أبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري
المحقق: علي محمد البجاوي ومحمد ابوالفضل ابراهيم
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٨
وقال أيضا (١) :
فاضمم قواصيهم إليك فإنه |
|
لا يزخر الوادى بغير شعاب (٢) |
والسهم بالريش اللّؤام ولن ترى |
|
بيتا بلا عمد ولا أطناب (٣) |
وقال ابن الرومى :
وطائف باسته على طبق |
|
يبغى لها حربة يشقّ لها |
معاملا كلّ سفلة سفلت |
|
ولا يرى علية يعاملها |
قلت له لم هواك فى سفل الن |
|
ناس وشرّ الأمور سافلها |
أفرقة وافقتك طاعتها |
|
أم عصبة فضلّت غراملها |
قال وجدت الكعوب من قصب الس |
|
كر مختارها أسافلها |
واست الفتى سفلة فغايتها |
|
ووكرها سفلة يشاكلها |
وقول بشار (٤) :
فلا تجعل الشّورى عليك غضاضة |
|
فإن الخوافى (٥) قوة للقوادم |
وقول الفرزدق (٦) :
تصرّم منى ودّ بكر بن وائل |
|
وما كاد لو لا ظلمهم يتصرّم |
قوارص تأتينى ويحتقرونها |
|
وقد يملأ القطر الإناء فيفعم |
وقال أبو تمام (٧) :
غدا الشيب مختطّا بفودىّ خطة |
|
طريق الرّدى منها إلى النفس مهيع (٨) |
هو الزور يجفى والمعاشر يجتوى |
|
وذو الإلف يقلى والجديد يرقّع (٩) |
__________________
(١) ديوانه : ٢١.
(٢) القواصى : البعيدون. زخر : ارتفع ماؤه. الشعاب : الطرق فى الجبل.
(٣) اللؤام : الجيد الالتئام. الأطناب : حبال يشد بها سرادق البيت.
(٤) ديوانه : ٨٤.
(٥) الخوافى : ما دون الريشات العشر من مقدم الجناح.
(٦) ديوانه : ١٢٠.
(٧) ديوانه : ١٩٠.
(٨) الفود : جانب الرأس. الخطة : الطريقة. المهيع : الطريق الواضح.
(٩) الزور : الزائر.
له منظر فى العين أبيض ناصع |
|
ولكنّه فى القلب أسود أسفع |
ونحن نرجّيه على السخط والرضا |
|
وأنف الفتى من وجهه وهو أجدع |
وقال (١) :
لى حرمة والت علىّ سجالكم |
|
والماء رزق جمامه للأول (٢) |
وقال آخر :
أعلق بآخر من كلفت بحبه |
|
لا خير فى حب الحبيب الأول |
أتشكّ فى أن النبىّ محمدا |
|
خير البرية وهو آخر مرسل |
وقال أبو تمام ، فى خلاف ذلك (٣) :
نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى |
|
ما الحبّ إلا للحبيب الأوّل |
كم منزل فى الأرض يألفه الفتى |
|
وحنينه أبدا لأوّل منزل |
وقال ديك الجن فى المعنى الأول :
اشرب على وجه الحبيب المقبل |
|
وعلى الفم المتبسّم المتقبّل |
شربا يذكر كل حبّ آخر |
|
غضّ وينسى كل حبّ أول |
نقّل فؤادك حيث شئت فلن ترى |
|
كهوى جديد أو كوصل مقبل |
ما إن أحنّ إلى خراب مقفر |
|
درست معالمه كأن لم يؤهل |
مقتى لمنزلى الّذى استحدثته |
|
أما الّذى ولى فليس بمنزلى |
وقال العلوى الأصبهانى :
دع حبّ أول من كلفت بحبّه |
|
ما الحبّ إلا للحبيب الآخر |
ما قد تولى لا ارتجاع لطيبه |
|
هل غائب اللذات مثل الحاضر |
إنّ المشيب وقد وفى بمقامه |
|
أوفى لدىّ من الشّباب الغادر |
دنياك يومك دون أمسك فاعتبر |
|
ما السالف المفقود مثل الغابر |
__________________
(١) ديوانه : ٢٣٨.
(٢) السجال : الدلاء المملوءة. الجمام : معظم الماء.
(٣) ديوانه : ٤٥٧.
وقال آخر ، فى خلاف القولين :
قلبى رهين بالهوى المقتبل |
|
فالويل لى فى الحبّ إن لم أعدل |
أنا مبتلى ببليّتين من الهوى |
|
شوق إلى الثانى وذكر الأول |
فهما حياتى كالطّعام المشتهى |
|
لا بدّ منه وكالشّراب السلسل |
قسم الفؤاد لحرمة وللذّة |
|
فى الحبّ من ماض ومن مستقبل |
إنى لأحفظ عهد أول منزل |
|
أبدا وآلف طيب آخر منزل |
وقال آخر فى خلاف الجميع :
الحبّ للمحبوب ساعة حبّه |
|
ما الحبّ فيه لآخر ولأوّل |
وقلت :
كان لى ركن شديد |
|
وقعت فيه الزلازل |
زعزعته نوب الدّه |
|
ر وكرّات النوازل |
ما بقاء الحجر الصل |
|
د على وقع المعاول |
وتدخل أكثر هذه الأمثلة فى التشبيه أيضا.
الفصل الثانى والثلاثون
فى التعطف
التعطف |
والتعطف أن تذكر اللّفظ ثم تكرره ، والمعنى مختلف ، قالوا : وأول من ابتدأه امرؤ القيس ، فى قوله :
إلا إنّنى بال على جمل بال |
|
يسوق بنا بال ويتبعنا بال |
أول من ابتداه |
وليس هذا من التعطف على الأصل الذى أصّلوه ؛ وذلك أن الألفاظ المكررة فى هذا البيت على معنى واحد يجمعها البلى فلا اختلاف بينها ، وإنما صار كل واحد منها صفة لشيء ، فاختلفت لهذه الجهة لا من جهة اختلافها فى معانيها ؛ وكذلك قول الآخر (١) :
عود على عود على عود خلق (٢)
وإنما التعطف على أصلهم ، كقول الشماخ (٣) :
كادت تساقطنى والرّحل إذ نطقت |
|
حمامة فدعت ساقا على ساق |
أى دعت حمامة ، وهو ـ ذكر القمارى ويسمى الساق عندهم ـ على ساق شجرة ؛ وقول الأفوه (٤) :
وأقطع الهوجل مستأنسا |
|
بهوجل عيرانة عنتريس (٥) |
فالهوجل الأول : الأرض البعيدة الأطراف ، والهوجل الثانى : الناقة العظيمة الخلق.
مما يدخل فى التعطف |
ومما يدخل فى التعطف ما أنشدنا أبو أحمد ، قال : أنشدنا أبو عبد الله المفجع ، قال : أنشدنا أبو العباس ثعلب (٦) :
__________________
(١) اللسان (عود).
(٢) العود الأول رجل مسن ، والثانى جمل مسن ، والثالث طريق.
(٣) ديوانه : ٧٠.
(٤) ديوانه : ١٦.
(٥) العيرانة : الناجية من الإبل. والعنتريس : الناقة الصلبة.
(٦) القصيدة فى اللسان (خول) ، مع اختلاف فى الرواية وعدد الأبيات.
أتعرف أطلالا شجونك بالخال |
|
وعيش ليال كان فى الزّمن الخالى (١) |
الخال : موضع. والخالى ، من الخلوة (٢).
ليالى ريعان الشّباب مسلّط |
|
علىّ بعصيان الإمارة والخال |
يعنى أنه يعصى أمر من يلى أمره وأمره من ينصحه ليصلح حاله ، وهو من قولهم : فلان خال مال ، إذا كان يقوم به ويصلحه.
وإذ أنا خدن للغوىّ أخى الصّبا |
|
وللمرح الذّيال واللهو والخال (٣) |
الخال هاهنا : من الخيلاء وهو الكبر.
إذا سكنت ربعا رئمت رباعها |
|
كما رئم الميثاء ذو الرثية الخالى (٤) |
الخالى : الذى لا أهل له.
ويقتادنى ظبى رخيم دلاله |
|
كما اقتاد مهرا حين يألفه الخالى |
الخالى : الذى يقطع الخلا وهو النبات الرطب.
ليالى سلمى تستبيك بدلّها |
|
وبالمنظر الفتان والجيد والخال |
الخالى : الذى يرشم على الخد شبيه الشامة.
وقد علمت أنى وإن ملت للصّبا |
|
إذا القوم كعّوا لست بالرّعش الخالى |
الخالى : الذى لا أصحاب معه يعاونونه (٥) :
ولا أرتدى إلا المروءة حلّة |
|
إذا ضن بعض القوم بالعصب والخال |
الخال : ضرب من البرود.
وإن أنا أبصرت المحول ببلدة |
|
تنكبتها واشتمت خالا إلى خال |
الخال : السحابة المخيلة للمطر.
__________________
(١) فى اللسان : «وعيش زمان كان فى العصر الخالى».
(٢) فى اللسان : «الماضى».
(٣) الذى فى اللسان : «وللغزل المريح ذى اللهو والخال». المريح : الكثير المراح والنشاط ، والذيال : الطويل الذيل.
(٤) الرئم ، من رئمت الناقة ولدها إذا عطفت عليه ، ولزمته ، والميثاء : الأرض اللينة. والرئية : الحمق والفتور والضعف.
(٥) فى اللسان : «المنخرب : الضعيف».
فخالف (١) بخلقى كلّ حرّ مهذب |
|
وإلّا فصارمه وخال إذا خال (٢) |
المخالاة : قطع الحلف ، يقال : أخلّ من فلان ، وتخلّ منه ، أى فارقة ؛ وقال النابغة :
قالت بنو عامر خالوا بنى أسد |
|
فإنى حليف للسماحة والنّدى |
إذا احتلفت عبس وذبيان بالخال |
الخال : موضع.
ومثله :
يا طيب نعمة أيام لنا سلفت |
|
وحسن لذة أيام الصبا عودى |
أيام أسحب ذيلى فى بطالتها |
|
إذا ترنّم صوت الناى والعود |
وقهوة من سلاف الخمر صافية |
|
كالمسك والعنبر الهندى والعود |
تسلّ عقلك فى لين وفى لطف |
|
إذا جرت منك مجرى الماء فى العود |
ومن هذا النوع ، قول أبى تمام (٣) :
السيف أصدق أنباء من الكتب |
|
فى حدّه الحدّ بين الجدّ واللعب |
ولم أجد منه شيئا فى القرآن إلا قوله تعالى : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ). والله أعلم.
__________________
(١) كذا فى ا ، وفى ط «فخالق».
(٢) فى اللسان : «وإلا تحالفنى فخال إذن خال».
(٣) ديوانه : ٧.
الفصل الثالث والثلاثون
فى المضاعفة
المضاعفة مثالها من القرآن |
وهو أن يتضمّن الكلام معنيين : معنى مصرّح به ، ومعنى كالمشار إليه ؛ وذلك مثل قول الله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ) فالمعنى المصرّح به فى هذا الكلام أنه لا يقدر أن يهدى من عمى عن الآيات ، وصمّ عن الكلم البينات ؛ بمعنى أنه صرف قلبه عنها فلم ينتفع بسماعها ورؤيتها ؛ والمعنى المشار إليه أنه فضّل السمع على البصر ، لأنه جعل مع الصمم فقدان العقل ، ومع العمى فقدان النظر فقط.
مثالها من النثر |
ومن نثر الكتاب ما كتب به الحسن بن وهب : كتابى إليك ، وشطر قلبى عندك ، والشطر الآخر غير خلو من تذكّرك ، والثناء على عهدك ، فأعطاك الله بركة وجهك ، وزاد فى علوّ قدرك ، والنعمة عندك وعندنا فيك.
فقوله : «بركة وجهك» فيه معنيان : أحدهما أنه دعا له بالبركة ؛ والآخر أنه جعل وجهه ذا بركة عظيمة ، ولعظمها عدل إليها فى الدعاء عن غيرها من بركات المطر وغيره ؛ ومثله قول أبى العيناء : سألتك حاجة فرددت بأقبح من وجهك ؛ فتضمن هذا اللّفظ قبح وجهه وقبح رده.
مثالها من المنظوم |
ومن المنظوم قول الأخطل :
قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم |
|
قالوا لأمهم بولى على النّار |
فأخبر عن إطفاء النار ، فدل به على بخلهم ، وأشار إلى مهانتهم ، ومهانة أمهم عندهم.
وقول أبى تمام (١) :
يخرج من جسمك السّقام كما |
|
أخرج ذمّ الفعال من عنقك |
__________________
(١) ديوانه : ٢١١.
يسحّ سحّا (١) عليك حتى يرى |
|
خلقك فيها أصحّ من خلقك |
فدعا له بالصحة وأخبر بصحة خلقه ، فهما معنيان فى كلام واحد.
وقال جحظة :
دعوت فأقبلت ركضا إليك |
|
وخالفت من كنت فى دعوته |
وأسرعت نحوك لما أمرت |
|
كأنّى نوالك فى سرعته |
وقال ابن الرومى :
بنفس أبت إلّا ثبات عقودها |
|
لمن عاقدته وانحلال حقودها |
ألا تلكم النفس التى تم فضلها |
|
فما نستزيد الله غير خلودها |
فذكر تمام فضلها وأراد خلودها ؛ ومن ذلك قول الآخر (٢) :
نهبت من الأعمار ما لو حويته |
|
لهنّئت الدنيا بأنك خالد |
وكتب بعضهم : فإن رأيت صلتى بكتابك العادل عندى رؤية كلّ حبيب سواك وتضمينه من حوائجك ما أسر بقضائه فعلت إن شاء الله. فقوله : «سواك» مضاعفة.
نوع آخر منها |
ومن هذا الباب نوع آخر ، وهو أن تورد الاسم الواحد على وجهين وتضمنه معنيين كل واحد منهما معنى ، كقول بعضهم :
أفدى الّذى زارنى والسيف يخفره |
|
ولحظ عينيه أمضى من مضاربه |
فما خلعت نجادى فى العناق له |
|
حتى لبست نجادا من ذوائبه |
فجعل فى السيف معنيين : أحدهما أن يخفره ، والآخر أن لحظه أمضى من مضاربه.
وضرب منها |
وضرب منه آخر قول ابن الرومى :
بجهل كجهل السّيف والسيف منتضى |
|
وحلم كحلم السيف والسّيف مغمد |
وضرب منه قول مسلم :
وخال كخال البدر فى وجه مثله |
|
لقينا المنى فيه فحاجزنا البذل |
__________________
(١) يسح : يسيل.
(٢) أبو الطيب المتنبى ، ديوانه : ١ ـ ٢٧٧.
الفصل الرابع والثلاثون
فى التطريز
التطريز |
وهو أن يقع فى أبيات متوالية من القصيدة كلمات متساوية فى الوزن ، فيكون فيها كالطّراز فى الثوب ، وهذا النوع قليل فى الشعر.
أحسن ما جاء منه |
وأحسن ما جاء فيه قول أحمد بن أبى طاهر :
إذا أبو قاسم جادت لنا يده |
|
لم يحمد الأجودان : البحر والمطر |
وإن أضاءت لنا أنوار غرّته |
|
تضاءل الأنوران : الشمس والقمر |
وإن مضى رأيه أو حدّ عزمته |
|
تأخر الماضيان : السيف والقدر |
من لم يكن حذرا من حدّ صولته |
|
لم يدر ما المزعجان : الخوف والحذر |
فالتطريز فى قوله : «الأجودان» ، و «الأنوران» ، و «الماضيان» ، و «المزعجان».
ونحوه قول أبى تمام (١) :
أعوام وصل كاد ينسى طولها |
|
ذكر النوى فكأنها أيام |
ثم انبرت أيام هجر أردفت |
|
نجوى أسى فكأنها أعوام |
ثم انقضت تلك السنون وأهلها |
|
فكأنهم وكأنها أحلام |
وقلت فى مرثية :
أصبحت أوجه القبور وضاء |
|
وغدت ظلمة القبور ضياء |
يوم أضحى طريدة للمنايا |
|
ففقدنا به الغنى والغناء |
يوم ظلّ الثرى يضم الثريّا |
|
فعدمنا منه السّنا والسناء |
__________________
(١) ديوانه : ٢٧٩.
يوم فاتت به بوادر شؤم |
|
فرزينا به الثّرى والثراء |
يوم ألقى الرّدى عليه جرانا |
|
فحرمنا منه الجدا والجداء |
يوم ألوت به هنات الليالى |
|
فلبسنا به البلى والبلاء |
ومن ذلك قول زياد الأعجم :
ومتى يؤامر نفسه مستلحيا (١) |
|
فى أن يجود لذى الرجاء يقل جد |
أو أن يعود له بنفحة نائل |
|
يعد الكرامة والحياء يقل عد |
أو فى الزيادة بعد جزل عطية |
|
للمستزيد من العفاة يقل زد |
__________________
(١) فى ا «مستخلبا»
الفصل الخامس والثلاثون
فى التلطف
التلطف |
وهو أن تتلطف للمعنى الحسن حتى تهجّنه ، والمعنى الهجين حتى تحسنه ؛ وقد ذكرت طرفا منه فى أوّل الكتاب ، إلا أنى لم أسمّه هناك بهذا الاسم فيشهر به ويكون بابا برأسه ، كإخوانه من أبواب الصنعة.
مثاله من النثر |
فمن ذلك أن يحيى بن خالد البرمكى قال لعبد الملك بن صالح : أنت حقود ؛ فقال : إن كان الحقد عندك بقاء الخير والشر فإنهما عندى لباقيان. فقال يحيى : ما رأيت أحدا احتجّ للحقد حتى حسّنه غيرك. وقد مر هذا الفصل فى أول الكتاب.
ورأى الحسن على رجل طيلسان صوف ، فقال له : أيعجبك طيلسانك هذا؟ قال : نعم ، قال : إنه كان على شاة قبلك ، فهجّنه من وجه قريب.
وأخبرنا أبو أحمد ، قال : أخبرنا الصولى ، قال : حدثنا محمد بن القاسم أبو العيناء ، قال : لما دخلت على المتوكل دعوت له ، وكلمته فاستحسن كلامى ؛ وقال لى : يا محمد ؛ بلغنى أنّ فيك شرا ، قلت : يا أمير المؤمنين ، إن يكن الشّرّ ذكر المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته ، فقد زكّى الله عزوجل وذم؟ فقال فى التزكية : (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) ؛ وقال فى الذم : (هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ، عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ) ، فذمه الله تعالى حتى قذفه ؛ وقد قال الشاعر :
إذا أنا بالمعروف لم أثن دائما |
|
ولم أشتم الجبس اللّئيم المذمّما |
ففيم عرفت الخير والشرّ باسمه |
|
وشقّ لى الله المسامع والفما |
وفى الخبر بعض طول.
وكان عبد الله بن أمية وسم دوابّه «عدّة» ، فلما جاز بها الحجاج جعل إلى جانبه «للفرار». وقيل لعبادة : إن السّودان أسخن ، فقال : نعم ، للعيون. وقال رجل
لرجل كان يراه فيبغضه : ما اسمك؟ فقال : سعد ، قال : على الأعداء. وسمعت والدى رحمهالله يقول : لعن الله الصبر فإن مضرته عاجلة ، ومنفعته آجلة ، يتعجّل به ألم القلب ، بأمثال المنفعة فى العاقبة ؛ ولعلها تفوتك لعارض يعرض ، فكنت قد تعجلت الغم من غير أن يصل إليك نفع ؛ وما سمعت هذا المعنى من غيره ، فنظمته بعد ذلك ، فقلت :
الصّبر عمن تحبّه صبر |
|
ونفع من لام فى الهوى ضرر |
من كان دون المرام مصطبرا |
|
فلست دون المرام أصطبر |
منفعة الصّبر غير عاجلة |
|
وربما حال دونها الغير |
فقم بنا نلتمس مآربنا |
|
أقام أو لم يقم بنا القدر |
إنّ لنا أنفسا تسودنا |
|
أعانهنّ الزمان أو يذر |
وابغ من العيش ما تسرّ به |
|
إن عذل الناس فيه أو عذروا |
مثاله من المنظوم |
ومن المنظوم قول الحطيئة فى قوم كانوا يلقبون بأنف الناقة فيأنفون ، فقال فيهم (١) :
قوم هم الأنف والأذناب غيرهم |
|
ومن يسوّى بأنف الناقة الذنبا |
فكانوا بعد ذلك يتبجحون بهذا البيت.
ومدح ابن الرومى البخل وعذر البخيل ، فقال :
لا تلم المرء على بخله |
|
ولمه يا صاح (٢) على بذله |
لا عجب بالبخل من ذى حجى |
|
يكرم ما يكرم من أجله |
وعذر أبو العتاهية البخيل فى منعه منه ، بقوله (٣) :
جزى البخيل علىّ صالحة |
|
عنّى بخفته على ظهرى |
أعلى فأكرم عن نداه يدى (٤) |
|
فعلت ونزّه قدره قدرى |
ورزقت من جدواه عارفة |
|
ألّا يضيق بشكره صدرى |
__________________
(١) ديوانه : ٦.
(٢) فى ا «يا أخ»
(٣) ديوان الحماسة : ٢٤٦ ، أسرار البلاغة : ١٤
(٤) فى ديوان الحماسة : «عن يديه يدى».
وظفرت منه بخير مكرمة |
|
من بخله من حيث لا يدرى |
ما فاتنى خير امرئ وضعت |
|
عنّى يداه مئونة الشكر |
وقال ابن الرومى ، يعذر إنسانا فى المنع :
أجمعت حسرى أياديك التى ثقلت |
|
على الكواهل حتى أدّها ذاكا |
وما مللت العطايا فاسترحت إلى |
|
إغبابهم بل هم ملوا عطاياكا |
وما نهتهم عن المرعى وخامته |
|
لكنه أسبق الرّاعين مرعاكا |
تدبّر الناس ما دبّرته فإذا |
|
عليهم لا على الأموال بقياكا |
أمسكت سيبك إضراء لرغبتهم |
|
وما بخلت ولا أمسكت إمساكا |
وكان شمّ الورد يضرّه ، فكان يذمّه ويمدح النرجس ، واحتال فى تشبيهه ، حتى هجّن فيه أمره وطمس حسنه وهو قوله :
وقائل لم هجوت الورد معتمدا |
|
فقلت من بغضه عندى ومن عبطه |
كأنه سرم بغل حين يخرجه |
|
عند الرياث وباقى الروث فى وسطه |
ومثله قول يزيد المهلبى :
ألا مبلغ عنى الأمير محمدا |
|
مقالا له فضل على القول بارع |
لنا حاجة إن أمكنتك قضيتها |
|
وإن هى لم تمكن فعذرك واسع |
وقال ابن الرومى أيضا :
وإنى لذو حلف كاذب |
|
وإذا ما اضطررت وفى الأمر ضيق |
وما فى اليمين على مدفع |
|
يدافع بالله ما لا يطيق |
وقد فرغنا من شرح أبواب البديع ، وتبيين وجوهها وإيضاح طرقها ؛ والزيادة التى زدنا فيها ستّة فصول ، وأبرزناها فى قوالبها من الألفاظ من غير إخلال ولا إهذار. وإذا أردت أن تعرف فضلها على ما عمل فى معناها قبلها ، فمثل بينها وبينه فإنك تقضى لها عليه ، ولا تنصرف بالاستحسان عنها إليه ، إن شاء الله.
المشتق |
وقد عرض لى بعد نظم هذه الأنواع ، نوع آخر لم يذكره أحد وسميته المشتق ،
وجهاه |
وهو على وجهين ؛ فوجه منهما أن يشتق اللفظ من اللفظ ، والآخر أن يشتق المعنى من اللفظ ، فاشتقاق اللفظ من اللفظ ، هو مثل قول الشاعر فى رجل يقال له ينخاب :
وكيف ينجح من نصف اسمه خابا
وقلت ، فى البانياس (١) :
فى البانياس إذا أوطئت ساحتها |
|
خوف وحيف وإقلال وإفلاس |
وكيف يطمع فى أمن وفى دعة |
|
من حل فى بلد نصف اسمه ياس |
واشتقاق المعنى من اللفظ ، مثل قول أبى العتاهية :
حلقت لحية موسى باسمه |
|
وبهارون إذا ما قلبا |
وقال ابن دريد (٢) :
لو أوحى النحو إلى نفطويه |
|
ما كان هذا النحو يقرا عليه (٣) |
أحرقه الله بنصف اسمه |
|
وصير الباقى صراخا عليه |
__________________
(١) فى ا : «الباسيان».
(٢) ديوانه ١١١.
(٣) رواية الديوان :
لو أنزل الوحى على نفطويه |
|
لكان ذاك الوحى سخطا عليه |
الباب العاشر
فى ذكر مبادئ الكلام ومقاطعه والقول فى حسن الخروج والفصل
والوصل وما يجرى مجرى ذلك
الفصل الأوّل
فى ذكر المبادئ
حسن ابتداءات وقبحها |
أمثلة |
قال بعض الكتّاب : أحسنوا معاشر الكتّاب الابتداءات فإنهن دلائل البيان. وقالوا : ينبغى للشاعر أن يحترز فى أشعاره ، ومفتتح أقواله ؛ مما يتطيّر منه ، ويستجفى من الكلام والمخاطبة والبكاء ووصف إقفار الديار وتشتيت الألّاف ونعى الشباب وذمّ الزمان ؛ لا سيّما فى القصائد التى تتضمن المدائح والتهانى. ويستعمل ذلك فى المراثى ، ووصف الخطوب الحادثة ؛ فإن الكلام إذا كان مؤسسا على هذا المثال تطيّر منه سامعه ، وإن كان يعلم أن الشاعر إنما يخاطب نفسه دون الممدوح ، مثل ابتداء ذى الرّمة (١) :
ما بال عينك منها الماء ينسكب |
|
كأنه من كلى مفرية سرب (٢) |
وقد أنكر الفضل بن يحيى البرمكى على أبى نواس ابتداءه (٣) :
أربع البلى إن الخشوع لبادى |
|
عليك وإنى لم أخنك ودادى |
قال فلما انتهى إلى قوله :
سلام على الدّنيا إذا ما فقدتم |
|
بنى برمك من رائحين وغاد |
وسمعه استحكم تطيّره ، وقيل : إنه لم يمض أسبوع حتى نكبوا.
ومثله ما أخبرنا به أبو أحمد ، قال : حدثنا الصولى ، قال : حدثنا محمد بن العباس
__________________
(١) الجمهرة : ٣٦٠
(٢) الكلى : جمع كلية ، والمفرية : المحزوزة ، والسرب : الجارى.
(٣) ديوانه ٧٣
اليزيدى ، قال : حدثنى عمى عن أخيه أبى محمد ، قال : لما فرغ من بناء قصره بالميدان الذى كان للعباسية ، جلس فيه وجمع الناس من أهله وأصحابه ، وأمر أن يلبس الناس كلّهم الديباج ، وجعل سريره فى الإيوان المنقوش بالفسافسا الذى كان فى صدره صورة العنقاء ، فجلس على سرير مرصّع بأنواع الجواهر ، وجعل على رأسه التاج الذى فيه الدرّة اليتيمة ، وفى الإيوان أسرّة آبنوس عن يمينه وعن يساره ، من عند السرير الذى عليه المعتصم إلى باب الإيوان ؛ فكلما دخل رجل رتّبه هو بنفسه فى الموضع الذى يراه ، فما رأى الناس أحسن من ذلك اليوم ، فاستأذنه إسحاق بن إبراهيم فى النّشيد فأذن له ؛ فأنشده شعرا ما سمع الناس أحسن منه فى صفته وصفة المجلس ؛ إلّا أن أوله تشبيب بالديار القديمة ، وبقية آثارها فكان أول بيت منها :
يا دار غيّرك البلى فمحاك |
|
يا ليت شعرى ما الّذى أبلاك |
فتطيّر المعتصم منها ، وتغامز الناس ، وعجبوا كيف ذهب على إسحاق مع فهمه وعلمه وطول خدمته للملوك ؛ قال : فأقمنا يومنا هذا ، وانصرفنا ، فما عاد منا اثنان إلى ذلك المجلس ، وخرج المعتصم إلى سرّ من رأى ، وخرب القصر.
وأنشد البحترى أبا سعيد قصيدة أولها (١) :
لك الويل من ليل تطاول آخره |
|
ووشك نوى حىّ تزم أباعره |
فقال أبو سعيد : بل الويل والحرب لك! فغيّره وجعله «له الويل» وهو رديء أيضا.
وأنشد أبو حكيمة أبا دلف :
ألا ذهب الأير الذى كنت تعرف
فقال أبو دلف : أمّك تعرف ذلك.
وأنشد أبو مقاتل الداعى :
لا تقل بشرى ولكن بشريان |
|
غرّة الداعى ويوم المهرجان |
فأوجعه الداعى ضربا ، ثم قال : هلا قلت : «إن تقل بشرى فعندى بشريان».
__________________
(١) ديوانه : ١ ـ ١١.
فإن أراد أن يذكر دارا فليذكرها كما ذكرها الخريمى :
ألا يا دار دام (١) لك الحبور |
|
وساعدك الغضارة والسرور |
وكما قال أشجع :
قصر عليه تحية وسلام |
|
نشرت عليه جمالها الأيام |
وقالوا : أحسن ابتداءات الجاهلية قول النابغة (٢) :
كلينى لهمّ يا أميمة ناصب |
|
وليل أقاسيه بطىء الكواكب |
وأحسن مرثية جاهلية ابتداء قول أوس بن حجر (٣) :
أيّتها النفس أجملى جزعا |
|
إنّ الذى تحذرين قد وقعا |
قالوا : وأحسن مرثية إسلامية ابتداء قول أبى تمام (٤) :
أصمّ بك الناعى وإن كان أسمعا |
|
وأصبح مغنى الجود بعدك بلقعا |
وقول الآخر :
أنعى فتى الجود إلى الجود |
|
ما مثل من أنعى بموجود |
أنعى فتى مصّ الثرى بعده |
|
بقية الماء من العود |
وقد بكى امرؤ القيس واستبكى ، ووقف واستوقف ، وذكر الحبيب والمنزل فى نصف بيت ، وهو قوله (٥) :
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
فهو من أجود الابتداءات.
ومن أحكم ابتداءات العرب قول السموأل (٦) :
إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه |
|
فكلّ رداء يرتديه جميل |
وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها |
|
فليس إلى حسن الثناء سبيل |
__________________
(١) فى ط : «دار» ، وهذه رواية ا
(٢) ديوانه : ٢
(٣) شعراء النصرانية : ٤٩٢.
(٤) ديوانه : ٣٧٤.
(٥) مطلع المعلقة.
(٦) ديوان الحماسة : ١ ـ ٢٨.
وقال بعضهم : أحكم ابتداءاتهم قول لبيد (١) :
ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل |
|
وكلّ نعيم لا محالة زائل |
وبعضهم يجعل ابتداء هذه القصيدة (٢) :
ألا تسألان المرء ما ذا يحاول |
|
أنحب فيقضى أم ضلال وباطل |
ومن جياد ابتداءات أهل الجاهلية قول أوس بن حجر :
ولقد أبيت بليلة كليالى
ومنها قول النابغة (٣) :
دعاك الهوى واستجهلتك المنازل |
|
وكيف تصابى المرء والشيب شامل |
ونحوه قول أمية (٤) :
يا نفس مالك بعد الله من واق |
|
وما على حدثان الدهر من راق |
من غير الجاهلية |
وقالوا : وكان عبد الحميد الكاتب لا يبتدئ «بلولا» ولا «إن رأيت».
وقد جعل الناس قول أبى تمام (٥) :
يا بعد غاية دمع العين إن بعدوا |
|
هى الصبابة طول الدهر والسهد |
من جياد الابتداءات ، وقوله (٦) :
سعدت غربة النّوى بسعاد |
|
فهى طوع الاتهام والإنجاد |
وسئل بعضهم عن أحذق الشعراء ، فقال : من يتفقد الابتداء والمقطع.
ولما نظر أبو العميثل فى قصيدة أبى تمام (٧) :
أهنّ عوادى يوسف وصواحبه |
|
فعزما فقدما أدرك الثأر طالبه |
استرذل ابتداءها وأسقط القصيدة كلها ، حتى صار إليه أبو تمام ، ووقفه على موضع الإحسان منها ، فراجع عبد الله بن طاهر ، فأجازه.
__________________
(١) ديوانه : ٨٠
(٢) الخزانة : ١ ـ ٣٤٠.
(٣) الخزانة : ١ ـ ٣٤٠.
(٤) ديوانه : ٤٣.
(٥) ديوانه : ٩٦.
(٦) ديوانه : ٧٥.
(٧) ديوانه : ٤٣.
ولأبى تمام ابتداءات كثيرة تجرى هذا المجرى ، منها قوله (١) :
قدك اتّأب أربيت فى الغلواء |
|
كم تعذلون وأنتم سجرائى (٢) |
وقوله :
صدقت لهيّا قلبك المستهتر |
|
فبقيت نهب صبابة وتذكّر (٣) |
ومن الابتداءات البديعة |
ومن الابتداءات البديعة قول مسلم :
أجررت ذيل خليع فى الهوى غزل |
|
وشمّرت همم العذّال فى عذلى |
وقال أبو العتاهية :
ننافس فى الدنيا ونحن نعيبها
والابتداء أول ما يقع فى السمع من كلامك ، والمقطع آخر ما يبقى فى النفس من قولك ، فينبغى أن يكونا جميعا مونقين.
ابتداءات المتنبى |
وقد استحسن لبعض المتأخرين ابتداؤه (٤) :
أريقك أم ماء الغمامة أم خمر |
|
بفىّ برود وهو فى كبدى جمر |
وله بعد ذلك ابتداءات المصائب ، وفراق الحبائب ، منها قوله (٥) :
كفى أرانى ويك لومك ألوما |
|
همّ أقام على فؤادى أنجما (٦) |
وقوله (٧) :
أبا عبد الإله معاذ إنى |
|
خفىّ عنك فى الهيجا مقامى |
وقوله (٨) :
هذى برزت لنا فهجت رسيسا |
|
ثم انصرفت وما شفيت نسيسا (٩) |
وقوله (١٠) :
جللا كما بى فليك التّبريح |
|
أغذاء ذا الرّشإ الأغن الشيح |
__________________
(١) ديوانه : ٢.
(٢) قدك : حسبك. واتئب : استحى. والسجراء : الأصدقاء.
(٣) اللهيا ، تصغير اللهو.
(٤) أبو الطيب المتنبى : ٢ ـ ١٢٣.
(٥) ديوانه : ٤ ـ ٢٧.
(٦) أنجم : أقلع.
(٧). ٤ ـ ٤٤.
(٨). ٢ ـ ١٩٣.
(٩) هذى : منادى ، يريد : يا هذه. والرسيس : بداية الحب. والنسيس : بقية الروح الذى به الحياة.
(١٠) ١ ـ ٢٤٣.