، فإن عدمت وجب أن يزول ما يقتضيها ، وذلك محال ؛ وإن لم تعدم عند مفارقة محلها كانت غنية في وجودها عن المحل ، وكلّ ما كان كذلك لم يكن له اختصاص بمحلّ دون محل اختصاصا بالوجوب ، فهي إذن قوّة مجرّدة متساوية التأثير في جميع المتماثلات المتساوية في قبول أثرها تأثيرا واحدا ، وكان يجب أن لا يكون اقتضاؤها لوجوب موصوفية بعض الأجسام بالفلكية أولى من اقتضائها لذلك في سائر الأجسام ، ويعود ما ذكرناه من وجوب اتصاف كلّ الأجسام بتلك الفلكية ، وهو محال. فلم يبق إلّا أنّ الجسمية إنّما لزمتها تلك الفلكية بسبب شيء حلت تلك الجسمية فيه وحلت تلك الفلكية وذلك الشكل فيه. ثمّ إنّ ذلك الشيء لذاته يقتضي الصورتين معا ، فلا جرم صارت (مقارنتهما) (٣) واجبة. فإذن لجسمية الفلك محل ، وذلك هو الهيولى. ويجب أن تكون تلك الهيولى مخالفة لسائر الهيولات ، وإلّا عادت المحالات المذكورة. وإذا ثبت احتياج جسمية الفلك إلى محل وجب احتياج

__________________

(١) كذا في النسخ ، وفي المباحث : «الاقتضاء».

(٢) في النسخ : «قارنت» ، وما أثبتناه من المباحث.

(٣) في النسخ : «مقاومتهما» ، وما أثبتناه من المباحث.

٥٢٢

جسمية العناصر إلى الهيولى.

قال أفضل المتأخرين : «هذه حجة تكلفناها لهم» (١) «وقد أوردتها على كثير من الأذكياء فما قدحوا في شيء من مقدماتها. ولكنّه قد عرض لي الشك بعد ذلك في بعض مقدماته ، فإنّ الجسمية ليست عبارة عن وجود الأبعاد بالفعل ، لأنّ الأبعاد من باب الكم ، ولا عبارة عن نفس قابلية هذه الأبعاد على ما يشعر به ظواهر الكتب ؛ لاستحالة كون قابلية الشيء للشيء أمرا ثبوتيا. ولأنّها لو كانت وصفا ثبوتيا لكانت من باب النّسب والإضافات ، فيمتنع أن تكون صورة مقوّمة.

فإذن الجسمية عبارة عن الأمر الذي لأجله حصلت هذه القابلية ، وذلك الأمر غير محسوس ولا معلوم بالضرورة ، فإنّ المعلوم بالضرورة هو هذه المقادير ، فأمّا وجود أمر آخر لأجله تحصل قابلية هذه المقادير فليس مدركا بالحس ولا معلوما بالضرورة.

فإذن لا يمكن دعوى الضرورة في كون ذلك الأمر مشتركا بين الأجسام كلّها ، لاحتمال أن يكون الأمر الذي لأجله كان هذا الجسم قابلا لهذه الأبعاد مخالفا بالنوعية للأمر الذي لأجله كان الجسم الآخر قابلا لها ، فانّه يجوز استناد الواحد بالنوع إلى الكثير بالنوع ، فلا يلزم من قولنا سبب وجود الشكل للفلك المعين هو جسمية الفلك اشتراك الشكل بين الأجسام كلّها. وإنّما غفل الناس عن هذه الدقيقة ، لظنهم أنّ الجسم هذه الأبعاد والمقادير ، ثمّ لمّا علموا أنّه لا اختلاف في طبيعة المقدار حكموا بأنّ الجسمية مشتركة فيها. فأمّا من يدعي أنّ الجسمية أمر وراء ذلك ، فإنّه لا يمكنه دعوى الضرورة في كون ذلك المعنى

__________________

(١) عبارة الرازي بعد ذكر حجّتين لابن سينا هكذا : «وهاتان الحجّتان هما اللتان ذكرهما الشيخ أبو علي وعوّل عليهما في إثبات الهيولى. وأنا كنت تكلفت لهم وجوها أخرى». المطالب العالية ٦ : ٢٠٢.

٥٢٣

مشتركا ، بل لا بدّ له من برهان. ونحن إلى الآن لم نحصّله» (١)

والاعتراض : لا نسلّم امتناع الكون والفساد على الفلك على ما يأتي.

سلمنا ، لكن لا نسلّم اشتراك الجسمية على ما ذكره أفضل المتأخرين.

سلمنا ، لكن لا نسلم أنّ عند وجود العلة يجب وجود المعلول ، بل جاز أن يتخلف إمّا لوجود مانع أو فقدان شرط.

سلمنا ، لكن لم لا يجوز أن يكون لأمر ملزوم للجسمية؟

سلمنا ، لكن لم لا يجوز أن يكون للفاعل المختار؟ وهو الحقّ في هذا الباب.

__________________

(١) المباحث المشرقية ٢ : ٥١ ـ ٥٢.

٥٢٤

البحث الرابع

في إبطال الهيولى (١)

لنا على ذلك وجوه :

الوجه الأوّل (٢) : الهيولى إمّا أن تكون ذات وضع أو لا ، والقسمان باطلان ، فلا يكون لها وجود البتة.

أمّا الأوّل ، فلأنّ تحيزها إمّا أن يكون بالاستقلال أو بالتبعية ، فإن كان الأوّل لزم اجتماع المثلين عند حلول الصورة الجسمية فيها ؛ ولزم الترجيح من غير مرجح ، إذ لا أولوية لأحدهما بكونها محلا وللأخرى بكونها حالّا دون العكس. ولأنّ الهيولى إن احتاجت حينئذ إلى محل تسلسل ، وإلّا لكانت الجسمية غنيّة عن المحل وهو المطلوب.

وإذا كان الثاني ، وهو أن يكون حصول الهيولى في ذلك الحيز تبعا لحصول الصورة فيه كانت الهيولى صفة والصورة موصوفة فتكون الهيولى صفة حالّة في الجسم ، وهو مغاير لدعوى أنّ الجسمية حالّة في الهيولى.

__________________

(١) راجع شرح الإشارات ٢ : ٤٦ ؛ المطالب العالية ٦ : ٢١١.

(٢) ذكره الرازي في شرحه على الإشارات ، النمط الأوّل ، حيث قال : «اعلم أنّ لنفاة الهيولى أن يقولوا هذه الهيولى ...» ، وفي المباحث المشرقية ٢ : ٥٢ ـ ٥٣.

٥٢٥

وإن لم يكن لها حصول في الحيز لا على سبيل التبعية ولا على سبيل الاستقلال لم يكن لها اختصاص بجهة البتة بل كانت مجردة مع أنّ الجسمية مختصة بحيز معين ، لاستحالة وجودها مجردة عن الحيز وحصولها في كلّ الأحياز والترجيح من غير مرجح ، وحينئذ يمتنع حلول الجسمية المختصة بحيز فيها ، للعلم الضروري بأنّ ما يختص بالجهة بالذات بالحيز يمتنع حلوله فيما لا اختصاص له بتلك الجهة لا بالذات ولا بالتبعية. فالقول بحلول الجسمية في محل يؤدي إلى أقسام باطلة ، فيكون القول به باطلا.

الوجه الثاني : لو كان الجسم مركبا من أمرين لكانا ذاتيّين له ، فكان يجب أن يكون العلم بهما سابقا على العلم بالجسم ، فيجب في العالم بالجسم أن يكون عالما بتركّبه منهما من غير برهان ، لأنّ من شرط الذاتي أن لا يحتاج في إثباته للذات إلى برهان.

اعترض (١) : بأنّ هذا إنّما يلزم لو عقلنا تمام ماهية الجسم ، فأمّا إذا لم نعقله بحقيقته بل بعارضه ، وهو أنّه شيء قابل للأبعاد الثلاثة فلا ؛ لأنّ ذلك لازم لأحد جزئيه أعني الصورة ، فإنّ قبول الأبعاد لازم من لوازم الصورة ، وظاهر بيّن عند العقل أنّ هذا القدر لا يقتضي العلم بجميع أجزاء الجسم.

واعترض أفضل المحقّقين على الأوّل : بأنّها (٢) مشتملة على أقسام غير منحصرة ، فإنّ ما لا يتحيز على سبيل الحلول في الغير لا يجب أن يكون متحيزا بالانفراد ، بل ربما يتحيز بشرط حلول الغير فيه ، ولا يلزم من ذلك كونه صفة لذلك الغير (٣).

__________________

(١) المعترض هو الرازي ، راجع المباحث ٢ : ٥٣.

(٢) أي الحجة.

(٣) شرح الإشارات ٢ : ٤٧.

٥٢٦

وفيه نظر ، لما تقدم من قضاء الضرورة بامتناع حلول ما يختص بالجهة فيما لا اختصاص له بالجهة البتة.

الوجه الثالث : قد بيّنا أنّ الجسم مؤلف من الجواهر الأفراد بالبراهين القطعية ، وحينئذ

يمتنع وجود الهيولى.

الوجه الرابع : مادة الكل والجزء إن اتحدتا كان محل الأمور المتغايرة المتعاندة واحدا ، وهو محال. وإن تغايرتا ، فإن كانتا موجودتين بالفعل لزم اشتمال الجسم على ما لا يتناهى من الأجزاء ، وهو محال ، وإن تجددتا افتقرتا إلى مادتين وتسلسل. وبسط الكلام أكثر من ذلك في هذا الباب غير لائق هنا.

٥٢٧

الفصل الثالث

في تفاريع الهيولى

وفيه مباحث :

البحث الأوّل

في أنّ الهيولى لا تنفك عن الصورة (١)

اعلم أنّ مذهبنا أنّ الجسم غير مركب من الهيولى والصورة ، لكن نريد البحث مع الفلاسفة على اعتقادهم ونبين خطأهم في فروعهم المبنيّة على الهيولى والصورة.

__________________

(١) أنظر البحث في إلهيات النجاة : ٢٠٣ (فصل في أنّ المادّة لا تتجرد عن الصورة) ؛ الفصل الثالث من المقالة الثانية من إلهيات الشفاء : ٧٢ ؛ شرح الإشارات ٢ : ٩٠ وما يليها ؛ التحصيل : ٣٣١ (الفصل الحادي عشر) ؛ إيضاح المقاصد : ١٣٤ ؛ شرح المواقف ٧ : ٤٩.

وقال صدر المتألهين : «هذا المقصد ممّا يمكن فهمه من أحد مسالك الهيولى وهو مسلك القوة والفعل ، فإنّ الهيولى إذا تجردت عن كافة الصورة لكانت أمرا بالفعل ولها قوة قبول الأشياء ولا أقلّ لها استعداد شيء ما وإلّا لم تكن هيولى فيتركب ذاته من جهة بها تكون بالفعل ومن جهة بها تكون بالقوة وقد فرضت بسيطة ، هذا خلف. وهذا برهان تمام لا يرد عليه شيء عند التحقيق» الأسفار ٥ : ١٣٨.

٥٢٨

وقد استدلوا على أنّ الهيولى لا تنفك عن الصورة بوجوه :

الأوّل : أنّها لو انفكت عن الصورة فإمّا أن تكون ذات وضع أو لا ، والقسمان باطلان.

أمّا الأوّل : فلأنّه مناف للحكم المذكور. والوضع يطلق على معان ، منها : «كون الشيء بحيث يمكن الإشارة الحسية إليه» ، وهو المراد هنا. ولو كان ذات وضع فإمّا أن لا تقبل القسمة في جهة من الجهات ، فتكون نقطة هي مقطع منتهى إشارة. وإمّا أن تقبل القسمة في جهة واحدة فيكون خطا ، أو تكون قابلة للقسمة في جهتين فيكون سطحا ، أو تكون قابلة للقسمة في الجهات الثلاث فيكون جسما. لكن وجود النقطة بالاستقلال محال ، وإلّا لكان إذا وصل إليها طرفا خطين لاقياها بالأسر إن لم تحجبهما عن التماس ، فيكون الطرفان منفردين عن الخطين لانفراد النقطة عنهما ، فيكون للخطين طرفان غيرهما ويعود البحث فيهما. وإن حجبتهما لزم انقسامها ، فلا تكون النقطة نقطة ، هذا خلف. وأمّا امتناع كونها خطا أو سطحا أو جسما ، فلأنّها لو كانت أحد هذه لافتقرت إلى مادة ، لأنّ كلّ واحد من هذه قابل للانقسام وكلّ قابل للانقسام فإنّه مادي فللمادة مادة ، هذا خلف.

وأمّا الثاني : وهو أن لا تكون ذات وضع ، فإذا لحقتها الصورة صارت ذات وضع بالضرورة ، لامتناع وجود جسم غير ذي وضع ، فلا يخلو إمّا أن لا تتحصل الهيولى في موضع من المواضع أو تتحصل ، وإن تحصلت فلا يخلو إمّا أن تتحصل في جميع المواضع أو في بعضها دون بعض. والأوّل والثاني محالان بالضرورة. والثالث محال أيضا ؛ لأنّ ذلك الموضع إمّا أن لا يكون أولى بها من غيره أو يكون أولى ، فإن لم يكن أولى كانت متساوية النسب إلى جميع المواضع ، فكان حصولها في ذلك الموضع دون غيره ترجيحا لأحد الأمور المتساوية من غير مرجح ، وهو محال بالبديهة. وإن كان أولى فالأولوية إمّا أن تكون قد كانت حاصلة قبل أن تلحقها

٥٢٩

الصورة أو حصلت بذلك ، وهذان باطلان.

أمّا الأوّل : فلأنّ الهيولى قبل الصورة لم تكن متعلقة بالموضع الذي حصلت فيه مع الصورة ، فلا يمكن أن يقال : إنّ حصولها في ذلك إنّما كان لأنّ الصورة لحقتها هناك ، لأنّ الهيولى لم تكن هناك ولا في موضع آخر.

لا يقال : هذا ينتقض بالهيولى الكائنة في صورة توجب لها وضعا معينا ، كجزء من الهواء مثلا إذا كان في موضعه الطبيعي ، فإنّ صورته الهوائية توجب لمادّته وضعا هناك ، أو يكون قد عرض للهيولى وضع هناك ، كجزء من الهواء أخرج عن موضعه بالقسر إلى الموضع الطبيعي للماء يعرض (١) لها وضع هناك ، ثمّ فسدت صورة الجزءين بسبب ولحقت صورة الماء بمادتها هناك ، فحصلت الهيولى مع الصورة اللاحقة بها في موضع خاص لكون ذلك الموضع أولى بها ، والأولويّة (٢) كانت حاصلة قبل هذا اللحوق بحسب الصورة السابقة والأحوال العارضة لها.

وأيضا الجزء من الأرض ليس له حيز معين ، بل جميع أجزاء الأرض بالنسبة إلى ذلك الجزء على السواء ومع ذلك فقد تخصص بجزء واحد من كلّ الحيز.

لأنّا نقول : هذا لا يمكن في الهيولى المجردة ، لأنّها مجرّدة عن جميع الصور بحسب الفرض. والسبب في اختصاص الجزء المعين من الأرض مثلا بجزء من أجزاء حيزه هو أنّ مادّة ذلك الجزء كانت قبل اتصافها بالصورة الأرضية في صورة أخرى وكان لها بسبب تلك الصورة وضع وكان ذلك الوضع على حال متى زالت تلك الصورة عن تلك المادة وحصلت فيها الأرضية فإنّه يتعين ذلك الجزء لها ، كالجزء من الهواء إذا زالت الهوائية عنه وصادفته الأرضية فإنّه (٣) يسقط على أقرب

__________________

(١) في شرح الإشارات : «فعرض».

(٢) في النسخ : «الأوليّة» ، وما أثبتناه من شرح الإشارات ٢ : ٩٦.

(٣) في النسخ : «فانّها» ، أصلحناها طبقا للسياق.

٥٣٠

الأمكنة من المكان الذي له. فالوضع السابق الحاصل بسبب الصورة السابقة علة لأن يحصل للمادة وضع بسبب الصورة اللاحقة. وهذا إنّما يستمر لو كان قبل كلّ صورة صورة ، وأمّا لو انتهت إلى صورة غير مسبوقة بصورة أخرى لم يكن هناك ما يقتضي وقوع وضع خاص فيستحيل وقوعه لكنّك ستعلم إن شاء الله تعالى تناهي الحوادث.

وأمّا الثاني : وهو أن تكون الأولوية حصلت بعد أن لحقت الصورة بالهيولى فهو باطل أيضا ، لأنّ الهيولى متساوية النسبة إلى جميع المواضع التي تقتضيها الصورة التي تلحقها فهي إذن تكون متساوية النسبة إليها بحسب ذاتها وبحسب الصورة ، وحينئذ يستحيل حصولها في بعضها ، فإنّ الصورة النوعية وإن اقتضت مكانا واحدا لكن تخصيصها بجزئيات ذلك المكان يستدعي سببا.

لا يقال : لم لا يجوز أن تتخصص الهيولى بموضع جزئي؟ كما لو كانت في صورة توجب لها وصفا معينا ، كالجزء من الهواء في موضعه الطبيعي إذا صار ماء ، فإنّه يتخصص بموضع جزئي ويقصد الموضع الطبيعي للماء لوجود الصورة المائية فيه ، وإنّما لم يقصد أي جزء اتّفق منه بل قصد الجزء الذي هو أقرب أجزاء الموضع المائيّ إلى الموضع الأوّل ، فتخصص ذلك الموضع الجزئي به بسبب الوضع السابق ، فهنا سببان : أحدهما الصورة المائية وهو سبب لقصد الموضع المائيّ مطلقا. والثاني الوضع السابق وهو سبب لتخصص الموضع الجزئي منه بالقصد.

لأنّا نقول : هذا غير ممكن هنا ، لأنّ الهيولى فرضناها مجرّدة عن جميع الصور والأوضاع. ولمّا بطل القسمان ظهر امتناع الفرض الأوّل ، وهو حلول الصورة الجسمية في الهيولى المجرّدة ، فيمتنع حلول الصورة في الهيولى إلّا على سبيل البدل بأن يكون حلول اللاحقة عقيب زوال سابقه.

لا يقال : الجسم العنصري لا يجب اتصافه بإحدى الصور النوعية بعينها

٥٣١

مع دوام اتصافه بها ، فلم لا يجوز أن تكون الهيولى إذا اتصفت بالجسمية فهي وإن كانت غير واجبة الحصول في حيز بعينه ، لكنّها تحصل في أحد الأحياز؟

لأنّا نقول : كلّ صورة نوعية مسبوقة بأخرى معدّة للهيولى في قبول اللاحقة ، والهيولى الخالية عن الصور ليست كذلك ، فافترقا.

والاعتراض : لم لا يجوز أن تكون ذات وضع؟ ولا نسلّم منافاته للحكم المذكور ، فإنّه ليس يجب انحصار ذي الوضع في الجسم ، فإنّ من الجائز أن تكون الهيولى في صورة غير جسمانية تقتضي للهيولى أولويّة الاختصاص بموضع دون موضع.

سلمنا ، لكن لم لا يجوز أن تكون نقطة؟

قوله : إذا وصل إليها طرفا خطين إن لاقتهما بالأسر وجب أن يكون لكلّ منهما طرف غير الطرفين.

قلنا : ينتقض بالخطين المتلاقيين بنقطتيهما ، فانّهما يتحدان عندكم ويكون طرف كلّ واحد من الخطين مباينا لطرف الخط الآخر ، فيجب مع القول باتحاده وجود طرف آخر غير الأوّل ، وهو محال.

وأيضا عند وصول طرفي الخطين إليها وتداخلها بأسرها لا يصير طرفا الخطين متباينين عن خطيهما ، بل تصير تلك الهيولى حالّة في الخطين حتى لا يلزم المحال الذي ذكرتموه.

لا يقال : لمّا جاز على تلك النقطة أن تستقل بذاتها جاز أيضا على سائر النقط ذلك ، فجاز على كلّ واحد من طرفي الخط أن يصير مباينا عن ذلك الخط.

لأنّا نقول : هذا إنّما يلزم لو تساوت النقط في الماهية ، وهو ممنوع.

سلمنا ، فلم لا يجوز أن تكون غير مشار إليه؟ فإذا خلق الله تعالى الجسمية

٥٣٢

فيها خصصها بحيز معيّن.

سلمنا ، فلم لا يجوز أن يكون خطا أو سطحا أو جسما تعليميا وتكون لها هيولى مجرّدة عن المقدار ويكون الموجود حينئذ مقدارا حالا (١) في مادة ، وإن لم تكن هناك صورة جسمية؟

لا يقال : ذلك المقدار إنّما يعقل مع الامتداد والاتصال ، ولا نعني بالصورة الجسمية إلّا ذلك.

لأنّا نقول : لا نسلّم وجود امتداد واتصال مغاير للمقدار ، بل ذلك غير معقول ، إنّما المعقول هو المقدار الذي يعبّر عنه بالطول والعرض والعمق ، أمّا غيره فلا.

سلمنا ، فلم لا يجوز أن لا تكون ذات وضع ولا تلحقها الصورة البتة؟ وحينئذ لا يتم امتناع المنقسم الذي ذكرتموه من أنّها إمّا أن تحصل في كلّ الأحياز أو لا تحصل في شيء من الأحياز أو تحصل في البعض دون البعض.

لأنّا نقول : جاز أن تحصل في شيء من الأحياز ولا تلحقها الصورة دائما.

وهذا السؤال لا جواب عنه ، إلّا أنّ أفضل المحقّقين قال : «إنّ هذا يدل على أنّ الهيولى المجردة يمتنع أن تقترن بالصورة ، ولا يدل بالذات على امتناع تجرد الهيولى عن الصورة ، بل يدل على أنّ الهيولى المجردة غير مقترنة بالصورة أبدا ، وينعكس عكس النقيض إلى أنّ الهيولى المقترنة بالصورة لا يمكن أن تكون مجردة أصلا ، وهيولى العناصر والأفلاك هي المقترنة بالصورة ، فهي لا تتجرد عن الصورة الجسمية» (٢).

__________________

(١) في النسخ : «مقدار حال» ، أصلحناها طبقا للسياق.

(٢) شرح الإشارات ٢ : ١٠٠.

٥٣٣

وقد ظهر من قوله هذا أنّ البرهان لا يدل على المطلوب ، بل على ما هو أعم من المطلوب.

وأيضا يجوز اتصاف الهيولى في حال تجردها بأوصاف متعاقبة يقتضي أحدها تخصصها بأحد الأوضاع الممكنة بعد حلول الصورة فيها (١).

اعترضه أفضل المحقّقين : بأنّ الهيولى الموصوفة بتلك الأوصاف إن تخصصت بوضع فهي غير مجردة ، وإن لم تتخصص فنسبتها مع الأوصاف إلى جميع الأوضاع واحدة (٢).

وفيه نظر ، لمنع الملازمة الأولى.

لأنّا نقول : إن عنيت بعدم تجردها وجوب مقارنتها للصورة ، فهو ممنوع. وإن عنيت بذلك أنّها غير متجردة عن شيء ما ، سلمنا ، لكن لا يدل على امتناع تجردها عن الصورة. فإن حصر أسباب التخصص بالوضع في الصور ، منعناه.

سلمنا ، لكن نمنع الملازمة الثانية ، لأنّ النسبة واحدة حالة التجرد ، أمّا حالة اقتران الصورة فلا ؛ لجواز أن يكون الوصف إنّما يقتضي التخصص بشرط اقتران الصورة.

سلمنا ، لكن المحال إنّما يلزم إذا قلنا بمصادفة الصورة الجسمية وحدها للمادة. فلم لا يجوز أن يقال : الصورة الجسمية متى صادفت المادة لزمتها صورة أخرى تخصص الجسم بالحيز المعين.

قيل (٣) : «الذي يخصص الجسم بالحيز المعين إن كان لازما للصورة

__________________

(١) والعبارة في شرح الإشارات هكذا : «وأمّا تشكيكه بتجويز اتصاف الهيولى في حال تجردها بأوصاف متعاقبة يقتضي ...» المصدر نفسه : ٩٩.

(٢) المصدر نفسه : ٩٩ ـ ١٠٠.

(٣) والقائل هو الرازي ، راجع المباحث المشرقية ٢ : ٥٥ ـ ٥٦.

٥٣٤

الجسمية وجب أن لا يخلو شيء من الأجسام عنه فكان (١) يلزم أن تختص جميع الأجسام بذلك الحيز. وإن لم يكن لازما أمكن حصول الصورة الجسمية منفكة عنه (٢) ، وعلى هذا التقدير يعود المحال.

فإن قالوا : الصورة النوعية كثيرة فالجسمية (٣) وإن كان لا يلزمها من تلك واحدة بعينها لكن يلزمها واحد لا بعينه.

فنقول : إذا لم يكن الواحد منها لازما للجسمية بعينه لم يكن بأن يحصل مع الجسمية من تلك الصور واحد أولى من أن يحصل غير ذلك الواحد ، فحينئذ إمّا أن يحصل الكل أو يحصل فيها واحد ، وكلاهما محال ، فأمّا الواحد من غير مخصّص ، فذلك محال».

وفيه نظر ، لجواز أن لا يكون المخصص لازما للصورة الجسمية ، ولا يمكن انفكاك الصورة عنه لأنّه ملزوم لها.

الثاني (٤) : المادة إن كانت عارية عن الصورة فإمّا أن يكون لها إمكان الاتصاف بالصورة أو لا يكون ، فإن كان لها ذلك الإمكان فإمّا أن تكون موقوفة على شرط أو لا ، فإن كانت موقوفة فذلك الشرط إن كان قديما وجب حصول الصورة ؛ لأنّ المادة قابلة والشرائط حاصلة ولا شيء من جهات العلة (٥) مختلة في ذات واجب الوجود ، ومع اجتماع هذه الأمور لا بدّ من حصول الأثر. وأمّا إن كان الشرط حادثا فالكلام في اختصاص ذلك الشرط بالحدوث في ذلك الوقت دون

__________________

(١) في المصدر : «وكان».

(٢) في النسخ : «عنها» ، وما أثبتناه من المصدر.

(٣) في المصدر : «والجسميّة».

(٤) أي الوجه الثاني لاثبات عدم انفكاك الهيولى عن الصورة. وذكره الرازي في المصدر نفسه : ٥٧.

(٥) في المباحث : «العلية».

٥٣٥

وقت آخر كالكلام في الأوّل وهو يفضي إلى التسلسل. ويستحيل أن يوجد الكل دفعة واحدة ؛ لاستحالة وجود ما لا يتناهى من العلل دفعة. ولأنّها بأسرها إذا حصلت في ذلك الوقت دون غيره فلا بدّ لحصولها بأسرها في ذلك الوقت على الخصوص من سبب مخصص.

فحدوث الحوادث ليس دفعة ، بل على التعاقب ، واحد بعد آخر ، فالمادة كانت قبل تلك الصورة موصوفة بصورة أخرى ، فإذن قد كانت موصوفة بالجسمية.

وأمّا إن قيل : إنّ المادة لم تكن ممكنة القبول للصورة أزلا (١) ، فهو محال ؛ لأنّ الإمكان من لوازم الماهية واللازم ثابت أبدا.

والاعتراض : لم لا يجوز أن تكون المادة وإن كانت أبدا موصوفة بالصفات إلّا أنّها في بعض الأحوال قد كانت خالية عن الجسمية وقد كان في المادة قبل الجسمية من الصفات والأحوال ما أعدها لقبول الجسمية؟ وأيضا فالذي ذكرتموه يوجب امتناع خلو المادة عن الصورة نظرا إلى دوام فاعلية المبدأ الأوّل ، لكن لا يوجب ذلك احتياج المادة في ذاتها إلى الصورة.

سلمنا ، لكن لم لا يجوز أن يكون هناك مانع من حصول الصورة في المادة؟ والتسلسل الذي الزموه جائز عندهم ، لكن لا يجب اتصاف المادة بالصور دائما ، بل جاز أن تتصف بالأعراض المتعاقبة.

الثالث : تجرد المادة عن الصورة إن كان لذات المادة وجب تجردها أبدا ، وإن كان لأمر فهي حين كانت خالية عن الصور كانت موصوفة بذلك الزائد الذي أفادها التجرد ، فهي عند براءتها عن الصورة موصوفة بالصورة ، هذا خلف.

__________________

(١) في النسخ : «أولا» ، وما أثبتناه من المباحث.

٥٣٦

والاعتراض (١) : أنّ التجرد قيد عدمي وعلّة العدم عدم العلّة ، فالتجرد عن الصورة معلل بعدم الصورة الجسمانية.

سلمنا أنّه لا بدّ من أمر ، لكن لم قلتم : إنّه يجب أن يكون صورة جسمية؟

الرابع : لو كانت المادة مجردة لكان لها وجود بالفعل ولكان لها استعداد لقبول الصورة ، وقد بيّنا أنّ الشيء الأحديّ الذات لا يكون بالقوة والفعل معا ، فيجب أن تكون المادة المجرّدة مركّبة من المادة والصورة لتكون المادة مبدأ لما فيها من الاستعداد والصورة مبدأ لما فيها من الحصول ، فلا تكون المادة المجرّدة مجرّدة بل مع صورة. وقد سبق البحث عن هذه الحجّة (٢). على أنّ ذلك لازم عليهم وإن كانت مع الصورة ؛ لأنّها إن لم تكن موجودة بالفعل فالمطلوب ، وإن كانت لزم ما قالوه.

الخامس : لو قدّرنا أنّ الجسم الواحد فارق صورته ، وقدّرنا أيضا أنّه قبل هذه المفارقة انقسم وبعد الانقسام فارقت الصورة عن الجزءين ، فإن ساوت كلّ المادة نصفها كان الشيء مع غيره كهو لا مع غيره ، وهو معلوم البطلان بالبديهة ، وإن خالفته فذلك الاختلاف ليس بالماهية ولا لوازمها ، فهو بالعوارض وهو كون إحداهما كلا والأخرى جزءا ، وذلك إنّما يكون بسبب التفاوت في المقدار.

فإذن المادة قبل اتصافها بالصورة كانت موصوفة بالمقدار ، وإذا كان المقدار حاصلا كانت الجسمية حاصلة ، فالمادة قبل اتصافها بالصورة الجسمية موصوفة بها ، هذا خلف.

والاعتراض : لا نسلّم أنّه مع الانقسام يبقى كلّ ومع الاتصال يبقى جزء ، وهذا عين مذهبهم. ولا تطلق عليها المساواة وعدمها عدم الملكة ؛ لأنّ ذلك إنّما

__________________

(١) المعترض هو الرازي في المباحث المشرقية ٢ : ٥٨.

(٢) في ص ٥١٨ (الوجه الثالث في إثبات الهيولى).

٥٣٧

يكون لذي المقدار ، وهي في نفسها غير مقدرة ، وهذا كما يفرض السواد الحالّ في الكل لو فارق المحلّ ، والحال في الجزء لو فارق فإمّا أن يتساويا أو لا.

وأيضا هو لازم عليكم ؛ لأنّ الهيولى التي هي محلّ كلّ المقدار غير التي هي محلّ بعض ذلك المقدار. وليس ذلك الاختلاف لما حلّ فيها من المقدار ، لأنّا في هذه الحالة نعتبر حال المحل مجردا عن الحال ، فلا يجوز أن يدخل في هذا الاعتبار المقدار الحال فيه. فإمّا أن يقال : اختلفا بمقدار آخر ، فيكون الكلام فيه كالكلام في الأوّل ويلزم التسلسل ، أو يقال : الاختلاف بالكل والجزء لا يقتضي المقدار ، فيبطل (١) أصل دليلكم.

__________________

(١) ج : «فبطل».

٥٣٨

البحث الثاني

في أنّ الصورة لا تنفك عن الهيولى (١)

استدلوا على ذلك بوجوه :

الوجه الأوّل : الشكل لازم للجسمية بواسطة التناهي ، لأنّ الشكل وإن قيل (٢) في تعريفه إنّه : «ما أحاط به حدّ واحد أو حدود» ، لكنّه إذا حقّق كانت ماهيته من الكيفيات المختصة بالكميات على ما تقدم ، والحدّ هنا النهاية ، فالمفهوم من الشكل هو : هيئة شيء تحيط به نهاية واحدة أو أكثر من جهة إحاطتها به» (٣) ، فالمتناهي يجب أن يكون ذا شكل بالضرورة ، والامتداد الجسماني متناه فهو ذو شكل ، فلا يخلو إمّا أن يكون هذا اللازم يلزمه ولو انفرد بنفسه عن نفسه ، أي لزوم الشكل يكون للجسمية من حيث هي منفردة بنفسها عن المادة وما (٤)

__________________

(١) راجع شرح الإشارات ٢ : ٧٣ ؛ التحصيل : ٣٤٦ (الفصل الثالث عشر) ؛ المباحث المشرقية ٢ : ٥٩ ـ ٦١ ؛ إيضاح المقاصد من حكمة عين القواعد : ١٣٢ ؛ شرح المواقف ٧ : ٥٢ ـ ٥٨.

(٢) والقائل هو اقليدس حيث يعرف الشكل) Figura (بأنّه هيئة للجسم أو السطح محدودة بحد واحد ، كالكرة أو الدائرة ، أو بحدود كثيرة ، كالمثلث والمربع والمكعب. راجع شرح قطب الدين الرازي على شرح الإشارات ٢ : ٧٣ ؛ جميل صليبا ، المعجم الفلسفي ١ : ٧٠٧.

(٣) أي إحاطة الحدود بالشيء. وهذا القيد احتراز عن السواد والبياض وغيرهما التي تعرض للأجسام عند إحاطة الحدود بها ، لكن لا من جهة الحدود ، بل من جهة أخرى.

(٤) في النسخ : «امّا» ، ولعلّه تصحيف من النساخ ، والظاهر أنّ الصحيح ما أثبتناه طبقا للمعنى.

٥٣٩

يكتنفها لنفس الجسمية لا لأمر آخر ، أو يكون لازما لها حال انفرادها عن المادة بسبب أمر آخر وهو الفاعل ، أو لا يكون كذلك بل يكون بمداخلة المادة ولواحقها في ذلك اللزوم. فهذه أقسام ثلاثة (١) :

والقسم الأوّل باطل ، لأنّه لو لزم الجسمية منفردة بنفسها عن نفسها خالية عمّا يكتنف المادة من اللواحق ، كالفصل والوصل وسائر ما يحتاج فيه إلى المادة من الانفعالات ، لتشابهت الأجسام في مقادير الامتدادات وهيئات التناهي والتشكل (٢). وكان الجزء المفروض من مقدار ما يلزمه ما يلزم كليته ؛ لأنّ الاختلاف في المقدار إنّما كان بسبب الفصل والوصل والتخلخل والتكاثف والكيفيات المختلفة المقتضية لذلك ، وبالجملة بسبب انفعالات المادة عن غيرها. وحينئذ يجب أن يلزم كلّ جزء يفرض من الامتداد ممّا لزم الكل من المقدار ، فيكون فرض القليل والكثير منه واحدا حتى لو فرض أقلّ قليل من الامتداد لكان الموجود من المقدار ما لو فرض أكثر كثير منه ، فلا تكون الكلّية ولا الجزئية ولا القلّة ولا الكثرة.

والحاصل أنّه يمتنع فرض الكلّية والجزئية في الأصل بأنّ (٣) وضعهما بالفرض يستلزم رفعهما لا بأن يكون فرضهما ممكنا من حيث الفرض ويلزم المحال من جهة تشابه أحوالهما بعد الفرض ؛ لأنّ اختلاف الكل والجزء فرع على التغاير ، والتغاير في الامتداد إنّما يتصور بعد وجود المادة ، فاللازم في هذا القسم عدم تغاير

__________________

(١) الأوّل : لزوم الشكل لنفس الجسمية. الثاني : لزوم الشكل للفاعل. الثالث : لزوم الشكل للقابل (المادّة).

(٢) قال المحقّق الطوسي : «والفرق بين هيئات التناهي والتشكل هو الفرق بين البسيط والمركب وذلك لأنّ هيئة التناهي أمر يعرض للشيء المتناهي ، والتشكل هو اعتبار الشيء مع ذلك العارض» ، شرح الإشارات ٢ : ٧٧.

(٣) ق : «فإنّ».

٥٤٠