نهاية المرام في علم الكلام - ج ٢

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ٢

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-392-8
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٦١٦

الإيجاب ، وليس كذا الحال في القادر وصدور الفعل من جهته. وأيضا لو وجب الاقتران لم يمنع من وجوب تقدم القدرة.

وعن يو : بالمنع من استناد الفرق إلى أمر موجود في الحال ، فجاز أن يكون بأمر متقدم.

المسألة الثالثة : في أنّ القدرة متعلّقة بالضدين (١)

اختلف الناس في ذلك ، فذهب المعتزلة والإمامية والفلاسفة إلى ذلك ، ومنعت الأشاعرة منه (٢) ، وقالوا : إنّ القدرة الواحدة إذا تعلقت بالفعل امتنع تعلّقها بالترك ، وبالعكس.

قيل : إن عنوا بالقدرة مجموع الأمور التي يترتب الأمر عليها ، فليست القدرة قدرة على الضدين ، لأنّ الأثر لا يصدر عنه ما لم يجب ذلك الصدور ، فلو كانت النسبة إلى الضدين كذلك لزم حصولها.

وإن أريد به القوة العضليّة وحدها ، وأنّها بحيث لو انضمّ إليها القصد إلى

__________________

(١) راجع مقالات الإسلاميين : ٢٣٠ ـ ٢٣١ ؛ شرح الأصول الخمسة : ٣٩٧ ؛ المباحث المشرقية ١ : ٥٠٦ ـ ٥٠٧ ، أصول الدين للرازي ؛ ٩٠ ، تلخيص المحصل : ١٦٧.

(٢) اعلم أنّ القاضي عبد الجبّار قسّم الأشاعرة في هذه المسألة إلى فرقتين : فرقة تقول : إنّ القدرة غير صالحة للضدين ، وفرقة تقول : إنّها صالحة للضدين. وقال : «هذا [الرأي الثاني] إنّما أخذوه عن ابن الراوندي ، ظنا منهم أنّه ينجّيهم عن ارتكاب القول بتكليف ما لا يطاق» شرح الأصول الخمسة : ٣٩٧ ـ ٣٩٨.

وقال الأشعري : «وقال بعض المتأخرين ممن كان ينتحل المعتزلة : القدرة مع الفعل وهي تصلح للشيء وتركه ... وهذا قول ابن الراوندي» مقالات الإسلاميين : ٢٣٠ ـ ٢٣١.

وقال المصنّف أيضا في مناهجه : «ذهب قوم من الأوائل وجماعة من الأشاعرة إلى أن القدرة لا تتعلق بالضدين ، وجماعة المعتزلة اتفقوا على أن صلاحيتها للتعلق بهما» مناهج اليقين : ٧٨.

٢٦١

أحد الضدين حصل ذلك الضد ، وإن انضم إليها القصد إلى الضد الثاني حصل الضد الثاني ، فلا شك أنّ القدرة قدرة على الضدين.

وأيضا إن عنوا به أنّ القدرة ليست قوة تامة على الشيء وضده ، فحق أنّها ليست متعلّقة بالضدين ؛ لأنّ هذه القوة متى كانت مترددة بين الضدين استحال أن يصدر عنها أحدهما ، لأنّه ليس أحد الجانبين أولى من الآخر ، ومتى خرجت عن حد التردد لم تكن قوة على الضدين.

وإن أرادوا به أنّ القوة التي انضم إليها مرجح حتى صارت مؤثرة في أحد الضدين ، لا يمكن أن ينضم إليها مرجّح آخر تصير مؤثرة في الضد الآخر ، فذلك باطل (١).

لنا وجوه :

الأوّل : الضرورة ، فإنّها قاضية بأنّ من قدر على الحركة يمنة قدر عليها يسرة ، وإن لم توجد فيه إلّا قدرة واحدة. وأنّ القادر على الشيء قادر على تركه ، فمن نازع في ذلك فهو مكابر.

الثاني : القدرة هي الصفة المصحّحة لوجود الفعل من الفاعل ، فلا يجب لها الفعل بل يمكن الفعل والترك بها ، فهي متعلقة بالضدين.

الثالث : الدليل الدال على أنّ الواحد منّا قادر ، يدلّ بعينه على أنّه قادر على الضدين ؛ لأنّ دليل القدرة هو وقوع أفعالنا بحسب دواعينا وانتفائها بحسب صوارفنا بحيث يجب اختصاصه بصفة القادرين ، وإنّما يتم هذا لصحة تحركه يمنة ويسرة وسائر الجهات ، حتى لو كان الواقع منه فعلا واحدا لم يدل على أنّه محدث لذلك الفعل ، ولا أنّه قادر عليه.

__________________

(١) المباحث المشرقية ١ : ٥٠٦ ـ ٥٠٧.

٢٦٢

الرابع : (١) لو تعلقت القدرة بأحد الضدين لا غير لجوّزنا أن يقدر أحدنا على التحريك يمنة ولا يقدر على التحريك يسرة ؛ لأنّ هاتين الحركتين متضادتان ، والضرورة قاضية بخلافه. ولجاز أن يقدر أحدنا على رفع الجبل العظيم ولا يقدر على رفع ذرة ، لتضاد هاتين الحركتين.

لا يقال : العادة جارية بأن يجمع الله تعالى بين هاتين القدرتين في القادر فلهذا لا يمكن ما ذكرتم.

لأنّا نقول : العادة يمكن خرقها ، ومن المعلوم أنّ في الزمان الذي يصح انتقاض العادة فيه يستحيل ما قلناه فإنّه لا يجوز أن يقدر القادر على رفع جبل ولا يقدر على رفع خردلة ، ولا أن يقدر على الحركة يمنة ويعجز عن الحركة يسرة.

الخامس : (٢) لو لم تتعلّق القدرة بالضدين ، لزم تكليف ما لا يطاق ، والتالي باطل ، فالمقدم مثله.

بيان الشرطية : أنّ الكافر مأمور بالإيمان وهو غير واقع منه ، ولا يخلو إمّا أن يكون قادرا عليه أو لا ، فإن كان الثاني تحقق التالي. وإن كان الأوّل فلا يخلو إمّا أنّ يكون بالقدرة التي تعلّقت بالكفر أو بغيرها ، والتالي باطل ، وإلّا لزم تقدم القدرة على الفعل ، وهو عندكم محال ، والأوّل هو المطلوب.

السادس : لو لم تتعلق القدرة بالضدين لم يبق فرق بين القادر المخلّى وبين الممنوع المضطر ، والتالي باطل بالضرورة ، فالمقدم مثله.

بيان الشرطية : أنّ القادر حينئذ لا يقدر إلّا على شيء واحد فأشبه المحبوس في تنوّر من حديد فإنّه لا يقدر إلّا على تسكين نفسه.

واعترض : بإمكان التفرقة بينهما بوجه آخر ، وهو صحّة أن يفعل القادر

__________________

(١) انظر هذا الوجه في شرح الأصول الخمسة : ٤١٦.

(٢) انظر هذا الوجه بتمامه ونقضه وابرامه في شرح الأصول الخمسة : ٣٩٩ ـ ٤٠٩.

٢٦٣

المخلّى الفعل وأن لا يفعله ، بخلاف المضطر الذي لا يتأتى منه الانفكاك ، فافترقا من هذه الجهة وإن لم يقدر القادر على الضدين. نعم هذا يدل على إمكان تقدم القدرة ، لأنّها لو امتنع عليها التقدم لأشبه القادر المضطر.

السابع : استدل أبو هاشم في «البغداديات» بأنّ القدرة التي توجد في أحدنا وهو ببغداد ، يصح وجودها منه لو كان بالبصرة ، فإذا وجدت منه وهو بالبصرة فلا بد لها من متعلق ، وإلّا لزم انقلاب جنسها ، وهو محال. فإمّا أن تتعلق بالكون في المكانين ، وهو المطلوب. وإمّا أن تتعلق بأحدهما خاصة ولا يمكن تعلّقها بالآخر ، وهو باطل ؛ إذ لا شيء يقتضي الإحالة ، لأنّ القدرة من فعل الله تعالى ولا يلحقه في صفة ذاته لغير وليس في القدرة محيل ومانع ، إذ لا ضد لها ، فيقال : يمتنع وجودها لوجود ضدها ، على ما يأتي. وإن فرضنا لها ضدا أو منافيا لم يجب اتصاف المحل به ، إذ ليس من ضرورة الحي أن يوجد ذلك الضد ، أو المنافي.

ولا يمكن أن يقال : إن موجبها يستحيل عليه إلّا في هذا المكان ، لأنّ هذه الصفة تصح عليه لكونه حيا ، وهو ثابت في المكانين معا. وعلى أنّ المعنى لا يستحيل وجوده لاستحالة الصفة الصادرة عنه ، بل الصفة تستحيل لاستحالة موجبها لترتبها على العلة ، وليست العلة مترتبة عليها.

ولا يمكن أن يقال بافتقار القدرة إلى بنية زائدة ، لأنّ صحة حصول البنية في المكانين على السواء.

ولا أن يقال : القدرة تفتقر إلى الكون في هذا المكان ؛ لأنّ الكون محتاج إلى القدرة دون العكس. ولأنّه يلزم صحة وجود الكون ولا قدرة.

وليس لهم أن يقولوا : إنّ القدرة موجبة للكون في ذلك المكان ؛ لأنّ الاعتراض بنفس المذهب على دليل قد نصب لإفساده غير صحيح. ولا أن تقاس القدرتان بالكونين ، لأنّ وجود الكون الذي يختص مكانا آخر فيه ، وهو في هذا

٢٦٤

المكان يقتضي انتقاله إليه ، فإنّ بهذا الحكم يتميّز ذلك الكون عن غيره. ووجود الجوهر في جهتين محال ، والقدرة لا تقتضي أن ينتقل بها محلها من مكان إلى آخر.

ولأنّ الكونين في جهتين يتضادان بخلاف القدرتين. فإذن القدرة تتعلق بالكونين لأنّها لو تعلقت بالكون الذي يختص المكان الذي وجد فيه القادر دون الكون في المكان الثاني لكان قد اختلف حالها لأجل انتقال محلها ، فإنّها لو وجدت في مكان الثاني لكانت قدرة على الكون فيه ، وذلك قادح في أنّ تعلقها لأمر يرجع إلى ذاتها. وهذا على طوله غير تام.

احتجت الأشاعرة بوجوه :

الأوّل : القدرة عبارة عن التمكن ، ومفهوم التمكن من هذا غير مفهوم التمكن من ذلك فتغايرت القدرة باعتبار تغاير المقدور.

الثاني : نسبة القدرة إلى الطرفين إن كانت على السويّة استحال أن تصير مصدرا لأحدهما إلّا عند مرجح ، فلا يكون مصدر الأثر إلّا المجموع ، فقبل هذه الضميمة لم يكن ذلك قدرة على الفعل. وإن لم تكن على السويّة لم تكن القدرة قدرة إلّا على الراجح (١).

الثالث : المعاني المختلفة على اختلافها لا تتعلق بالضدين ، فكذا القدرة (٢).

الرابع : العون على الشيء هو القدرة عليه ، ولا يتعلق بالضدين فكذلك القدرة (٣).

__________________

(١) انظر الوجه الأوّل والثاني في تلخيص المحصل : ١٦٧.

(٢) راجع شرح الأصول الخمسة : ٤٣٠.

(٣) استفاد الأشاعرة من هذا الدليل لإثبات مقارنة القدرة مع الفعل أيضا ، فقالوا : إنّ القدرة عون على الفعل ، فكان يجب أن تكون مقارنة له.

ثم أجاب عنه القاضي في شرح الأصول الخمسة : ٤٣٠ ـ ٤٣١.

٢٦٥

والجواب عن الأوّل : المعنى لا يختلف بتبديل لفظ القدرة بلفظ التمكن. ومفهوم التمكن من أحد الشيئين يشارك مفهوم التمكن من الآخر في مفهوم التمكن مطلقا ، وإنّما يختلفان من حيث تعلقهما تارة بهذا وتارة بذاك ، فإن كان المراد من القدرة ذلك الأمر المشترك كانت صالحة للضدين.

وإن كان المراد منها مجموع المشترك مع ما به الاختلاف لم يقع اسم القدرة على أنواعها إلّا بالاشتراك اللفظي ، ويقع على أنواع متعددة بعدد المقدورات (١) ، وهذا قول لم يصر إليه أحد من العلماء.

وعن الثاني : إنّ قولهم : «إن كانت نسبة القدرة إلى الطرفين على السويّة احتاجت إلى مرجح ، وقبل المرجح لا تكون قدرة على الفعل» ، يقتضي أن تصير القدرة مبدأ للفعل مع الزائد ، وهو عين مذهب القائلين بأنّ القدرة صالحة للضدين (٢).

والأصل فيه أنّ للفعل امكان الوجود في نفسه ، وذلك أمر ذاتي له لا يعلل ، وله وجود ، وهو المستفاد من الغير.

ثم إنّ الفعل قد لا يتأتى من كل فاعل بل من فاعل دون فاعل ، فكان من يصدر عنه الفعل له امكان الإيجاد والتأثير فيه. وكما أنّ امكان الفعل لا يكفي في وجوده من ذاته لتساوي نسبة الطرفين إليه ، كذا امكان الإيجاد من الفاعل غير كاف في الإيجاد ، وإلّا لكان الإيجاد منه واجبا ، بل يفتقر إلى ضميمة حتى يتحقق الإيجاد منه. وتلك الضميمة هي الإرادة ، فبدونها يكون الفعل ممكنا من الفاعل ، والصدور يتوقف على المشترك ، وهو امكان الفعل من الفاعل المشترك بين طرفي الوجود والعدم ، وعلى الزائد عليه وهو الإرادة.

__________________

(١) في تلخيص المحصل : ١٦٧ «يقع على أنواع تعدد المقدورات».

(٢) نفس المصدر.

٢٦٦

وكون الصدور مستحيلا من دونهما ككون الوجود مستحيلا باعتبار الإمكان المجرد عن العلة ، وكما لا يخرج الممكن عن امكانه باعتبار هذه الاستحالة ، كذا لا يخرج امكان ايجاد الفعل عن الفاعل عن امكانه باعتبار هذه الاستحالة ، لأنّ الاستحالتين مستندتان إلى عدم العلة فيهما ، وامكان الإيجاد هو القدرة أو معلولها ، فقبل هذه الضميمة التي فرضت مع الزيادة تكون القدرة موجودة ؛ لأنّا لا نعني بالقدرة الصفة الموجدة قطعا ، بل التي يصح بها الإيجاد. فهذا هو تحقيق هذا الموضع (١).

وعن الثالث : بأنّه قياس خال عن الجامع. ثم الفرق أنّ كل واحد من المختلفات ثبت بدليله ، وتعلق القدرة مختلف ، ثم ينقض عليهم بالعجز فإنّه عندهم متعلق بالضدين ، ويبطل على الكلامية بالقدرة القديمة التي أثبتوها متعلقة بالأضداد.

وعن الرابع : ليس العون على الشيء هو القدرة فقط ، وإلّا لكان الله تعالى معينا للكافر على كفره ، بل لا بدّ من اقتران الإرادة مع القدرة (٢) ، فلهذا كان العون على الشيء مخصوصا به دون ما يضاده.

المسألة الرابعة : في مبادئ الحركات الاختيارية (٣)

الحركة الاختيارية هي التي تصدر عن فاعل قادر على الفعل والترك ،

__________________

(١) راجع شرح الأصول الخمسة : ٤٢٨.

(٢) قال القاضي : «لا نسلم أنّ القدرة بمجردها عون ، وإنّما العون هو التمكين من الفعل وإرادة الفعل ، حتى لو يمكن غيره من قتل آدمي بأن يدفع إليه سكينا ولا يريد منه قتله ، وإنّما دفع إليه ذلك لأن يذبح به بقرة ، فإنّه متى قتل آدميا لم نقل : إنّه أعانه على قتله». نفس المصدر : ٤٣٠ ـ ٤٣١.

(٣) راجع شرح الاشارات ٢ : ٤١١ ـ ٤١٣ ؛ الفصل الرابع من المقالة الرابعة من الفن السادس من طبيعيات الشفاء : ٣٤٤ ؛ الفصل الخامس من المقالة السادسة من إلهيات الشفاء ؛ تعليقة صدر المتألهين على الشفاء : ١٦٤ ـ ١٦٥.

٢٦٧

وتتساوى نسبتهما إليه بحسب إرادة ترجح أحدهما على الآخر. ولها أربعة مبادئ.

الأوّل : المبدأ البعيد لها : وهي القوى المدركة ، وتلك القوى المدركة ، إمّا الخيال أو الوهم في الحيوان ، وإمّا العقل العملي بتوسّطهما في الإنسان.

الثاني : قوة الشوق : فإنّها تنبعث عن القوى المدركة وتتلوها. وتنشعب (١) إلى شوق نحو طلب ، إنّما ينبعث عن ادراك الملائمة في الشيء اللذيذ أو النافع ، ادراكا مطابقا أو غير مطابق وتسمّى شهوة. وإلى شوق نحو دفع وغلبة إنّما ينبعث عن ادراك منافاة (٢) في الشيء المكروه أو الضارّ ويسمّى غضبا.

ومغايرة هذه القوة (٣) للقوى المدركة ظاهرة ، لأنّه ليس في تلك القوى ترجّح لأحد الطرفين بخلاف هذه. وكما أنّ الرئيس في القوى المدركة الحيوانيّة هو الوهم ، كذا الرئيس في القوى المحرّكة هو هذه القوة (٤).

الثالث : الإجماع : وهو تال لقوة الشوق ، ومعنى الإجماع هو العزم الذي ينجزم بعد التردد في الفعل والترك ، وهو المسمّى بالإرادة والكراهة. وهو مغاير للقوة الشوقية ؛ لأنّ كل واحد منهما يوجد بدون صاحبه ، فإنّ الإنسان حال مرضه يريد تناول الدواء وهو لا يشتهيه ، ويكره تناول الغذاء وهو يشتهيه. وعند وجود هذا الإجماع يرجّح أحد طرفي الفعل أو الترك على صاحبه ـ اللّذين تتساوى نسبتهما إلى القادر عليهما ـ ترجحا مانعا من النقيض.

الرابع : القوة العضلية المنبثّة في مبادئ العضل المحرّكة للأعضاء ، وهي مغايرة لسائر المبادئ السابقة ، لأنّ الإنسان العاجز قد يشتاق إلى الشيء ويعزم عليه وهو غير قادر على تحريك أعضائه ، والقادر على التحريك قد لا يشتاق ولا

__________________

(١) في المخطوطة : «تنبعث» والصحيح ما أثبتناه طبقا للسياق ولشرح الاشارات.

(٢) في المخطوطة : «ملاقاة» ، والصحيح ما أثبتناه طبقا للسياق ولشرح الاشارات.

(٣) و (٤) في المخطوطة : «القوى» ، وما أثبتناه من شرح الاشارات.

٢٦٨

يعزم ، وهذه القوة هي المبدأ القريب للحركات. وفعلها تشنّج الأعصاب (١) وإرسالها ويتساوى الفعل والترك بالنسبة إليها.

المسألة الخامسة : في إبطال قول الفلاسفة (٢)

في أنّ كل جسم يصدر عنه أثر لا بالقسر ولا بالعرض فعن قوة موجودة فيه.

قالت الفلاسفة : الأجسام مشتركة في مفهوم الجسمية ومتفاوتة في الأحياز وغيرها من الآثار ؛ فإنّ بعضها تلزمه البرودة وبعضها الحرارة وغيرهما ، وتلك الآثار حادثة ممكنة فلا بدّ لها من مؤثر ، وهو إمّا الجسم ، أو محله ، أو الحال فيه ، أو المباين الذي لا نسبة له إليه بالحلول ، فلا يكون حالّا فيه ولا محلا له. والأوّل باطل لوجهين :

الأوّل : الأجسام مشتركة في مفهوم الجسمية على ما مرّ واشتراك العلّة يقتضي اشتراك المعلول ، لكن المعلول غير مشترك على ما قدّمنا من اختلاف الأجسام فيها ، فالعلة غير مشتركة ، والجسمية مشتركة فلا تكون علة.

الثاني : لو استندت هذه الآثار إلى الجسمية لدامت بدوامها ، والتالي باطل ، فالمقدم مثله ، والشرطية ظاهرة.

وكذا الثاني ؛ لأنّ هيولى العناصر مشتركة ولا تبقى الآثار ببقائها.

وأمّا الثالث ، فهو المطلوب.

__________________

(١) في شرح الاشارات وطبيعيات الشفاء : «العضل». واعلم أنّ مبادئ العضل هي الأعصاب ، والقوى المنبثة فيها هي المبادئ القريبة للحركات.

(٢) راجع شرح الاشارات ٢ : ٢٧٥ ـ ٢٧٨ ؛ المباحث المشرقية ١ : ٥٠٧ ـ ٥٠٩.

٢٦٩

وأمّا الرابع فباطل أيضا ؛ لأنّ ذلك المباين إن كان جسما أو جسمانيا عاد البحث فيه. وإن كان مفارقا مجردا عن المادة وعلائقها كانت نسبته إلى جميع الأجسام بالسويّة ، فحصول أثره في بعضها دون البعض إن كان بسبب أمر حصل لذلك الجسم واختص به لأجله استحق قبول ذلك الأثر من المفارق ، فهو المطلوب. وإن كان لا بسبب لزم ترجح أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح ، وهو محال.

والاعتراض : لم لا يستند إلى الفاعل المختار؟ بل هو الحق في ذلك ؛ فإنّ اختلاف الأجسام في الأعراض لو كان لاختلاف الصور لكان اختلاف الصور مستندا إلى سبب آخر ، لأنّ الأجسام كما اختلفت في الأعراض فهي أيضا مختلفة في هذه الصور التي هي مبادئ تلك الأعراض فاختصاصها بتلك الصورة لو كان لأجل صورة أخرى ، فإن وجبت المساوقة (١) لزم حصول علل ومعلولات غير متناهية دفعة ، وهو محال. وإن تساوقت اندفعت الحجة التي ذكرتموها ، فإنّه لو جاز اسناد كل صورة حاصلة في الحال إلى صورة سابقة عليها جاز اسناد العرض الحاصل في الحال إلى عرض سابق عليه ، وحينئذ لا يحتاج إلى اثبات الصور.

لا يقال : كل صورة حادثة فإنّها مسبوقة باستعداد سابق عليها ، وذلك الاستعداد تخصيص كل صورة استعدت بالحصول دون غيرها.

لأنّا نقول : كما أنّ الاستعداد ثابت للصور عندكم ، كذا هو ثابت للأعراض ، بل لكل حادث عندكم على الإطلاق ، فإذا كان كافيا في الصور ، فلم لا يكفي في الأعراض؟

قيل : السبب في اختصاص المادة بصورة معينة هي الصورة السابقة. ولا يمكن أن يكون السبب لوجود العرض الحاصل العرض المتقدم ، لوجهين :

__________________

(١) في المباحث المشرقية : «مسابقة».

٢٧٠

الأوّل : الماء إذا يسخن بالقسر بسبب ملاقاة النار له مثلا فانّه إذا زال القاسر عنه عادت البرودة إليه ، فعلمنا أنّ في جسم الماء شيئا محفوظ الذات عند حصول المسخّن القسري ، وهو الذي أعاد البرودة إلى الماء عند زوالها بالقسر ، فعلمنا أنّ استناد هذه الآثار إلى مباد في الأجسام. وأمّا الصور فإنّها إذا زالت لا تعود عند زوال المزيل ، فإنّ الماء إذا عرض له عارض صيره هواء فعند زوال ذلك القاسر لا يعود بطبعه ماء ، فعلمنا استناد الأعراض إلى الصور. وأمّا الصور فلا يجب استنادها إلى صور أخرى.

الثاني : العناصر الممتزجة المتفاعلة بعضها في بعض لا بدّ فيها من كسر وانكسار في الكيفيات ، والحس يدل عليه. وعلة الكسر يجب أن تكون حاصلة عند الكسر ، فلا يخلو إمّا أن يكون انكسار كيفية كل واحد منها (١) بكيفية الآخر أو بغيرها. والأوّل محال ؛ لأنّه لا يخلو إمّا أن يتقدم انكسار إحداهما بالأخرى أو يقترنا معا. والأوّل محال ؛ وإلّا لاستحال انكسار الكاسر به لأنّ المنكسر بعد انكساره صار مغلوبا فلا يعود غالبا ، مع أنّه قبل الانكسار لم يقو على الغلبة والقهر لغالبه ، فكيف يصير بعد الانقهار قاهرا؟! والثاني محال أيضا ؛ لأنّ الانكسارين لو وجدا معا لوجب وجود علتهما معا وهما الكاسران ، فحال انكسار كل منهما بصاحبه ومغلوبيته به يصير كاسرا وقاهرا ، وهذا محال للتنافي بين العلية والمعلولية. فوجب أن يكون انكسار كيفية كل من العنصرين ليس بكيفية الآخر ، بل بالصورة الموجودة في العنصر الذي هو مبدأ تلك الكيفية ، فثبت وجود هذه القوى.

والجواب عن الأوّل : قد بيّنا سبب الاختصاص ، وهو قدرة الله تعالى. وما ذكرتموه مبني على الاستقراء دون البرهان ، فإنّ الاحساس انّما يفيد حكما جزئيا. فإن

__________________

(١) في المخطوطة : «منهما» وما أثبتناه من المباحث المشرقية : ١ / ٥٠٩.

٢٧١

ادعيتم العمومية ، فهو المتنازع.

وعن الثاني : إنّ الكسر والانكسار يكونان معا ويكون المزاج بعد ذلك حاصل من الله تعالى ، أو يكون الكسر أيضا من الله تعالى. على أنّه ينتقض ما ذكرتم بامتزاج الماء الحار والبارد فانّه لا يمكن هنا المغايرة بالصورة ؛ لأنّ صورتهما واحدة ولا تقتضي السخونة. وأيضا فالصورة لا تفعل بذاتها بل بواسطة الكيفية ، ولهذا سموها بالكيفيات الفعلية وجعلوا لها مقابلا هو الكيفيات الانفعالية. ثم يلزم أن تكون الكيفيات الفعلية منفعلة فينتفي التقابل بينهما.

٢٧٢

البحث الرابع

في الخلق (١)

وهو «ملكة نفسانية تقتدر النفس معها على صدور الأفعال عنها بسهولة من غير تقدم روية» (٢).

وهي مغايرة للقدرة لتساوي نسبة القدرة إلى الضدين ، والخلق ليس كذلك. ولأنّه كيفية نفسانية بخلاف القدرة فإنّها وإن تعلقت بذوات الأنفس ، لكنّها ليست من الكيفيات النفسانية.

وليس عبارة عن نفس الفعل ؛ لأنّه قد يكون تكلفيا ويكون صادرا لا بسهولة بخلاف الخلق فانّه بمنزلة الكاتب الماهر في الكتابة فإنّ له أن يكتب متى شاء من غير أن يتروّى في حرف حرف ، وكذا العالم إذا حصل له ملكة العلم لا نعني أنّه تحضر المعلومات عنده بالفعل ، بل يكون مقتدرا على احضار معلوماته من غير رويّة.

__________________

(١) انظر البحث في الكتب التالية : الفصل السابع من المقالة التاسعة من إلهيات الشفاء : ٥٤٩ ؛ إلهيات النجاة : ٢٩٦ ؛ التحصيل : ٤٧٣ ؛ المباحث المشرقية ١ : ٥٠٩ ؛ شرح المواقف ٦ : ١٢٩ ؛ شرح المقاصد ٢ : ٣٦٣ ؛ الأسفار ٤ : ١١٤.

(٢) قال الجرجاني : «الخلق : هيئة للنفس راسخة تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية» التعريفات : ١٣٦.

٢٧٣

واعلم أنّ الأخلاق : منها فاضلة شريفة ، ومنها رذلة ناقصة. وأصول الفضائل الخلقية ثلاثة : الشّجاعة والعفّة والحكمة (١) وتجمعها العدالة ، وتجمع مقابلها الجور. ولكل واحد من هذه الثلاثة طرفان هما رذيلتان.

فالشجاعة : الخلق الذي تصدر عنه الأفعال المتوسطة بين أفعال التهور والجبن (٢) ، والشجاعة محبوسة بهما ، وهذان الطرفان رذيلتان.

وأمّا العفة : فهي الخلق الذي تصدر عنه الأفعال المتوسطة بين أفعال الفجور والخمود(٣) ، وهذان الطرفان رذيلتان ، والفضيلة (٤) محبوسة بهما.

وأمّا الحكمة : فهي الخلق الذي تصدر عنه الأفعال المتوسطة بين أفعال الجربزة والغباوة (٥) ، وهذان الطرفان رذيلتان.

وليست هذه الحكمة العملية هنا هي التي تجعل قسيمة للحكمة النظرية ، حيث يقال: الحكمة إمّا نظرية أو عملية كما توهمه بعض الناس ؛ لأنّ المراد من

__________________

(١) الشجاعة : ملكة ترتبط بالقوة الغضبية الباعثة إلى دفع الشر والضار.

العفة : ملكة ترتبط بالقوة الشهوية الباعثة إلى جذب الخير والنافع الذي يلائمه.

الحكمة : ملكة ترتبط بالقوة العقلية التي تهدي الانسان إلى الخير والسعادة وتزجره عن الشر والشقاء.

والهيئة الحاصلة من اجتماع الملكات الثلاث التي أثرها اعطاء كل ذي حقّ من القوى حقّه إذا اعتدلت سميت عدالة ، وإن خرجت إلى حدّ الإفراط سميّت ظلما ، وإن خرجت إلى حدّ التفريط سميت انظلاما.

راجع نهاية الحكمة : ١٢٣ ـ ١٢٤.

(٢) التهوّر : افراط في الشجاعة ، والجبن : تفريط فيها.

(٣) الفجور : افراط في العفّة ، والخمود : تفريط فيها. وعبّر العلامة الطباطبائي عن حدّ الإفراط في العفّة ب «الشره». نهاية الحكمة : ١٢٣.

(٤) في هامش ج : «أي العفّة».

(٥) الجربزة : افراط في الحكمة ، والغباوة والبلاهة : تفريط فيها.

٢٧٤

الحكمة العملية هنا ملكة تصدر عنها الأفعال المتوسطة بين أفعال الجربزة والغباوة. وإذا قلنا : من الحكمة ما هو نظري ، ومنها ما هو عملي ، لم نرد به الخلق ، فإنّ ذلك ليس جزءا من الفلسفة ، بل نريد معرفة الإنسان بالملكات الخلقية بطريق القياس ، أنّها كم هي؟ وما هي؟ وما الفاضل منها وما الرديء؟ وأنّها كيف تحدث من غير قصد اكتساب؟ وأنّها كيف تكتسب بقصد ومعرفة السّياسات المنزليّة والمدنيّة؟ وبالجملة المعرفة بالأمور التي إلينا (١) أن نفعلها.

وهذه المعرفة ليست غريزية ، بل متى حصلناها كانت حاصلة لنا من حيث هي معرفة وإن لم نفعل فعلا ، وإن لم نتخلّق بخلق فلا تكون أفعال الحكمة العملية الأخرى موجودة ، ولا أيضا الخلق ، وتكون لا محالة عندنا معرفة مكتسبة يقينية.

والحاصل أنّ الحكمة العملية قد يراد بها العلم بالخلق ، وقد يراد بها نفس الخلق ، وقد يراد بها الأفعال الصادرة عن الخلق ، فالحكمة العملية التي جعلت احدى الفضائل الخلقية الثلاثة هي نفس الخلق. وأيضا فالحكمة العملية بالمعنى الثاني أو الحكمة العملية بالمعنى الأوّل ليس علما بهذا الخلق فقط ، بل وبسائر الأخلاق من الشجاعة والعفة وبالسياسات أيضا ، فظهر الفرق بين البابين.

__________________

(١) في المباحث المشرقية : «لنا».

٢٧٥

الباب الثالث

في الألم واللذة

وفيه مباحث :

البحث الأوّل

في حقيقتهما (١)

زعم محمد بن زكريا الرازي أنّ اللذة : عبارة عن الخروج عن الحال

__________________

(١) انظر البحث في فصوص الحكم : ٦٤ ؛ الفصل الأخير من المقالة الثامنة والفصل السابع من المقالة العاشرة من إلهيات الشفاء ، الفصل الثالث من المقالة الثانية من الفن السادس من طبيعيات الشفاء ؛ شرح الإشارات ٣ : ٣٣٧ ؛ المباحث المشرقية ١ : ٥١٢ ؛ تلخيص المحصل : ١٧١ ؛ شرح المواقف ٦ : ١٣٤ ؛ شرح المقاصد ٢ : ٣٦٣.

وفي هذا الباب تأتي كلمات ومصطلحات ، لا بأس بتعريف بعضها من كتاب الحدود لقطب الدين النيسابوري : ٥٩ ، حيث اختص فصلا لها وعنونه ب «فصل في حدود ما يدخل تحت الألم واللذة» وهي :

الخير : ما ينتفع به الغير ، قولا أو فعلا. ونقيضه الشر.

الصلاح : ما فيه الفلاح. ـ

٢٧٦

الطبيعية (١).

وقيل : عود إلى الحالة الطبيعية بعد الخروج منها.

وقيل : الخروج عن المؤلم.

وسبب هذا الظن أخذ ما بالعرض مكان ما بالذات (٢) ؛ لأنّ اللذة إنّما تحصل بالإدراك ، والإدراك الحسي خصوصا اللمسي إنّما يحصل بانفعال المدرك عن الضد ، والكيفية إذا استقرت لم يحصل الانفعال ، فلم يحصل الشعور ، فلم

__________________

ـ النفع : اللذة الخالصة أو السرور الخالص أو ما يؤدّي إليها.

التلذّذ : إدراك المشتهى.

التألم : إدراك ما ينفر عنه.

الضرر : ما يستضرّ به. وقيل : هو الألم المحض أو الغمّ الخالص أو ما يؤدّي إليهما.

الشهوة : معنى إذا وجد ، أوجب كون الغير مشتهيا.

النفار : معنى إذا وجد ، أوجب كون الغير نافرا.

(١) النقل كذا في جميع النسخ وكتاب كشف المراد : ٢٥١ ومناهج اليقين : ١٢١ ؛ وكذلك في نقل الطوسي في تلخيص المحصل : ١٧١ ، ولكنه في نقل الرازي : «اللذة : عبارة عن الخروج عن الحالة الغير الطبيعية. والألم : عبارة عن الخروج عن الحالة الطبيعية» ، المباحث المشرقية ١ : ٥١٢ ـ ٥١٣.

قال العلّامة حسن زاده الآملي في تعليقته على كشف المراد في ذيل هذا النقل ما هذا لفظه :

«... كلمة غير [في غير الطبيعية] كما في المطبوعة زائدة. وهذا التصحيف قد تطرق في كتب أخرى كالأسفار ... ، وكالمباحث المشرقية للفخر الرازي ... ، وعبارة الأسفار مأخوذة من المباحث ، ولكن العبارة محرّفة وقد تصرف فيها من لا دراية له في فهم أساليب العبارات العلمية. والعبارة في نسخة مخطوطة من المباحث عندنا هكذا : زعم محمد بن زكريا أنّ اللذة عبارة عن الخروج عن الحالة الطبيعية وسبب هذا الظن أخذ ما بالعرض مكان ما بالذات ... الخ. وعبارة الخواجة موافقة لها. نسخة التجريد المنسوبة إلى خطّ الخواجة أيضا موافقة لما اخترناه» كشف المراد : ٥٧٢ ـ ٥٧٣.

(٢) قال ابن سينا بعد ذكر هذا السبب : «وقد عرف في كتاب سوفسطيقا أنّ هذا احدى المغالطات».

رسالة في الأدوية القلبية ، تحقيق د. محمد زهير البابا : ٢٢٨.

٢٧٧

تحصل اللذة ، فلما لم تحصل اللذة اللمسية إلّا عند تبدل الحال الغير الطبيعي ظنّ أنّ اللذة نفسها هي ذلك الانفعال ، وهذا ظن باطل ؛ لأنّ الإنسان قد يستلذ بالنظر إلى صورة جميلة لم يكن رآها ، ولا علم بها قبل ذلك حتى لا يقال : إنّ النظر يدفع ضرر الشوق ، وكذلك إذا أدرك مسألة علمية من غير طلب منه لها ولا شوق إلى تحصيلها ، أو اتفق له حصول مال عظيم أو حصول منصب جليل فانّه يلتذ بذلك وإن لم يكن متوقّعا له ولا طالبا لحصوله بحيث لا يقال : إنّ حصول هذه الأشياء أزالت ألم الطلب والشوق.

والشيخ قد عرّف اللذة بأمور متعددة تشترك في معنى الإدراك فإنّه قال في الإشارات : «اللذة : هي إدراك ونيل لوصول ما هو عند المدرك كمال وخير من حيث هو كذلك. والألم : هو إدراك ونيل لوصول ما هو عند المدرك آفة وشرّ» (١).

الإدراك : قد مضى تفسيره (٢).

والنيل : الاصابة والوجدان.

وإنّما لم يقتصر على الإدراك ؛ لأنّ الإدراك يحصل بحصول صورة مساوية للمدرك في المدرك ، والنيل لا يكون إلّا بحصول ذاته. واللذة لا تتم بحصول ما يساوي اللذيذ (٣) ، بل بحصول اللذيذ نفسه ، فلهذا عقب بالنيل ، ولم يكن هناك لفظ يقوم مقامهما بحيث يأتي به عوضهما. وقدّم الأعم الدال بالحقيقة ، وأردفه

__________________

(١) شرح الاشارات ٢ : ٣٣٧. حاصل ما يستفاد من كلمات الشيخ في هذا الموضع وما يأتي من سائر المواضع أنّه يعتبر في حصول اللذة والألم أمورا ثلاثة : الأوّل : وجود قوة مدركة ، فلا تحصل لغير ذوي الادراك. الثاني : حصول الملائم من الخير والكمال في اللذة ، وحصول المنافر من الشر والنقص في الألم. الثالث : ادراك ذاك الملائم من الخير والكمال بما أنّه ملائم ، وذاك المنافر من الشر والنقص بما أنّه منافر.

(٢) في ص : ٢٢٩ من المجلد الثاني من هذا الكتاب ، راجع أيضا شرح الاشارات ٢ : ٣٠٨.

(٣) أي بحصول الصورة.

٢٧٨

بالمخصّص الدال بالمجاز.

وقال : «لوصول ما هو عند المدرك» ولم يقل : لما هو عند المدرك ؛ لأنّ اللذة ليست ادراك اللذيذ فقط ، بل هي إدراك حصول اللذيذ للملتذ ووصوله إليه.

وقال : «لما هو عند المدرك كمال وخير» ؛ لأنّ الشيء قد يكون كمالا وخيرا بالقياس إلى شيء ، وهو لا يعتقد كماليّته وخيريّته فلا يلتذّ به ، وقد لا يكون كذلك وهو يلتذّ به لأنّه يعتقده كمالا وخيرا (١).

فإذن المعتبر كماليّته وخيريّته عند المدرك لا في نفس الأمر. والكمال والخير هنا المقيسان إلى الغير هما حصول شيء لما من شأنه أن يكون ذلك الشيء له ، أي حصول شيء يناسب شيئا ويصلح له ، أو يليق به بالقياس إلى ذلك الشيء. والفرق بينهما أنّ ذلك الحصول يقتضي لا محالة براءة ما من القوة لذلك الشيء فهو بذلك الاعتبار فقط كمال وباعتبار كونه مؤثرا خير.

وقال : «من حيث هو كذلك» ؛ لأنّ الشيء قد يكون كمالا وخيرا من جهة دون جهة ، والالتذاذ به يختص بالجهة التي هو معها (٢) كمال وخير.

فهذه ماهية اللذة ، وتقابلها ماهية الألم. وهذا أقرب إلى التحصيل من قولهم : «اللذة ادراك الملائم ، والألم ادراك المنافي» (٣).

واعترضه أفضل المتأخرين بأنّ : «تعريف اللذة بالخير الذي هو أمر وجودي

__________________

(١) فصورة الأولى مثل قوله تعالى : (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) فلا يلتذّ بما يعتقد كراهيته ، وصورة الثانية مثل قوله تعالى : (وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) فيلتذّ بما يعتقد خيريّته ، وان كان معتقده في الصورتين خلاف الواقع.

(٢) في جميع النسخ : «منها» ، وما أثبتناه من شرح الاشارات ٣ : ٣٣٨.

(٣) كذا قال الفارابي في فصوص الحكم : ٦٤ ، والشيخ ابن سينا في الفصل الخامس من المقالة الثامنة وفصل المعاد من المقالة التاسعة من إلهيات الشفاء : ٥٠٨ و ٥٤٥ ، والجرجاني في التعريفات : ٢٤٥.

٢٧٩

عند الشيخ يرجع إلى قولنا : اللذة ادراك الموجود ، وكذلك يكون الألم ادراك المعدوم. وذلك باطل ، أمّا في اللذة ، فلأنّ ادراك احتراق الأعضاء والأصوات المنكرة وما يشبهها ليست بلذّات مع أنّها موجودات. وأمّا في الألم ، فلأنّ العدم لا يحسّ به. فإن فسروا الخير باللذة أو ما يكون وسيلة إليها على ما هو المشهور رجع التعريف إلى قولنا : اللذة هي ادراك اللذة أو ما يكون وسيلة إليها. والكمال أيضا إن فسر : بحصول شيء لشيء من شأنه أن يكون له ، وكان معنى قولهم «من شأنه أن يكون له» امكان اتصافه به لزم أن يكون الجهل وسائر الرذائل كمالات» (١).

قال الشيخ : «إنّ الخير والشر قد يختلفان بحسب القياس ، فالشيء الذي هو عند الشهوة خير هو مثل المطعم الملائم والملبس (٢) الملائم. والذي هو عند الغضب خير فهو الغلبة. والذي عند العقل خير فتارة هو الحق ـ وذلك باعتبار كون العاقل قابلا عما فوقه بالقياس إلى قوته النظرية ـ وتارة الجميل ـ وذلك باعتبار انصرافه عما فوقه وتصرفه فيما دونه بالقياس إلى قوّته العملية ـ. ومن العقليات مثل (٣) الشكر ووفور المدح والحمد والكرامة.

وبالجملة الخيرات التي تكون للعقل بمشاركة سائر القوى ، وهي التي تختلف الهمم فيها لاختلاف أحوال تلك القوى. أمّا العقلي الصرف فلا يختلف البتة. وكل خير بالقياس إلى شيء ما فهو الكمال الذي يختص به وينحوه باستعداده الأوّل ؛ فإنّ الشيء إنّما يقصد ويميل إلى شيء يكون مؤثرا بالقياس إليه» (٤).

__________________

(١) شرح الاشارات ٣ : ٣٣٩.

(٢) في جميع النسخ : «الملمس» وما أثبتناه من المصدر.

(٣) في المصدر : «نيل».

(٤) نفس المصدر : ٣٤٠ ـ ٣٤١ ، مع توضيحات المحقق الطوسي.

٢٨٠