أبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري
المحقق: علي محمد البجاوي ومحمد ابوالفضل ابراهيم
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٨
ولهذا قيل : أجود الكلام السهل الممتنع.
أخبرنا أبو أحمد قال : أخبرنا الصولى ، قال : حدّثنا أحمد بن إسماعيل ، قال : وصف الفضل بن سهل عمرو بن مسعدة فقال : هو أبلغ الناس ؛ ومن بلاغته أنّ كلّ أحد يظنّ أنه يكتب مثل كتبه ، فإذا رامها تعذّرت عليه.
وأخبرنا أيضا قال : أخبرنا أبو بكر قال : حدّثنى عبد الله بن الحسين قال : حدّثنا الحسن بن مخلد ، قال : أنشدنا إبراهيم بن العباس لخاله العباس ابن الأحنف (١) :
إليك أشكو ربّ ما حلّ بى |
|
من صدّ هذا التائه المعجب (٢) |
إن قال لم يفعل وإن سيل لم |
|
يبذل وإن عوتب لم يعتب (٣) |
صب بعصيانى ولو قال لى |
|
لا تشرب البارد لم أشرب |
ثم قال : هذا والله الشعر الحسن المعنى ، السهل اللّفظ ، العذب المستمع ، القليل النظير ، العزيز الشّبيه ، المطمع الممتنع ، البعيد مع قربه ، الصّعب فى سهولته قال : فجعلنا نقول : هذا الكلام والله أبلغ من شعره.
وأخبرنا أبو أحمد عن الصولى عن الغلابى عن طائع وهو العباس بن ميمون ، من غلمان ابن ميثم ، قال : قيل للسيد : ألا تستعمل الغريب فى شعرك. فقال : ذاك عىّ فى زمانى ، وتكلّف منّى لو قلته ، وقد رزقت طبعا واتّساعا فى الكلام ، فإنا أقول ما يعرفه الصغير والكبير ، ولا يحتاج إلى تفسير. ثم أنشدنى :
أيا ربّ إنى لم أرد بالذى به |
|
مدحت عليّا غير وجهك فارحم |
فهذا كلام عاقل يضع الشىء موضعه ، ويستعمله فى إبانه ، ليس كمن قال وهو فى زماننا (٤) :
__________________
(١) ديوانه : ١٤
(٢) فى الديوان : من ظلم هذا الظالم المذنب.
(٣) فى الديوان :
إن سيل لم يبذل وإن قال لم |
|
يفعل وإن عوتب لم يعتب |
(٤) هو المتنبى ، والشطر الثانى
شيم على الحسب الأغر دلائل
ديوانه : ٤ ـ ٢٥٨.
جفخت وهم لا يجفخون بها بهم (١)
فأشمت عدوّه بنفسه.
ومن الكلام المطبوع السهل ما وقّع به علىّ بن عيسى : قد بلّغتك أقصى طلبتك ، وأنلتك غاية بغيتك ، وأنت مع ذلك تستقلّ كثيرى لك ، وتستقبح حسنى فيك ، فأنت كما قال رؤبة :
كالحوت لا يكفيه شيء يلهمه |
|
يصبح ظمآن وفى البحر فمه |
ومن المنظوم المطمع الممتنع قول البحترى (٢) :
أيّها العاتب الذى ليس يرضى |
|
نم هنيئا فلست أطعم غمضا |
إنّ لى من هواك وجدا قد استه |
|
لك نومى ومضجعا قد أقضّا (٣) |
فجفونى فى عبرة ليس ترقا |
|
وفؤادى فى لوعة ما تقضّى |
يا قليل الإنصاف كم أقتضى عن |
|
دك وعدا إنجازه ليس يقضى |
أحينى بالوصال إن كان جودا |
|
وأثبنى بالحبّ إن كان قرضا |
بأبى شادن تعلّق قلبى |
|
بجفون فواتر اللّحظ مرضى |
لست أنساه إذ بدا من قريب |
|
يتثنّى تثنّى الغصن غضّا |
واعتذارى إليه حين تجافى |
|
لى عن بعض ما أتيت وأغضى |
واعتلاقى تفّاح خدّيه تقبي |
|
لا ولثما طورا وشمّا وعضّا |
أيّها الرّاغب الذى طلب الجو |
|
د فأبلى كوم المطايا وأنضى (٤) |
رد حياض الإمام تلق نوالا |
|
يسع الرّاغبين طولا وعرضا |
فهناك العطاء جزلا لمن را |
|
م جزيل العطاء والجود محضا |
هو أندى من الغمام وأوحى |
|
وقعات من الحسام وأمضى |
__________________
(١) الجفخ : الفخر.
(٢) ديوانه : ٢ ـ ٦٨.
(٣) أقضا : من أقض المضجع إذا خشن.
(٤) الكوم : القطعة من الإبل. وأنضى : جعلها هزيلة.
يتوخّى الإحسان قولا وفعلا |
|
ويطيع الإله بسطا وقبضا |
فضّل الله جعفرا بخلال |
|
جعلت حبّه على النّاس فرضا |
ومنها يقول فيه :
وأرى المجد بين عارفة من |
|
ك ترجّى وعزمة منك تمضى |
وقوله (١) :
يتأبّى منعا (٢) وينعم إسعا |
|
فا ويدنو وصلا ويبعد صدّا |
أغتدى راضيا وقد بتّ غضبا |
|
ن وأمسى مولى وأصبح عبدا |
رقّ لى من مدامع ليس ترقا |
|
وارث لى من جوانح ليس تهدا |
أتراني مستبدلا بك ما عش |
|
ت بديلا أو واجدا منك بدّا |
حاش لله أنت أفتن ألحا |
|
ظا وأحلى شكلا وأحسن قدّا |
خلق الله جعفرا قيّم الدّن |
|
يا سدادا وقيّم الدّين رشدا |
أكرم الناس شيمة وأتمّ الن |
|
ناس حلما وأكثر الناس رفدا (٣) |
هو بحر السّماح والجود فازدد |
|
منه قربا تزدد من الفقر بعدا |
يا ثمال (٤) الدّنيا عطاء وبذلا |
|
وجمال الدّنيا ثناء ومجدا |
فابق عمر الزّمان حتى نؤدّى |
|
شكر إحسانك الذى لا يؤدّى |
ومما هو أجزل من هذا قليلا وهو من المطبوع قول ابن وهب (٥) :
ما زال يلثمنى مراشفه |
|
ويعلّنى الإبريق والقدح |
حتى استردّ الليل خلعته |
|
ونشا خلال سواده وضح |
وبدا الصّباح كأنّ غرّته |
|
وجه الخليفة حين يمتدح |
أنت الّذى بك ينقضى فرجا |
|
ضيق البلاد لنا وينفسح |
__________________
(١) الديوان : ١ ـ ١٢٧.
(٢) فى الديوان : منعما.
(٣) الرفد : العطاء والصلة.
(٤) الثمال : الغياث الذى يقوم بأمر قومه.
(٥) معاهد التنصيص : ٢ ـ ٥٧
نشرت بك الدّنيا محاسنها |
|
وتزيّنت بصفاتك المدح |
ومن السهل المختار الجيّد المطبوع قول الآخر :
صرفت القلب فانصرفا |
|
ولم ترع الّذى سلفا |
وبنت فلم أذب كمدا |
|
عليك ولم أمت أسفا |
كلانا واجد فى النا |
|
س ممن ملّه خلفا |
وقول الآخر :
أما والحلق السّود |
|
على سالفة الخشف (١) |
وحسن الغصن المهتز |
|
ز بين النّحر والرّدف |
لقد أشفقت أن يجر |
|
ح فى وجنتها طرفى |
وقول الآخر :
كم من فؤاد كأنّه جبل |
|
أزاله من مقرّه النّظر |
وما كان لفظه سهلا ، ومعناه مكشوفا بيّنا فهو من جملة الردىء المردود ، كقول الآخر :
يا ربّ قد قلّ صبرى |
|
وضاق بالحبّ صدرى |
واشتدّ شوقى ووجدى |
|
وسيّدى ليس يدرى |
مغفّل عن عذابى |
|
وليس يرحم ضرّى |
إن كان أعطى اصطبارا |
|
فلست أملك صبرى |
أنا الفدا لغزال |
|
دنا فقبّل نحرى |
وقال لى من قريب : |
|
يا ليت بيتك قبرى |
وإذا لان الكلام حتى يصير إلى هذا الحد فليس فيه خير ، لا سيّما إذا ارتكب فيه مثل هذه الضّرورات.
وأما الجزل والمختار من الكلام فهو الذى تعرفه العامّة إذا سمعته ، ولا
__________________
(١) الخشف ـ مثلثة : ولد الظبى أول ما يولد ، أو أول مشيه.
ولا تستعمله فى محاوراتها. فمن الجيّد الجزل المختار قول مسلم :
وردن رواق الفضل فضل بن خالد |
|
فحطّ الثناء الجزل نائله الجزل |
بكفّ أبى العبّاس يستمطر الغنى |
|
وتستنزل النّعمى ويسترعف (١) النّصل |
ويستعطف الأمر الأبىّ بحزمه |
|
إذا الأمر لم يعطفه نقض ولا فتل |
ومما هو أجزل من هذا قول المرار الفقعسى :
فقال يدير الموت فى مرجحنة |
|
تسفّ العوالى وسطها وتشول (٢) |
وكائن تركنا من كرائم معشر |
|
لهنّ على إبائهنّ عويل (٣) |
على الجرد يعلكن الشّكيم كأنّها |
|
إذا ناقلت بالدارعين وعول (٤) |
على كلّ جيّاش إذا ردّ غربه |
|
يقلّب نهد المركلين رجيل (٥) |
مجنبة قبل (٦) العيون كأنّها |
|
قسىّ بأيدى العاطفين عطول (٧) |
فللأرض من آثارهنّ عجاجة |
|
وللفجّ من تصهالهنّ صليل (٨) |
__________________
(١) استرعف : استقطر.
(٢) ارجحن : مال واهتز من ثقل. والعرب تقول : رحا مرجحنة : ثقيلة. وتشول : أى تفرق.
(٣) كاين ـ بالتخفيف وهى لغة من كأين اسم مركب من كاف التشبيه وأى المنونة. والكرائم : واحده كريمة وهى العزيزة.
(٤) الجرد : جمع أجرد ، الفرس القصير الشعر. علك الشكيم : حركه فى فيه. والشكيمة : الحديدة المعترضة فى فم الفرس من اللجام وجمعها شكيم. المناقلة من الفرس : سرعة نقل القوائم ، أو هو بين العدو والخبب.
(٥) الجياش : الفرس الذى إذا حركته بعقبك ارتفع وهاج.
وغربه : حدته ونشاطه. والنهد : الشىء المرتفع. والمركلان : هما الموضعان اللذان تصيبهما برجلك من الدابة وأنت راكب حين تحركها للركض. والرجيل : الصلب ، وفرس رجيل : ركوب لا يعرق وفى نسخة الرحيل ، ويأتى بمعنى القوى على الرحلة.
(٦) القبل : إقبال إحدى الحدقتين على الأخرى ، أو إقبال السواد على الأنف ، أو مثل الحول أو أحسن منه.
(٧) العطول : التى لا رسن لها والقوس التى لا وتر عليها.
(٨) الفج : الطريق الواسع. والصليل : ترجيع الصوت.
(٥ ـ الصناعتين)
منعت بنجد ما أردت غلبة |
|
وبالغور لى عزّ أشمّ طويل (١) |
فهذا وإن لم يكن من كلام العامّة فإنهم يعرفون الغرض فيه ، ويقفون على أكثر معانيه ؛ لحسن ترتيبه ، وجودة نسجه. وقول المرار أيضا :
لا تسألى القوم عن مالى وكثرته |
|
قد يقتر المرء يوما وهو محمود |
أمضى على سنّة من والدى سلفت |
|
وفى أرومته (٢) ما ينبت العود |
ومن النثر قول يحيى بن خالد : أعطانا الدهر فأسرف ، ثم عطف علينا فعسف.
وقول سعيد بن حميد : وأنا من لا يحاجّك عن نفسه ، ولا يغالطك عن جرمه ، ولا يلتمس رضاك إلّا من جهته ، ولا يستدعى برّك إلّا من طريقته ، ولا يستعطفك إلا بالإقرار بالذّنب ، ولا يستميلك إلا بالاعتراف بالجرم ؛ نبت بى عنك غرّة (٣) الحداثة ، وردّتنى إليك الحنكة ، وباعدتنى منك الثقة بالأيام ، وقادتنى إليك الضرورة. فإن رأيت أن تستقبل الصنيعة بقبول العذر ، وتجدّد النّعمة باطّراح الحقد ـ فإنّ قديم الحرمة ، وحديث التوبة يمحقان ما بينهما من الإساءة. فإن أيام القدرة وإن طالت قصيرة ، والمتعة بها وإن كثرت قليلة ـ فعلت.
وفى هذا الكلام وما قبله قوة فى سهولة.
ومما هو أجزل من هذا قول الشعبى للحجاج ـ وقد أراد قتله لخروجه عليه مع ابن الأشعث : أجدب بنا الجناب (٤) ، وأحزن بنا المنزل ، واستحلسنا (٥) الحذر ،
__________________
(١) الغلبة : بالضم والتشديد بمعنى الغلبة بالفتح والتخفيف ، كما فى اللسان ـ مادة غلب ـ واستشهد له بهذا البيت والرواية عنده هكذا :
أخذت بنجد ما أخذت غلبة |
|
وبالغور لى عز أشم طويل |
(٢) الأرومة ، بفتح الهمزة وتضم : الأصل.
(٣) الغار : الغافل ، واغتر : غفل ، والاسم الغرة.
(٤) الجناب ، بالفتح : الفناء والناحية.
(٥) استحلسنا الحذر : يريد تمسكنا به.
واكتحلنا السّهر ، وأصابتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء ، ولا فجرة أقوياء. فعفا عنه.
وأجود الكلام ما يكون جزلا سهلا ، لا ينغلق معناه ، ولا يستبهم مغزاه ، ولا يكون مكدودا مستكرها ، ومتوعّرا متقعّرا ، ويكون بريئا من الغثاثة ، عاريا من الرّثاثة.
والكلام إذا كان لفظه غثّا ، ومعرضه رثّا كان مردودا ، ولو احتوى على أجلّ معنى وأنبله ، وأرفعه وأفضله. كقوله :
لما أطعناكم فى سخط خالقنا |
|
لا شك سلّ علينا سيف نقمته |
وقول الآخر :
أرى رجالا بأدنى الدّين قد قنعوا |
|
وما أراهم رضوا فى العيش بالدّون |
فاستغن بالدّين عن دنيا الملوك كما اس |
|
تغنى الملوك بدنياهم عن الدّين |
لا يدخل هذا فى جملة المختار ، ومعناه ـ كما ترى ـ نبيل فاضل جليل.
وأما الجزل الردىء الفجّ الذى ينبغى ترك استعماله فمثل قول تأبّط شرّا (١) :
إذا ما تركت صاحبى لثلاثة |
|
أو اثنين مثلينا فلا أبت آمنا (٢) |
ولما سمعت العوض (٣) تدعو تنفّرت |
|
عصافير (٤) رأسى من نوى فعوائنا (٥) |
وحثحثت مشعوف الفؤاد فراعنى |
|
أناس بفيفان فمزت القرائنا (٦) |
فأدبرت لا ينجو نجائى نقنق |
|
يبادر فرخيه شمالا وداجنا |
__________________
(١) الأغانى ١٨ : ٢١٣ ، واللسان ـ مادة عوض ، وقرن ، وهزرف ، وعون.
(٢) أبت : رجعت.
(٣) العوض : اسم قبيلة من العرب.
(٤) عصفور الرأس : قطيعة ـ بالتصغير ـ من الدماغ تحت مقدمة تفصل بينهما جليدة.
(٥) وقوله فعوائنا : عوائن : موضع ، واستشهد بهذا البيت فى اللسان : مادة عون.
(٦) الفيفان : موضع بالبادية.
مزت القرائنا : القرائن جبال معروفة مقترنة ، قاله فى اللسان (مادة قرن). والبيت فيه :
وحثحثت مشغوف النجاء وراعنى |
|
أناس بفيفان فمزت القرائنا |
من الحصّ هزروف يطير عفاؤه |
|
إذا استدرج الفيفاء مدّ المغابنا (١) |
أزجّ زلوج هزرفىّ زفازف |
|
هزفّ يبذّ النّاجيات الصّوافنا (٢) |
فهذا من الجزل البغيض الجلف ، الفاسد النّسج ، القبيح الرّصف ، الذى ينبغى أن يتجنّب مثله.
وتمييز الألفاظ شديد. أخبرنا أبو أحمد عن الصولى عن فضل اليزيدى ، عن إسحاق الموصلى عن أيوب بن عباية (٣) : أن رجلا أنشد ابن هرمة قوله :
بالله ربك إن دخلت فقل لها |
|
هذا ابن هرمة قائما بالباب |
فقال : ما كذا قلت ؛ أكنت أتصدّق؟ (٤) قال : فقاعدا. قال : كنت أبول؟
قال : فما ذا؟ قال : واقفا. ليتك علمت ما بين هذين من قدر اللفظ والمعنى.
ولو لا كراهة الإطالة وتخوّف الإملال لزدت من هذا النوع ، ولكن يكفى من البحر جرعة. وقالوا : خير الكلام ما قلّ وجلّ ، ودلّ ولم يملّ. وبالله التوفيق.
__________________
(١) الحص : شدة العدو فى سرعة. والهزروف : السريع. والعفاء : الغبار. والفيفاء : المفازة التى لا ماء فيها مع الاستواء والسعة. والمغابن : الأرفاغ والآباط ، وكل ما ثنيت عليه فخذك فهو مغبن.
(٢) أزج : مسرع فى مشيته ، ومثله : زلوج. والهزراف : الخفيف السريع. والزفزفة : السرعة أيضا. والهزف : الجافى من الظلمان. وقيل : الطويل الريش. والبذ : السبق.
(٣) فى ب «عيانة»
(٤) عن ابن الأنبارى أنه جاء تصدق بمعنى سأل ـ اللسان ـ مادة صدق.
الفصل الثّانى
فى التنبيه على خطأ المعانى وصوابها ليتّبع من يريد العمل برسمنا مواقع
الصواب فيرتسمها ، ويقف على مواقف الخطأ فيتجنّبها
فنقول : إن الكلام ألفاظ تشتمل على معان تدلّ عليها ويعبر عنها ، فيحتاج صاحب البلاغة إلى إصابة المعنى كحاجته إلى تحسين اللفظ ؛ لأنّ المدار بعد على إصابة المعنى ، ولأنّ المعانى تحلّ من الكلام محلّ الأبدان ، والألفاظ تجرى معها مجرى الكسوة ، ومرتبة إحداهما على الأخرى معروفة.
ومن عرف ترتيب المعانى واستعمال الألفاظ على وجوهها بلغة من اللغات ، ثم انتقل إلى لغة أخرى تهيّأ له فيها من صنعة الكلام مثل ما تهيأ له فى الأولى ؛ ألا ترى أنّ عبد الحميد الكاتب استخرج أمثلة الكتابة التى رسمها لمن بعده من اللسان الفارسى ؛ فحوّلها إلى اللسان العربى. فلا يكمل لصناعة الكلام إلا من يكمل لإصابة المعنى وتصحيح اللفظ والمعرفة بوجوه الاستعمال.
والمعانى على ضربين :
ضرب يبتدعه صاحب الصناعة من غير أن يكون له إمام يقتدى به فيه ، أو رسوم قائمة فى أمثلة مماثلة يعمل عليها. وهذا الضرب ربما يقع عليه عند الخطوب الحادثة ، ويتنبّه له عند الأمور النازلة الطارئة.
والآخر ما يحتذيه على مثال تقدّم ورسم فرط (١).
وينبغى أن يطلب الإصابة فى جميع ذلك ويتوخّى فيه الصورة المقبولة ، والعبارة المستحسنة ، ولا يتكل فيما ابتكره على فضيلة ابتكاره إياه ، ولا يغرّه ابتداعه له ؛
__________________
(١) فرط : سبق.
فيساهل نفسه فى تهجين (١). صورته ؛ فيذهب حسنه ويطمس نوره ، ويكون فيه أقرب إلى الذم منه إلى الحمد.
والمعانى بعد ذلك على وجوه : منها ما هو مستقيم حسن ، نحو قولك : قد رأيت زيدا. ومنها ما هو مستقيم قبيح نحو قولك : قد زيدا رأيت. وإنما قبح لأنك أفسدت النظام بالتقديم والتأخير. ومنها ما هو مستقيم النظم ، وهو كذب ؛ مثل قولك : حملت الجبل ، وشربت ماء البحر. ومنها ما هو محال ، كقولك : آتيك أمس وأتيتك غدا. وكلّ محال فاسد ، وليس كلّ فاسد محالا ؛ ألا ترى أن قولك :
قام زيد فاسد ، وليس بمحال. والمحال ما لا يجوز كونه البتة ، كقولك : الدنيا فى بيضة. وأما قولك : حملت الجبل وأشباهه فكذب ، وليس بمحال ، إن جاز أن يزيد الله فى قدرتك فتحمله.
ويجوز أن يكون الكلام الواحد كذبا محالا ؛ وهو قولك : رأيت قائما قاعدا ، ومررت بيقظان نائم ؛ فتصل كذبا بمحال ، فصار الذى هو الكذب هو المحال بالجمع بينهما ، وإن كان لكل واحد منهما معنى على حياله ؛ وذلك لمّا عقد بعضها ببعض حتى صارا كلاما واحدا.
ومنها الغلط ، وهو أن تقول : ضربنى زيد ، وأنت تريد ضربت زيدا ، فغلطت ، فإن تعمّدت ذلك كان كذبا.
وللخطأ صور مختلفة نبّهت على أشياء منها فى هذا الفصل ، وبيّنت وجوهها ، وشرحت أبوابها لتقف عليها فتجتنبها ، كما عرفتك مواقع الصواب فتعتمدها ، وليكون فيما أوردت دلالة على أمثاله ممّا تركت ؛ ومن لا يعرف الخطأ كان جديرا بالوقوع فيه. فمن ذلك قول امرئ القيس (٢) :
__________________
(١) التهجين : التقبيح.
(٢) ديوانه : ١٢٨.
ألم تسأل الرّبع القديم بعسعسا (١) |
|
كأنى أنادى إذ أكلّم أخرسا (٢) |
هذا من التشبيه فاسد لأجل أنه لا يقال : كلّمت حجرا فلم يجب فكأنه كان حجرا ، والذى جاء به امرؤ القيس مقلوب.
وتبعه أبو نواس فقال يصف دارا :
كأنها إذ خرست جارم |
|
بين ذوى تفنيده مطرق (٣) |
والجيد منه قول كثير فى امرأة (٤) :
فقلت لها : يا عزّ كلّ مصيبة |
|
إذا وطّنت يوما لها النّفس ذلّت |
كأنّى أنادى صخرة حين أعرضت |
|
من الصّمّ لو تمشى بها العصم زلّت |
فشبّه المرأة عند السكوت والتّغافل بالصّخرة.
قالوا : ومن ذلك قول المسيب بن علس (٥) :
وكأن غاربها رباوة مخرم |
|
وتمدّ ثنى جديلها بشراع (٦) |
أراد أن يشبّه عنقها بالدّقل (٧) |
|
فشبّهها بالشّراع. وتبعه أبو النجم |
فقال (٨) :
كأنّ أهدام النّسيل المنسل |
|
على يديها والشّراع الأطول (٩) |
__________________
(١) عسعس : موضع بالبادية وجبل.
(٢) هكذا رواية البيت فى نسخ الكتاب ، وفى ديوانه هكذا :
ألما على الربع القديم بعسعسا |
|
كأنى أنادى أو أكلم أخرسا |
قال شارحه أبو بكر البطليوسى : وعسعس ، موضع. ثم قال : وفى كتاب الأزمنة أنه أراد انزلا فى أدبار الليل ؛ لأن الأصل فى عسعس الليل أى مضى.
(٣) الجارم : مقترف الذنب. والبيت لم يروه جامع ديوانه.
(٤) الأغانى : ٩ : ٢٧ ، الأمالى : ٢ : ١٠٨ ، الموشح : ١٤٦.
(٥) الوساطة ١٢ ، والمفضليات : ١ ـ ٦٠.
(٦) الغارب : ما بين السنام والعنق.
والرباوة : منقطع الجبل حيث استدق. والمخرم من الجبل : أنفه. والثنى : ما انثنى منه. والجديل : الزمام. أراد تمد جديلها بعنق طويلة.
(٧) الدقل : خشبة طويلة تشد فى وسط السفينة يمد عليها الشراع.
(٨) الطرائف الأدبية : ٦٦ ، من لامية أبى النجم.
(٩) أهدام النسيل : أخلاق بالية. والنسيل : ما يسقط من الصوف والوبر.
والجيد منه قول ذى الرمة (١) :
وهاد كجذع الساج سام يقوده |
|
معرق أحناء الصّبيّين أشدق (٢) |
وقال أبو حاتم : الشّراع : العنق ، يقال : للعنق الشراع والثليل والهادى ، فإذا صحّت هذه الرواية فالمعنى صحيح فى قول أبى النجم.
وقال طفيل :
يرادى على فأس اللّجام كأنما |
|
يرادى على مرقاة جذع مشذّب (٣) |
ومن ذلك قول الراعى (٤) :
يكسو المفارق واللّبّات ذا أرج |
|
من قصب معتلف الكافور درّاج |
أراد المسك ، فجعله من قصب الظبى ؛ والقصب : المعى. وجعل الظبى يعتلف الكافور فيتولّد منه المسك ، وهذا من طرائف الغلط.
وقريب منه قول زهير (٥) :
يخرجن من شربات ماؤها طحل (٦) |
|
على الجذوع يخفن الغمّ (٧) والغرقا |
ظنّ أنّ الضفادع يخرجن من الماء مخافة الغرق. ومثله قول ابن أحمر (٨) :
لم تدر ما نسج اليرندج قبلها |
|
ودراس أعوص دارس متخدّد |
__________________
(١) ديوانه ٣٩٧
(٢) المعرق : العظم الذى عرى عنه اللحم. والأحناء : جمع حنو وهو الجانب. والصبيان : طرفا اللحيين. والشدق : سعة الفم.
(٣) اللسان ـ مادة ردى ، وراديته على الأمر : راودته. وفأس اللجام : حديدته التى توضع فى الحنك ، ورواية اللسان
يرادى به مرقاة جذع مشذب
(٤) اللسان ـ مادة قصب.
(٥) ديوانه : ٤٠ ، والوساطة. ١ ، والمزهر : ٢ ـ ٥٠٢. واللسان ـ مادة طحل ، والموشح ٤٧
(٦) الشربات : جمع شربة وهى حوض صغير يتخذ حول أصل النخلة فيرويها. والطحل : الكدر.
ويريد بالجذوع جذوع النخل. قال المرزبانى : والضفادع لا تخرج من الماء لخوفها من الغمر والغرق.
وإنما تطلب الشطوط لتبيض هناك وتفرخ.
(٧) فى المزهر : الغمر.
(٨) الوساطة : ٦٤. واللسان ـ مادة عوص. والموشح : ٤٧.
ظنّ أنّ اليرندج مما ينسج ، واليرندج : جلد أسود ، تعمل منه الخفاف ـ فارسى معرب ، وأصله رنده ، وفسره أبو بكر بن دريد تفسيرا آخر ، وقال : إنما هذه حكاية عن المرأة التى يصفها ظنّت لقلة تجربتها أنّ اليرندج شيء منسوج ، ولم تدارس عويص الكلام ، والفاظ البيت لا تدلّ على ما قال.
ومثله قول أوس بن حجر :
كأن ريقتها بعد الكرى اعتبقت |
|
من ماء ادكن فى الحانوت نضاح (١) |
ومن مشعشعة كالمسك يشربها |
|
أو من أنابيب رمان وتفاح |
ظن أنّ الرمّان والتفّاح فى أنابيب ، وقيل : إنّ الأنابيب الطرائق التى فى الرمان ، وإذا حمل على هذا الوجه صحّ المعنى.
ومن فساد المعنى قول المرقش الأصغر (٢) :
صحا قلبه عنها على أنّ ذكرة |
|
إذا خطرت دارت به الأرض قائما |
وكيف صحا عنها من إذا ذكرت له دارت به الأرض ، وليس هذا مثل قولهم : ذهب شهر رمضان إذا ذهب أكثره ؛ لأنّ الناس لا يعرفون أشدّ الحب إلّا أن يكون صاحبه فى الحد الذى ذكره المرقش.
والجيد فى السلو قول أوس :
صحا قلبه عن سكره وتأملا |
|
وكان بذكرى أمّ عمرو موكلا |
فقال : وكان بذكرى أمّ عمرو موكلا.
ومثل قول المرقش فى الخطأ قول امرئ القيس (٣) :
أغرّك منّى أنّ حبّك قاتلى |
|
وأنّك مهما تأمرى القلب يفعل |
وإذا لم يغررها هذه الحال منه فما الذى يغرّها! وليس للمحتجّ (٤) عنه أن يقول :
__________________
(١) الدكنة : لون بين الحمرة والسواد.
(٢) المفضليات : ٢ ـ ٤٥.
(٣) ديوانه : ٢٤.
(٤) قوله : وليس للمحتج عنه : أراد به البطليوسى أحد شراح ديوانه.
إنما عنى بالقتل هاهنا التّبريح ؛ فإنّ الذى يلزمه من الهجنة مع ذكر القتل يلزمه أيضا مع ذكر التّبريح.
ومما أخذ على امرئ القيس قوله (١) :
فللسّوط الهوب وللسّاق درّة |
|
وللزّجر منه وقع أخرج مهذب (٢) |
فلو وصف أخسّ حمار وأضعفه ما زاد على ذلك.
والجيد قوله :
على سابح يعطيك قبل سؤاله |
|
أفانين جرى غير كزّ ولا وان (٣) |
وما سمعنا أجود ولا أبلغ من قوله «أفانين جرى».
وقول علقمة (٤) :
فأدركهنّ ثانيا من عنانه |
|
يمر كمرّ الرائح المتحلّب (٥) |
فأدرك طريدته وهو ثان من عنانه ولم يضربه بسوط ، ولم يمره بساق ، ولم يزجره بصوت.
ومما يعاب قول الأعشى (٦) :
ويأمر لليحموم كلّ عشيّة |
|
بقتّ وتعليق فقد كان (٧) يسنق (٨) |
يعنى باليحموم فرس الملك ، يقول : إنه يأمر لفرسه كلّ عشية بقت وتعليق ؛
__________________
(١) ديوانه : ٧٨ ، والموشح : ٨٧ ، واللسان ـ مادة لهب.
(٢) الألهوب : شدة الجرى. والدرة : شدة الدفع. والأخرج : الظليم. والمهذب : المسرع فى العدو ، ورواية اللسان ـ مادة نعب :
فللسان ألهوب وللسوط درة |
|
وللزجر منه وقع أهوج منعب |
والنعب : من سير الإبل.
(٣) الأفانين : الضروب. والكز : المنقبض ، وأراد بانقباضه تقارب خطاه فى السير.
(٤) ديوانه : ٧ الشعر والشعراء ١٧١.
(٥) المنحلب : طالب الحلبة بفتح فسكون وهى الدفعة من الخيل فى الرهان خاصة. وعجز البيت فى ديوانه :
يمر كغيث رائح متحلب
(٦) اللسان ـ مادة سنق
(٧) فى اللسان : كاد
(٨) السنق : كالبشم وذلك للحيوان كالتخمة للإنسان.
وهذا مما لا يمدح به الملوك ، بل ولا رجل من خساس الجند.
وقريب منه قول الأخطل (١) :
وقد جعل الله الخلافة منهم |
|
لأبلج لا عارى الخوان ولا جدب |
يقوله فى عبد الملك. ومثل هذا لا يمدح به الملوك.
وأطرف منه قول كثير (٢) :
وإنّ أمير المؤمنين برفقه |
|
غزا كامنات الودّ منى فنالها |
فجعل أمير المؤمنين يتودّد إليه.
وقوله لعبد العزيز بن مروان (٣) :
وما زالت رقاك تسلّ ضغنى |
|
وتخرج من مكامنها ضبابى |
ويرقينى لك الرّاقون حتى |
|
أجابت حية تحت التراب |
وإنما تمدح الملوك بمثل قول الشاعر :
له همم لا منتهى لكبارها |
|
وهمّته الصّغرى أجلّ من الدّهر |
له راحة لو أن معشار جودها |
|
على البرّ كان البرّ أندى من البحر |
ومثل قول النابغة (٤) :
فإنّك كاللّيل الذى هو مدركى |
|
وإن خلت أنّ المنتأى عنك واسع (٥) |
وقوله (٦) :
ألم تر أنّ الله أعطاك سورة |
|
ترى كلّ ملك دونها يتذبذب |
بأنك شمس والملوك كواكب |
|
إذا طلعت لم يبد منهنّ كوكب |
ومن غفلته أيضا قوله ـ يعنى كثيّرا (٧) :
__________________
(١) الموشح ١٤١
(٢) الموشح ١٤٤.
(٣) الموشح ١٤٣
(٤) ديوانه ٧١
(٥) المنتأى : البعد.
(٦) ديوانه : ١٧
(٧) الموشح ١٥٥
ألا ليتنا يا عزّ من غير ريبة |
|
بعيران نرعى فى خلاء ونعزب (١) |
كلانا به عرّ فمن يرنا يقل |
|
على حسنها جرباء تعدى وأجرب |
نكون لذى مال كثير مغفل |
|
فلا هو يرعانا ولا نحن نطلب |
إذا ما وردنا منهلا هاج أهله |
|
إلينا فلا ننفكّ نرمى ونضرب |
فقالت له عزّة : لقد أردت بى الشقاء الطويل ، ومن المنى ما هو أوطأ من هذه الحال. فهذا من التمنّى المذموم.
ومن ذلك أيضا قول الآخر (٢) :
سلّام ليت لسانا تنطقين به |
|
قبل الّذى نالنى من خبله قطعا (٣) |
فدعا عليها بقطع لسانها.
ومثله قول عبد بنى الحسحاس (٤) :
وراهنّ ربّى مثل ما قد وريننى |
|
وأحمى على أكبادهنّ المكاويا (٥) |
ومن ذلك قول جنادة (٦) :
من حبّها أتمنّى أن يلاقينى |
|
من نحو بلدتها ناع فينعاها |
لكى يكون (٧) فراق لا لقاء له |
|
وتضمر النفس يأسا ثم تسلاها |
فإذا تمنّى المحبّ لحبيبته الموت فما عسى أن يتمنّى المبغض لبغيضته؟ وشتّان بين هذا وبين من يقول :
__________________
(١) رواية الموشح :
ألا ليتنا يا عز كنا لذى غنى |
|
بعيرين نرعى فى الخلاء ونعزب |
(٢) نقد الشعر : ١١٧.
(٣) الخبل ، بالتسكين : الفساد. وهنا بمعنى فساد قلبه بحبها.
والبيت أورده قدامة بن جعفر فى كتابه نقد الشعر (صفحة ١١٧) هكذا :
سلام ليت لسانا تنطقين به |
|
قبل الذى ناله من صوته قطعا |
ثم قال : فما رأيت أغلظ ممن يدعو على محبوبته بقطع لسانها حيث أجادت فى غنائها له.
(٤) ديوانه : ٢٤.
(٥) الورى : داء يلصق بالرئة فيقتل صاحبه.
(٦) الموشح ١٥٦ الأمالى : ٢ ـ ٤٨ ، وهما منسوبان فيه إلى نجبة بن جنادة.
(٧) رواية الأمالى : كيما أقول.
ألّا ليتنا عشنا جميعا وكان بى |
|
من الداء ما لا يرعف الناس ما بيا |
فهذا أقرب إلى الصواب. ولو أن جنادة كان يتمنّى وصلها ولقاءها لكان قد قضى وطرا من المنى ولم تلزمه الهجنة ، كما قال العباس بن الأحنف (١) :
فإن تبخلوا عنى ببذل نوالكم |
|
وبالوصل منكم كى أصبّ وأحزنا |
فإنى بلذّات المنى ونعيمها |
|
أعيش إلى أن يجمع الله بيننا |
ومن المختار فى ذكر المنى قول الآخر :
منى إن تكن حقّا تكن أحسن المنى |
|
وإلّا فقد عشنا بها زمنا رغدا |
أمانىّ من ليلى حسان كأنّما |
|
سقتك بها ليلى على ظمأ بردا |
وقول الآخر :
ولما نزلنا منزلا طلّه النّدى |
|
أنيقا ، وبستانا من النّور حاليا |
أجدّ لنا طيب المكان وحسنه |
|
منى فتمنّينا فكنت الأمانيا |
وقال الآخر :
فسوّغينى المنى كيما أعيش به |
|
ثمّ امسكى المنع ما أطلقت آمالى |
على أن عنترة ذمّ جميع المنى حيث يقول (٢) :
ألا قاتل الله الطّلول البواليا |
|
وقاتل ذكراك السنين الخواليا |
وقولك للشيء الّذى لا تناله |
|
إذا هويته النّفس : يا ليت ذا ليا |
وقيل أيضا :
إنّ ليتا وإنّ لوّا عناء
ومن الفاسد قول النابغة (٣) :
ألكنى يا عيين إليك قولا |
|
ستحمله الرّواة إليك عنّى |
__________________
(١) ليسا فى ديوانه الذى بين أيدينا
(٢) ديوانه : ١٦٤.
(٣) ديوانه : ١٠٨.
وليس من الصواب أن يقال : أرسلنى (١) إلى نفسك ثم قال : ستحمله الرواة إليك عنى.
ومن خطل الوصف قول أبى ذؤيب (٢) :
قصر الصّبوح لها فشرّج لحمها |
|
بالنّىّ فهى تثوخ فيها الإصبع |
تأبى بدرّتها إذا ما استكرهت |
|
إلّا الحميم فإنه يتبضّع (٣) |
قال الأصمعى : هذه الفرس لا تساوى در همين ؛ لأنه جعلها كثيرة اللّحم رخوة (٤) تدخل فيها الإصبع. وإنما يوصف بهذا شاء يضحى [بها] ، وجعلها حرونا (٥) إذا حرّكت قامت ، إلا العرق فإنه يسيل (٦).
والجيد قول أبى النجم :
جردا تعادى كالقداح ذبله |
|
نطى اللحم ولسنا نهزله |
نطويه والطّىّ الدّقيق يجدله |
|
طىّ التجار العصب إذ تبجله |
__________________
(١) تفسير لقول النابغة «ألكنى». قال فى اللسان ـ نقلا عن الجوهرى : وقول الشعراء ألكنى إلى فلان يريدون كن رسولى وتحمل رسالتى إليه. ثم قال نقلا عن ابن برى : وألكنى من آلك إذا أرسل وأصله أألكنى ثم أخرت الهمزة بعد اللام فصار الئكنى ثم خففت الهمزة أن نقلت حركتها على اللام وحذفت. وعجز بيت النابغة المذكور كما فى ديوانه :
سأهديه إليك إليك عنى
(٢) ديوان الهذليين : ١٦ ، ١٧.
(٣) قصر : حبس. فشرج لحمها بالنى : جعل فيه لونين من اللحم والشحم. تثوخ : تدخل.
والحميم : هو العرق. ويتبضع : يتفجر. تأبى بدرتها : أى تأبى بدرة العدو ، ويقال للفرس الجواد إذا حركته للعدو : أعطاك ما عنده ، فإذا حملته على أكثر من ذلك فحركته بساق أو سوط حملته عزة نفسه على ترك العدو وأخذ فى المرح. والبيتين من مرثيته المشهورة ومطلعها :
أمن المنون وريبها تتوجع |
|
والدهر ليس بمعتب من يجزع |
(٤) هذا معنى : فشرج لحمها بالنى.
(٥) هذا معنى : تأبى بدرتها إذا ما استكرهت.
(٦) هذا معنى : إلا الحميم فإنه يتبضع.
حتّى إذا اللحم بدا تذبّله |
|
وانضمّ عن كلّ جواد رهله |
راح ورحنا بشديد زجله (١) |
وقال غيلان الربعى :
يمتاح عصريها قرون مائها |
|
متح السّباع الحسى من بطحائها (٢) |
حتّى اعتصرنا البدن من اعفائها |
|
بعد انتشار اللحم واستعصائها |
تجريدك القناة من لحائها |
|
مكرمة لا عيب فى احتذائها |
وقد قال غيلان أيضا :
قد صار منها اللّحم فوق الأعضا |
|
مثل جلاميد الضّفاة الصّلغا (٣) |
وقال أيضا :
فوق الهوادى ذابلات الأكشح |
|
يشقين أشوال المزاد النّزّح (٤) |
وقال أيضا :
حتّى إذا ما آض عبلا جرشعا |
|
قد تمّ كالفالج لا بل أضلعا (٥) |
هجنا به نطويه حتى استوكعا |
|
قد اعتصرن البدن منه اجمعا (٦) |
__________________
(١) القداح ، واحدة قدح : السهم قبل أن يراش. ونطى بالتخفيف للوزن وأصله بالتشديد : أى مسدى. وهنا بمعنى ليس بالمهزول. والعصب : نوع من برود اليمن. والرهل : استرخاء اللحم واضطرابه ، وأراد بعد أن ضمرت ذهب رهلها واشتد لحمها. والزجل : الرمى والدفع ورفع الصوت.
(٢) المتح : كالنزع. والقرون : العرق ، والعرب تقول حبسنا الفرس قرنا أو قرنين أى عرقناه. والحسى ، بالكسر : حفيرة قريبة القعر وقيل : إنها لا تكون إلا فى أرض أسفلها حجارة وفوقها رمل فإذا أمطرت نشفه الرمل فاذا انتهى إلى الحجارة أمسكته.
(٣) الضفاة ، بالفتح : جانب الشىء. والصلغة : السفينة الكبيرة ، وجاء فى نسخة :
مثل جلاميد ضفاة صلغا
(٤) أشوال المزاد : بقيته.
(٥) آض : رجع. والعبل : الضخم من كل شيء.
والجرشع : العظيم الصدر. والفالج : مكيال ضخم. والأضلع : الشديد الغليظ أو الأشد.
(٦) استوكع : اشتد.
ثمّ اتّقانا بالّذى لن يدفعا |
|
وآض أعلى اللّحم منه صومعا (١) |
فوصفه بعظم الجسم ، وصلابة اللّحم ، وما وصف أحد الفرس بترك الانبعاث إذا حرك غير أبى ذؤيب. وإنما توصف بالسرعة فى جميع حالاتها ، إذا حرّكت وإن لم تحرّك ، فتشبّه بالكوكب ، والبرق ، والحريق ، والريح ، والغيث ، والسيل ، وانفجار الماء فى الحوض ، والدّلو ينقطع رشاؤها ، ويد السّابح ، وغليان المرجل (٢) ، والقمقم ، وبأنواع الطير : كالبازى ، والسّوذنيق ، والأجدل (٣) ، والقطامى ، والعقاب ، والقطا ، والحمام ، والجراد ، وأنواع الوحش ؛ كالوعل ، والظّبى ، والذّئب ، والتّتفل (٤) ، ويشبه بالخذروف (٥) ، ولمعان الثّوب ، وبالسّهم وبالريح وبالحسى.
قال أعرابىّ وقد سئل عن حضر (٦) فرسه : يحضر ما وجد أرضا.
وقال آخر : همها أمامها ، وسوطها عنانها. أخذه بعض المحدثين فقال (٧) :
فكان لها سوطا إلى ضحوة الغد
وأخذه ابن المعتزّ ، فلم يستوفه قوله :
أضيع شيء سوطه إذ يضربه
فذكر «إذ يضربه». وقال فى أخرى :
صببنا عليها ـ ظالمين ـ سياطنا |
|
فطارت بها أيد سراع وأرجل |
وقيل لامرأة : صفى لنا النّاقة النّجيبة. فقالت : عقاب إذا هوت (٨) وحيّة إذا التوت، تطوى الفلاة وما انطوت.
__________________
(١) صومعا : أى دقيقا.
(٢) غليان المرجل : أزيزه وارتفاعه لشدة الغليان. والمرجل بالكسر : الإناء الذى يغلى فيه والقمقم : ما يسخن فيه الماء.
(٣) السوذنيق : الصقر. وقيل : الشاهين. والأجدل : نوع من الطير.
(٤) التتفل : الثعلب أو جروه.
(٥) الخذروف : شيء يدوره الصبى بخيط فى يديه فيسمع له دوى.
(٦) ارتفاع الفرس فى عدوه.
(٧) ديوان المعانى ٢ : ١٠٨
(٨) العقاب : طائر.