كتاب الصّناعتين الكتابة والشعر

أبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري

كتاب الصّناعتين الكتابة والشعر

المؤلف:

أبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري


المحقق: علي محمد البجاوي ومحمد ابوالفضل ابراهيم
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٨

ما زلت تحسب كلّ شيء بعدهم

خيلا تكرّ عليهم ورجالا

وكذا قصّرت الخنساء فى قولها :

ولو لا كثرة الباكين حولى

على إخوانهم لقتلت نفسى

وما يبكون مثل أخى ولكن

أعزّى النّفس عنه بالتّأسّى

عن قول الله تعالى : (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ).

من خفى السرق

ومن خفىّ السرق أن أبا مسلم قال لجلسائه : أى الأعراض ألام؟ فقالوا وأكثروا. فقال : ألأمها عرض لم يرتع فيه حمد ولا ذم ؛ فأخذه المراغى ، فقال :

هجوت زهيرا ثم إنى مدحته

وما زالت الأشراف تهجى وتمدح

وأخذ علىّ بن الجهم قول الفرزدق (١) :

ما الباهلىّ بصادق لك وعده

ومتى تعدك الباهليّة تصدق

فقال (٢) :

الرّحّجيّون لا يوفون ما وعدوا

والرّحّجيّات لا يخلفن ميعادا

وسمع بعضهم قول العرب : إذا فارق القمر الثريا فقد ولّى الشتاء. فنظمه فقال :

إذا ما فارق القمر الثريّا

لثالثة فقد ذهب الشتاء

وسمعت قول النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم حيثما كانوا» ؛ فقلت :

يسعى بذمّتهم أدناهم وهم

يد على من سواهم حيثما كانوا

وهذا يدلّك على صحّة ما تقدّم.

__________________

(١) ديوانه : ٩٢.

(٢) ديوانه : ١٢٤ ، وفيه الرخجيون والرخجيات ـ بالخاء.

٢٢١

وسمع بعض الكتاب قول أبى تمام (١) :

فإن يجد علة نغمّ بها

حتى ترانا نعاد من مرضه (٢)

فكتب : من نزل منزلتى من طاعتك ومشاركتك كان حقيقا أن يهنّأ بالنعمة تحدث عندك ، ويعزّى على النائبة تلمّ بك. فنقل العيادة إلى المصيبة والتعزية.

وقال بعضهم : الكتابة نقض الشعر.

وقيل للعتابى : بم قدرت على البلاغة؟ فقال : بحلّ معقود الكلام.

وأحسن أبو تمام فى قوله (٣) :

إليك هتكنا جنح ليل كأنّما

قد اكتحلت منه البلاد بإثمد (٤)

وزاد فيه على أبى نواس ، ومنه أخذ ، وهو قوله :

أبن لى كيف صرت إلى حريمى

وجنح الليل مكتحل بقار

لأنّ الاكتحال يكون بالإثمد ، ولا يكون بالقار.

وممن أخفى الأخذ ابن أبى عيينة فى قوله :

ما كنت إلّا كلحم ميت

دعا إلى أكله اضطرار

أخذه من قول الأول :

وإنّ بقوم سوّدوك لفاقة

إلى سيّد لو يظفرون بسيّد

ذكر ذلك عن المأمون.

ومما زاد فيه المتأخّر على المتقدّم فحسن معرضه ، وسهل مطلعه قول ابن المعتز :

ولاح ضوء هلال كاد يفضحنا

مثل القلامة إذ قدّت من الظّفر

__________________

(١) ديوانه : ١٨٩.

(٢) فى الديوان :

حتى كأنا نعاد من مرضه

(٣) ديوانه : ١٠٣.

(٤) الإثمد : حجر الكحل.

٢٢٢

وقال الأول (١) :

كأنّ ابن ليلته جانحا

فسيط لدى الأفق من خنصر (٢)

الفسيط : قلامة الظفر.

وما يعرف للمتقدّم معنى شريف إلا نازعه فيه المتأخّر وطلب الشركة فيه معه إلا بيت عنترة (٣) :

وترى الذّباب بها يغنّى وحده

هزجا كفعل الشّارب المترنّم

غردا يحكّ (٤) ذراعه بذراعه

قدح (٥) المكبّ على الزّناد الأجذم

فإنه ما نوزع فى هذا المعنى على جودته. وقد رامه بعض المجيدين فافتضح.

وأخذ البحترى قول الشماخ (٦) :

وقرّبت مبراة كأنّ ضلوعها

من الماسخيّات القسىّ الموتّرا (٧)

مبراة ـ من البرة ، وهى الحلقة تجعل فى أنف الناقة فزاد عليه ؛ فقال (٨) :

كالقسىّ المعطّفات بل ال

أسهم مبرية بل الأوتار

وهذا ترتيب مصيب من أجل أنه بدأ بالأغلظ ، ثم انحطّ إلى الأدقّ ؛ وقد عيب

__________________

(١) اللسان ـ مادة فسط.

(٢) نسبه فى اللسان لعمرو بن قميئة ، وصدره فيه :

وكان ابن مزنتها جانحا

وقال فى اللسان : ويروى كأن ابن ليلتها الخ ، ويروى بدل فسيط قصيص وهو ما قص من الظفر.

(٣) ديوانه : ١٢٣.

(٤) فى الديوان : يسن.

(٥) فى الديوان : فعل.

(٦) ديوانه : ٢٧.

(٧) البيت أورده فى اللسان فى مادة برى ، ونسبه للنابغة الجعدى هكذا : فقربت مبراة تخال ضلوعها ... الخ ؛ ثم أورده ثانية فى مادة مسخ منسوبا للشماخ وقال : الماسخيات : القسى منسوبة إلى ماسخة. وماسخة رجل من أزد السراة كان قواسا. قال ابن الكلبى : هو أول من عمل القسى من العرب. والمبراة : الناقة التى جعلت البرة فى مارنها.

(٨) ديوانه : ٢٤.

٢٢٣

ترتيب أبى تمام فى قوله :

أو كالخلوق أو كالملاب (١)

فبدأ بالأنفس ثم انحطّ إلى الأخسّ ؛ كما تقول : هو مثل النّجم ، بل ، بل الشمس ؛ فترتفع من الشىء إلى ما هو أعلى منه ؛ وإذا قلت : هو مثل الشمس بل القمر ، بل النجم ، لم يحسن.

وقال عروة بن الورد (٢) :

تقول سليمى لو أقمت بأرضنا

ولم تدر أنّى للمقام أطوّف

أخذه أبو تمام وزاد عليه فقال (٣) :

ربّ خفض تحت السّرى وغناء

من عناء ونضرة من شحوب

وقال إبراهيم بن العباس للفضل بن سهل (٤) :

لفضل بن سهل يد

تقاصر عنها المثل

فبسطتها للغنى

وسطوتها للأجل

وباطنها للنّدى

وظاهرها للقبل

فاتّبعه ابن الرومى فأحسن الاتّباع ؛ فقال :

أصبحت بين خصاصة وتجمّل

والحرّ بينهما يموت هزيلا

فامدد إلىّ يدا تعوّد بطنها

بذل النّوال وظهرها التّقبيلا

وقال بشّار :

الدّهر طلّاع بأحداثه

ورسله فيها المقادير

محجوبة تنفذ أحكامها

ليس لنا عن ذاك تأخير

__________________

(١) الملاب ـ بالفتح : نوع من العطر ، والبيت فى ديوانه صفحة ٣٥٤ :

خلق كالمدام أو كرضاب المس

ك أو كالعبير أو كالملاب

(٢) الوساطة ٢٢٩ ، ديوانه ١٦٥

(٣) ديوانه ٣٦

(٤) ديوانه ١٢٦

٢٢٤

فاتّبعه ابن الرومى وأحسن الاتّباع أيضا ، فقال :

يظلّ عن الحرب العوان بمعزل

وآثاره فيها وإن غاب شهّد

كما احتجب المقدار والحكم حكمه

على الخلق طرّا ليس عنه معرّد (١)

إلّا أنّ قول بشار أكثر ماء وطلاوة.

ومما لم يسيء الاتّباع فيه قوله أيضا :

سكنت سكونا كان رهنا بوثبة

عماس ، كذلك اللّيث للوثب يلبد (٢)

وإنما أخذه من قول النابغة (٣) :

وقلت يا قوم إنّ اللّيث منقبض

على براثنه للوثبة الضّارى

وكذلك قوله :

كأنّ أباه حين سمّاه صاعدا

رأى كيف يرقى فى المعالى ويصعد

أخذه من قول البحترى (٤) :

سماه أسرته (٥) العلاء ، وإنما

قصدوا بذلك أن يتمّ علاه

وزاد أبو تمام أيضا على الأفوه ، والنابغة ، وأبى نواس ، ومسلم ، فى معنى تداولوه ؛ وهو قول الأفوه (٦) :

وترى الطّير على آثارنا

رأى عين ثقة أن ستمار (٧)

وقول النابغة (٨) :

إذا ما غزوا بالجيش حلّق فوقهم

عصائب طير تهتدى بعصائب (٩)

جوانح قد أيقنّ أنّ قبيله

إذا ما التقى الجمعان أوّل غالب

__________________

(١) عرد : هرب.

(٢) عماس : شديدة. يلبد : يلزق بالأرض.

(٣) ديوانه : ٥٧.

(٤) ديوانه : ٣٢٣.

(٥) فى الديوان : سمته أسرته.

(٦) الوساطة : ٢٧٠ ، التبيان : ٢ ـ ١٣٨ ، ديوان الأفوه : ١٣.

(٧) تمار : تعطى الميرة بما تجد من لحوم القتلى.

(٨) ديوانه : ١٠.

(٩) العصائب : الجماعات.

٢٢٥

وقول أبى نواس (١) :

تتأيّا (٢) الطّير غدوته

ثقة بالشّبع من جزره

وقول مسلم (٣) :

قد عوّد الطير عادات وثقن بها

فهنّ يتبعنه فى كلّ مرتحل

فقال أبو تمام (٤) :

أقامت مع الرّايات حتى كأنّها

من الجيش إلّا أنّها لم تقاتل

فقوله : «أقامت مع الرايات» زيادة.

وزاد عليه بعض المحدثين ، فقال :

يطمّع الطّير فيهم طول أكلهم

حتى تكاد على أحيائهم تقع

وقال أبو تمام (٥) :

همّة تنطح النجوم وجدّ

آلف للحضيض فهو حضيض

أخذه البحترى فحسّنه وهو قوله (٦) :

متحيّر يغدو بعزم قائم

فى كلّ نائبة وجدّ قاعد

ومما أخذه أيضا من أبى تمام فقسّمه تقسيما حسنا قوله (٧) :

ملك له فى كلّ يوم كريهة

إقدام عزّ واعتزام مجرّب

هو من قول أبى تمام (٨) :

ومجرّبون سقاهم من بأسه

فإذا لقوا فكأنهم أغمار (٩)

وقال أبو العتاهية (١٠) :

كم نعمة لا يستقلّ بشكرها

لله فى طىّ المكاره كامنه

__________________

(١) الوساطة : ٢٧١ ، ديوانه : ٦٨ ، رغبة الآمل : ٤ ـ ١٢١.

(٢) تتأبى : تتعمد.

(٣) الشعر والشعراء : ٨١١.

(٤) الوساطة : ٢٧١ ، التبيان : ٣ ـ ٣٣٩ ، ديوانه : ٢٤٨.

(٥) ديوانه : ١٨١.

(٦) ديوانه : ١٦٩.

(٧) ديوانه : ٢٠.

(٨) ديوانه : ١٤٨.

(٩) أغمار : غير مجربين.

(١٠) عيون الأخبار ٣ ـ ٥٢.

٢٢٦

أخذه أبو تمام ، فقال (١) :

قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت

ويبتلى الله بعض القوم بالنّعم

فزاد عليه لأنه أتى بضدّ المعنى.

وقال أبو تمام (٢) :

رأيت رجائى فيك وحدك همّة

ولكنّه فى سائر الناس مطمع

فأخذه البحترى فاختصره ، فقال (٣) :

ثنى أملى فاحتازه عن معاشر

يبيتون والآمال فيهم مطامع

وأخذه ابن الرومى ، فقال :

به صدّق الله الأمانى حديثها

وقد مرّ دهر والأمانى وساوس

وقال أبو تمام (٤) :

رافع (٥) كفّه لسبرى فما أح

سبه جاءنى لغير اللّطام (٦)

أخذه البحترىّ فزاد عليه فى حسن اللفظ والسّبك ؛ فقال (٧) :

ووعد ليس يعرف من عبوس

بأوجههم أوعد أم وعيد

وقال الحنيف بن السّجف :

وفرقت بين ابنى هنيم بطعنة

لها عاند يكسو السّليب إزارها

يعنى بالعاند : الدم ؛ فأخذه البحترى فزاد عليه فى اللفظ ، وقال (٨) :

سلبوا وأشرقت الدماء عليهم

محمرّة فكأنهم لم يسلبوا

على أن «محمرة» حشو.

وقال أبو تمام (٩) :

__________________

(١) ديوانه : ٣١٦.

(٢) ديوانه : ١٩٢.

(٣) ديوانه : ٧٦.

(٤) ديوانه : ٢٨٣.

(٥) فى الديوان : رافعا ، الموازنة : ١٣٩.

(٦) السبر : الاختبار ، واللطام : الضرب على الخد.

(٧) ديوانه ١٧٢ ، الموازنة ١٣٩.

(٨) ديوانه : ٦٣.

(٩) ديوانه : ١٧٩.

٢٢٧

كأنّما خامره أولق

أو خالطت (١) هامته الخندريس (٢)

وقال البحترى (٣) :

وتخال ريعان الشّباب يروعه

من حدّة (٤) أو نشوة أو أفكل (٥)

فزاد عليه.

وقال أبو تمام (٦) :

أنضرت أيكتى عطاياك حتى

عاد غصنى ساقا وكان قضيبا (٧)

فقال البحترى ـ وزاد (٨) :

حتى يعود الذّؤيب ليثا ضيغما

والغصن ساقا والقرارة نيقا (٩)

ومثل هذا كثير وفيما أوردت كفاية إن شاء الله.

__________________

(١) فى الديوان : أو غازلت.

(٢) الأولق : الجنون. والخندريس : الخمر.

(٣) الموازنة : ١٤٢.

(٤) فى الموازنة : من جنة.

(٥) الأفكل : الرعدة.

(٦) ديوانه : ٢٨١.

(٧) رواية الديوان :

صار ساقا عودى وكان قضيبا

(٨) ديوانه : ١٤٧.

(٩) نيقا : مرتفعا.

٢٢٨

الفصل الثّانى

من الباب السادس ، فى قبح الأخذ

وقبح الأخذ أن تعمد إلى المعنى فتتناوله بلفظه كلّه أو أكثره ، أو تخرجه فى معرض مستهجن ؛ والمعنى إنما يحسن بالكسوة : أخبرنا بعض أصحابنا قال : قيل للشعبى : إنّا إذا سمعنا الحديث منك نسمعه بخلاف ما نسمعه من غيرك! فقال : إنى أجده عاريا فأكسوه من غير أن أزيد فيه حرفا ؛ أى من غير أن أزيد فى معناه شيئا.

فمما أخذ بلفظه ومعناه وادّعى آخذه ـ أو ادّعى له ـ أنه لم يأخذه ، ولكن وقع له كما وقع للأول ؛ كما سئل ابن عمرو بن العلاء عن الشاعرين يتّفقان على لفظ واحد ومعنى. فقال : عقول رجال توافت على ألسنتها ، وذلك قول طرفة (١) :

وقوفا بها صحبى علىّ مطيّهم

يقولون : لا تهلك أسى وتجلّد

وهو قول امرئ القيس (٢) :

وقوفا بها صحبى علىّ مطيّهم

يقولون : لا تهلك أسى وتجمّل

فغيّر طرفة القافية.

وقال الحرث بن وعلة (٣) :

الآن لمّا ابيضّ مسربتى (٤)

وعضضت من نابى على جذم (٥)

وقال غسان السليطى :

الآن لما ابيضّ مسربتى

وعضضت من نابى أجذامى

__________________

(١) جمهرة أشعار العرب : ١٣٠

(٢) جمهرة أشعار العرب : ٥٠.

(٣) اللسان ـ مادة سرب ، وجذم.

(٤) المسربة : شعر الصدر.

(٥) الجذم : أصل الشىء ، وجذم الأسنان : منابتها.

٢٢٩

وقال البعيث :

أترجو كليب أن يجيء حديثها

بخير وقد أعيا كليبا قديمها

وقال الفرزدق :

أترجو ربيع أن تجيء صفارها

بخير وقد أعيا ربيعا كبارها

ومثل هذا كثير فى أشعارهم جدا.

والأخذ إذا كان كذلك كان معيبا وإن ادّعى أن الآخر لم يسمع قول الأول ، بل وقع لهذا كما وقع لذاك ؛ فإنّ صحة ذلك لا يعلمها إلّا الله عزوجل ، والعيب لازم للآخر.

روى لنا أن عمر بن أبى ربيعة أنشد ابن عباس رضى الله عنه :

تشطّ غدا دار جيراننا (١)

فقال ابن عباس :

وللدّار بعد غد أبعد

فقال عمر : والله ما قلت إلّا كذلك.

وإذا كان القوم فى قبيلة واحدة ، وفى أرض واحدة ، فإنّ خواطرهم تقع متقاربة ، كما أن أخلاقهم وشمائلهم تكون متضارعة ؛ وأنشدت الصاحب إسماعيل ابن عباد :

كانت سراة الناس تحت أظلّه (٢)

فسبقنى وقال :

فغدت سراة الناس فوق سراته (٣)

وكذلك كنت قلت.

__________________

(١) ديوانه : ٧٢.

(٢) الأظل : بطن الإصبع ، مما يلى صدر القدم إلى الخنصر.

(٣) السراة : أعلى كل شيء.

٢٣٠

فعلى هذا جائز ما يدّعى لهم ؛ والظاهر ما قلناه ؛ فهذا ضرب.

والضرب الآخر من الأخذ المستهجن أن يأخذ المعنى فيفسده أو يعوصه ، أو يخرجه فى معرض قبيح وكسوة مسترذلة ، وذلك مثل قول أبى كريمة :

قفاه وجه ، ثم وجه الذى

قفاه وجه يشبه البدرا

وإنّما أخذ هذا من قول أبى نواس (١) :

بأبى أنت من مليح بديع

بذّ حسن الوجوه حسن قفاكا

وأحسن ابن الرومى فيه فقال :

ما ساءنى إعراضه

عنّى ولكن سرّنى

سالفتاه عوض

من كلّ شيء حسن

وإليه أشار عبد الصمد بن المعذّل فى قوله :

لمّا رأيت البدر فى

أفق السّماء وقد تعلّى

ورأيت قرن الشّمس فى

أفق الغروب وقد تدلّى

شبّهت ذاك وهذه

وأرى شبيههما أجلّا

وجه الحبيب إذا بدا

وقفا الحبيب إذا تولّى

وأخذه أبو نواس من قول النابغة (٢) للنعمان بن المنذر : أيفاخرك ابن جفنة! واللات ، لأمسك خير من يومه ، ولقذالك أحسن من وجهه ، وليسارك أسمح من يمينه ، ولعبيدك أكثر من قومه ، ولنفسك أكبر من جنده ، وليومك أشرف من دهره ، ولو عدك أنجز من رفده ، ولهزلك أصوب من جدّه ، ولكرسيّك أرفع من سريره ، ولفترك أبسط من شبره ، ولأمّك خير من أبيه.

__________________

(١) هذا البيت ليس فى ديوان أبى نواس المطبوع بأيدينا وفى ديوان أبى تمام :

يا أبا جعفر خلقت بديعا

فإن حسن الوجوه حسن قفاكا

(٢) فى ط : من قول النابغة بقوله ...

٢٣١

والنابغة أحذق الجماعة ؛ لأنه ذكر القذال ، وهؤلاء قالوا : القفا ، ولا يستحسن أن يخاطب الرجل فيقال له : قفاك حاله كذا وكذا.

ومن ذلك قول الحسن بن وهب ، وقد سمع قولى أعرابى اجتمع مع عشيق له فى بعض الليالى : اجتمعت معها فى ظلمة الليل ، وكان البدر يرينيها ، فلما غاب أرتنيه ، فقال :

أرانى البدر سنّتها عشاء

فلما أزمع البدر الأفولا

أرتنيه بسنّتها (١) فكانت

من البدر المنوّر لى بديلا

فأطال الكلام ، وجعل المعنى فى بيتين ، وكرّر السّنة والبدر.

وقال البحترى فأربى على الأعرابىّ وزاد عليه (٢) :

أضرّت بضوء البدر والبدر طالع

وقامت مقام البدر لما تغيّبا

وسمع بعضهم قول محمود الوراق :

إذا كان شكرى نعمة الله نعمة

علىّ له فى مثلها يجب الشّكر

فكيف بلوغ الشكر إلّا بفضله

وإن طالت الأيام واتّصل العمر

إذا مسّ بالسّرّاء عمّ سرورها

وإن مسّ بالضّرّاء أعقبها الأجر

وما منهما إلّا له فيه نعمة

تضيق بها الأوهام والبرّ والبحر

فقال وأساء :

الحمد لله إنّ الله ذو نعم

لم يحصها عددا بالشّكر من حمدا

شكرى له عمل فيه علىّ له

شكر يكون لشكر قبله مددا

فهذا مثال قبح الأخذ ، فاعلمه.

وأخذ ابن طباطبا قول على رضى الله عنه : قيمة كل امرئ ما يحسنه ؛ فقال :

__________________

(١) السنة : الصورة ، أو الوجه ، أو الجبهة.

(٢) ديوانه : ٥٥.

٢٣٢

فيا لائمى دعنى أغال بقيمتى

فقيمة كلّ الناس ما يحسنونه

فأخذه بلفظه ، وأخرجه بغيضا متكلّفا.

والجيد قول الآخر :

فقيمة كل امرئ علمه

فهذا وإن كان أخذه ببعض لفظه فإن «كلا» فى بيته أحسن موقعا منه فى بيت ابن طباطبا.

وقال قرواش بن حوط :

دنوت له بأبيض مشرفىّ

كما يدنو المصافح للعناق

أخذه أبو تمام فقصّر عنه (١) ؛ وقال :

حنّ إلى الموت حتى ظنّ جاهله

بأنّه حنّ مشتاقا إلى وطن

وأحسن تقسيمه البحترى ، فقال (٢) :

تسرّع حتى قال من شهد الوغى

لقاء أعاد أم لقاء حبائب

وقال ذو الرمة (٣) :

وليل كجلباب العروس ادّرعته

بأربعة والشّخص فى العين واحد

أحمّ علافىّ وأبيض صارم

وأعيس مهريّ وأروع ماجد (٤)

أخذه أبو تمام فقصّر وقال (٥) :

البيد والعيس والليل التّمام معا (٦)

ثلاثة أبدا يقرن فى قرن (٧)

__________________

(١) ديوانه : ٣٨٨.

(٢) ديوانه : ١ ـ ٧٣.

(٣) اللسان ـ مادة علف.

(٤) البيت الثانى أنشده فى اللسان : بكسر العين من علافى ، وقال : العلافي : أعظم الرحال.

والأحم : الأسود وقيل الأبيض.

(٥) ديوانه : ٣٣٤.

(٦) صدر البيت فى ديوانه :

العيس والهم والليل التمام معا

(٧) القرن : الحبل.

٢٣٣

وبيت البحترى فى معناه أجود من هذا ، إلا أنه لا يلحق بيت ذى الرمة :

اطلبا ثالثا سواى فإنّى

رابع العيس والدّجى والبيد

ومما قصّر فيه البحترى (١) :

قوم ترى أرماحهم يوم الوغى

مشغوفة بمواطن الكتمان

أخذه من قول عمرو بن معديكرب (٢) :

والضاربين بكلّ أبيض مرهف

والطّاعنين مجامع الأضغان

قوله : «مجامع الأضغان» أجود من قوله : «مواطن الكتمان» ؛ لأنهم إنما يطاعنون الأعداء من أجل أضغانهم ، فإذا وقع الطّعن فى موضع الضغن فذلك غاية المراد.

ومما قصر فيه قوله (٣) :

من غادة منعت وتمنع نيلها

فلو أنّها بذلت لنا لم تبذل

أخذه من قول عبد الصمد بن المعذّل (٤) :

ظبى كأنّ بخصره

من دقّة ظمأ وجوعا

ومن البليّة أنّنى

علّقت ممنوعا منوعا (٥)

بيت عبد الصمد أبين معنى مع شدة الاختصار. وبيت البحترى كالعويص لا يقام إعرابه إلّا بعد نظر طويل.

وقال جابر بن السليك الهمدانى (٦) :

أرمى بها الليل قدّامى فيغشم بى (٧)

إذ الكواكب مثل الأعين الحول

__________________

(١) معاهد التنصيص : ٢ ـ ١٧٢.

(٢) الموازنة : ١٣٤.

(٣) الموازنة : ١٣٦.

(٤) الموازنة : ١٣٦.

(٥) فى الموازنة : ممنوعا منيعا.

(٦) الموازنة : ١٣٦.

(٧) فى الموازنة : فيهشم.

٢٣٤

أخذه البحترى فقصّر فى النظم عنه فقال (١) :

وخدان القلاص حولا إذا قا

بلن حولا من أنجم الأسحار

الأول أسلس.

وقال أبو تمام (٢) :

فلم يجتمع شرق وغرب لقاصد

لا المجد فى كفّ امرئ والدّراهم

وقال البحترى فقصّر (٣) :

ليفر وفرك الموفى (٤) وإن أع

وز أن يجمع النّدى ووفوره

وأخذ أبو تمام قول الشاعر :

فقلت لهم لا تعذلونى وانظروا

إلى النّازع المقصور كيف يكون

فقال وقصر (٥) :

هرمت بعدى والربع الذى أفلت

منه بدورك معذور على الهرم

متكلف رديء الاستعارة.

وقد يتفق المبتدى للمعنى والآخذ منه فى الإساءة ؛ قال ابن أذينة :

كأنما عائبها دائبا

زيّنها عندى بتزيين

فأتى بعبارة غير مرضية ونسج غير حسن ، وأخذه أبو نواس فقال :

كأنما أثنوا ولم يعلموا

عليك عندى بالّذى عابوا

فأتى أيضا برصف مرذول ونظم مردود.

وقد يستوى الآخذ والمأخوذ منه فى الإجادة ؛ فى التعبير عن المعنى الواحد.

قال أعرابى :

فنمّ عليها المسك والليل عاكف

__________________

(١) ديوانه : ٢ ـ ٢٤ ، الموازنة : ١٣٦.

(٢) ديوانه : ٢٨٦.

(٣) ديوانه : ٢ ـ ٣١.

(٤) فى الديوان : الملقى.

(٥) ديوانه : ٢٦٧.

٢٣٥

وقال البحترى (١) :

وحاولن كتمان الترحّل فى الدّجى

فنمّ بهنّ المسك حتى تضوّعا

وقال أيضا (٢) :

فكان العبير بها واشيا

وجرس الحلى عليها رقيبا

وقال النابغة (٣) :

فإنّك كالليل الذى هو مدركى

وإن خلت أنّ المنتأى عنك واسع

وقال أبو نواس (٤) :

لا ينزل الليل حيث حلّت

فدهر شرّابها نهار

فأحسنا جميعا فى العبارة ؛ وللنابغة قصبة السبق.

ومثل ذلك قول لبيد (٥) :

ولا بدّ يوما أن تردّ الودائع

وقال بشار :

وردّ علىّ الصّبا ما استعارا

وقال الفرزدق (٦) :

تفاريق شيب فى الشّباب لوامع

وما حسن ليل ليس فيه نجوم

وقال أبو نواس :

كأنّ بقايا ما عفا من حبابها

تفاريق شيب فى سواد عذار

البيتان متساويان فى حسن الرصف ، وإن كان أبو نواس أساء فى أخذه

__________________

(١) ديوانه : ٩٧.

(٢) ديوانه : ٥١.

(٣) ديوانه : ٧١.

(٤) ديوانه : ٢٧٤ ، والشعر والشعراء : ٧٨٣.

(٥) الشعر والشعراء : ٢٣٦ ، اللسان : ١٩ ـ ٣٥٢.

(٦) الشعر والشعراء : ٤٦٧.

٢٣٦

لفظ الفرزدق ؛ وفى قول الفرزدق أيضا زيادة ، وهى : «وما حسن ليل ليس فيه نجوم».

وأنشد أبو أحمد ؛ قال : أنشدنا أبو بكر عن عبد الرحمن عن عمه :

حرام على أرماحنا طعن مدبر

وتندقّ قدما فى الصّدور صدورها

مسلمة أعجاز خيلى فى الوغى

ومكلومة لبّاتها ونحورها

أخذه أبو تمام ؛ فقال (١) :

أناس إذا ما استحكم الرّوع كسّروا

صدور العوالى فى صدور الكتائب (٢)

فأحسنا جميعا.

ومثله قول الآخر :

يلقى السيوف بوجهه وبنحره

ويقيم هامته مقام المغفر

ويقول للطّرف (٣) اصطبر لشبا القنا

فهدمت ركن المجد إن لم تعقر

ومثله قول بكر بن النطاح :

يتلقّى النّدى بوجه حيىّ

وصدور القنا بوجه وقاح

وهذا كلّه مأخوذ من قول كعب بن زهير (٤) :

لا يقع الطّعن إلّا فى نحورهم

وما لهم عن حياض الموت تهليل (٥)

وهو دون جميع ما تقدّم.

وقد أتيت فى هذا الباب على الكفاية ، ولا أعلم أحدا ممن صنّف فى سرق الشعر فمثل بين قول المبتدى وقول التّالى ؛ وبين فضل الأول على الآخر ، والآخر على الأوّل ، غيرى ؛ وإنما كانت العلماء قبلى ينبّهون على مواضع السّرق فقط ؛ فقس بما

__________________

(١) ديوانه : ٤٢.

(٢) صدره فى الديوان :

إذا الخيل جابت قسطل الحرب صدعوا

(٣) الكريم من الخيل.

(٤) ديوانه : ٢٥.

(٥) التهليل : النكوص والتأخر.

٢٣٧

أوردته على ما تركته ؛ فإنى لو استقصيته لخرج الكتاب عن المراد ، وزاغ عن الإيثار ؛ وبالله التوفيق.

تمّ الجزء الأول من كتاب الصناعتين ، ويتلوه فى الجزء الثانى

الباب السابع فى التشبيه. والحمد لله وحده ،

وصلواته على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين وسلامه.

وهو حسبنا ونعم الوكيل

٢٣٨

الباب السّابع

فى التشبيه (فصلان)

الفصل الأول من الباب السابع

فى حدّ التشبيه وما يستحسن من منثور الكلام ومنظومه

التشبيه

التشبيه : الوصف بأنّ أحد الموصوفين ينوب مناب الآخر بأداة التشبيه ، ناب منابه أو لم ينب ، وقد جاء فى الشعر وسائر الكلام بغير أداة التشبيه. وذلك قولك : زيد شديد كالأسد ؛ فهذا القول الصواب فى العرف وداخل فى محمود المبالغة ، وإن لم يكن زيد فى شدّته كالأسد على الحقيقة ؛ على أنه قد روى أن إنسانا قال لبعض الشعراء : زعمت أنك لا تكذب فى شعرك ، وقد قلت :

ولأنت أجرأ من أسامة

أو يجوز أن يكون رجل أشجع من أسد! فقال : قد يكون ذلك ؛ فإنّا قد رأينا مجزأة بن ثور فتح مدينة ولم نر الأسد فعل ذلك ، فهذا قول.

ويصحّ تشبيه الشىء بالشىء جملة ، وإن شابهه من وجه واحد ؛ مثل قولك : وجهك مثل الشمس ، ومثل البدر ؛ وإن لم يكن مثلهما فى ضيائهما وعلوّهما ولا عظمهما ؛ وإنّما شبّهه بهما لمعنى يجمعهما وإياه وهو الحسن. وعلى هذا قول الله عزوجل : (وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) ؛ إنما شبّه المراكب بالجبال من جهة عظمها لا من جهة صلابتها ورسوخها ورزانتها ، ولو أشبه الشىء الشىء من جميع جهاته لكان هو هو.

٢٣٩

أوجه التشبيه

٢٤٠