كتاب الصّناعتين الكتابة والشعر

أبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري

كتاب الصّناعتين الكتابة والشعر

المؤلف:

أبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري


المحقق: علي محمد البجاوي ومحمد ابوالفضل ابراهيم
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٨

وقوله (١) :

أحاد أم سداس فى أحاد

لييلتنا المنوطة بالتّنادى (٢)

وقوله (٣) :

لجنّية أم غادة رفع السّجف

لوحشيّة لا ما لوحشية شنف (٤)

وقوله (٥) :

بقائى شاء ليس هم ارتحالا

وحسن الصبر زمّوا لا الجمالا

وقوله (٦) :

فى الخدّ إن عزم الخليط رحيلا

مطر يزيد به الخدود محولا

وقال إسماعيل بن عباد : لعمرى إن المحول فى الخدود من البديع المردود.

وقوله (٧) :

نهنّى بصور أم نهنّئها بكا

وقل للذى صور وأنت له لكا

وقوله (٨) :

عذيرى من عذارى فى صدور

سكن جوانحى بدل الصّدور

وقوله (٩) :

سرب محاسنه حرمت ذواتها

دانى الصّفات بعيد موصوفاتها

وقوله (١٠) :

أيا لائمى إن كنت وقت اللّوائم

علمت بما بى بين تلك المعالم

__________________

(١) ديوانه : ١ ـ ٣٥٣.

(٢) المنوطة : المتعلقة. التنادى : يوم القيامة.

(٣) ديوانه : ٢ ـ ٢٨٢.

(٤) الشنف : ما علق فى أعلى الأذن.

(٥). ٣ ـ ٣٢١.

(٦). ٣ ـ ٢٣٢.

(٧) ديوانه : ٢ ـ ٣٨١.

(٨) ديوانه : ٢ ـ ١٤١.

(٩) ديوانه : ١ ـ ٢٢٥.

(١٠) ديوانه : ٤ ـ ١١٠.

٤٤١

وقوله (١) :

ووقت وفى بالدهر لى عند واحد

وفى لى بأهليه وزاد كثيرا

وقوله (٢) :

شديد البعد من شرب الشّمول

ترنج الهند أو طلع النّخيل

وقوله (٣) :

أراع كذا كلّ الأنام همام

وسحّ له رسل الملوك غمام

وقوله (٤) :

أوه بديل من قولتى واها

لمن نأت والبديل ذكراها

فهذه وما شاكلها ابتداءات لا خلاق لها.

فضل الابتداء الحسن

وإذا كان الابتداء حسنا بديعا ، ومليحا رشيقا ، كان داعية إلى الاستماع لما يجيء من الكلام ؛ ولهذا المعنى يقول الله عزوجل : آلم. وحم. وطس. وطسم. وكهيعص ؛ فيقرع أسماعهم بشىء بديع ليس لهم بمثله عهد ، ليكون ذلك داعية لهم إلى الاستماع لما بعده والله أعلم بكتابه. ولهذا جعل أكثر الابتداءات بالحمد لله ؛ لأن النفوس تتشوف للثناء على الله فهو داعية إلى الاستماع ؛ وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل كلام لم يبدأ فيه بحمد الله تعالى فهو أبتر».

فأما الابتداء البارد ، فابتداء أبى العتاهية (٥) :

ألا ما لسيدتى ما لها

أدلّت فأحمل إدلالها

__________________

(١). ٢ ـ ١٤٥.

(٢) ديوانه : ٣ ـ ٩٠.

(٣) ديوانه : ٣ ـ ٣٩٣.

(٤). ٤ ـ ٢٦٩.

(٥) ديوانه : ٣١١.

٤٤٢

الفصل الثّانى

فى ذكر المقاطع والقول فى الفصل والوصل

البلاغة معرفة الفصل والوصل

قيل للفارسى : ما البلاغة؟ فقال : معرفة الفصل من الوصل. وقال المأمون لبعضهم : من أبلغ الناس؟ فقال : من قرّب الأمر البعيد المتناول ، والصّعب الدرك بالألفاظ اليسيرة ، قال : ما عدل سهمك عن الغرض. ولكن البليغ من كان كلامه فى مقدار حاجته ، ولا يجيل الفكرة فى اختلاس ما صعب عليه من الألفاظ ، ولا يكره المعانى على إنزالها فى غير منازلها ، ولا يتعمّد الغريب الوحشىّ ، ولا الساقط السّوقىّ ؛ فإن البلاغة إذا اعتزلتها المعرفة بمواضع الفصل والوصل كانت كاللآلئ بلا نظام.

وقال أبو العباس السفاح لكاتبه : قف عند مقاطع الكلام وحدوده ؛ وإيّاك أن تخلط المرعىّ بالهمل (١). ومن حلية البلاغة المعرفة بمواضع الفصل والوصل.

وقال الأحنف بن قيس : ما رأيت رجلا تكلّم فأحسن الوقوف عند مقاطع الكلام ، ولا عرف حدوده إلا عمرو بن العاص رضى الله عنه ، كان إذا تكلم تفقد مقاطع الكلام ، وأعطى حقّ المقام ، وغاص فى استخراج المعنى بألطف مخرج ؛ حتى كان يقف عند المقطع وقوفا يحول بينه وبين تبيعته من الألفاظ ، وكان كثيرا ما ينشد :

إذا ما بدا فوق المنابر قائلا

أصاب بما يومى إليه المقاتلا

ولا أعرف فصلا فى كلام منثور أحسن مما أخبرنا به أبو أحمد ، قال : حدثنا الصّولى ، قال : حدثنا محمد بن زكريا ، قال : حدثنى العتبى عن أبيه ، قال : كان شبيب ابن شبّة يوما قاعدا بباب المهدى ، فأقبل عبد الصمد بن الفضل الرّقاشىّ ، فلما رآه قال : أتاكم والله كليم الناس. فلما جلس قال شبيب : تكلم يا أبا العباس ، فقال :

__________________

(١) أصله من المثل : «ليس المرعى كالهمل» ، والمرعى : الذى له راع ، والهمل : المتروك سدى.

٤٤٣

أمعك يا أبا معمر وأنت خطيبنا وسيدنا؟ قال : نعم ، فو الله ما رأيت قلبا أقرب من لسان ، من قلبك من لسانك ، قال : فى أى شيء تحب أن أتكلم؟ قال : وإذا شيخ معه عصا يتوكأ عليها ، فقال : صف لنا هذه العصا ، فحمد الله عزوجل وأثنى عليه ، ثم ذكر السماء ، فقال : رفعها الله بغير عمد ، وجعل فيها نجوم رجم ونجوم اقتداء ، وأدار فيها سراجا وقمرا منيرا ؛ لتعلموا عدد السنين والحساب ، وأنزل منها ماء مباركا ، أحيا به الزرع والضّرع وأدرّ به الأقوات ، وحفظ به الأرواح ، وأنبت به أنواعا مختلفة ، يصرّفها من حال إلى حال ؛ تكون حبّة ، ثم يجعلها عرقا ، ثم يقيمها على ساق ، فبينا تراها خضراء ترف إذ صارت يابسة تتقصّف ، لينتفع بها العباد ، ويعمر بها البلاد ، وجعل من يبسها هذه العصا. ثم أقبل على الشيخ ، فقال : وكان هذا نطفة فى صلب أبيه ، ثم صار علقة حين خرج منه ، ثم مضغة ثم لحما وعظما ، فصار جنينا أوجده الله بعد عدم ، وأنشأه مريدا ، ووفقه مكتهلا ، ونقصه شيخا ، حتى صار إلى هذه الحال ، من الكبر ، فاحتاج فى آخر حالاته إلى هذه العصا ؛ فتبارك المدبّر للعباد ... قال شبيب : فما سمعت كلاما على بديه أحسن منه.

وقال معاوية : يا أشدق ؛ قم عند قروم العرب وجحاجحها ، فسلّ لسانك ، وجل فى ميادين البلاغة ، وليكن التفقّد لمقاطع الكلام منك على بال ، فإنى شهدت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أملى على علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه كتابا ، وكان يتفقّد مقاطع الكلام كتفقد المصرم صريمته.

ولما أقام أبو جعفر صالحا خطيبا بحضرة شبيب بن شبة وأشراف قريش فتكلم ، أقبل شبيب. فقال : يا أمير المؤمنين ؛ ما رأيت كاليوم أبين بيانا ، ولا أربط جنانا ، ولا أفصح لسانا ، ولا أبلّ ريقا ، ولا أغمض عروقا ، ولا أحسن طريقا ، إلا أن الجواد عسير لم يرض ؛ فحملته القوة على تعسّف الإكام وخبطها ، وترك الطريق اللاحب ، وايم الله لو عرف فى خطبته مقاطع الكلام لكان أفصح من نطق بلسان.

٤٤٤

وقال المأمون : ما أعجب بكلام (١) أحد كإعجابى بكتاب القاسم بن عيسى ، فإنه يوجز فى غير عجز ، ويصيب مفاصل الكلام ولا تدعوه المقدرة إلى الإطناب ، ولا تميل به الغزارة إلى الإسهاب ، يجلى عن مراده فى كتبه ، ويصيب المغزى فى ألفاظه.

وكان يزيد بن معاوية يقول : إياكم أن تجعلوا الفصل وصلا ، فإنه أشدّ وأعيب من اللّحن.

وكان أكثم بن صيفى إذا كاتب ملوك الجاهلية يقول (٢) لكتّابه افصلوا بين كل معنى منقض ، وصلوا إذا كان الكلام معجونا بعضه ببعض. وكان الحرث بن أبى شمر الغسّانى يقول لكاتبه المرقش : إذا نزع بك الكلام إلى الابتداء بمعنى غير ما أنت فيه فافصل بينه وبين تبيعته من الألفاظ ، فإنك إن مذقت ألفاظك بغير ما يحسن أن تمذق به نفّرت (٣) القلوب عن وعيها ، وملّته الأسماع ، واستثقلته الرواة. وكان بزرجمهر. يقول : إذا مدحت رجلا ، وهجوت آخر ، فاجعل بين القولين فصلا حتى تعرف المدح من الهجاء ، كما تفعل فى كتبك إذا استأنفت القول ، وأكملت ما سلف من اللفظ.

وقال الحسن بن سهل لكاتبه الحرّانى : ما منزلة الكاتب فى قوله وفعله؟ قال : أن يكون مطبوعا محتنكا بالتجربة ، عالما بحلال الكتاب والسنة وحرامها ، وبالدهور فى تداولها وتصرّفها ، وبالملوك فى سيرها وأيامها ، مع براعة اللفظ وحسن التنسيق ، وتأليف الأوصال بمشاكلة الاستعارة ، وشرح المعنى ؛ حتى ينصب ضورها ، وبمقاطع الكلام ، ومعرفة الفصل من الوصل ؛ فإذا كان ذلك كذلك فهو كاتب مجيد. والقول إذا استكمل آلته ، واستتمّ معناه فالفصل عنده. وكان عبد الحميد الكاتب إذا استخبر الرجل فى كتابه فكتب : خبرك ، وحالك وسلامتك ؛ فصل بين هذه الأحرف ويقول : قد استكمل كل حرف منها آلته ، ووقع الفصل عليه. وكان صالح بن عبد الرحمن التميمى الكاتب يفصّل بين الآيات كلها وبين تبيعتها من الكتاب ، كيف وقعت.

__________________

(١) فى ا «بكتاب».

(٢) فى ا «قال لكاتبه».

(٣) فى ا «بعدت».

٤٤٥

وكان يقول : ما استؤنف إنّ ـ إلا وقع الفصل ، وكان جبل بن يزيد يفصّل بين الفاءات كلها ، وقد كره بعض الكتبة ذلك وأحبه بعض ، وفصل المأمون عند «حتى» كيف وقعت ، وأمر كتابه بذلك ، فغلط أحمد بن يوسف ، ووصل حتى بما بعده من اللفظ ، فلما عرض الكتاب على المأمون أمر بإحضاره ، فقال : لعن الله هذه القلوب حين اكنّت العلوم بزعمكم ، واجتنت ثمر لطائف الحكمة بدعواكم ؛ قد شغلتموها باستظراف ما عزب عنكم علمه عن تفهّم ما رويتموه ، وتفحّص ما جمعتموه ، وتعرف ما استقدمتموه ؛ أليس قد تقدمنا إليكم بالفصل عند «حتى» حيثما وقعت من الألفاظ؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، قد ينبو السيف وهو صميم ، ويكبو الجواد وهو كريم. وكان لا يعود فى شيء من ذلك ، وكان يأمر كتابه بالفصل بين ؛ بل وبلى ، وليس.

وأمر عبد الملك كتابه بذلك إلا «ليس». وقال المأمون ما أتفحّص من رجل شيئا كتفحّصى عن الفصل والوصل فى كتابه ، والتخلّص من المحلول إلى المعقود ، فإنّ لكل شيء جمالا ، وحلية الكتاب وجماله إيقاع الفصل موقعه ، وشحذ الفكرة وإجالتها فى لطف التخلص من المعقود إلى المحلول.

المعقود والمحلول

وقلنا : إن المعقود والمحلول هاهنا هو أنك إذا ابتدأت مخاطبة ، ثم لم تنته إلى موضع التخلّص ممّا عقدت عليه كلامك سمى الكلام معقودا ، وإذا شرحت المستور وأبنت عن الغرض المنزوع إليه سمّى الكلام محلولا.

المثال

مثال ذلك ما كتب بعضهم ، وجرى لك من ذكر ما خصّك الله به ، وأفردك بفضيلته من شرف النفس والقدرة ، وبعد الهمّة والذكر ، وكمال الأداة والآلة والتمهد فى السياسة والإيالة ، وحياطة أهل الدين والأدب ، وإنجاد عظيم الحق بضعيف السبب ، ما لا يزال يجرى مثله عند كلّ ذكر يتخذ ذلك ، وحديث يؤثر عنك. فالكلام من أول الفصل إلى آخر قوله «بضعيف السبب» معقود ، فلما اتصل بما بعده صار محلولا.

وما كتب بعضهم : ربما كانت مودّة السبب أوكد من مودة النّسب ؛ لأن المودة التى تدعو إليها رغبة أو رهبة ، أو شكر نعمة ، أو شاكلة فى صناعة ، أو مناسبة

٤٤٦

بمشاكلة مودة معروفة وجوهها ، موثوق بخلوصها فتوكدها بحسب السبب الداعى إليها ، ودوامها بدوامه واتصالها باتصاله ؛ ومودة القربى وإن أوجبتها اللّحمة ، فهى مشوبة بحسد ونفاسة ؛ وبحسب ذلك يقع التقصير فيما يوجبه الحال ، والإضاعة لما يلزم من الشكر ، والله يعلم أنى أودك مودّة خالصة لم تدع إليها رغبة فيزيلها استغناء عنها ، ولا اضطرت إليها رهبة ؛ فيقطعها أمن منها ، وإن كنت مرجوا للموهبات بحمد الله ؛ ومقصدا من مقاصد الرغبات ، وكهفا وحرزا من الموبقات. فهذا الكلام كله معقود إلى قوله : «مشاكلة مودة» فلما اتصل بما بعده صار محلولا.

عيبه

وقال بعضهم : انظر سدّدك الله ألّا تدعوك مقدرتك على الكلام إلى إطاله المعقود ؛ فإن ذلك فساد ما أكننته فى صدرك ، وأردت تضمينه كتابك. واعلم أن إطالة المعقود يورث نسيان ما عقدت عليه كلامك ، وأرهفت به فكرتك.

أجود ذلك

وكان شبيب بن شبة يقول : لم أر متكلما قطّ أذكر لما عقد عليه كلامه ، ولا أحفظ لما سلف من نطقه من خالد بن صفوان ، يشبع المعقود بالمعانى التى يصعب الخروج منها إلى غيرها ، ثم يأتى بالمحلول واضحا ، بينا مشروحا منورا. وكان السامع لا يعرف مغزاه ومقصده ، فى أول كلامه حتى يصير إلى آخره.

وقال بعضهم : ليس يحمد من القائل أن يعمى معرفة مغزاه على السامع لكلامه فى أول ابتدائه ، حتى ينتهى إلى آخره ؛ بل الأحسن أن يكون فى صدر كلامه دليل على حاجته ومبيّن لمغزاه ومقصده ؛ كما أن خير أبيات الشعر ما إذا سمعت صدره عرفت قافيته. وكان شبيب بن شبة يقول : الناس موكّلون بتعظيم جودة الابتداء وبمدح صاحبه ؛ وأنا موكّل بتعظيم جودة المقطع وبمدح صاحبه ؛ وخير الكلام ما وقف عند مقاطعه ، وبيّن موقع فصوله.

مما لم يبين موضع الفصل فيه

قلنا : ومما لم يبين موضع الفصل فيه فأشكل الكلام قول المخبّل للزبرقان ابن بدر :

٤٤٧

وأبوك بدر كان ينتهس الحصى

وأبى الجواد ربيعة بن قبال (١)

فقال الزّبرقان : لا بأس ، شيخان اشتركا فى صنعة.

وقلّما رأينا بليغا إلا وهو يقطع كلامه على معنى بديع ؛ أو لفظ حسن رشيق.

مثال المقطع الحسن فى الشعر

قال لقيط فى آخر قصيدة : (٢)

لقد محضت لكم ودّى بلا دخل (٣)

فاستيقظوا إن خير العلم ما نفعا

فقطعها على كلمة حكمة عظيمة الموقع.

ومثله قول امرئ القيس (٤) :

ألا إنّ بعد العدم للمرء قنوة

وبعد الشباب طول عمر وملبسا (٥)

فقطع القصيدة أيضا على حكمة بالغة.

وقال أبو زبيد الطائى فى آخر قصيدة (٦) :

كلّ شيء تحتال فيه الرجال

غير أن ليس للمنايا احتيال

وقال أبو كبير (٧) :

فإذا وذلك ليس إلا ذكره

وإذا مضى شيء كأن لم يفعل

فينبغى أن يكون آخر بيت قصيدتك أجود بيت فيها ، وأدخل فى المعنى الذى قصدت له فى نظمها ؛ كما فعل ابن الزّبعرى فى آخر قصيدة يعتذر فيها إلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويستعطفه :

فخذ الفضيلة عن ذنوب قد خلت

واقبل تضرّع مستضيف تائب

فجعل نفسه مستضيفا ، ومن حق المستضيف أن يضاف ، وإذا أضيف فمن حقه أن يصان ، وذكر تضرّعه وتوبته مما سلف ، وجعل العفو عنه مع هذه الأحوال فضيلة ؛ فجمع فى هذا البيت جميع ما يحتاج إليه فى طلب العفو.

__________________

(١) انتهاس الحصى : خضمه ، وفى ا «ينتهش».

(٢) مختارات ابن الشجرى ٦ ، مهذب الأغانى ١ : ١٥١

(٣) الدخل : الغش.

(٤) ديوانه : ١٤٢.

(٥) القنوة : بالكسر وتضم : الكسبة من المال يقتنيه ورواية الديوان : «بعد المشيب».

(٦) مهذب الأغانى ١ : ٨٦.

(٧) شعراء الهذليين ٢ : ١٠٠.

٤٤٨

وقول تأبط شرا فى آخر قصيدته (١) :

لتقرعنّ علىّ السّنّ من ندم

إذا تذكرت يوما بعض أخلاقى

هذا البيت أجود بيت فيها لصفاء لفظه ، وحسن معناه.

ومثله قول الشنفرى فى آخر قصيدة (٢) :

وإنى لحلو إن أريد حلاوتى

ومرّ إذا نفس العزوف أمرّت

أبىّ لما آبى قريب مقادتى

إلى كل نفس تنتحى فى مسرتى

فهذان البيتان أجود ما فخر به من هذه القصيدة.

وقال بشر بن أبى خازم فى آخر قصيدته (٣) :

ولا ينجى من الغمرات إلا

براكاء (٤) القتال أو الفرار

فقطعها على مثل سائر ؛ والأمثال أحب إلى النفوس لحاجتها إليها عند المحاضرة والمجالسة. وقال الهذلى (٥) :

عصاك الأقارب فى أمرهم

فزايل بأمرك أو خالط

ولا تسقطنّ سقوط النوا

ة من كف مرتضخ لاقط

مثال من النثر

فقطعها على تشبيه مليح ومثل حسن ، وهكذا يفعل الكتاب الحذاق ، والمترسلون المبرزون ؛ ألا ترى ما كتب الصاحب فى آخر رسالة له : فإن حنثت فيما حلفت ، فلا خطوت لتحصيل مجد ، ولا نهضت لاقتناء حمد ؛ ولا سعيت إلى مقام فخر ؛ ولا حرصت على علوّ ذكر ، وهذه اليمين التى لو سمعها عامر بن الظرب لقال هى الغموس ؛ لا القسم باللّات والعزى ومناة الثالثة الأخرى. فأتى بأيمان ظريفة ومعان غريبة.

وكتب أيضا فى آخر رسالة : وأنا متوقّع لكتابك ؛ توقّع الظمآن للماء الزلال ؛ والصوّام لهلال شوال.

وكتب آخر أخرى (٦) ؛ وسأل أن أخلفه فى تجشيم مولاى إلى هذا المجمع ليقرب علينا تناول

__________________

(١) المفضليات ١ : ٣١.

(٢) مهذب الأغانى ١ : ٩٧.

(٣) اللسان (برك).

(٤) البراكاء : الثبات فى الحرب والجد.

(٥) ديوان الهذليين ٢ : ١٩٦.

(٦) فى ا «وكتب آخر»

٤٤٩

البدر بمشاهدته ؛ ولمس الشمس بغرته. فانظر كيف يقطّع كلماته على كل معنى بديع ، ولفظ شريف.

من حسن المقطع جودة

الفاصلة وذلك على

ثلاثة أضرب الضرب

الأول :

ومن حسن المقطع جودة الفاصلة وحسن موقعها وتمكّنها فى موضعها ، وذلك على ثلاثة أضرب : فضرب منها أن يضيّق على الشاعر موضع القافية ، فيأتى بلفظ قصير قليل الحروف فيتمم به البيت ، كقول زهير (١) :

وأعلم ما فى اليوم والأمس قبله

ولكنّنى عن علم ما فى غد عمى

وقول النابغة (٢) :

كالأقحوان غداة غب سمائه (٣)

جفّت أعاليه وأسفله ندى

وقال الأعشى :

وكأس شربت على لذّة

وأخرى تداويت منها بها

وقول امرئ القيس (٤) :

مكرّ مفر مقبل مدبر معا

كجلمود صخر حطّه السّيل من عل

وقول طرفة (٥) :

إذا ابتدر القوم السلاح وجدتنى

منيعا إذا بلّت بقائمه يدى

وقول النابغة (٦) :

زعم الهمام ولم أذقه أنه

يشفى ببرد لثاتها العطش الصّدى

وقال آخر :

ألا يا غرابى بينها لا تصدّعا

فطيرا جميعا بالنوى أو قعامعا

وقول متمم (٧) :

فلما تفرقنا كأنى ومالكا

لطول اجتماع لم نبت ليلة معا

__________________

(١) ديوانه ٢٩.

(٢) ديوانه ٣٧.

(٣) السماء : المطر.

(٤) من المعلقة وديوانه ٣٤.

(٥) المعلقات ٩٣.

(٦) ديوانه ٣٧.

(٧) مهذب الأغانى ٢ : ١٨٢.

٤٥٠

وقول الأعشى :

فظلت أرعاها وظل يحوطها

حتى دنوت إذا الظلام دنا لها

وقول النابغة (١) :

لا مرحبا بغد ولا أهلا به

إن كان تفريق الأحبة فى غد

أفد الترحل غير أن ركابنا

لما تزل برحالنا وكأن قد

وقول ابن أحمر (٢) :

وقال عدى بن زيد (٣) :

فإن كانت النعماء عندك لامرئ

فمثّل بها واجز المطالب أو زد (٤)

وقال ابن أبى حية :

فقلن لها سرّا فديناك لا يرح

صحيحا وإلا تقبليه فألممى

فألقت قناعا دونه الشمس واتّقت

بأحسن موصولين كفّ ومعصم

وقالت فلما أفرغت فى فؤاده

وعينيه منها السحر قلن له قم

فودّ بجدع الأنف لو أنّ صحبه

تنادوا وقالوا فى المناخ له نم

ومن شعر المحدثين قول ابن أبى عيينة :

دنيا دعوتك مسمعا فأجيبى

وبما اصطفيتك للهوى فأثيبى

دومى أدم لك بالوفاء على الصّفا

إنى بعهدك واثق فثقى بى

وقال آخر :

أتتنى تؤنبنى فى البكا

فأهلا بها وبتأنيبها

تقول وفى قولها حشمة

ترانى بعين وتبكى بها

فقلت إذا استحسنت غيركم

أمرت الدموع بتأديبها

فقوله : «ترانى بعين وتبكى بها» حسن الوقع جدا.

__________________

(١) ديوانه ٣٥.

(٢) كذا فى الأصول ، ولم يذكر الشعر.

(٣) شعراء النصرانية ٤٦٥.

(٤) فى شعر النصرانية : «واردد»

٤٥١

وقلت :

سيقضى لى رضاك بردّ مالى

ويعمد حسن رأيك كشف ما بى

وقلت :

وذقت مهوى النجم ريقا خصرا

لو كان من ناجود خمر ما عدا

وقد تنعمت بنشر عطر

لو كان من فارة مسك كان دا

الضرب الثانى

والضرب الآخر : وهو أن يضيق به المكان أيضا ، ويعجز عن إيراد كلمة سالمة تحتاج إلى إعراب ليتم بها البيت ؛ فيأتى بكلمة معتلة لا تحتاج إلى الإعراب ، فيتمه به ؛ مثل قول امرئ القيس :

بعثنا ربيا قبل ذاك مخملا

كذئب الغضا يمشى الضّراء ويتقى (١)

وقول زهير (٢) :

صحا القلب عن سلمى وقد كاد لا يسلو

وأقفر من سلمى التّعانيق فالثقل (٣)

ثم قال : (٤)

وقد كنت من سلمى سنينا ثمانيا

على صير أمر ما يمرّ وما يحلو (٥)

وقال (٦) :

لذى الحلم من ذبيان عندى مودة

وحفظ ومن يلحم (٧) إلى الشّرّ أنسج

مخوف كأنّ الطير فى منزلاته

على جيف الحسرى مجالس تنتجى (٨)

وقوله (٩) :

وأراك تفرى ما خلقت وبع

ض القوم يخلق ثم لا يفرى (١٠)

__________________

(١) مشى الضراء : ه المشى فيما يواريك ممن تكيده وتختله.

(٢) ديوانه ٩٦.

(٣) التعانيق والثقل : واديان.

(٤) ديوانه : ٩٦.

(٥) صير أمر : منتهاه وصيرورته.

(٦) ديوانه ٣٢٤.

(٧) اللحمة : ما نسج عرضا.

(٨) الحسرى : المعيية ، تنتجى ، من المناجاة.

(٩) ديوانه ٩٤.

(١٠) الخالق : الذى يقدر للقطع ، وهو مثل.

٤٥٢

وقول أبى كبير (١) :

ولقد ربأت إذا الصحاب تواكلوا

جمر الظّهيرة فى البقاع الأطول (٢)

فى رأس مشرفة القذال كأنما

أطر السحاب بها رياض المجدل (٣)

ومعابلا صلع الظبات كأنها

جمر بمسهكة تشبّ لمصطلى (٤)

فقوله : «لمصطلى» متمكنة فى موضعها.

وقول ذى الرّمة (٥) :

أراح فريق جيرتك الجمالا

كأنهم يريدون احتمالا

فكدت أموت من حزن عليهم

ولم أر حادى الأظعان بالى

فقوله : بالى ، عجيبة الموقع ، أخذه من قول زهير (٦) :

لقد باليت مظعن أمّ أوفى

ولكن أم أو فى لا تبالى (٧)

وقول الحطيئة (٨) :

دع المكارم لا ترحل لبغيتها

واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسى

وقال آخر :

وجوه لو انّ المدلجين اعتشوا بها

صدعن الدّجى حتى ترى الليل ينجلى

الضرب الثالث

والضرب الثالث : أن تكون الفاصلة لائقة بما تقدّمها من ألفاظ الجزء من الرسالة أو البيت من الشعر ؛ وتكون مستقرة فى قرارها ، ومتمكنة فى موضعها ؛ حتى لا يسدّ مسدها غيرها ؛ وإن لم تكن قصيرة قليلة الحروف ، كقول الله تعالى : (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) ، وقوله تعالى : (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) ،

__________________

(١) ديوان الهذليين ٢ ـ ٩٦.

(٢) ربأت ، من ربأ القوم يربؤهم إذا اطلع عليهم من شرف. وفى الديوان : حم الظهيرة

(٣) أطر السحاب : اعوجاج تراه فيه ، والأطر هنا مصدر واقع فى معنى المفعول.

(٤) المعابل ، بالفتح جمع معبلة بالكسر ، وهى نصل طويل عريض. والمسهكة : ممر الريح إذا مرت مرا شديدا.

(٥) ديوانه ٦٢.

(٦) ديوانه ٣٤٢.

(٧) باليت ، من المبالاة ، مظعنها : مسيرها

(٨) ديوانه ٥٤.

٤٥٣

فأبكى مع أضحك وأحيا مع أمات ، والأنثى مع الذكر ، والأولى مع الآخرة ، والرضا مع العطية فى نهاية الجودة ، وغاية حسن الموقع.

من الشعر

ومن الشعر قول الحطيئة (١) :

هم القوم الّذين إذا ألمت

من الأيام مظلمة أضاءوا

وقول عدى بن الرقاع (٢) :

صلّى الإله على امرئ ودّعته

وأتمّ نعمته عليه وزادا

وقول زياد بن جميل :

هم البحور عطاء حين تسألهم

وفى اللقاء إذا تلقى بهم بهم

وهذا مستحسن جدّا لما تضمن من التجنيس.

ومن ذلك قول البحترى :

ظللنا نرجم فيك الظنون

أحاجبه أنت أم حاجمه

وقول أبى نواس (٣) :

إذا امتحن الدنيا لبيت تكشفت

له عن عدوّ فى ثياب صديق

الصديق هاهنا جيّد الموقع ؛ لأنّ معنى البيت يقتضيه ، وهو محتاج إليه.

وقول جميل :

ويقلن إنّك قد رضيت بباطل

منها فهل لك فى اعتزال الباطل

الباطل ، هاهنا جيد الموقع لمطابقته مع الباطل الأول ؛ وقلت :

وقد زيّنت أسواقه بطرائف

إذا انصرفت عنها العيون تعود

تعود ، هاهنا جيّد متمكن الموقع.

__________________

(١) ديوانه : ٢٧.

(٢) فى ط «الرقاش» ، وصوابه فى ا

(٣) ديوانه : ١٩٢.

٤٥٤

٤٥٥
٤٥٦

مما عيب من القوافى

ومما عيب من القوافى قول ابن قيس الرقيات ، وقد أنشد عبد الملك :

إنّ الحوادث بالمدينة قد

أوجعننى وقرعن مروتيه

وجببننى جبّ السّنام فلم

يتركن ريشا فى مناكبيه

فقال له عبد الملك : أحسنت إلّا أنك تخنّثت فى قوافيك ، فقال : ما عدوت قول الله عزوجل : (ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ) ، وليس كما قال ؛ لأنّ فاصلة الآية حسنة الموقع ، وفى قوافى شعره لين.

من عيوب القوافى

ومن عيوب القوافى أن تكون القافية مستدعاة لا تفيد معنى ، وإنما أوردت ليستوى الروىّ فقط ، مثل قول أبى تمام (١) :

كالظبية الأدماء صافت فأرتعت

زهر العرار الغضّ والجثجاثا (٢)

ليس فى وصف الظبية أنها ترتعى الجثجاث فائدة ، وسواء رعت الجثجاث أو القلّام أو غير ذلك من النبت ، وإذا قصد لنعت الظبية بزيادة حسن قيل إنها تعطو الشجر ؛ لأنها حينئذ ترفع رأسها ، فيطول جيدها وتظهر محاسنها ؛ كما قال الطّرمّاح (٣) :

مثل ما عاينت مخروفة (٤)

نصّها ذاعر روع مؤام

يصف أنها مذعورة تفتح عينيها وتمدّ جيدها ؛ فيبدو للعين محاسنها.

وقال زهير (٥) : وقريب منه قول الآخر :

وسابغة الأذيال زغف (٦) مفاضة

تكنّفها منّى بجاد مخطّط

وليس لتخطيط البجاد معنى يرجع إلى الدرع ، ولا إلى السيف.

ومثله قول الآخر :

أأنشر البر فيمن ليس يعرفه

وأنثر الدر بين العمى فى الغلس

__________________

(١) ديوانه : ٦٣.

(٢) الأدماء : البيضاء بسمرة. العرار : نبت. الغض : الناعم. الجثجاث : من أحرار البقول.

(٣) اللسان (خرف).

(٤) مخروفة : أصابها مطر الخريف.

(٥) كذا فى ا ونسبه لزهير ، ولم نعثر عليه فى الديوان ؛ وفى ط نسبه إلى آخر ، وفى الهامش ذكر أن قائله على بن محمد البصرى.

(٦) الزغف : الدرع المحكمة.

٤٥٧

ليس لذكر الغلس مع العمى معنى ؛ لأن الأعمى يستوى عنده الغلس والهاجرة ، ولو قال العمش لكان أقرب من العمى ، على أن الجميع لا خير فيه.

ومن هذا النوع قول القرشى :

ووقيت الحتوف من وارث وا

ل وأبقاك صالحا ربّ هود

ليس نسبة الله تعالى إلى أنه رب هود بأولى من نسبته إياه عزّ اسمه إلى أنه رب نوح أو غيره.

وقول ابن الرومى :

ألا ربما سؤت الغيور وساءنى

وبات كلانا من أخيه على وحر

وقبّلت أفواها عذابا كأنها

ينابيع خمر حصّبت لؤلؤ البحر

فقوله : «لؤلؤ البحر» أفسد البيت وأطفا نور المعنى ؛ لأن اللؤلؤ لا يكون فى غير البحر ، فنسبته إلى البحر لا فائدة فيه إلا إقامة الروى على ما قدمناه.

ورأيت المعنى جيدا فقلت :

مرّ بنا يستميله السّكر

وكيف يصحو وريقه خمر

قبلت فيه على مراقبة

ينبوع خمر حصباؤه درّ

من القوافى الرديئة

ومن القوافى الرديئة قول رؤبة (١) :

يكسين من لين الشباب نيما

النيم : الفرو ، وأىّ حسن للفرو فيشبه به شباب النساء! وما قال أحد : عليه من الشباب أو من الحسن فرو ؛ وإنما يقال : رداء الشباب ، وبرد الشباب ، وثوب الشباب ؛ ولم يقولوا : قميص الشباب ، وهو أقرب من الفرو. ولو قاله قائل لم يحسن لأنه لم يستعمل ، وإنما احتاج إلى الميم فوقع فى هذه الرذيلة.

وهذا باب لو أطلقت العنان فيه لطال فيشغل الأوراق الكثيرة ، ويصرم فيه الزمان الطويل ، وفيما ذكرناه كفاية إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) اللسان (نوم) وقبله :

وقد أرى ذاك فلن يدر ما

٤٥٨

الفصل الثّالث

فى الخروج من النسيب إلى المدح وغيره

بدء الشعر

كانت العرب فى أكثر شعرها تبتدئ بذكر الديار والبكاء عليها ، والوجد بفراق ساكنيها ، ثم إذا أرادت الخروج إلى معنى آخر قالت : فدع ذا وسلّ الهم عنك بكذا ، كما قال (١) :

فدع ذا وسلّ الهم عنك بجسرة

ذمول إذا صام النهار وهجّرا (٢)

وكما قال النابغة (٣) :

فسليت ما عندى بروحة عرمس

تخبّ برحلى مرة وتناقل (٤)

وربما تركوا المعنى الأول ، وقالوا «وعيس أو وهو جاء» وما أشبه ذلك ، كما قال علقمة (٥) :

إذا شاب رأس المرء أو قلّ ماله

فليس له فى ودّهنّ نصيب

وعنس بريناها كأنّ عيونها

قوارير فى أدهانهن نصوب (٦)

فإذا أرادوا ذكر الممدوح قالوا : إلى فلان ، ثم أخذوا فى مديحه ؛ كما قال علقمة (٧) :

وناجية أفنى ركيب ضلوعها

وحاركها تهجّر ودءوب (٨)

وتصبح عن غبّ السرى وكأنها

مولّعة تخشى القنيص شبوب (٩)

__________________

(١) هو امرؤ القيس ، اللسان (صوم).

(٢) الجسرة : الناقة العظيمة. والذمول : التى تسير سيرا لينا ؛ وصام النهار ؛ إذا اعتدل وقام قائم الظهيرة.

(٣) ديوانه : ٥٨.

(٤) العرمس : الصخرة ، وشبهت بها الناقة إذا كانت صلبة شديدة ، والمناقلة : أن تناقل يديها ورجليها فى السير ، وهو وضع الرجل مكان اليد.

(٥) ديوانه : ١٢.

(٦) العنس : الناقة القوية.

(٧) ديوانه : ١١.

(٨) ناجية : ناقة قوية. ركيب ضلوعها : ما ركب على ضلوعها من الشحم واللحم. الحارك : مقدم السنام.

(٩) القنيص : الصائد. الشبوب : الحسنة.

٤٥٩

فوصفها ثم قال :

إلى الحارث الوهاب أعملت ناقتى

لكلكلها والقصريين (١) وجيب

وقال الحرث بن حلزة (٢) :

أنمى إلى حرف مذكّرة

تهض الحصى بمناسم ملس

ثم قال :

أفلا نعدّيها إلى ملك

شهم المقادة حازم النّفس

ثم أخذ فى مديحه.

وربما تركوا المعنى الأول ، وأخذوا فى الثانى من غير أن يستعملوا ما ذكرناه ، قال النابغة (٣) :

تقاعس حتى قلت ليس بمنقض

وليس الذى يرعى النجوم بآئب

علىّ لعمرو نعمة بعد نعمة

لوالده ليست بذات عقارب

وقال أيضا (٤) :

على حين عاتبت الفؤاد على الصّبا

وقلت ألمّا أصح والشيب وازع

وقد حال همّ دون ذلك داخل

ولوج الشّغاف تبتغيه الأصابع

وعيد أبى قابوس فى غير كنهه

أتانى ودونى راكس والضواجع (٥)

والبحترى يسلك هذه الطريقة فى أكثر شعره.

الخروج المتصل بما قبله

فأما الخروج المتصل بما قبله فقليل فى أشعارهم ؛ فمن القليل قول دجانة ابن عبد قيس التميمى :

وقال الغوانى قد تضمّر جلده

وكان قديما ناعم المتبذّل

فلا تأس أنى قد تلافيت شيبتى

وهزّ الغوانى من شميط مرجّل

__________________

(١) القصريان : ضلعان تليان الترقوتين. والوجيب : الخفقان.

(٢) شعراء النصرانية : ٤٢٠.

(٣) ديوانه : ٣.

(٤) ديوانه : ٥١.

(٥) راكس : واد. والضواجع : جمع ضاجعة ، وهى منحنى الوادى.

٤٦٠