كتاب الصّناعتين الكتابة والشعر

أبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري

كتاب الصّناعتين الكتابة والشعر

المؤلف:

أبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري


المحقق: علي محمد البجاوي ومحمد ابوالفضل ابراهيم
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٨

إلا بالآذان. وقال أعرابى لآخر : يسار النفس خير من يسار المال ، ورب شبعان من النّعم ، غزثان (١) من الكرم. وغزت نميرا حنيفة فاتبعتهم نمير ، فأتوا عليهم ، فقيل لرجل : كيف كان القوم؟ فقال : اتبعوهم والله رفدا حقبوا كل جماليّة خيفانة ، فما زالوا يحصفون آثار المطى بحوافر الخيل ؛ فلما لقوهم جعلوا المرّان أرشية الموت ، فاستقوا بها أرواحهم (٢). وقال آخر : فلان أملس ، ليس فيه مستقر لخير ، ولا لشر. وقال أحمد بن يوسف وقد شتمه (٣) رجل بين يدى المأمون : رأيته يستملى ما يلقانى به من عينيك. وقيل لأعرابى : أى الطعام أطيب؟ قال : الجوع أبصر. ومدح أعرابى رجلا فقال : كان يفتح من الرأى أبوابا منسدة ، ويغسل من العار وجوها مسودّة. ومدح أعرابى رجلا فقال : كان والله إذا عرضت له زينة الدنيا هجّنتها زينة الحمد عنده ؛ وإن للصنائع لغارة على أمواله كغارة سيوفه على أعدائه. ومدح أعرابى قوما فقال : أولئك غرر تضىء من ظلم الأمور المشكلة ، قد صغت آذان المجد إليهم. وقال أعرابى يمدح رجلا : إنه ليعطي عطاء من يعلم أن مادته. ومدح أعرابى رجلا ، فقال : لسانه أحلى من الشهد ، وقلبه سجن للحقد. ومدح أعرابى رجلا فقال : إن أسأت إليه أحسن ، وكأنه المسيء ، وإن أجرمت إليه غفر ، وكأنه المجرم ، اشترى بالمعروف عرضه من الأذى ؛ فهو وإن كانت له الدنيا بأسرها فوهبها ، رأى بعد ذلك عليه حقوقا ؛ لا يستعذب الخنا ، ولا يستحسن غير الوفا (٤).

وذم أعرابى رجلا فقال : يقطع نهاره بالمنى ، ويتوسد ذراع الهمّ إذا أمسى. وذم أعرابى رجلا فقال : إن فلانا ليقدم على الذنوب إقدام رجل قدم فيها نذرا ، أو يرى أنّ فى إتيانها عذرا. وقال أعرابى لرجل : لا تدنس شعرك بعرض فلان ؛

__________________

(١) الغرث : أيسر الجوع.

(٢) الحقب ، بالتحريك : الحزام الذى يلى حقو البعير.

وناقة جمالية : وثيقة الخلق. والخيفانة : الفرس. حصفته : أقصيته. والمران : الرماح الصلبة.

(٣) فى ط : «شمه» ، وصوابه من ب.

(٤) العبارة مضطربة فى ط ، وصوابها من ب.

٢٨١

فإنه سمين المال ، مهزول المعروف ، قصير عمر المنى ، طويل حيات الفقر. وسأل أعرابى فقيل له : عليك بالصيارف ، فقال : هناك قرارة اللؤم. وذكر أعرابى قوما فقال : أولئك قوم قد سلخت أقفاؤهم بالهجاء ، ودبغت جلودهم باللؤم ؛ فلباسهم فى الدنيا الملامة ، وزادهم فى الآخرة الندامة. وذمّ أعرابى قوما فقال : هم أقل دنوا إلى أعدائهم ، وأكثر تجرّما على أصدقائهم ، يصومون عن المعروف ويفطرون على الفحشاء. وذمّ أعرابى رجلا فقال : ذاك رجل تعدو إليه مواكب الضلالة ، ويرجع من عنده ببدر الآثام ، معدم مما يحب ، مثر مما يكره.

وقال أعرابى : ما أشدّ جولة الهوى! وفطام النفس عن الصّبا ، ولقد تصدعت نفسى للعاشقين ؛ لوم العاذلين قرطة فى آذانهم ، ولوعات الحب نيران فى أبدانهم. وقال أعرابى : ما رأيت دمعة ترقرق فى عين ، وتجرى على خد ، أحسن من عبرة أمطرتها عينها ، فأعشب لها قلبى. وقال أعرابى ـ وذكر قوما زهّادا ـ فاز قوم أدّبتهم الحكمة ، وأحكمتهم التجارب ، ولم تغررهم السّلامة المنطوية على الهلكة ، ورحل عنهم التسويف الذى قطع به الناس مسافة آجالهم ، فأحسنوا المقال ، وشفعوه بالفعال ، تركوا النعيم ليتنعموا ؛ لهم عبرات متدافعة ؛ لا تراهم إلا فى وجه عند الله وجيها. ووصف أعرابى واليا فقال : كان إذا ولّى طابق من جفونه ، وأرسل العيون على عيونه ، فهو شاهد معهم ، غائب عنهم ، فالمحسن آمن ، والمسيء خالف. ووصف أعرابى دارا فقال : هى والله معتصرة الدموع ، جرّت بها الرياح أذيالها ، وحلّت بها السحاب أثقالها. وذكر أعرابى رجلا فقال : كان الفهم منه ذا أذنين ، والجواب منه ذا لسانين ؛ لم أر أحدا كان أرتق لخلل الرأى منه ، كان والله بعيد مسافة الرأى ، يرمى بطرفه حيث أشار الكرم ، يتحسّى مرارة الإخوان ، ويسيغهم العذب. ووصف أعرابى قومه فقال : كانوا والله إذا اصطفوا تحت القتام سفرت بينهم السهام ، بوقوف الحمام ، وإذا تصافحوا بالسيوف فغرت المنايا أفواهها ، فكم من يوم عارم قد أحسنوا أدبه ،

٢٨٢

وحرب عبوس قد ضاحكتها أسنتهم ، وخطب شين (١) ، قد ذللوا مناكبه ؛ إنما كانوا كالبحر الذى لا ينكش (٢) غماره ؛ ولا ينهنه تيّاره. وقيل لأعرابى : يزعم فلان أنه كساك ثوبا ، فقال : إن المعروف إذ أمرّ كدّر ، وإذا محض أمرّ ؛ ومن ضاق قلبه اتسع لسانه.

وذكر أعرابى رجلا فقال : كلامه منقوض آثار القطا ؛ وهو مع ذا رثّ عقال المودة ، مسودّ وجه الصداقة ؛ ولئن كان لبنى الآدميين سباخ إنه لمن سباخ بنى آدم.

وقيل لأعرابى : لم لا تشرب النبيذ؟ فقال : لا أشرب ما يشرب عقلى.

وقال معاوية : العيال أرضة المال. وقال خالد بن صفوان : إياكم ومجانيق الضعفاء (٣). وقال : لا تضع معروفك عند فاجر ، ولا أحمق ، ولا لئيم ، فإن الفاجر يرى ذلك ضعفا ، والأحمق لا يعرف ما أوتى إليه فيشكره على مقدار عقله ، واللئيم سبخة لا ينبت شيئا ولا يثمر ؛ ولكن إذا رأيت الثرى فازرع المعروف تحصد الشكر ، وأنا الضامن.

وأهدت امرأة من العجم إلى هوى لها فى يوم نوروز وردا وكتبت إليه : هذا اليوم أحد (٤) فتيان الدهر وشاب (٥) أقسامه ، والقصف فيه عروس ، والورد فى البرد كالدر فى النّحر ؛ وقد بعثت إليك منه مهرا ليومك ، فزوّج السرور من النفس ، والطرب من القلب ، ولا تستقل برا ، فإنا لا نستكثر على قبوله شكرا.

وقال آخر فى رجل : ما ذا تثير الخبرة من دفأن كرمه. وقال أعرابى لخصمه : أما والله لئن هملجت إلى الباطل ، إنك عن الحق لقطوف ، ولئن أبطأت عنه لتسر عن إليه ؛ فاعلم أنه إن لم يعد لك الحق عدلك الباطل ، والآخرة من ورائك. وقال آخر : الخط مركب البيان. وقال آخر : القلم لسان اليد. وسمعت بعض الأطباء يقول : الماء مطية الطعام.

وقال الحسن بن وهب لكاتبه : لا ترق ماء معروفى بالمن ؛ فإن اعتدادك بالعرف

__________________

(١) كذا فى ب ، وفى ط «شئز».

(٢) لا ينكش غماره : لا ينزف ماؤه.

(٣) المجانيق : جمع ، واحده منجنيق بفتح الميم وكسرها : القذاف التى ترمى بها الحجارة ،

(٤) فى ب «واحد».

(٥) فى ط «وشباب» ، وما أثبتناه عن ب.

٢٨٣

يعقل لسان الشكر.

الاستعارة فى أشعار المتقدمين

وأمثال هذا كثير فى منثور الكلام وفيما أوردته كفاية إن شاء الله.

فأما الاستعارة من أشعار المتقدمين فمثل قول امرئ القيس (١) :

وليل كموج البحر مرخ سدوله

علىّ بأنواع الهموم ليبتلى

فقلت له لما تمطّى بصلبه

وأردف أعجازا وناء بكلكل

وقال زهير (٢) :

صحا القلب عن ليلى وأقصر باطله

وعرّى أفراس الصّبا ورواحله

وقول امرئ القيس (٣) :

فبات عليه سرجه ولجامه

وبات بعينى قائما غير مرسل

أى كنت أراه وأحفظه ؛ وعلى هذا مجاز قوله عزوجل : (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا).

وقال زهير (٤) :

إذا سدّت به لهوات ثغر

يشار إليه جانبه سقيم (٥)

وقال النابغة (٦) :

وصدر أراح الليل عازب همه

تضاعف فيه الحزن من كلّ جانب (٧)

وفى هذا البيت ماء وطلاوة ليس مثله فى بيت زهير. وقال عنترة (٨) :

جادت عليه كلّ بكر حرّة

فتركن كلّ قرارة كالدّرهم (٩)

وقال مهلهل :

تلقى فوارس تغلب ابنة وائل

يستطعمون الموت كل همام

__________________

(١) ديوانه : ٣٣.

(٢) ديوانه : ١٢٤.

(٣) ديوانه : ٤٠.

(٤) ديوانه : ٢١٠.

(٥) اللهوات : جمع لهاة ، ويريد أفواه الثغور.

(٦) ديوانه : ٣.

(٧) أراح : رد. والعازب : البعيد.

(٨) المعلقات : ١٨٠.

(٩) البكر : السحابة فى أول الربيع. والحرة : البيضاء. والقرارة : الموضع المطمئن من الأرض.

٢٨٤

وقال زهير (١) :

إذا لقحت حرب عوان مضرّة

ضروس تهرّ الناس أنيابها عصل (٢)

أخذه من قول أوس بن حجر (٣) :

وإنى امرؤ أعددت للحرب بعد ما

رأيت لها نابا من الشّرّ أعصلا

وقال المسيّب بن علس (٤) :

وإنهم قد دعوا دعوة

سيتبعها ذنب أهلب (٥)

أراد جيشا كثيفا.

وقال الأسود بن يعفر :

فأدّ حقوق قومك واجتنبهم

ولا يطمح (٦) بك العز الفطير

أراد عزّا ليس بالمحكم كفطير العجين ، والفطير من الجلد : ما لم يدبغ.

وقال طفيل الغنوى (٧) :

وجعلت كورى فوق ناجية

يقتات (٨) شحم سنامها الرّحل

وقال الحرث بن حلزة (٩) :

حتى إذا التفع الظباء بأطرا

ف الظّلال وقلن فى الكنّس (١٠)

الالتفاع : لبس اللفاع وهو اللّحاف. ومثله قول الشّماخ (١١) :

إذا الأرطى توسّد أبرديه

خدود جوازئ بالرمل عين (١٢) :

__________________

(١) ديوانه : ١٠٣.

(٢) لقحت : اشتدت. عوان : قوتل فيها مرة بعد مرة ، ضروس : سيئة. تهر الناس : تصيرهم يهرونها أى يكرهونها. وعصل : كالحة.

(٣) اللسان (عصل).

(٤) اللسان (هلب).

(٥) أهلب ؛ قال فى اللسان بعد أن أورد البيت : «أى منقطع عنكم».

(٦) كذا فى ا ، وفى ط : «يطنح».

(٧) اللسان (قوت).

(٨) قال ابن الأعرابى : «معناه يذهب شيئا بعد شيء».

(٩) شعراء النصرانية : ٤٢٠.

(١٠) قلن : قضين وقت القيلولة. والكنس : جمع كناس ، وهو مأوى الظباء.

(١١) ديوانه : ٩٤.

(١٢) الأرطى ؛ واحدته أرطاة : شجر ينبت بالرمل شبيه بالغضا يطول قدر قامة وله نور مثل نور الخلاف ورائحته طيبة. والجوازئ : الظباء. وعين : جمع عيناء وهى الواسعة العين ، وأراد بذلك بقر الوحش.

٢٨٥

أبرداه : ظلّ الغداة والعشىّ. توسدته : جعلته بمنزلة الوسادة.

وقال آخر :

ومهمه فيه السراب يسبح

يدأب فيه القوم حتى يطلحوا (١)

ثم يبيتون كأن لم يبرحوا

كأنما أمسوا بحيث أصبحوا

وقال عمرو بن كلثوم (٢) :

ألا أبلغ النّعمان عنّى رسالة

فمجدك حولىّ ولؤمك قارح (٣)

وقال الحطيئة (٤) :

ألا بالقلب عارم (٥) النظرات

وقال الجعدىّ :

فإن يطف أصحابه يرسب

وقال أبو ذؤيب (٦) :

وإذا المنية أنشبت أظفارها

وقال أبو خراش الهذلىّ (٧) :

أردّ شجاع البطن لو تعلمينه

وأوثر غيرى من عيالك بالطعم (٨)

وقال لبيد (٩) :

فبتلك إذ رقص اللوامع بالضّحى

واجتاب أردية السراب إكامها (١٠)

__________________

(١) الطلح : الكلال والإعياء.

(٢) شعراء النصرانية : ٢٠٢.

(٣) حولى : أتى عليه حول ، والقارح من ذى الحافر بمنزلة البازل من البعير ولا يبزل البعير إلا إذا طعن فى التاسعة.

(٤) ديوانه : ٥٦ ، وبقيته :

يقطع طول الليل بالزفرات

(٥) فى ط «عادم» صوابه من الديوان

(٦) ديوان الهذليين : ١ ـ ٣ ، وبقيته :

ألفيت كل تميمة لا تنفع

(٧) ديوان الهذليين : ٢ ـ ١٢٨ ، واللسان (شجع) يخاطب امرأته.

(٨) شجاع البطن : شدة الجوع.

(٩) المعلقات : ١٥٩.

(١٠) رقص : اضطرب. واللوامع : الأرضون التى تلمع بالسراب. واجتاب : لبس. والإكام : الجبال الصغار.

٢٨٦

وقال أيضا (١) :

وغداة ريح قد كشفت وقرّة

إذ أصبحت بيد الشّمال زمامها

وقال أوس بن مغراء :

يشيب على لؤم الفعال كبيرها

ويغذى بثدى اللؤم منها وليدها

وقال الأخطل :

وأهجر هجرانا جميلا وينتحى

لنا من ليالينا العوازم أول

وقال آخر (٢) :

قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم

طاروا إليه زرافات (٣) ووحدانا

وقال :

هم ساعد الدهر الّذى يتّقى به

وما خير كفّ لا تنوء بساعد

وقال آخر :

سأبكيك للدّنيا وللدّين إننى

رأيت يد المعروف بعدك شلّت

وقال المقنّع (٤) :

أسدّ به ما قد أخلّوا وضيعوا

ثغور حقوق ما أطاقوا لها سدّا

وقال آخر :

وذاب للشمس لعاب فنزل

أخذه من قول النابغة (٥) :

إذا الشّمس مجّت ريقها بالكلاكل

__________________

(١) المعلقات : ١٥٨.

(٢) ديوان الحماسة : ١ ـ ٣ ، وهو لقريط بن أنيف.

(٣) الزرافات : الجماعات.

(٤) هو المقنع الكندى. ديوان الحماسة : ٢ ـ ٣٧.

(٥) ديوانه : ٩٠ ، وصدره :

يثرن الحصى حتى يباشرن برده

٢٨٧

وقال آخر (١) :

جاء الشّتاء واجثألّ القبّر

وطلعت شمس عليها مغفر

جعل قطعة السحاب إلى جانب الشمس مغفرا لها ، واجثأل : انتفش (٢).

وقال الحطيئة :

وما خلت سلمى قبلها ذات رحلة

إذا قسورىّ الليل جيبت سرابله

وقال أيضا :

وولّوا وأعطونا الذى سئلوا

من بعد موت ساقط أزره

إنا لنكسوهم (٣) وإن كرموا

ضربا يطير خلاله شرره

وقال أبو دواد :

وقد اغتدى فى بياض الصّباح

وأعجاز ليل مولّى الذّنب

وقال الأفوه (٤) :

عافوا الإتاوة واستقت أسلافهم

حتى ارتووا عللا بأذنبة الردى (٥)

وقال ابن مناذر :

بأرشية أطرافها فى الكواكب

وقال الأخطل :

حتى إذا افتض ماء المزن عذرتها

راح الزجاج وفى ألوانه صهب

وقال غيره (٦) :

وجيش يظلّ البلق فى حجراته

ترى الأكم فيه سجدا للحوافر (٧)

__________________

(١) اللسان (جثل) ونسبه لجندل بن المثنى.

(٢) اجثأل : انتفشت قنزعته.

(٣) كذا فى ا ، وفى ط «لنشكرهم».

(٤) ديوانه : ٦.

(٥) الإتاوة : الرشوة. والأذنبة : جمع ذنوب ، وهى الدلو ، تذكر وتؤنث.

(٦) اللسان (سجد).

(٧) حجراته : نواحيه. والأكم : جمع أكمة. وسجد : خضع.

٢٨٨

وقال ذى الرّمة :

سقاه الكرى كأس النعاس فرأسه

لدين الكرى من آخر الليل ساجد

قوله : «سقاه الكرى» جيد. وقوله : «لدين الكرى» بعيد عندى.

وقال مضرس ابن ربعىّ :

أذود سوام الطرف عنك وماله

على أحد إلّا عليك طريق

وقال تأبط شرا (١) :

ويسبق وفد الرّيح من حيث تنتحى

بمنخرق من شدّه المتدارك (٢)

إذا حاص عينيه كرى النوم لم يزل

له كالئ من قلب شيحان فاتك (٣)

ويجعل عينيه ربيئة قلبه

إلى سلّة من صارم الغرب باتك (٤)

إذا هزّه فى عظم قرن تهللت

نواجذ أفواه المنايا الضواحك

فى كل بيت من هذه الأبيات استعارة بديعة ، وقد أخذ رؤبة قوله : «ويسبق وفد الريح» فقال (٥) :

يسبق وفد الريح (٦) من حيث انخرق

وقال الراعى :

يدعو أمير المؤمنين ودونه

خرق (٧) تجرّ به الرياح ذيولا

وقال أوس :

ليس الحديث ينهى بينهنّ ولا

سرّ يحدّثنه فى الحىّ منشور

__________________

(١) ديوان الحماسة : ١ ـ ٩٢.

(٢) وفد الريح : أولها. وينتحى : يقصد. والمنخرق : السريع. والمتدارك : المتلاحق.

(٣) حاص : خاط. والشيحان : الحازم.

(٤) الربيئة : الرقيب. والسلة : المرة ، من سل السيف. والباتك : القاطع.

(٥) أراجيز العرب : ٢٣.

(٦) فى ب : «بكل وفد الريح».

(٧) الخرق : الفلاة الواسعة.

٢٨٩

٢٩٠

الاستعارة فى كلام المحدثين

ومما جاء فى كلام المحدثين قول أبى تمام (١) :

ليالى نحن فى غفلات عيش

كأنّ الدهر عنها فى وثاق (٢)

وأيام لنا ولهم لدان

عرينا من حواشيها الرّقاق (٣)

وقال العباس بن الأحنف ، أو الخليع :

قد سحب الناس أذيال الظّنون بنا

وفرّق الناس فينا قولهم فرقا

فكاذب قد رمى بالظنّ غيركم

وصادق ليس يدرى أنّه صدقا

وقال مسلم (٤) :

شججتها بلعاب المزن فاغتزلت (٥)

نسجين من بين محلول ومعقود

وقوله (٦) :

كأنه أجل يسعى إلى أمل

وقوله (٧) :

يكسو السيوف نفوس الناكثين به

ويجعل الهام تيجان القنا الذّبل

وقوله (٨) :

إذا ما نكحنا الحرب بالبيض والقنا

جعلنا المنايا عند ذاك طلاقها

وقوله (٩) :

والدهر آخذ ما أعطى مكدّر ما

أصفى ومفسد ما أهوى له بيد

فلا يغرّنك من دهر عطيته

فليس يترك ما أعطى على أحد

__________________

(١) ديوانه : ٢١٥.

(٢) وثاق : رباط.

(٣) اللدان : اللينة.

(٤) الشعر والشعراء ٨١٠.

(٥) اغتزلت : اختلطت.

(٦) الشعر والشعراء ٨١٠ ، وصدره :

موف على مهج فى يوم ذى رهج

(٧) الشعر والشعراء : ٨١١

(٨) الشعر والشعراء : ٨١٠.

(٩) الشعر والشعراء : ٨١٠.

٢٩١

وقوله (١) :

ولم ينطق بأسرارها الحجل

وقوله (٢) :

ولما تلاقينا قضى الليل نحبه

بوجه كأنّ الشمس من مائه مثل

وماء كعين الشمس لا تقبل القذى

إذا درجت فيه الصّبا خلته يعلو

من الضّحّك الغرّ اللّواتى إذا التقت

تحدّث عن أسرارها السّبل الهطل (٣)

صدعنا به حدّ الشّمول وقد طغت

فألبسها حلما وفى حلمها جهل

تساقط يمناه النّدى وشماله الر

ردى وعيون القول منطقه الفصل

حبى لا يطير الجهل من عذباتها (٤)

إذا هى حلّت لم يفت حلها ذحل

بكفّ أبى العباس يستمطر الغنى

ويستنزل النّعمى ويسترعف النّصل

متى شئت رفّعت الستور عن الغنى

إذا أنت زرت الفضل أو أذن الفضل

وقال أيضا :

كأنها ولسان الماء يقلبها

عقيقة ضحكت فى عارض برد

دارت عليه فزادت فى شمائله

لين القضيب ولحظ الشادن الغرد

وقال أيضا (٥) :

فأقسمت أنسى الدّاعيات إلى الصّبا

وقد فاجأتها العين والسّتر واقع

فغطّت بأيديها ثمار نحورها

كأيدى الأسارى ثقّلتها الجوامع

__________________

(١) الشعر والشعراء : ٨١٢ ، وفيه بتمامه :

خفين على غيب الظنون وغصت

البرين فلم ينطق بأسرارها حجل

(٢) المصدر نفسه.

(٣) الضحك ، عنى بها السحب الراكدة. والسبل : المطر. والهطل : المطر المتفرق العظيم القطر.

(٤) عذبة كل شيء : طرفه ، يقول : إذا حلت هذه الحبى فلا بد أن يدرك أصحابها أوتارهم.

(٥) الشعر والشعراء : ٨١٦.

٢٩٢

وقال أيضا (١) :

نفضت بك الأحلاس نفض إقامة

واسترجعت نزاعها الأمصار (٢)

أجل ينافسه الحمام وحفرة

نفست عليها وجهك الأحفار (٣)

فاذهب كما ذهبت غوادى مزنة

أثنى عليها السهل والأوعار

أخذ «نفست عليها وجهك الأحفار» بعضهم ، فقال :

لو علم القبر ما يوارى

تاه على كلّ ما يليه

وقال (٤) :

ويخطئ عذرى وجه جرمى عندها

فأجنى إليها الذّنب من حيث لا أدرى

إذا أذنبت أعددت عذرا لذنبها

وإن سخطت كان اعتذارى من العذر

وقال :

يذكّر نيك اليأس فى خطرة المنى

وإن كنت لم أذكرك إلا على ذكرى

وقال (٥) :

تجرى الرياح بها حسرى مولهة

حين تلوذ بأطراف الجلاميد

وقال أبو الشيص :

خلع الصّبا عن منكبيه مشيب

وقال أبو العتاهية (٦) :

أنته الخلافة منقادة

إليه تجرّر أذيالها

وقال أبو نواس (٧) :

فاسقنى البكر التى اختمرت

بخمار الشّيب فى الرّحم

__________________

(١) الشعر والشعراء : ٨١٧.

(٢) الحلس : كساء يوضع على ظهر البعير تحت الرحل.

(٣) الأحفار : جمع حفر ، بفتحتين ، وهو التراب المستخرج من الشىء المحفور.

(٤) الشعر والشعراء : ٨١٨.

(٥) مهذب الأغانى : ٨ ـ ١٢.

(٦) عصر المأمون : ٢ ـ ٣٦٥.

(٧) ديوانه : ٣٢٤.

٢٩٣

ثمت انصات الشباب لها

بعد أن جازت مدى الهرم

فهى لليوم الّذى نزلت

وهى تلو الدّهر فى القدم

ومنها قوله :

فتمشت فى مفاصلهم

كتمشّى البرء فى السقم

صنعت فى البيت إذ مزجت

كصنيع الصّبح فى الظّلم

قوله : انصات الشباب لها : كأنها صوتت به ، فانصات لها أى أجابها.

وقوله (١) :

أعطتك ريحانها العقار

وحان من ليلك انسفار

أى شربتها فتحول طيبها إليك.

وقوله :

لنا روامش ينتخبن لنا

تظلّ آذاننا مطاياها

الرامشة : ورقة آس لها رأسان.

وقال (٢) :

حتى تخيرت بنت دسكرة

قد عاجمتها السنون والحقب (٣)

وقوله (٤) :

حتى إذا ما علا ماء الشباب بها

وأفعمت فى تمام الجسم والقصب

وجمّشت بخفىّ اللحظ فانجشمت

وجرّت الوعد بين الصّدق والكذب

وقوله فى السحاب :

وجرّت على الرّبا ذنبا

وقال :

فراح لا عطّلته عافية

وبات طرفى من طرفه جنبا

__________________

(١) ديوانه : ٢٧٤.

(٢) ديوانه : ٢٤٢.

(٣) الدسكرة : بناء كالقصر حوله بيوت للأعاجم يكون فيها الشراب والملاهى.

(٤) ديوانه : ٢٤٣.

٢٩٤

وقال (١) :

دع الألبان يشربها رجال

رقيق العيش بينهم غريب

وقوله :

ولا عجيب إن جفت دمنة

عن مستهام نومه قوت

وقوله (٢) :

فقمت والليل يجلوه الصباح كما

جلا التبسّم عن غرّ الثّنيات

وقوله (٣) :

من قهوة جاءتك قبل مزاجها

عطلا فألبسها المزاج وشاحا

وقوله منها :

شكّ البزال فؤادها فكأنما

أهدت إليك بريحها التفّاحا

صفراء تفترس النفوس فلا ترى

منها بهنّ سوى السّباب جراحا

عمرت يكاتمك الزمان حديثها

حتى إذا بلغ السآمة باحا

وقوله (٤) :

جريت مع الصّبا طلق الجموح

وهان علىّ مأثور القبيح

وجدت ألذّ عارية الليالى

قران النّغم بالوتر الفصيح

وقوله منها :

تمتع من شباب ليس يبقى

وصل بعرى الغبوق عرى الصّبوح

وخذها من مشعشعة كميت (٥)

تنزّل درّة الرجل الشّحيح

فإنى عالم أن سوف ينأى

مسافة بين جثمانى وروحى

وقوله :

فاستنطق العود قد طال السّكوت به

لن ينطق اللهو حتى ينطق العود

__________________

(١) ديوانه : ٢٤٤.

(٢) ديوانه : ٢٥٠.

(٣) ديوانه : ٢٥٦.

(٤) ديوانه : ٢٥٧.

(٥) مشعشعة : مختلطة : وكميت : حمراء.

٢٩٥

وقوله (١) :

صفراء تعنق بين الماء والزبد (٢)

وقوله :

وقد لاحت الجوزاء وانغمس النّسر

وقوله :

تجرر أذيال الفجور ولا فجر

وقوله (٣) :

لا ينزل الليل حيث حلّت

فدهر شرّابها نهار

وقوله (٤) :

وريّان من ماء الشباب كأنما

يظمّأ من صمّ الحشا ويجاع

وقوله (٥) :

وتنحّ عن طرب وعن قصف

وقوله :

عين الخليفة بى موكّلة

عقد الحذار بطرفها طرفى

صحّت علانيتى له وأرى

دين الضّمير له على حرف

وقوله :

سلبوا قناع الطّين عن رمق

حىّ الحياة مشارف الحتف

فتنفست فى البيت إذ مزجت

كتنفّس الريحان فى الأنف

وقوله (٦) :

نتيجة مزنة من عود كرم

تضىء الليل مضروب الرّواق

__________________

(١) ديوانه : ٢٦٧ ، وصدره :

دع ذا عدمتك واشربها معتقة

(٢) تعنق ، من قولهم : عنقت السحابة إذا خرجت من معظم الغيم ، تراها بيضاء لإشراق الشمس عليها. ورواية الديوان :

صفراء تفرق بين الروح والجسد

(٣) ديوانه : ٢٧٤.

(٤) ديوانه : ٣٠٢.

(٥) ديوانه : ٣٠٣ ، وقبله :

أطع الخليفة واعص ذا عزف

(٦) ديوانه : ٣٠٦.

٢٩٦

وقوله (١) :

حلبت لأصحابى بها درّة الصّبا

بصفراء من ماء الكروم شمول

وقوله (٢) :

دعا همّه من صدره برحيل

وقوله (٣) :

ولما توفى الليل جنحا من الدّجى

وقوله (٤) :

وقام وزن الزمان فاعتدلا

وقوله (٥) :

فقد أصبح وجه الزمان مقتبلا

وقوله (٦) :

كان الشباب مطيّة الجهل

وهو من قول النابغة (٧) :

فإن مطيّة الجهل الشّباب

وقوله (٨) :

وحططت عن ظهر الصّبا رحلى

وقوله (٩) :

ومتّصل بأسباب المعالى

له فى كل مكرمة حميم

__________________

(١) ديوانه : ٣١١.

(٢) صدره :

إذا ما أتت دون اللهاة من الفتى

(٣) بقيته :

تصابيت واستجملت غير جميل

(٤) ديوانه : ٣١٣ ، وصدره :

أما ترى الشمس حلت الحملا

(٥) صدره :

فنشرب على جدة الزمان فقد

(٦) ديوانه : ٣١١ ، وبعده :

ومحسن الضحكات والهزل

(٧) ديوانه : ٧٥ ، وصدره :

فإن يك عامر قد قال جهلا

(٨) صدره :

فالآن صرت إلى مقاربة

(٩) ديوانه : ٣٢٦.

٢٩٧

رفعت له النداء «بقم» فخذها

فقد أخذت مطالعها النّجوم

وقوله (١) :

ألا لا ترى مثلى امترى اليوم فى رسم

تغصّ به عينى ويلفظه وهمى

وقوله : «تغص به» ؛ أى تمتلئ بالدموع ، «ويلفظه وهمى» أى ينكره.

وقوله :

وكأنما يتلو طرائدها

نجم تواتر فى قفا نجم

وقوله (٢) :

شمولا تخطته المنون وقد أتت

سنون لها فى دنّها وسنون

وقوله (٣) :

فتقربت بصرف عقار

نشأت فى حجر أمّ الزّمان

وقوله :

ترى العين تستعفيك من لمعانها

وتحسر حتى ما تقلّ جفونها

وقوله (٤) :

فى مجلس ضحك السرور به

عن ناجذيه وحلّت الخمر

وقول أبى تمام (٥) :

وحسن منقلب تبدو عواقبه

جاءت بشاشته فى سوء منقلب

وقوله (٦) :

رخصت لها المهجات وهى غوال

وقوله (٧) :

وتنظّرى خبب الركاب ينصّها (٨)

محيى القريض إلى مميت المال

__________________

(١) ديوانه : ٣٢٤ ، وامترى : شك.

(٢) ديوانه : ٣٣٨.

(٣) ديوانه : ٣٣٨.

(٤) ديوانه : ١٠٢.

(٥) ديوانه : ٩.

(٦) ديوانه : ٢٥٩ ، وصدره :

غضب الخليفة للخلافة غضبة

(٧) ديوانه : ٢٤٦.

(٨) ينصها : يستخرج أقصى ما عندها من الجرى.

٢٩٨

وقوله (١) :

تطلّ الطلول الدمع فى كلّ منزل

وتمثل بالصّبر الديار المواثل (٢)

دوارس لم يجف الربيع ربوعها

ولا مرّ فى أغفالها وهو غافل

فقد سحبت فيها السحاب ذيولها

وقد أخملت بالنّور فيها الخمائل

ليالى أضللت العزاء وخزّلت

بعقلك أرآم الخدور العقائل (٣)

وقوله (٤) :

بسقيم الجفون غير سقيم

ومريب الألحاظ غير مريب

وقوله (٥) :

غليلى على خالد خالد

وضيف همومى طويل الثّواء

ألا أيّها الموت فجعتنا

بماء الحياة وماء الحياء

أصبنا بكنز الغنى والإما

م أمسى مصابا بكنز الفناء

وقوله :

ثوى فى الثرى من كان يحيا به الثرى

ويغمر صرف الدهر نائله الغمر

وقوله (٦) :

سعدت غربة النوى بسعاد

وقوله (٧) :

إذا سيفه أضحى على الهام حاكما

غدا العفو منه وهو فى السّيف حاكم

وقوله (٨) :

لئن أصبحت ميدان السّوافى

لقد أصبحت ميدان الهموم

__________________

(١) ديوانه : ٣٥٥.

(٢) تطل : تسكب. المواثل : الدوارس.

(٣) أضللت : أضعت. وخزلت : قطعت. العقائل : المصونات.

(٤) ديوانه : ٣٦.

(٥) ديوانه : ٣٣٧.

(٦) ديوانه : ٧٥ ، وبقيته :

فهى طوع الاتهام والإنجاد

(٧) ديوانه : ٢٨٧.

(٨) ديوانه : ٢٨٧.

٢٩٩

أظنّ الدمع فى خدى سيبقى

رسوما من بكائى فى الرّسوم

وليل بتّ أكلوه كأنى

سليم أو سهدت على سليم

أراعى من كواكبه هجانا

سواما لا تزيغ إلى المسيم (١)

يكاد نداه يتركه عديما

إذا هطلت يداه على عديم

سفيه الرمح جاهله إذا ما

بدا فضل السّفيه على الحليم

وقوله (٢) :

عهدى بهم تستنير الأرض إن نزلوا

فيها وتجتمع الدّنيا إذا اجتمعوا

ويضحك الدّهر منهم عن غطارفة

كأن أيامهم من أنسها جمع

وقوله (٣) :

وضلّ بك المرتاد من حيث يهتدى

وضرت بك الأيام من حيث تنفع

وقوله :

ترد الظنون به على تصديقها

وتحكّم الآمال فى الأموال

وقوله (٤) :

إذا أحسن الأقوام أن يتطاولوا

بلا منّة أحسنت أن تتطوّلا

تعظّمت عن ذاك التعظّم منهم

وأوصاك نبل القدر أن تتنبّلا

وقوله (٥) :

فاطلب هدوّا فى التقلقل واستثر

بالعيس من تحت السّهاد هجودا

وقوله (٦) :

أيامنا مصقولة أطرافها (٧)

بك والليالى كلّها أسحار

__________________

(١) الهجان : الكرام. والسوام : الإبل الراعية. لا تزيغ : لا تميل. المسيم : الراعى.

(٢) ديوانه : ٣٧٢.

(٣) ديوانه : ٣٧٢.

(٤) ديوانه : ٢٥٢.

(٥) ديوانه : ٨٨.

(٦) ديوانه : ١٤٨.

(٧) فى الديوان : «إسرافها».

٣٠٠