نهاية المرام في علم الكلام - ج ٢

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية المرام في علم الكلام - ج ٢

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: فاضل العرفان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-357-392-8
ISBN الدورة:
978-964-357-390-4

الصفحات: ٦١٦

في تصوره إلى تصور شيء خارج عن موضوعه أو لا يحتاج. فإن كان لا يحتاج ، فإمّا أن يكون حصوله بسبب حصول أجزائه أو لا يكون ، فالأوّل [هو الوضع] (١). والثاني لا يخلو إمّا أن يوجب ذلك العرض استعداد قبول الانقسام أو لا يوجب ، فالأوّل هو : «الكم» والثاني هو : «الكيف». فإنّا لا نعني بالكيف إلّا العرض الذي لا يحتاج تصوره إلى تصور شيء خارج عن موضوعه ولا يقتضي وقوع نسبة ولا قسمة في حامله. وأمّا العرض الذي يحتاج تصوره إلى تصور شيء خارج عن موضوعه فلا بدّ وأن تكون له نسبة إلى ذلك الخارج ، فتلك النسبة إمّا أن تكون بحيث يكون ذلك الخارج أيضا نسبة إليه ، وهذا هو : «المضاف» وإمّا أن تكون النسبة لا تقتضي ذلك ، فنقول : تلك النسبة إمّا أن تكون إلى الجواهر أو إلى الأعراض. لا جائز أن تكون إلى الجواهر ، فانّها لأنفسها لا تستحق أن تجعل لها أو إليها نسبة ، بل إنّما تستحق لأمور وأحوال تختص بها. فإذن تلك النسبة إنّما تكون إلى الأعراض ، فتلك الأعراض إمّا أن تكون من الأعراض النسبيّة أو لا تكون ، فإن كانت النسبة إلى الأعراض ، فإنّ النسبة إلى النسبة تتأدى في آخرها إلى شيء غير نسبي حتى لا يتسلسل ، فتكون النسبة بالحقيقة إنّما هي إلى أعراض غير نسبيّة ، فتكون إمّا إلى كمية أو إلى كيفية أو وضع. ثمّ إنّ الأشياء لا تنسب إلى الكميات كيف اتّفق بل إن نسبت إليها فذلك أن تجعل جوهر مكمّم مقدر لجواهر أخر ، وإنّما يقدر ذلك الآخر إمّا بمقدار ذاته أو بمقدار صفة من صفاته ؛ وقد دلّ الدليل على أنّه ليس لشيء من صفات الجسم مقدار غير مقدار الجسم إلّا للحركة ، فإن كان الجسم المتقدر بقدر غيره بمقدار ذاته ، فذلك بأن يكون حاويا

__________________

(١) في جميع النسخ بياض ، وفي هامش نسخة ق : كذا (أي بياض) في الأصل الذي بخط المصنف رحمه‌الله. ولكن أضفنا ما بين المعقوفين طبقا للمعنى وسياق التقسيم ، فالوضع في هذا التقسيم هو الأوّل ، والثاني : الكم والثالث : الكيف والرابع : المضاف والخامس : الأين والسادس : الملك والسابع : المتى والثامن : أن ينفعل والتاسع : أن يفعل.

٤٠١

له أو محويا فيه ، فإن كان بقدر غيره بمقدار حركته ، فذلك هو التقدير بالزمان. فإذن النسبة إلى الكم إمّا أن تكون نسبة إلى الحاوي أو إلى الزمان. فإن كان نسبة إلى الحاوي ، فإمّا أن تكون نسبة إلى الحاوي الذي لا ينتقل بانتقاله ، وهو : «الأين» ، أو إلى الحاوي الذي ينتقل بانتقاله ، وهو «الملك». وأمّا النسبة إلى الزمان ، فهو : «المتى». فثبت أنّ المقولات النسبيّة منبعثة (١) من النسبة إلى الكيفية.

واعلم أنّه ليس كلّ كيفية تجعل الجوهر منسوبا إلى جواهر أخر ، بل كل (٢) كيفية تكون من هذا في ذلك ومن ذلك في هذا ، نسبتها أقرّ. وإذا كان كذلك فحال الذي تكوّن فيه الكيفية هو مقولة : «أن ينفعل» ، وحال الذي تكوّن منه الكيفية هو مقولة : «أن يفعل» (٣).

وهذا الكلام على طوله لا يسمن ولا يغني من جوع ، وقد اعترف بضعفه ورداءته.

__________________

(١) الكلمة غير واضحة في النسخ ، ولعلّ الصواب ما أثبتناه.

(٢) «كل» ساقطة في المصدر.

(٣) الفصل الخامس من المقالة الثانية من مقولات منطق الشفاء. بتصرف العلّامة.

٤٠٢

البحث الثاني

في أنّ الأعراض النسبية

هل هي وجودية أم لا؟

قد مضى البحث في الإضافة (١) ، وأنّها هل هي ثبوتية أم لا؟ بقي الكلام في ما عداها. فالمتكلمون نفوها إلّا الأين ، فإنّه باتفاق المتكلّمين والحكماء أمر ثبوتي ، والحكماء أثبتوا الجميع.

احتج المتكلّمون على نفي متى بأنّه لو كان ثابتا لكان له متى ؛ لأنّه يكون أيضا واقعا في ذلك الزمان ، إذ لا وجود لتلك النسبة قبل ذلك الزمان ولا بعده بل فيه ، فتكون لها نسبة ـ بالحصول فيه ـ أخرى ، ويتسلسل (٢).

قال أفضل المحقّقين : «نسبة الشيء إلى الزمان كنسبته إلى المكان ، ونسبته إلى المكان عند المتكلم ثبوتية. وأمّا النسبة فتلحقهما بعد ثبوتهما» (٣).

وفيه نظر ، فإنّ النسب تختلف باختلاف المنسوب إليه فلا يجب التماثل.

__________________

(١) في البحث الخامس من مباحث المضاف.

(٢) نقد المحصل : ١٣١.

(٣) نفس المصدر : ١٣٢.

٤٠٣

وأيضا الزمان عند المتكلّمين ليس أمرا حقيقيا ، بل هو راجع إلى النسب المعقولة.

وأمّا الوضع ، فإن عني به ما لكل واحد من أجزاء الجسم من الأين ومماسّة الغير ، فلا نزاع في ثبوته ؛ لكنّهم لم يقصدوا به ذلك. وإن عنى به أمر وراء ذلك قائم بمجموع الأجزاء ، فهو محال ؛ لأنّ تلك الهيئة إمّا أن تكون واحدة في نفسها فيلزم من قيامها بالجسم ذي الأجزاء الكثيرة قيام العرض الواحد بالمحال الكثيرة. ولانّه يلزم اتصاف كلّ واحد من أجزاء الجسم بهيئة كله ، هذا خلف. أو لا تكون كذلك ، بل تنقسم إلى أقسام يقوم بكل واحد من أجزاء الجسم كلّ واحد من أجزائها ، فعند اجتماع تلك الأجزاء في ذات تلك الأمور إمّا أن تحصل للمجموع هيئة وراء ما لكلّ واحد من الأجزاء ، فحينئذ يعود المحال ، أو لا تحصل وذلك يقتضي نفي كون الوضع أمرا وجوديا.

لا يقال : لم لا يجوز أن يقال : إنّه عرضت لتلك الأجزاء وحدة باعتبارها صارت واحدة ، وحينئذ لا يلزم من قيام هيئة الوضع بها قيام الواحد بأكثر من الواحد؟

لأنّا نقول : الاشكال في كيفية قيام تلك الوحدة بها كالاشكال في قيام هيئة الوضع بها ؛ فإن كان ذلك بسبب وحدة أخرى سابقة ، لزم التسلسل.

قال أفضل المحقّقين : «الهيئة المسماة بالوضع إنّما تحصل في الأجزاء بعد صيرورتها جملة واحدة ، وكذلك الزاوية والشكل ، وليس ذلك حلول للعرض (١) الواحد في محالّ كثيرة ، إنّما هو حلول عرض واحد في محل واحد ينقسم باعتبار غير اعتبار وحدته ، ولم يدل على استحالة ذلك دليل.

وأمّا الوحدة ، فهي التي تجعل المجموع واحدا ، إذا (٢) اعتبر فيه عدم

__________________

(١) في المصدر : «العرض».

(٢) في المصدر : «وإذا».

٤٠٤

الانقسام بوجه ما مثلا كالعشرة ، فانّها لا تنقسم من حيث هي عشرة وإن انقسمت من حيث هي آحاد هي أجزاء العشرة. وقد تتكرر الوحدة حين يقال وحدة واحدة ؛ ولا يلزم منه اثنينية (١) ، فإنّ موضوع الوحدة الأولى هو الشيء الذي يقال له إنّه واحد ، وموضوع الوحدة الثانية هو الوحدة الأولى. وإذا لم تتكثّر الموضوعات في مرتبة واحدة لم يحصل من الوحدات عدد ، وليس قيام الوحدة بالموضوع المنقسم محتاجا إلى وحدة تسبقها ، بل هي اعتبار عدم الانقسام فيها من حيث اعتبار كونها ذلك المجموع ، ولا يلزم التسلسل» (٢).

وفيه نظر ، فإنّ الوحدة لو لم تحتج في قيامها بالكثرة إلى وحدة تسبقها ، لزم قيام العرض الواحد بالمحال المتكثرة ، وهو محال ، وإلّا لزم انقسامه ، أو حلول العرض الواحد في محالّ متعددة ، أو خلو بعض الأجزاء عن الحالّ وحلوله في بعض من غير أولوية. ولو جاز ذلك جاز حلول هيئة الوضع في المركب من غير افتقار إلى اتصافه بوحدة تسبقه. وتفسير الوحدة باعتبار عدم الانقسام ، يقتضي كون الوحدة عدمية ، وهي ثبوتية عندهم.

ثمّ كيف يعقل عدم اعتبار الانقسام في محلّ منقسم لو لا اتصافه بأمر باعتباره عرض هذا الاعتبار العقلي؟ واسناد هذا الاعتبار إلى اعتبار كونها ذلك المجموع يدل على افتقاره إلى اعتبار به صارت الأجزاء واحدة هي ذلك المجموع ، لكن الكلام في ذلك المجموع من أنّه إمّا واحد أو كثير كالكلام في الوضع والوحدة. فظهر أنّ التسلسل لازم.

وأمّا الملك فإنّه لو كان ثبوتيا لزم التسلسل ؛ لافتقار النسب إلى محل ، فلها نسبة إليه ويتسلسل ، كما تقدم.

__________________

(١) في المصدر : «ثبوته».

(٢) نفس المصدر : ١٣٤ ـ ١٣٥.

٤٠٥

وأمّا مقولتا أن يفعل وأن ينفعل ، فليستا وجوديتين ، لأنّ كون الشيء موصوفا بغيره إن كان زائدا على ذات الموصوف وذات الصفة كان أيضا حاصلا في ذات الموصوف ، فيلزم أن يكون اتصافه بتلك الموصوفية زائدا عليه ، ويلزم التسلسل.

وأيضا (١) تأثير المؤثر في الأثر لو كان ثبوتيا لكان عرضا ؛ لاستحالة كون المؤثرية جوهرا قائما بذاته ، لأنّه من الاعراض النسبية التي لا تعقل إلّا بين شيئين ، فكيف يعقل قيامها بذاتها؟! فتكون مفتقرة إلى المؤثر ، فتأثير المؤثر في ذلك التأثير يكون زائدا عليه ، ويتسلسل. ومع تسليمه فالمقصود حاصل ؛ لأنّا نقول : إذا كان بين كلّ مؤثر وأثر واسطة هي التأثير حتى افترضت هناك أمور غير متناهية يكون كلّ سابق منها علّة للاحق ، فتلك الأمور إمّا أن تكون متلاقية ، أو لا يكون شيء منها متلاقيا ، ونعني بالتلاقي أن يفرض مؤثر ومتأثر لا واسطة بينهما. فإن كانت متلاقية بأن يوجد أمران منها لا يتوسطهما شيء ويكون أحدهما مؤثرا والآخر أثرا ، فحينئذ لا يكون تأثير ذلك المؤثر في ذلك الأثر زائدا على ذات المؤثر وذات الأثر ، فلا يكون تأثير الأوّل في الثاني زائدا عليهما ، وكذا تأثير الثاني في الثالث ، والثالث في الرابع ، وهكذا ، فلا يكون شيء من تأثيرات المؤثرات زائدا على ذات المؤثر وذات الأثر ، فلا تكون المؤثرية ثبوتية ، وهو المطلوب ، ولا تكون هناك جملة تزيد على المؤثر والأثر ، لا متناهية ولا غير متناهية ، وهو خلاف الفرض.

وإن لم يوجد متلاقيان البتة ، بل كلّ أمرين فرضا بينهما ثالث ، كان معناه

__________________

(١) هذا الاستدلال من الرازي في المباحث المشرقية ١ : ٥٨٤. وقال صدر المتألهين في رده : «هذا الكلام بطوله قد نشأ من سوء فهم بعض أصول الحكمة ، كمسألة الوجود وزيادته على الماهية الخ» ، راجع الأسفار ٤ : ٢٢٦.

٤٠٦

أنّه لا يوجد هناك ما تكون ذاته مؤثرة في ذات شيء ، فيكون هذا نفيا للمؤثرية.

فظهر من ذلك أنّ المؤثرية لا يجوز أن تكون صفة ثبوتية.

وأمّا المتأثرية ، وهي : قبول الأثر من مؤثره ، فنقول : إنّه يمتنع كونها ثبوتية ، وإلّا لزم التسلسل ؛ لأنّ قبول الذات لتلك القابلية تستدعي قابلية أخرى سابقة ، والكلام في تلك القابلية كالكلام في هذه ، ويتسلسل.

وأيضا نقول : إمّا أن يكون بين كلّ أمرين فرضا تلاق أو لا يكون ، ونسوق ما قلناه في المؤثرية إلى المتأثرية بعينه.

احتج من أثبتهما بأنّ المفهوم من كون الشيء مؤثرا أو قابلا ، غير المفهوم من الذات التي حكم عليها بكونها مؤثرة وكونها أثرا ؛ لأنّ تعقل ذات النار ، وتعقل ذات الاحراق غيرها ، وتعقل تأثير النار في الاحراق ووقوع الاحراق بالنار غيرها. فهذه المؤثرية والمتأثرية أمران زائدان على الذات المؤثرة والمتأثرة ، وليسا مفهومين سلبيين ؛ لأنّا نعلم بالضرورة أنّ اللامؤثرية واللاقابلية عدميان فمقابلهما ثبوتي. وليس ذلك أيضا من الأمور العرضية غير المطابقة للخارج ، وإلّا لم يكن الشيء في نفسه مؤثرا ولا أثرا. فإذن هذه المؤثرية والمتأثرية أمران وجوديان زائدان ، وهو المطلوب.

والجواب : الزيادة في التعقل لا تقتضي الزيادة في الخارج. وكون النقيضين عدميين يقتضي كونهما محصلين ، أمّا وجوديين في الخارج فلا ، كما نقول في الجهات بعينه.

قال أفضل المحقّقين : «التأثير الذي هو المقولة ليس كلّ تأثير اتّفق ، بل التأثير الصادر عن المؤثر في زمان غير قارّ الذات ، كقطع السكين اللحم ، فانّ

٤٠٧

الجزءين منه لا يقعان في زمان واحد ، والهيئة (١) الحاصلة للسكين ـ حين يقال له : هو ذا يقطع لا قبله ولا بعده ـ هي المرادة بأن يفعل. وقس عليه الانفعال. والنسبة إنّما تعرض للعقل بين القاطع والمقطوع» (٢).

وفيه نظر ، فإنّ هذا الكلام غير مفيد في المطلوب ، ولا دافع للتسلسل الذي ذكره.

__________________

(١) في المصدر : «فالهيئة».

(٢) نقد المحصل : ١٣٢.

٤٠٨

القاعدة الثالثة

في تقسيم المحدثات على رأي المتكلمين

٤٠٩
٤١٠

قال المتكلّمون : المحدث إمّا أن يكون متحيزا أو قائما بالمتحيز ، أو لا متحيزا ولا قائما به ، وهذا الثالث أنكره الجمهور من المتكلّمين (١).

وأقوى ما لهم فيه : أنّا لو فرضنا موجودا غير متحيز ولا حالّ فيه لكان مساويا لذات الله تعالى فيه ، ويلزم من الاستواء فيه الاستواء في تمام الماهية.

وهذا ضعيف ؛ لأنّ الاشتراك في السلوب لا يقتضي التماثل ، وإلّا لزم تماثل المختلفات ؛ لأنّ كلّ مختلفين لا بدّ وأن يشتركا في سلب ما عداهما عنهما.

قال أفضل المحقّقين : «الأقدمون من المتكلمين قالوا : المتحيز هو الجوهر ، والحالّ فيه هو العرض ، والموجود الذي لا يكون جوهرا ولا عرضا هو الله تعالى.

وعلى هذا الوجه قالوا باستحالة وجود محدث غير متحيز ولا حالّ فيه ، لا كما قاله(٢) ، فإنّ ذلك لا يقوله عاقل» (٣).

__________________

(١) قال : «إلّا شرذمة قليلة منهم غير محقّقين ، قالوا بوجود البقاء وإرادة الله تعالى ، وكراهيته لا في محلّ. وابن شبيب ـ من المتكلّمين ـ قال بوجود البقاء لا في محلّ» ، مناهج اليقين : ٢٣. ولذا عبّر هنا ب «الجمهور من المتكلّمين» وفي أنوار الملكوت ب «أكثر المتكلّمين» ، ص ١٨. وممّن أنكر الثالث إبراهيم بن نوبخت ، حيث قال : «الجوهر : هو المتحيز ، والعرض : الحالّ في المتحيز. ولا واسطة بينهما» نفس المصدر : ١٧. وقال القاضي عبد الجبار : «المحدث لا يخرج عن أن يكون حالا أو محلا» ، المحيط بالتكليف : ٩٧. وقال الايجي : «الحادث إمّا متحيز أو حال في المتحيز ... وما ليس متحيزا ولا حالا فيه لم يثبت وجوده عندنا» ، شرح المواقف ٢ : ٧٣ ـ ٧٤.

(٢) الرازي.

(٣) نقد المحصل : ١٤٢.

٤١١

وفيه نظر ، فإنّ دعوى انحصار الموجود الذي لا يكون جوهرا ولا عرضا في الله تعالى إنّما يتم لو نفوا الموجود المجرد غير الله تعالى.

إذا عرفت هذا فنقول : المتحيز إمّا أن يقبل الانقسام أو لا ، والثاني هو الجوهر الفرد ، ولا يسمى جسما إلّا عند بعضهم فإنّه جعل المتحيز جسما سواء انقسم أو لا ، وعلى هذا يقول المجسّم : الله تعالى جسم ولا يقول بصحّة تجزيه.

والأوّل هو الجسم عند أبي الحسن الأشعري ، فإنّه جعل الجسم هو المتحيز المنقسم مطلقا. وأقلّ ما يحصل من جوهرين عنده (١). وليس بمتعارف عند الجمهور (٢) ؛ لأنّ المشهور من الجسم أنّه : الطويل العريض العميق ، أو المنقسم في الجهات الثلاث ، فالمتألف من جوهرين عند المعتزلة «خط» ، ومن أربعة «سطح» (٣) ، لأنّه يحصل من ضمّ خط إلى خط ـ لا في سمت الطول ـ ، ومن ثمانية «جسم» ؛ لأنّه يحصل بوقوع سطح على سطح. وعند الكعبي أقلّ ما يحصل منه الجسم أربعة جواهر ثلاثة كمثلث ورابعها فوقها ويصير بها كمخروط ذي أربعة أضلاع مثلثات (٤). وقال بعضهم من ستة جواهر ، بأن يقع سطح مثلث من ثلاثة جواهر على مثله ، وتحصل الأبعاد الثلاثة فيه ، وهو مذهب أبي الهذيل

__________________

(١) هذا ما اتّفق عليه الأشاعرة ، واختلفوا في أنّ الجسم هل هو مجموع الجزءين المتألفين ـ بأن يكون التأليف شرطا لحصول الجسم ـ ، أو كلّ واحد منهما جسم ، راجع مقالات الإسلاميين : ٣٠٢ ؛ أنوار الملكوت : ١٨ ؛ الباقلاني وآرائه الكلامية : ٣٣٦.

(٢) أي المعتزلة والفلاسفة. ومن المعتزلة النظام ومعمّر وأبو هذيل العلاف وضرار بن عمرو الجبائي.

نفس المصادر.

(٣) فهما (الخط والسطح) واسطتان بين الجوهر الفرد والجسم عند المعتزلة ، وداخلتان في الجسم عند الأشاعرة.

(٤) أنوار الملكوت : ١٨.

٤١٢

العلاف (١). والباقون من المعتزلة قالوا : أقله من ثمانية جواهر يتألف ، كمكعب ذي أضلاع ستة مربعات. والفلاسفة اعتبروا في الجسم الأبعاد الثلاثة المتقاطعة على زوايا قائمة (٢).

وأمّا الحالّ في المتحيز فهو العرض (٣) ، وهو إمّا أن يجوز اتصاف غير الحي به أو لا.

أمّا الأوّل فهو المحسوس بإحدى الحواس الخمس والأكوان.

أمّا المحسوسة ، فمنها : المحسوسة بالبصر إحساسا أوّليا ، وهي الألوان والأضواء. ومنها : المحسوسة بالسمع ، وهي الأصوات والحروف. ومنها : المحسوسة بالذوق ، وهي الطعوم التسعة. ومنها : المحسوسة باللمس ، وهي الحرارة والبرودة ، والرطوبة واليبوسة ، والثقل والخفة ، والصلابة واللين.

والأعراض التي لا يوصف غير الحي بها عشرة :

الأوّل : الحياة ، الثاني : القدرة ، الثالث : الاعتقاد ، الرابع : الظن ، الخامس : النظر ، السادس : الإرادة ، السابع : الكراهية ، الثامن : الشهوة ، التاسع : النفرة ، العاشر : الألم. فالمشهور عندهم من الأعراض عشرون :

الأوّل : الأكوان ، الثاني : الطعوم ، الثالث : الروائح ، الرابع : الحرارة ، الخامس : البرودة ، السادس : الرطوبة ، السابع : اليبوسة ، الثامن : الألوان ، التاسع :

__________________

(١) مقالات الإسلاميين : ٣٠٢ ـ ٣٠٣.

(٢) شرح الإشارات ٢ : ٥ ـ ٦.

(٣) راجع المحيط بالتكليف للقاضي عبد الجبار : ٣٦ ؛ نقد المحصل : ١٤٣ ـ ١٤٤ ؛ كشف الفوائد : ٨٩ ؛ مناهج اليقين : ٢٤.

٤١٣

الاعتماد ، العاشر : الصوت ، والعشرة السابقة. وأثبت البصريون من المعتزلة : الفناء (١) والتأليف (٢). والكلام في هذه القاعدة يقع على نوعين :

__________________

(١) قال المصنف : «وأثبت أبو هاشم الفناء بمعنى يضاد الجواهر» ، كشف الفوائد : ١٠٢.

(٢) وقال المصنف : «أثبته أبو هاشم وأصحابه عرضا قائما بمحلين لا أزيد الخ» ، نفس المصدر : ٩٥.

وهو ضم بعض الأجزاء الموجودة في الجسم إلى بعض ، شرح المواقف ٧ : ١١. فهو عرض يقتضي صعوبة تفكيك الأجزاء كالحديد مثلا ، أو سهولته كالماء والدهن.

٤١٤

النوع الأوّل

في الجواهر (١)

وفيه مقدمة ، وفصول :

أمّا المقدمة

ففي حقيقة الجوهر

الجوهر يطلق بالاشتراك على الموجود لا في موضوع ، وهو رأي الحكماء (٢) ، والثاني: المتحيز الذي لا يقبل القسمة العقلية ولا الفرضية والوهمية (٣).

والجوهرية عند مشايخ المعتزلة : أمر زائد على ذاته يسمونها صفة للجنس ، بها (٤) يخالف ما يخالف ويماثل ما يماثل ، وهي ثابتة وجودا وعدما عند أكثرهم. ومنع أبو القاسم الكعبي من تسمية المعدوم جوهرا وعرضا وجعله شيئا ومعلوما ومقدورا وثابتا.

__________________

(١) والنوع الثاني في الأعراض ، ج ٣ ، ص ٢٦١.

(٢) الفصل الأوّل من المقالة الثانية من إلهيات الشفاء : ٣١٢ (فصل في تعريف الجوهر).

(٣) وهو رأي المتكلّمين ، أنوار الملكوت : ١٧. وهو المسمّى ب «الجوهر الفرد» ، كشف الفوائد : ٨١.

(٤) ج : «بهما».

٤١٥

واختلف الشيخان ، فقال أبو علي الجبائي : إنّ الجوهر الفرد لا حظ له في المساحة ، وجعل مساحته بغيره ، كما أنّ طوله بغيره ، وبه قال أبو القاسم الكعبي. وقال أبو هاشم : إنّ له حظا في المساحة. واتّفقا على أنّه ليس له حظ في الطول والعرض خلافا لبعض المعتزلة، لأنّ الطول تأليف مخصوص ولهذا يقال : طولت الحديد إذا فعلت فيه تأليفات مخصوصة ، وإذا قلنا في أحد الشيئين إنّه أطول من غيره فليس المراد منه كثرة التأليف دون أن تنضاف إليه الأجزاء أيضا ، فإذا صحّ ذلك وكان التأليف ممّا يستحيل وجوده في المنفرد من الأجزاء لم يكن له حظ من الطول ولا من العرض.

٤١٦

الفصل الأوّل

في الجوهر الفرد (١)

وفيه مباحث

__________________

(١) الجوهر الفرد عند المتكلّمين هو العنصر الأوّل في تكوين الأجسام الذي لا يقبل التجزئة والانقسام.

وهو الذي يسمّى اليوم ب «الذرة» (Atom) وهو في الفيزياء والكيمياء أصغر جزء من أجزاء المادة العنصرية. ولا يمكن تجزئته ، ومع فرض تجزئته ، كما أثبتته العلوم الحديثة إلى نواة تحمل شحنات كهربائية موجبة تسمّى البروتونات ، وشحنات كهربائية سالبة تسمى الكترونات ونواة لا تحمل شحنات كهربائية تسمّى نيوترونات وهكذا إلى أجزاء أخرى ، لا تصدق عليه لفظة الذرة ، لأنّها موضوعة للجزء الذي لا يتجزأ.

وانتهت بحوث الذرة في عصرنا الراهن بالقنبلة الذرية والخدمات السلمية للطاقة الذرية.

وممن ذهب إلى وجود الذرة من قدماء اليونان : «اليوقبس» و «ديمقريطس». وقال بهذا المذهب في الهند مدرسة فيشسكا ، وأصحاب مذهب الجينا (Jaina) وبعض المدارس البوذية.

وربما كان أوّل من دعا من المسلمين إلى هذا المذهب أبا هذيل العلاف ، وتبعه في ذلك من المعتزلة : معمّر بن عبّاد ، هشام الفوطي ، الجبائيان ، الكعبي ، الصالحي ، القاضي عبد الجبار ، ابن متويه ، النيسابوري ، ومن الأشاعرة : الباقلاني ، الأسفراييني ، البغدادي ، الجويني ، اللقاني ، السنوسي وغيرهم ، ومن الماتريدية : أبو منصور الماتريدي ، البزدوي ، أبو المعين النسفي ، نجم الدين النسفي ، الصابوني ، كمال بن الهمام ، البياضي ، وغيرهم.

وكان هشام بن الحكم والنظّام والجاحظ والخياط وابن حزم والفلاسفة يخالفون المذهب الذري وينفون الجزء الذي لا يتجزأ ، وقد نقل انّ هشام بن الحكم قد ترك هذه المخالفة كما يأتي من المصنف في ابطال الطفرة. ويظهر من بعض الشخصيات تردّدهم بين القول بالجوهر ـ

٤١٧

البحث الأوّل

في ثبوته (١)

اعلم أنّ الأجسام منها بسيطة غير مؤلفة من أجسام غيرها البتة كالماء والأرض ، وإمّا مركبة من أجسام أخر ، إمّا مختلفة كالحيوان ، أو غير مختلفة كالسرير. والمؤلفة ، لها أجزاء بالفعل هي مفردات أو تنتهي إليها. والمفرد لا شكّ في أنّه قابل للقسمة ، فلا يخلو إمّا أن تكون الانقسامات الممكنة حاصلة فيه بالفعل أو لا ، وعلى التقديرين فتلك الأجسام إمّا متناهية أو غير متناهية ، فهنا احتمالات أربعة (٢) :

__________________

ـ الفرد أو نفيه ، ومنهم : الغزالي وسيف الدين الآمدي وفخر الدين الرازي ، راجع التصور الذري في الفكر الفلسفي الإسلامي : ١٦.

والمتكلّمون منهم من يرى انّ العالم مؤلف من جواهر فردة ، بعضها ذرات روحية وبعضها ذرات مادية ، بخلاف ما يراه الفلاسفة من أنّ العالم مؤلف من هيولى وصورة ، راجع مقالات الإسلاميين : ٥٩ ؛ مذاهب الإسلاميين ١ : ١٨٢ ـ ١٨٤.

(١) أنظر البحث في شرح الرازي على الإشارات ، بداية النمط الأوّل ؛ طبيعيات النجاة : ١٠٢ ؛ الفصل الثالث من المقالة الثالثة من الفن الأوّل من طبيعيات الشفاء : ٨٥ ؛ أنوار الملكوت : ١٩.

(٢) قال الرازي : «لا مزيد عليها». أنظر المناقشة في عدد الاحتمالات في شرح قطب الدين الرازي على شرح الاشارات ٢ : ٨ ؛ شرح المواقف ٧ : ٦.

٤١٨

الأوّل : أن يكون الجسم مؤلفا من أجزاء لا تتجزأ متناهية ، وهو مذهب جماعة من قدماء الحكماء وأكثر المتكلّمين.

الثاني : أن يكون مؤلفا من أجزاء لا تتجزأ غير متناهية ، وهو مذهب بعض القدماء من الحكماء والنظّام من المعتزلة (١).

الثالث : كونه غير متألف من الأجزاء بالفعل لكنّه يقبل انقسامات متناهية لا غير ، وهو مذهب الشهرستاني (٢).

الرابع : كونه غير متألف من أجزاء بالفعل لكنّه يقبل انقسامات غير متناهية ، وهو مذهب الجماهير من الحكماء (٣).

احتج مثبتوا الجزء بوجوه (٤) :

__________________

(١) من قدماء الحكماء : انكسافراطيس (٤٠٠ ـ ٣١٤ ق. م) ، كما في المباحث المشرقية ٢ : ١٦ ؛ شرح المواقف ٧ : ٥. وهو تلميذ أفلاطون وصديقه. وقال أبو الحسين الخيّاط : «وإنّما أنكر إبراهيم [النظّام] أن تكون الأجسام مجموعة من أجزاء لا تتجزأ وزعم أنّه ليس من جزء من الأجسام إلّا وقد يقسمه الوهم بنصفين» ، الانتصار : ٣٣.

(٢) في كتاب له سمّاه بالمناهج والبينات ، وذهب إليه الرازي في كتابه الموسوم بالجوهر الفرد ، كما في شرح الإشارات ٢ : ٩ ؛ نقد المحصل : ١٨٣ ؛ كشاف اصطلاحات الفنون ١ : ٢٥٩.

(٣) وهو مذهب الرئيس ابن سينا أيضا تبعا لأرسطوطاليس. وقال في شرح مذهبه : «يجب أن تعلم أنّه قول أرسطو طاليس بانّ الجسم يتجزأ إلى ما لا نهاية ، ليس يعني به أنّه يتجزأ أبدا بالفعل الخ» ، راجع رسالة الأجوبة عن مسائل البيروني ، المسألة الرابعة.

(٤) أنظر الوجوه في الكتب التالية : الفصل الثالث من المقالة الثالثة من طبيعيات الشفاء ١ : ١٨٤ ـ ١٨٨ ؛ المباحثات : ٣٦٣ ـ ٣٦٤ ؛ المعتبر ٢ : ٢٤ ؛ المباحث المشرقية ٢ : ٣٣ ـ ٣٨ ؛ شرح الرازي على النمط الأوّل من الإشارات ؛ المطالب العالية ٦ : ٢٩ وما يليها ؛ مناهج اليقين : ٢٥ ـ ٢٦ ؛ نقد المحصل : ١٨٤ وما يليها ؛ كشف الفوائد : ٨٣ ـ ٨٥ ؛ شرح المواقف ٧ : ١٣ ـ ٢٠.

٤١٩

الوجه الأوّل (١) : الزمان مركب من أجزاء لا تتجزأ ، فالحركة كذلك ، فالجسم كذلك. أمّا الأوّل ، فلأنّه منقسم بالضرورة فمنه ماض ومنه مستقبل ، فإن لم يكن للحاضر وجود أصلا كان الزمان الموجود إمّا ماض وإمّا مستقبل لكنّهما معدومان ، فإنّ الماضي هو الذي كان موجودا ثمّ عدم ، والمستقبل هو الذي لم يوجد بعد ، فلو لم يكن الحاضر موجودا لزم أن لا يكون للزمان وجود البتة والتالي باطل ، فالمقدّم مثله. فثبت أنّ هنا زمانا حاضرا ، فنقول : ذلك الحاضر إن كان منقسما كان بعضه ماضيا أو مستقبلا والآخر حاضرا ، فلا يكون كلّ الحاضر حاضرا بل بعضه ، هذا خلف ، وإن لم يكن منقسما ثبت المطلوب. فإذا عدم ذلك الآن فلا يخلو إمّا أن لا يوجد عقيبه زمان أو يوجد ، فإن لم يوجد لزم انقطاع الزمان ، وهو باطل ، وإن وجد فإمّا أن يكون منقسما ، أو غير منقسم ، والأوّل باطل لما تقدم ، فثبت التالي ، فيلزم وجود آن عقيب الآن الأوّل وهكذا في كلّ زمان يفرض يجب أن يتركب من الآنات ، فقد ثبت وجود الآن وتركب الأزمنة من الآنات التي لا تقبل القسمة بوجه من الوجوه البتة.

فنقول : الحركة أيضا كذلك ؛ لأنّ الحركة الواقعة في الآن الذي لا يتجزأ ، إمّا أن تكون منقسمة أو غير منقسمة ، والأوّل باطل ، وإلّا لوجب انقسام الزمان المطابق لها ، لأنّ زمان نصف الحركة نصف زمان كلّها ، لكنّا فرضنا ذلك الزمان لا نصف له فوجب أن لا يكون للحركة نصف أيضا ، فثبت الثاني وهو أنّ في الحركة ما لا ينقسم ، فإذا عدمت تلك الحركة ثمّ وجدت أخرى في آن آخر وجب أن لا

__________________

(١) استدل الرازي بهذا الوجه وقال : «القول بالجوهر الفرد حق» ، معالم أصول الدين : ٣٥. ودافع عنه في المطالب العالية واختاره في المحصل والتفسير الكبير والأربعين وكتابه الموسوم بالجوهر الفرد. وأنكره في المباحث المشرقية وشرح الإشارات. وتوقف فيه في الملخص ونهاية العقول ، كان يقول : إنّه ليس أوّل من توقف في هذه المعضلة ، بل سبقه إمام الحرمين وأبو الحسين البصري.

٤٢٠