كتاب الصّناعتين الكتابة والشعر

أبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري

كتاب الصّناعتين الكتابة والشعر

المؤلف:

أبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري


المحقق: علي محمد البجاوي ومحمد ابوالفضل ابراهيم
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٨

ومن النثر قول بعضهم : فإنّ أهل الرأى والنّصح لا يساويهم ذو الأفن والغشّ ، وليس من جمع إلى الكفاية الأمانة ، كمن أضاف إلى العجز الخيانة. فجعل بإزاء الرأى الأفن وبإزاء الأمانة الخيانة ؛ فهذا على وجه المخالفة.

وقيل للرشيد : إن عبد الملك بن صالح يعدّ كلامه ، فأنكر ذلك الرشيد ، وقال : إذا دخل فقولوا له : ولد لأمير المؤمنين فى هذه الليلة ابن ومات له ابن ، ففعلوا. فقال : سرّك الله يا أمير المؤمنين فيما ساءك ، ولا ساءك فيما سرك ، وجعلها واحدة بواحدة ، ثواب الشاكر ، وأجر الصابر ؛ فعرفوا أنّ بلاغته طبع.

وكتب جعفر بن محمد بن الأشعث إلى يحيى بن خالد يستعفيه من عمل : شكرى لك على ما أريد الخروج منه شكر من نال الدخول فيه.

وكتب بعض الكتاب إلى رجل : فلو أن الأقدار إذ رمت بك فى المراتب إلى أعلاها بلغت بك من أفعال السؤدد منتهاها لوازنت مساعيك مراقيك ، وعادلت النعمة عليك النعمة فيك ، ولكنك قابلت رفيع المراتب بوضيع الشّيم ؛ فعاد علوّك بالاتفاق إلى حال دونك بالاستحقاق ، وصار جناحك فى الانهياض (١) إلى مثل ما عليه قدرك فى الانخفاض ؛ ولا عجب أن القدر أذنب فيك فأناب ، وغلط بك فعاد إلى الصواب ؛ فأكثر هذه الألفاظ مقابلة وقال الجعدى (٢) :

فتى كان فيه ما يسرّ صديقه

على أنّ فيه ما يسوء الأعاديا

وقال آخر (٣) :

وإذا حديث ساءنى لم أكتئب

وإذا حديث سرنى لم أشر (٤)

وهذا فى غاية التقابل.

ومن مقابلة المعانى بعضها لبعض ، وهو من النوع الذى تقدم فى أول الفصل قول الآخر :

وذى أخوة قطّعت أقران بينهم

كما تركونى واحدا لا ألحاليا

__________________

(١) انهياض الجناح : انكساره

(٢) نهاية الأرب : ٧ ـ ١٠٢

(٣) نقد الشعر : ٧٩.

(٤) الأشر : المرح والبطر.

٣٤١

وقول الآخر (١) :

أسرناهم وأنعمنا عليهم

وأسقينا دماءهم الترابا

فما صبروا لبأس عند حرب

ولا أدّوا لحسن يد ثوابا

فجعل بإزاء الحرب أن لم يصبروا ، وبإزاء النعمة أن لم يثيبوا ؛ فقابل على وجه المخالفة.

وقال آخر (٢) :

جزى الله عنا ذات بعل تصدقت

على عزب حتى يكون له أهل

فإنا سنجزيها بمثل فعالها

إذا ما تزوجنا وليس لها بعل

فجعل حاجته وهو عزب بحاجتها وهى عزب ، ووصاله إياها فى حال عزبتها ، كوصالها إياه فى حال عزبته ؛ فقابل من جهة الموافقة.

ومن سوء المقابلة قول امرئ القيس (٣) :

فلو أنها نفس تموت سويّة

ولكنها نفس تساقط (٤) أنفسا

ليس «سوية» بموافق «لتساقط» ولا مخالف له ، ولهذا غيّره أهل المعرفة فجعلوه «جميعة» ؛ لأنه بمقابلة «تساقط» أليق.

فساد المقابلة

وفساد المقابلة أن تذكر معنى تقتضى الحال ذكرها بموافقة أو مخالفة ، فيؤتى بما لا يوافق ولا يخالف ، مثل أن يقال : فلان شديد البأس ، نقى الثغر ، أو جواد الكف ، أبيض الثوب. أو تقول : ما صاحبت خيّرا ، ولا فاسقا ، وما جاءنى أحمر ، ولا أسمر. ووجه الكلام أن تقول : ما جاءنى أحمر ولا أسود ، وما صاحبت خيّرا ولا شريرا ، وفلان شديد البأس ، عظيم النكاية ، وجواد الكفّ ، كثير العرف. وما يجرى مع ذلك ؛ لأن السمرة لا تخالف السواد غاية المخالفة ، ونقاء الثغر لا يخالف شدة البأس ولا يوافقه ، فاعلم ذلك وقس عليه.

__________________

(١) نقد الشعر : ٨٠ ، ونسبهما إلى الطرماح.

(٢) نقد الشعر : ٨٠.

(٣) ديوانه : ١٤٢.

(٤) أى يموت بموتها خلق كثير.

٣٤٢

ومما يقرب من هذا قول أبى عدى القرشى (١) :

يا بن خير الأخيار من عبد شمس

أنت زين الورى وغيث الجنود

فوضع «زين الورى» مع «غيث الجنود» فى غاية السماجة.

وقريب منه قول الآخر (٢) :

خود تكامل فيها الدلّ والشنب

ومثله قول أبى تمام (٣) :

وزير حق ووالى شرطة ورحى

ديوان ملك وشيعىّ ومحتسب

ومن مختار المقابلة ـ وكان ينبغى تقديمه فلم يتفق ـ ما كتب الحسن بن وهب : لا ترض لى بيسير البرّ ، فإنى لم أرض لك بيسير الشكر ، ودع عنّى مئونة التقاضى كما وضعت عنك مئونة الإلحاح ، وأحضر من ذكرى فى قلبك ما هو أكفى من قعودى بصدرك ؛ فإنى أحق من فعلت به ، كما أنك أحق من فعله بى ، وحقق الظن ؛ فليس وراءك مذهب ، ولا عنك مقصّر.

__________________

(١) نهاية الأرب : ٧ ـ ١٠٢.

(٢) نهاية الأرب : ٧ : ١٠٢.

(٣) ديوانه : ٤٨.

٣٤٣

الفصل الخامس

فى صحة التقسيم

التقسيم

التقسيم الصحيح : أن تقسّم الكلام قسمة مستوية تحتوى على جميع أنواعه ، ولا يخرج منها جنس من أجناسه ؛ فمن ذلك قول الله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً) ، وهذا أحسن تقسيم ؛ لأنّ الناس عند رؤية البرق بين خائف وطامع ، ليس فيهم ثالث.

ومن القسمة الصحيحة قول أعرابى لبعضهم : النعم ثلاث ؛ نعمة فى حال كونها ، ونعمة ترجى مستقبلة ، ونعمة تأتى غير محتسبة ؛ فأبقى الله عليك ما أنت فيه ، وحقق ظنك فيما ترتجيه ، وتفضل عليك بما لم تحتسبه ، فليس فى أقسام النعم التى يقع الانتفاع بها قسم رابع سوى هذه الأقسام.

ووقف أعرابى على مجلس الحسن ، فقال : رحم الله عبدا أعطى من سعة ، أو آسى من كفاف ، أو آثر من قلّة. فقال الحسن : ما ترك لأحد عذرا ؛ فانصرف الأعرابى بخير كثير.

وقول إبراهيم بن العباس : وقسم الله تعالى عدوه أقساما ثلاثة ؛ روحا معجّلة إلى عذاب الله ، وجثة منصوبة لأولياء الله ، ورأسا منقولا إلى دار خلافة الله. ليس لهذه الأقسام رابع أيضا ؛ فهى فى نهاية الصحة.

ومن المنظوم قول نصيب (١) :

فقال فريق القوم. لا ، وفريقهم

نعم ، وفريق لا يمن الله ما ندرى

__________________

(١) نقد الشعر : ٧٨ ، واللسان (يمن) وروايته فيه :

فقال فريق القوم لما نشدتهم

نعم وفريق ليمن الله ما ندرى

٣٤٤

فليس فى أقسام الإجابة عن المطلوب إذا سئل عنه غير هذه الأقسام.

قال الشماخ (١) :

متى ما تقع أرساغه مطمئنة

على حجر يرفضّ أو يتدحرج (٢)

والوطء الشديد إذا صادف الموطوء رخوا ارفضّ منه ، أو صلبا تدحرج عنه.

وقول الآخر (٣) :

يا أسم صبرا على ما كان من حدث

إنّ الحوادث ملقى ومنتظر

وليس فى الحوادث إلا ما لقى أو انتظر لقيه.

وقول الآخر (٤) :

والعيش شحّ وإشفاق وتأميل

وكان عمر رضى الله عنه يتعجب من صحة هذه القسمة. وقول زهير (٥) :

فإنّ الحقّ مقطعه ثلاث

يمين أو نفار أو جلاء (٦)

فذلكم مقاطع كلّ حق

ثلاث كلّهنّ لكم شفاء

من عيوب القسمة

وكان يعجب أيضا بهذا البيت ويقول : لو أدركت زهيرا لولّيته القضاء لمعرفته.

ومن عيوب القسمة قول بعض العرب :

سقاه سقيتين الله سقيا

طهورا والغمام يرى الغماما

فقال : «سقيتين» ثم قال : «سقيا طهورا» ، ولم يذكر الأخرى ، وقيل : أراد فى الدنيا وفى الآخرة ، وهذا مردود ؛ لأن الكلام لا يدل عليه. وقول عبيد الله بن سليم (٧) :

فهبطت غيثا ما يفزّع وحشه

من بين مسرب ناوئ وكنوس

فقسم قسمة رديئة ؛ لأنه جعل الوحش بين سمين وداخل فى كناسه. وكان ينبغى أن يقول : من بين سمين وهزيل ، أو بين كانس وظاهر ؛ ويجوز أن يكون السمين

__________________

(١) ديوانه : ١٥.

(٢) مطمئنة : ساكنة. يرفض : يتفرق. والبيت يصف فيه صلابة سنابك الحمار.

(٣) نقد الشعر : ٧٩ ، ونسبه إلى أبى زبيد الطائى.

(٤) هو عبدة الطبيب ، المفضليات : ١٤١ ، صدره :

والمرء ساع الأمر ليس يدركه

(٥) ديوانه : ٧٥.

(٦) النفار : المنافرة. والجلاء : أن ينكشف الأمر.

(٧) قوله : ناوئ ، أى سمين. يقال : نوئ إذا سمن. قاله فى النقد ، وسمى قائله عبد الله بن سليم الغامدى ، ورواه سربا بدل غيثا وسرب بدل مسرب.

٣٤٥

كانسا وراتعا والكانس سمينا وهزيلا ، وما أعرف لهذا شبها إلا قول كيسان حين سأل فقال : علقمة بن عبدة ، جاهلى أو من بنى تميم؟

ومثله ما كتب بعضهم : فمن بين جريح مضرج بدمائه ، وهارب يلتفت إلى ورائه ؛ فالجريح قد يكون هاربا ، والهارب قد يكون جريحا ؛ ولو قال : «فمن قتيل» لصح المعنى ومثله قول قيس بن الخطيم :

وسلوا ضريح الكاهنين ومالكا

كم فيهما من دارع ونجيب

ليس النجيب من الدارع فى شيء.

وقريب منه قول الأخطل :

إذا التقت الأبطال أبصرت لونه

مضيئا وأعناق الكماة خضوع

كان ينبغى أن يقول : وألوان الكماة كاسفة ، و «مضيئة» مع «خضوع» رديء جدا.

ومن القسمة الرديئة قول جرير (١) :

صارت حنيفة أثلاثا فثلثهم

من العبيد وثلث من موالينا

فأنشده ورجل من حنيفة حاضر ، فقيل له : من أى قسم أنت. فقال : من الثلث الملغى ذكره.

ومن هذا الجنس ما ذكره قدامة أن ابن ميادة كتب إلى عامل من عماله هرب من صارفه : إنك لا تخلو فى هربك من صارفك أن تكون قدّمت إليه إساءة خفته معها ، أو خشيت فى عملك خيانة رهبت بكشفه إياك عنها ؛ فإن كنت أسأت

فأول راض سنة من يسيرها (٢)

وإن كنت خفت خيانة فلا بد من مطالبتك بها.

فكتب العامل تحت هذا التوقيع : فى الأقسام ما لم يدخل فيما ذكرته ، وهو أنى خفت ظلمه إياى بالبعد عنك ، وتكثيره علىّ الباطل عندك ؛ فوجدت الهرب إلى حيث يمكننى فيه دفع ما يتخرّصه أنفى للظّنة عنى ، وبعدى عمّن لا يؤمن ظلمه أولى بالاحتياط لنفسى.

__________________

(١) نقد الشعر : ١١٨.

(٢) نقد الشعر ٩٠.

٣٤٦

ومن القسمة الرديثة أيضا قول ابن القرّية : الناس ثلاثة ؛ عاقل ، وأحمق ، وفاجر ، فالفاجر يجوز أن يكون أحمق ، ويجوز أن يكون عاقلا ، والعاقل يجوز أن يكون فاجرا ، وكذلك الأحمق.

وإذا دخل أحد القسمين فى الآخر فسدت القسمة ، كقول أمية بن أبى الصلت (١) :

لله نعمتنا تبارك ربّنا

ربّ الأنام ورب من يتأبد (٢)

داخل فى الأنام من يتأبد.

وكذلك قول الآخر (٣) :

أبادر إهلاك مستهلك

لمالى وإن عبث العابث

فعبث العابث داخل فى إهلاك المستهلك.

وكذلك قول الآخر (٤) :

فما برحت تومى إليك بطرفها

وتومض أحيانا إذا طرفها غفل

فتومى وتومض واحد.

وقول جميل :

لو كان فى قلبى كقدر قلامة

حبّ وصلتك أو أتتك رسائلى

فإتيان الرسائل داخل فى الوصل.

ومن ذلك أيضا ما كتب بعضهم : ففكرت مرة فى عزلك ، ومرة فى صرفك وتقليد غيرك.

وفى فصل آخر كتب هذا الرجل إلى عامل : فتارة تسرق الأموال وتختزلها ، وتارة تقتطعها وتحتجبها. فمعنى الجزأين واحد.

__________________

(١) نقد الشعر : ١١٧.

(٢) يتأبد : يتوحش.

(٣) نقد الشعر : ١١٧.

(٤) نقد الشعر : ١١٧.

٣٤٧

الفصل السّادس

فى صحة التفسير

التفسير

وهو أن يورد معانى فيحتاج إلى شرح أحوالها ، فإذا شرحت تأتى فى الشرح بتلك المعانى من غير عدول عنها أو زيادة تزاد فيها ، كقول الله تعالى : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) ، فجعل السكون لليل ، وابتغاء الفضل للنهار ؛ فهو فى غاية الحسن ، ونهاية التمام.

ومن النثر ما كتب بعضهم : إن لله عزوجل نعما لو تعاون خلقه على شكر واحدة منها لأفنوا أعمارهم قبل قضاء الحقّ فيها ، ولي ذنوب لو فرّقت بين خلقه جميعا لكان كلّ واحد منهم عظيم الثقل منها ؛ ولكنه يستر بكرمه ، ويعود بفضله ، ويؤخر العقوبة انتظارا للمراجعة من عبده ، ولا يخلى المطيع والعاصى من إحسانه وبرّه.

فذكر جملتين ؛ وهما نعم الله تعالى وذنوب عبده ، ثم فسّر كلّ واحدة منهما مرتين تفسيرا صحيحا. قوله : «يستر بكرمه» راجع إلى الذنوب ، وقوله : «يعود بفضله» راجع إلى النعم ، فاستوفى. ثم قال : «ويؤخر العقوبة» فهذا أيضا راجع إلى الذنوب ، وقوله : «ولا يخلى المطيع والعاصى من إحسانه وبره» راجع إلى النّعم ، فهو تفسير صحيح فى تفسير صحيح.

ومن ذلك قول بعض أهل الزمان وقد كتب إليه بعض الأشراف كتابا وسأله أن يصلح ما يجد فيه من سقم ؛ فكتب إليه : فأمّا ما رسمه من سدّ ثلمه ، وجبر كسره ، ولم شعثه ؛ فأىّ ثلم يوجد فى أديم السماء ؛ وأىّ كسر يلفى فى حاجب ذكاء ؛ وأىّ شعث يرى فى الزّهرة الزهراء! ففسر الثلاثة ، ولم يغادر منها واحدا. ومثاله من المنظوم قول الفرزدق (١) :

__________________

(١) نقد الشعر : ٨١ ، نهاية الأرب : ٧ ـ ١٢٩.

٣٤٨

لقد جئت قوما لو لجأت إليهم

طريد دم أو حاملا ثقل مغرم

لألفيت فيهم معطيا أو مطاعنا

وراءك شزرا بالوشيج المقوّم

ففسر قوله : «حاملا ثقل مغرم» ، بقوله : «تلقى فيهم من يعطيك» وقوله : «طريد دم» بقوله : «تلقى فيهم من يطاعن دونك».

وقال ابن مطير فى السحاب (١) :

وله بلا حزن ولا بمسرّة

ضحك يراوح بينه وبكاء

وقول المقنّع :

لا تضجرنّ ولا يدخلك معجزة

فالنّجح يهلك بين العجز والضّجر

وضرب منه قول صالح بن جناح اللخمى (٢) :

لئن كنت محتاجا إلى الحلم إنّنى

إلى الجهل فى بعض الأحايين أحوج

ولي فرس للحلم بالحلم ملجم

ولي فرس للجهل بالجهل مسرج

فمن رام تقويمى فإنى مقوّم

ومن رام تعويجى فإنى معوّج

وقول سهل بن هارون (٣) :

فوا حسرتا حتّى متى القلب موجع

بفقد حبيب أو تعذّر إفضال

فراق حبيب مثله يورث الأسى

وخلة حر لا يقوم لها (٤) مالى

وقال آخر :

شبه الغيث فيه والليث والبد

ر فسمح ومحرب (٥) وجميل

وقلت :

كيف أسلو وأنت حقف (٦) وغصن

وغزال لحظا وردفا وقدّا

وقال آخر :

فألقت قناعا دونه الشمس واتقت

بأحسن موصولين كفّ ومعصم

__________________

(١) نقد الشعر : ٨١.

(٢) نقد الشعر : ٨١.

(٣) نقد الشعر : ٨٢ ، وفيه : «سهل بن مروان» وأنشدهما.

(٤) فى النقد : «بها».

(٥) محرب : شجاع.

(٦) الحقف : الرمل المستدير.

٣٤٩

٣٥٠

من فساد التفسير

ومن عيوب هذا الباب ما أنشده قدامة (١) :

فيا أيها الحيران فى ظلمة الدجى

ومن خاف أن يلقاه بغى من العدا

تعال إليه تلق من نور وجهه

ضياء ومن كفيه بحرا من الندى

وكان يجب أن يأتى بإزاء بغى العدا بالنصرة أو بالعصمة أو بالوزر أو ما يجانس ذلك مما يحتمى به الإنسان ، كما وضع بإزاء الظلمة الضياء. فأما إذا وضع بإزاء ما يتخوّف من بغى العدا بحرا من الندى فليس ذلك تفسيرا لذلك.

ومن فساد التفسير ما كتب بعضهم : من كان لأمير المؤمنين كما أنت له من الذّبّ عن ثغوره والمسارة إلى ما يهيب به إليه من صغير أمره وكبيره كان جديرا بنصح أمير المؤمنين فى أعماله ، والاجتهاد فى تثمير أمواله ؛ فليس الذى قدّم من الحال التى عليها هذا العامل من الذّب عن الثغور والمسارعة فى الخطوب ما سبيله أن يفسّر بالنصح فى الأعمال وتثمير الأموال. ولعلّه لو أضاف إلى ذكر الذّب عن الثغور ذكر الحياطة فى الأمور لكان بهذا المضاف يجوز أن يفسّر بالنصح فى الأعمال والتثمير للأموال.

__________________

(١) نهاية الأرب : ٧ ـ ١٣٠.

٣٥١

الفصل السّابع

فى الإشارة

الإشارة

الإشارة أن يكون اللفظ القليل مشارا به إلى معان كثيرة ، بإيماء إليها ولمحة تدل عليها ؛ وذلك كقوله تعالى : (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى). وقول الناس : لو رأيت عليّا بين الصفين ؛ فيه حذف وإشارة إلى معان كثيرة.

وأخبرنا أبو أحمد ، قال أخبرنا أبو بكر الصولى ، قال أخبرنا الحزنبل ، قال : لما ولّى المهتدى بالله وزارته سليمان بن وهب قام إليه رجل من ذى حرمته ، فقال : أعز الله الوزير! خادمك المؤمّل لدولتك ، السعيد بأيامك ، المنطوى القلب على مودتك ، المبسوط اللسان بمدحتك ، المرتهن الشكر بنعمتك ، وإنما أنا كما قال القيسى : ما زلت أمتطى النهار إليك ، وأستدلّ بفضلك عليك ؛ حتى إذا أجنّنى الليل ، فقبض البصر ، ومحا الأثر ، قام بدنى ، وسافر أملى ، والاجتهاد عذر ، وإذا بلغتك فقط. فقال سليمان : لا بأس عليك فإنى عارف بوسيلتك ، محتاج إلى كفايتك ، ولست أؤخر عن يومى هذا توليتك بما يحسن عليك أثره ، ويطيب لك خيره إن شاء الله. فقوله : «وإذا بلغتك فقط» إشارة إلى معان كثيرة يطول شرحها.

وكتب آخر إلى آخر : أتعيّرني وأنا أنا! والله لأزرن عليك الفضاء ، ولأبغّضنك لذيذ الحياة ، ولأحبّبنّ إليك كريه الممات ، ما أظنك تربع على ظلعك ، وتقيس شبرك بفترك ؛ حتى تذوق وبال أمرك ، فتعتذر حين لا تقبل المعذرة ، وتستقيل حين لا تقال العثرة. فقوله : «وأنا أنا» إشارة إلى معان كثيرة ، وتهديد شديد ، وإيعاد كثير.

ومن المنظوم قول امرئ القيس (١) :

فإن تهلك شنوءة أو تبدّل

فسيرى إنّ فى غسان خالا (٢)

__________________

(١) نقد الشعر : ٩٠ ، ونهاية الأرب : ٧ ـ ١٤.

(٢) فى ط : «حالا» ، وصوابه من ا ، والنقد والنهاية.

٣٥٢

بعزّهم عززت وإن يذلّوا

فذلهم أنالك ما أنالا

فقولوه : «إنّ فى غسان خالا» و «أنالك ما أنالا» إشارة إلى معان كثيرة.

وضرب منه قوله (١) :

على سابح يعطيك قبل سؤاله

أفانين جرى غير كزّ ولا وان

فقوله : «أفانين جرى» مشار به إلى معان لو عدت لكثرت ؛ وضم إلى ذلك جميع أوصاف الجودة فى قوله : «يعطيك قبل سؤاله».

وأنشدنا أبو أحمد لبعضهم :

لم آت مطّلبا إلا لمطلب

وهمة بلغت بى أفضل الرتب

أعملت عيسى إلى البيت العتيق على

ما كان من دأب فيها ومن نصب

حتى إذا ما انقضى حجّى ثنيت لها

فضل الزمام فأمّت سيد العرب

هذا رجائى وهذى مصر معرضة

وأنت أنت وقد ناديت من كثب

فقوله : «أنت أنت» مشار به إلى نعوت من المدح كثيرة.

ومن هذا قول أبى نواس (٢) :

أنت الخصيب وهذه مصر

__________________

(١) ديوانه : ١٢٧.

(٢) ديوانه : ١٠٢ ، وبقيته :

فتدنقا فكلاكما بحر

٣٥٣

الفصل الثامن

فى الأرداف والتوابع

الأرداف والتوابع

الأرداف والتوابع : أن يريد المتكلم الدلالة على معنى فيترك اللفظ الدالّ عليه ، الخاص به ، ويأتى بلفظ هو ردفه وتابع له ، فيجعله عبارة عن المعنى الذى أراده ، وذلك مثل قول الله تعالى : (فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ) ، وقصور الطرف فى الأصل موضوعة للعفاف على جهة التوابع والأرداف ؛ وذلك أن المرأة إذا عفّت قصرت طرفها على زوجها ، فكان قصور الطرف ردفا للعفاف ، والعفاف ردف وتابع لقصور الطرف.

وكذلك قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) ، وذلك أنّ الناس يتكافّون عن الحرب من أجل القصاص فيحيون فكأن حياتهم ردف للقصاص الذى يتكافّون عن القتل من أجله ؛ ونحوه قول الشاعر :

وفى العتاب حياة بين أقوام

ومن ذلك قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد سئل عن الفرع ، فقال : «حق ، وإن تتركه حتى يكون ابن مخاض أو ابن لبون خير من أن تكفىء إناءك ، وتولّه ناقتك ؛ وتدعه يلصق لحمه بوبره» (١).

الفرع : أول شيء تنتجه الناقة ، وكانوا يذبحونه لله عزوجل. فقال : هو حق ، إلا أنه ينبغى أن يترك حتى يكون ابن مخاض أو ابن لبون فيصير للحمه طعم ، وقال «هو خير من أن تكفىء إياك» فهذه من الإرداف أراد أنك إذا ذبحته حين تضعه أمّه بقيت الأم بلا ولد ترضعه فانقطع لبنها ؛ فردف ذلك أن يخلو إناؤك من اللبن ، فكأنك قد كفأته. ومثله قول امرئ القيس (٢) :

__________________

(١) الحديث فى نهاية ابن الأثير ، وروايته هناك : «أنه سئل عن الفرع فقال : حق ، وإن تتركه حتى يكون ابن مخاض أو ابن لبون خير من أن تذبحه يلصق لحمه بوبره».

(٢) ديوانه : ١٦٠.

٣٥٤

وأفلتهنّ علباء جريضا

ولو أدركنه صفر الوطاب (١)

أى لو أدركنه ـ يعنى الخيل ـ قتلنه ، واستقن إبله فصفرت وطابه ؛ ومن ذلك قول الأعشى :

ربّ رفد هرقنه ذلك اليو

م وأسرى من معشر أقيال

الرّفد : القدح العظيم الضخم ، يقول : استقت الإبل فخلا الرّفد ، فكأنك قد هرقته.

ومن الأرداف قول المرأة لمن سألته : أشكو إليك قلة الجرذان ، وذلك أن قلّة جرذان البيت ردف لعدم خيره ؛ ويقولون : فلان عظيم الرماد ، يريدون أنه كثير الإطعام للأضياف ؛ لأن كثرة الإطعام يردف كثرة الطبخ ؛ ومن المنظوم قول التغلبى (٢) :

وكل أناس قاربوا قيد فحلهم

ونحن خلعنا قيده فهو سارب

أراد أن يذكر عزّ قومه ، فذكر تسريح الفحل فى المرعى ، والتوسيع له فيه ؛ لأن هذه الحال تابعة للعزّة رادفة للمنعة ، وذلك أن الأعداء لعزهم لا يقدمون عليهم فيحتاجون إلى تقييد فحلهم ، مخافة أن يساق فيتبعه السّرح ؛ ومن ذلك قول الآخر :

ومهما فىّ من عيب فإنى

جبان الكلب مهزول الفصيل

يعنى أن كلبه يضرب إذا نبح على الأضياف ، فيردف ذلك جبنه عن نبحهم ؛ وأن اللبن الذى يسمن به الفصيل يجعل للأضياف فيردف ذلك هزال الفصيل.

وقول الآخر :

وكلّ أناس سوف تدخل بينهم

دويهية تصفرّ منها الأنامل

يعنى الموت ، فعبر عنه باصفرار الأنامل ، لأنها تصفر من الميت ، فكان اصفرارها ردف ؛ وقول امرئ القيس (٣) :

__________________

(١) علباء : قاتل والد امرئ القيس ، وهو علباء بن حارث الكاهلى ، والجريض : الذى يكاد يقضى.

(٢) هو الأخنس بن شهاب ، والبيت فى اللسان (سرب).

(٣) ديوانه : ٣٢.

٣٥٥

وتضحى فتيت المسك فوق فراشها

نئم الضحا لم تنتطق عن تفضل

أراد أنها مكفية ؛ ونئومة الضحا وترك الانتطاق للخدمة يردفان الكفاية ؛ فعبر بهما عنها وأراد أنها من أهل الترفّه والنعمة فتستعمل المسك الكثير فينتثر فى فراشها وهذه الحال تردف الترف والنعمة ؛ وقول عمر بن أبى ربيعة (١) :

بعيدة مهوى القرط أما لنوفل

أبوها وأما عبد شمس وهاشم

فأراد أن يصف طول عنقها فأتى بما دلّ عليه من طول مهوى القرط ، وبعد مهوى القرط ردف لطول العنق. وقول الخنساء (٢) :

ومخرّق عنه القميص تخاله

بين البيوت من الحياء سقيما

أرادت وصفه بالجود فجعلته مخرّق القميص ، لأن العفاة يجذبونه ؛ فتمزيق قميصه ردف لجوده. وقول الشاعر (٣) :

طويل نجاد السيف لا متضائل

ولا رهل لبّاته وبآدله (٤)

أراد وصفه بطول القامة ، فذكر طول نجاده ، لأن طوله ردف لطول القامة. وقد أدخل بعض من صنّف فى هذا أمثلة باب الأرداف فى باب المماثلة ، وأمثلة باب المماثلة فى باب الأرداف ، فأفسد البابين جميعا ، فلخصت ذلك وميّزته وجعلت كلّا فى موضعه ، وفيه دقّة وإشكال.

__________________

(١) ديوانه : ٤٣

(٢) البيت فى ديوان الحماسة ٢ : ٢٧٧ ، ضمن سبعة أبيات منسوبة لليلى الأخيلية.

(٣) اللسان (بدل) ، وروايته فيه :

فتى قد قد السيف لا متآزف

ولا رهل لباته وبآدله

(٤) فى ط : «أبادله» ، وهذه رواية ا ، والبآدل : جمع بأدلة ، وهى ما بين العنق والترقوة.

٣٥٦

الفصل التاسع

فى المماثلة

المماثلة

المماثلة : أن يريد المتكلم العبارة عن معنى ، فيأتى بلفظة تكون موضوعة لمعنى آخر ، إلا أنه ينبئ إذا أورده عن المعنى الذى أراده ، كقولهم : «فلان نقى الثوب» ، يريدون به أنه لا عيب فيه. وليس موضوع نقاء الثوب البراء من العيوب ، وإنما استعمل فيه تمثيلا.

وقول امرئ القيس (١) :

ثياب بنى عوف طهارى نقية

وأوجههم عند المشاهد غرّان (٢)

وكذلك قولهم : «فلان طاهر الجيب» ، يريدون أنه ليس بخائن ولا غادر.

وقولهم : فلان طيب الحجزة ، أى عفيف. قال النابغة (٣) :

رقاق النعال طيّب حجزاتهم

يحيّون بالريحان يوم السباسب (٤)

وقال الأصمعى : إذا قالت العرب : الثوب والإزار ؛ فإنهم يريدون البدن ، وأنشد (٥) :

ألا أبلغ أبا حفص رسولا

فدى لك من أخى ثقة إزارى

وقالوا فى قول ليلى (٦) :

رموها بأثواب خفاف فلا ترى

لها شبها إلا النعام المنفرا

أى رموها بأجسامهم وهى خفاف عليها. ووضع الثوب موضعا آخر فى قول الشاعر :

فتلك ثياب إبراهيم فينا

بواق ما دنسن ولا بلينا

__________________

(١) ديوانه : ١١٥.

(٢) غران : جمع أغر ، وهو الأبيض.

(٣) ديوانه : ٩.

(٤) يوم السباسب : يوم عيد عند النصارى.

(٥) اللسان ـ مادة أزر

(٦) اللسان ـ مادة (ثوب) ، والضمير للركاب.

(٢٣ ـ الصناعتين)

٣٥٧

ويقولون : فلان أوسع بنى أبيه ثوبا ، أى أكثرهم معروفا ، وفلان غمر الرداء ، إذا كان كثير المعروف ؛ قال كثير :

غمر الرداء إذا تبسم ضاحكا

علقت لضحكته رقاب المال

وكذلك قولهم : فلان رحب الذراع ، وفلان دنس الثوب ؛ إذا كان غادرا فاجرا ، قال الشاعر :

ولكننى أنفى عن الذمّ والدى

وبعضهم للذم فى ثوبه دسم

ويقولون : دم فلان فى ثوب فلان ، أى هو صاحبه. قال أبو ذؤيب (١) :

تبرّأ من دمّ القتيل وبزّه

وقد علقت دمّ القتيل إزارها

هذيل تؤنث الإزار ، أى علّقت دم القتيل هى ، ورواه أبو عمرو الشيبانى وبزّه ، بالرفع ، أى وبزه إزارها وقد علقت دمه ؛ ويقولون للفرس : إنه لطرب العنان ؛ وللبعير : قد سفه جديله ، والجديل : الزمام. وقال ذو الرمة (٢) :

وأشقر موشيّ القميص نصبته

على خضر مقلات سفيه جديلها (٣)

وفى القرآن : (كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً) ، فمثّل العمل ثم إحباطه بالنّقض بعد الفتل.

وكذلك قوله تعالى : (وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها).

وقوله عزوجل : (هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ).

وقوله سبحانه : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) فمثّل البخيل الممتنع من البذل بالمغلول ، لمعنى يجمعهما ، وهو أنّ البخيل لا يمدّ يده بالعطية فشبّهه بالمغلول. ويقولون : عركت هذه الكلمة بجنبى ، إذا أغضيت عنها ،

__________________

(١) ديوان الهذليين.

(٢) اللسان (سفه) ، يصف سيفا.

(٣) قال فى اللسان : سفيه جديلها ، يعنى خفيف زمامها ، يريد أن جديلها يضطرب لاضطراب رأسها.

٣٥٨

وفلان قد طوى كشحه عن فلان ، إذا ترك مودّته وصحبته. ويقولون : كبا زند العدوّ ، وصلف زنده ، وأفل نجمه ، وذهبت ريحه ، وأطفئت جمرته ، وأخلف نوءه ، وأخلقت جدّته ، وانكسرت شوكته ، وكلّ حدّه ، وانقطع بطانه ، وتضعضع ركنه ، وضعف عقده ، وذلت عضده ، وفتّ فى عضده ، ورق جانبه ، ولانت عريكته ، يقال ذلك فيه إذا ولّى أمره ؛ تمثيلا وتشبيها.

وقال النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إيّاكم وخضراء الدمن» ، أراد المرأة الحسناء فى منبت السوء ، فأتى بغير اللفظ الموضوع لها تمثيلا. وقال بعضهم : كنا فى رفقة فضللنا الطريق ، فاسترشدنا عجوزا فقالت : استبطن الوادى ، وكن سيلا حتى تبلغ.

وكتب أحمد بن يوسف إلى عبد الله بن طاهر عن المأمون بعزله عن ديار مصر ، وتسليم العمل إلى إسحاق بن إبراهيم : أما بعد! فإن أمير المؤمنين قد رأى تولية إسحاق بن إبراهيم ما تتولاه من أعمال المعاون بديار مصر ، وإنما هو عملك نقل منك إليك. فسلمه من يدك إلى يدك والسلام. واغتاب رجل رجلا عند سلم بن قتيبة ، فقال له سلم : اسكت ، فو الله لقد تلمّظت مضغة طالما لفظها الكرام.

ومن المنظوم قول طرفة :

أبينى ، أفى يمنى يديك جعلتنى

فأفرح أم صيّرتنى فى شمالك

أى أبينى منزلتى عندك أوضيعة هى أم رفيعة ؛ فذكر اليمين وجعلها بدلا من الرفعة ، والشمال وجعلها عوضا من الضّعة. وأخذه الرّمّاح بن ميّادة ، فقال (١) :

ألم تك فى يمنى يديك جعلتنى

فلا تجعلني بعدها فى شمالكا

ولو أنّنى أذنبت ما كنت هالكا

على خصلة من صالحات خصالكا

وقال آخر (٢) :

تركت الرّكاب لأربابها

وأكرهت نفسى على ابن الصّعق

__________________

(١) نقد الشعر : ٩٥.

(٢) نقد الشعر : ٩٦.

٣٥٩

جعلت يدى وشاحا له

وبعض الفوارس لا تعتنق

فقوله : جعلت يدى وشاحا تمثيل. وقول زهير (١) :

ومن يعص أطراف الزّجاج فإنه

يطيع العوالى ركبت كل لهذم (٢)

أراد أن يقول : من أبى الصلح رضى بالحرب ، فعدل عن لفظه ، وأتى بالتمثيل ؛ فجعل الزّج للصلح ؛ لأنه مستقبل (٣) فى الصلح ، والسنان للحرب لأن الحرب به يكون ؛ وهذا مثل قولهم : من عصى الصوت أطاع السيف ، ومنه قول امرئ القيس (٤) :

وما ذرفت عيناك إلّا لتضربى

بسهميك فى أعشار (٥) قلب مقتّل

فقال : بسهميك ، وأراد العينين. وقال العباس بن مرداس (٦) :

كانوا أمام المؤمنين درّية

والشمس يومئذ عليهم أشمس

أراد تلألؤ البيض فى الشمس ، فكأن على كل رأس شمسا ، وقال قدامة : من أمثلة هذا الباب قول الشاعر (٧) :

أوردتهم وصدور العيس مسنفة (٨)

والصّبح بالكوكب الدّرىّ منحور

وقال : قد أشار إلى الفجر إشارة إلى طريقه بغير لفظه. وليس فى هذا البيت إشارة إلى الفجر ، بل قد صرّح بذكر الصبح ، وقال : هو منحور بالكوكب الدرّى ، أى صار فى نحره ، ووضع هذا البيت فى باب الاستعارة أولى منه فى باب المماثلة.

مما عيب فى المماثلة

ومما عيب من هذا الباب قول أبى تمام :

أنت دلو وذو السّماح أبو

موسى قليب وأنت دلو القليب

أيها الدّلو لا عدمتك دلوا

من جياد الدّلاء صلب الصّليب

__________________

(١) ديوانه : ٣١.

(٢) اللهذم : الماضى.

(٣) فى ط : مقبل ، وفى اللسان : كانوا يستقبلون أعداءهم إذا أرادوا الصلح بأزجة الرماح.

(٤) ديوانه : ٢٦.

(٥) الأعشار : الكسور.

(٦) نقد الشعر : ٩٦.

(٧) نقد الشعر : ٩٦ ، ونسبه إلى عبد الرحمن بن على بن علقمة.

(٨) السناف للبعير بمنزلة اللبب للدابة ، ويقال أسنفه ، أى شده بالسناف.

٣٦٠