كتاب الصّناعتين الكتابة والشعر

أبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري

كتاب الصّناعتين الكتابة والشعر

المؤلف:

أبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري


المحقق: علي محمد البجاوي ومحمد ابوالفضل ابراهيم
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٨

قال المأمون ليحيى بن أكثم : صف لى حالى عند الناس. فقال : يا أمير المؤمنين! قد انقادت لك الأمور بأزمّتها ، وملّكتك الأمة فضول أعنّتها ؛ بالرغبة إليك والمحبة لك ، والرّفق منك ، والعياذ بك ، بعدلك فيهم ، ومنّك عليهم ، حتى لقد أنسيتهم سلفك ، وآيستهم خلفك. فالحمد لله الذى جمعنا بك بعد التقاطع ، ورفعنا فى دولتك بعد التواضع.

فقال : يا يحيى ، أتحبيرا ، أم ارتجالا؟ قال : قلت : وهل يمتنع فيك وصف ، أو يتعذّر على مادحك قول ، أو يفحم فيك شاعر ، أو يتلجلج فيك خطيب؟

وقدم على المهدىّ رجل من أهل خراسان ، فقال : أطال الله بقاء أمير المؤمنين ؛ إنّا قوم نأينا عن العرب ، وشغلتنا الحروب عن الخطب ، وأمير المؤمنين يعلم طاعتنا ، وما فيه مصلحتنا ؛ فيكتفى منا باليسير عن الكثير ، ويقتصر على ما فى الضمير دون التفسير. فقال المهدى : أنت أخطب من سمعته.

وأخبرنا أبو القاسم عبد الوهاب بن محمد الكاغذى ، قال : أخبرنا أبو بكر العقدى ، قال : أخبرنا أبو جعفر الخراز ، قال : أخبرنا المدائنى : أن أعرابيا دخل على المنصور فتكلّم ؛ فأعجب بكلامه ، فقال له : سل حاجتك ، فقال : يبقيك الله ، ويزيد فى سلطانك. فقال : سل حاجتك ، فليس فى كلّ وقت تؤمر بذاك. قال : ولم يا أمير المؤمنين؟ فو الله ما أستقصر عمرك ، ولا أخاف بخلك ، ولا أغتنم مالك ؛ وإنّ سؤالك لشرف ، وإن عطاءك لزين ، وما بامرئ بذل وجهه إليك نقص ولا شين.

أخذ المعنى الأخير من أمية بن الصلت فى عبد الله بن جدعان (١) :

عطاؤك زين لامرئ إن حبوته

بسيب وما كلّ العطاء يزين

وليس بشين لامرئ بذل وجهه

إليك ، كما بعض السؤال يشين

__________________

(١) ديوانه : ٦٣.

٤١

وقال جعفر بن يحيى : البلاغة أن يكون الاسم يحيط بمعناك ؛ ويجلّى عن مغزاك ، وتخرجه من الشركة ، ولا تستعين عليه بطول الفكرة ، ويكون سليما من التكلّف ، بعيدا من سوء الصّنعة ؛ بريّا من التعقيد ، غنيّا عن التأمّل.

قوله : أن يكون الاسم يحيط بمعناك. فالاسم هاهنا : اللّفظ ؛ أى يحصر اللفظ جميع المعنى ويشتمل عليه. فلا يشذّ منه شيء يحتاج أن يعرف بشرح ، أو تفسير ؛ فإذا سمعت اللفظ عرفت أقصى المعنى ، هذا مثل قول الآخر : البليغ من طبّق المفصل فأغناك عن المفسر (١).

ولا يكون الكلام بليغا مع ذلك حتى يعرى من العيب ، ويتضمّن الجزالة والسهولة وجودة الصنعة ، كما ذكرنا قبل.

ومثال ذلك ما كتب بعضهم إلى أخ له : أما بعد فإنّ المرء ليسرّه درك ما لم يكن ليفوته ، ويسوؤه فوت ما لم يكن ليدركه ؛ فليكن سرورك فيما قدمت من خير ، وأسفك على ما فاتك من برّ.

وقول أعرابى لابنه : يا بنىّ ؛ إن الدنيا تسعى على من يسعى لها ، فالهرب قبل العطب. فقد أذنتك ببين ، وانطوت لك على حين. قال الشاعر :

حلال لليلى أن تروع فؤاده

يهجر ومغفور لليلى ذنوبها

تطلّع من نفسى لليلى نوازع

عوارف أنّ اليأس منك نصيبها

وزالت زوال الشمس عن مستقرّها

فمن مخبرى فى أىّ أرض غروبها

وقال آخر :

وما ذا عسى الواشون أن يتحدّثوا

سوى أن يقولوا إنّنى لك عاشق

أجل صدق الواشون أنت حبيبة

إلىّ وإن لم تصف منك الخلائق

وقوله : ويجلّى عن مغزاك. أى يوضّح مقصدك ، ويبيّن للسامع مرادك ؛ ينهى عن التعمية والإغلاق.

__________________

(١) المفسر : مصدر ميمى كالفسر بمعنى التفسير.

٤٢

وقوله : ويخرجه من الشّركة. فقد مضى تفسيره.

وقوله : ولا يستعين عليه بطول الفكرة. هذا لأنّ الكلام إذا انقطعت أجزاؤه ، ولم تتّصل فصوله ذهب رونقه ، وغاض ماؤه ، وإنما يروق الكلام إذا جرى جريان السيل ، وانصبّ انصباب القطر.

وقال ثمامة : ما رأيت أحدا إذا تكلّم لا يتحبّس ، ولا يتوقّف ، ولا يتلفّف ، ولا يتلجلج ، ولا يتنحنح ، ولا يترقّب لفظا استدعاه من بعد ، ولا يتلمّس التخلّص إلى معنى قد اعتاص عليه بعد طلبه ، إلا جعفر بن يحيى.

فمن الكلام الجارى مجرى السيل قول بعض العرب لبعض ملوك بنى أميّة : أقطعت فلانا أرضا ، وسط محلّتنا ، وسواء خطّتنا ، ومركز رماحنا ، ومبرك لقاحنا ، ومخرج نسائنا ، ومنقلب إمائنا ، ومسرح شائنا ، ومندى بهمنا (١) ، ومحلّ ضيفنا ، ومشرق شتائنا ، ومصبحنا فى صيفنا. فقال : تكفون. وعوّضه عنها وردّها عليهم.

وأخبرنا أبو أحمد قال : أخبرنى أبى عن عسل بن ذكوان أن الحسن بن على رضى الله عنهما خطب فقال : اعلموا أنّ الحكمة زين ، والوقار مروءة ، والصلة نعمة ، والإكثار صلف ، والعجلة سفه ، والسّفه ضعف ، والغلق ورطة ، ومجالسة أهل الدّناءة شين ، ومخالطة أهل الفسوق ريبة.

فهذه هى البلاغة التامة ، والبيان الكامل.

وكما قال بعضهم : البلاغة صواب ، فى سرعة جواب ؛ والعىّ إكثار فى إهذار ، وإبطاء يردفه أخطاء.

وقال بعضهم : لست ممن يتوهّم بجهله ، ويظن بقلة عقله ، أن الديانة ، والأمانة ، والنزاهة ، والصيانة ، إنما هى فى تشمير ثوبه ، وإحفاء شاربه ، وكشفه

__________________

(١) البهم : جمع بهمة : أولاد الضأن والمعز والبقر.

٤٣

عن ساقه ، وزهوه بأطماره ، وإنعال خفّه ، وترقيع ثوبه ، وإظهار سجّادته ؛ وتعليق سبحته ، وخفض صوته ، وخشوع جسمه دون قلبه ، واختلاس مشيته ، وخفّة وطئه بين قومه. ولا يرتشى فى حكمه ، ويأخذ على علمه ، ويطلب الدنيا بدينه ، ولا يرفع طرفه من عظمته وكبريائه ، ولا يكلّم الناس من تصنعه وريائه.

فهذا الكلام وأمثاله فى طول النّفس يدل على اقتدار المتكلم ، وفضل قوّته فى التصرّف.

وقوله : ويكون سليما من التكلّف. فالتكلّف طلب الشىء بصعوبة للجهل بطرائق طلبه بالسهولة. فالكلام إذا جمع وطلب بتعب وجهد ، وتنولت ألفاظه من بعد فهو متكلّف. مثاله قول بعضهم فى دعائه : اللهم ربّنا وإلهنا ، صلّ على محمد نبيّنا ؛ ومن أراد بنا سوءا فأحط ذلك السوء به ، وأرسخه فيه كرسوخ السّجّيل على أصحاب الفيل ، وانصرنا على كلّ باغ وحسود ، كما انتصرت لناقة ثمود.

وقوله : برّيا من سوء الصّنعة. فسوء الصنعة يتصرّف على وجوه : منها سوء التقسيم وفساد التفسير ، وقبح الاستعارة والتطبيق ، وفساد النّسج والسّبك. وسنذكر المحمود من هذه الأبواب ، والمذموم منها فيما بعد إن شاء الله.

وروى أنه قال : بريّا من الصنعة. فالصّنعة النقصان عن غاية الجودة ، والقصور عن حدّ الإحسان. وهو مثل قول العائب فى هذا الأمر ـ بعد عمل ـ معناه أنه لم يحكم.

ولمّا دخل النابغة يثرب (١) وغنى بقوله (٢) :

أمن آل ميّة رائح أو مغتدى

ومن هذه القصيدة (٣) :

__________________

(١) يثرب : اسم مدينة الرسول.

(٢) ديوانه ٣٤ ، وتمام البيت :

عجلان ذا زاد وغير مزود

.(٣) ديوانه ٣٧ ، وصدر البيت :

بمخضب رخص كأن بنانه

٤٤

عنم (١) يكاد من اللّطافة يعقد

وعرف أنه عيب (٢) خرج وهو يقول : دخلت يثرب فوجدت فى شعرى صنعة ، فخرجت منها وأنا أشعر العرب ؛ أى وجدت نقصانا عن غاية التمام.

وأخبرنا أبو أحمد عن أبى بكر الصولى ، قال : كان ابن الأعرابى يأمر بكتب جميع ما يجرى فى مجلسه ، قال : فأنشده رجل يوما أرجوزة أبى تمام فى وصف السحاب على أنها لبعض العرب :

سارية لم تكتحل بغمض

كدراء ذات هطلان محض

موقرة من خلّة وحمض

تمضى وتبقى نعما لا تمضى

قضت بها السماء حقّ الأرض (٣)

فقال ابن الأعرابى : اكتبوها ، فلمّا كتبوها قيل له : إنها لحبيب بن أوس ؛ فقال : خرّق خرّق (٤) ، لا جرم إن أثر الصّنعة فيها بيّن.

وقال الفرزدق القصائد تصنّعا ؛ أى معابا ومنقصة عن حدّ الإحسان.

وقوله : بعيدا عن التعقيد. والتعقيد ، والإغلاق ، والتقعير سواء. وهو استعمال الوحشىّ ، وشدة تعليق الكلام بعضه ببعض ؛ حتى يستبهم المعنى. وقد ذكرنا أمثلة ذلك فيما تقدّم ، ونذكر هاهنا منها شيئا :

فمثال الوحشىّ قول بعض الأمراء وقد اعتلّت أمّه فكتب رقاعا وطرحها فى المسجد الجامع بمدينة السلام : صين امرؤ ورعى ، دعا لامرأة إنقحلة (٥) مقسئنّة ، قد منيت بأكل الطّرموق ؛ فأصابها من أجله الاستمصال ، أن يمنّ الله عليها

__________________

(١) العنم : نبت أحمر يصبغ به.

(٢) العيب فى «يعقد» بالرفع ، وهو ما يسمى بالإقواء ، وهو اختلاف حركة الروى.

(٣) السارية : السحابة تأتى ليلا. والخلة ، بالضم : ما فيه حلاوة من النبات. والحمض : ما ملح وأمر من النبات ، وعليه قولهم : الخلة خبز الإبل ، والحمض فاكهتها.

(٤) التخريق : التمزيق.

(٥) قحل الشيخ : يبس جلده على عظمه وهو قحل وانقحل. واقسأن الرجل : كبر وعسا.

٤٥

بالاطرغشاش ، والابرغشاش. فكلّ من قرأ رقعته دعا عليها ، ولعنه ولعن أمه.

الطّرموق (١) ؛ الطين. والاستمصال : الإسهال ، واطرغش ، وابرغش : إذا أبلّ وبرأ.

ومثال الشديد التعليق بعض ألفاظه ببعض حتى يستبهم المعنى ، كقول أبى تمام (٢) :

جارى إليه البين وصل خريدة

ماشت إليه المطل مشى الأكبد (٣)

يا يوم شرّد يوم لهوى لهوه

بصبابتى وأذلّ عزّ تجلّدى

يوم أفاض جوى أغاض تعزّيا

خاض الهوى بحرى حجاه المزبد

جعل الحجا مزبدا.

وقوله أيضا (٤) :

والمجد لا يرضى بأن ترضى بأن

يرضى المعاشر منك إلّا بالرّضا (٥)

وبلغنا أنّ إسحاق بن إبراهيم سمعه ينشد هذا وأمثاله عند الحسن بن وهب ؛ فقال : يا هذا ، لقد شدّدت على نفسك. والكلام إذا كان بهذه المثابة كان مذموما.

وقوله : غنيّا عن التأمل ؛ أى هو مستغن لوضوحه عن تأمّل معانيه ، وترديد النّظر فيه. كقول بعضهم لصديق له : وجدت المودّة منقطعة ، ما دامت الحشمة عليها مسلّطة ، ولا يزال سلطان الحشمة إلا بملكة المؤانسة.

ومما يؤيّد ما قلناه قول الجاحظ : من أعاره الله عزوجل من معونته نصيبا ، وأفرغ عليه من محبته ذنوبا (٦) ، حبّب إليه المعانى ، وسلّس (٧) له نظام

__________________

(١) كذا فى جميع الأصول وفى القاموس : الطرموق : الخفاش.

(٢) ديوانه : ١١١.

(٣) البين : الفراق. الخريدة : البكر. المطل : التسويف. الأكبد : من يشتكى وجع الكبد. أو الضخم الوسط البطيء السير.

(٤) ديوانه : ١٨٧.

(٥) فى الديوان : «امرؤ يرجوك»

(٦) الذنوب : الدلو ، أو الملأى ، والحظ والنصيب.

(٧) التسليس : الترصيع والتأليف لما ألف من الحلى سوى الخرز.

٤٦

اللّفظ. وكان قبل قد أعفى المستمع من كدّ التلطّف ، وأراح قارئ الكتاب من علاج التفهّم.

وقال العربى : البلاغة التقرّب من المعنى البعيد ؛ والتباعد من حشو الكلام ؛ وقرب المأخذ ؛ وإيجاز فى صواب ؛ وقصد إلى الحجّة ؛ وحسن الاستعارة.

ومثله قول الآخر : البلاغة تقريب ما بعد من الحكمة بأيسر الخطاب.

والتقرّب من المعنى البعيد ، وهو أن يعمد إلى المعنى اللّطيف فيكشفه ، وينفى الشواغل عنه ؛ فيفهمه السامع من غير فكر فيه ، وتدبّر له. مثل قول الأول فى امرأة :

لم ندر ما الدّنيا وما طيبها

وحسنها حتى رأيناها

إنك لو أبصرتها ساعة

أجللتها أن تتمنّاها

وقال بعضهم لملك من الملوك : أمّا التعجّب من مناقبك فقد نسخه تواترها ؛ فصارت كالشيء القديم الذى قد كسى به ؛ أى ألف لا كالشيء البديع الذى يتعجّب منه. ومن هذا أخذ أبو تمام قوله (١) :

على أنها الأيام قد صرن كلها

عجائب حتى ليس فيها عجائب

وقول آخر لبعض الملوك أيضا : أخلاقك تجعل العدوّ صديقا ، وأحكامك تصير الصديق عدوا ، ويشهد عدم مثلك فيما يكون.

وقال بعض القدماء : لكل جليلة دقيقة ودقيقة الموت الهجر.

وقلت :

اسم التفرّق بيّن

لكنّ معناه موت

وجداننا كلّ شيء

إذا تباعدت فوت

والرواية الصحيحة أن العربى قال : البلاغة التقرب من المعنى البعيد ؛ ولكن

__________________

(١) ديوانه : ٣٥٢.

٤٧

رأيته فى بعض أصولى كما ذكرته قبل ، فأوردته هاهنا ، وفسّرته على ما رأيته فى الأصل.

وقوله : والتباعد من حشو الكلام. فالحشو على ثلاثة أضرب : اثنان منها مذمومان ، وواحد محمود :

فأحد المذمومين هو إدخالك فى الكلام لفظا لو أسقطته لكان الكلام تاما ، مثل قول الشاعر :

أنعى فتى لم تذرّ الشمس طالعة

يوما من الدهر إلّا ضرّ أو نفعا

فقوله : يوما من الدّهر حشو لا يحتاج إليه ؛ لأن الشمس لا تطلع ليلا.

وقول بعض بنى عبس : أنشدنا أبو أحمد عن الصولى عن ثعلب عن ابن الأعرابى :

أبعد بنى بكر أؤمّل مقبلا

من الدهر أو آسى على إثر مدبر

وليس وراء الفوت شيء يردّه

عليك إذا ولّى سوى الصّبر فاصبر

أولاك بنو خير وشرّ كليهما

جميعا ومعروف أريد ومنكر

قوله : أريد حشو وزيادة. وقوله : كليهما يكاد يكون حشوا ، وليس به بأس ، وباقى الكلام متوازن الألفاظ والمعانى ، لا زيادة فيه ولا نقصان. وهذا الجنس كثير فى الكلام.

والضرب الآخر العبارة عن المعنى بكلام طويل لا فائدة فى طوله ويمكن أن يعبّر عنه بأقصر منه. مثل قول النابغة (١) :

تبيّنت آيات لها فعرفتها

لستّة أعوام وذا العام سابع

كان ينبغى أن يقول لسبعة أعوام ويتمّ البيت بكلام آخر يكون فيه فائدة ، فعجز عن ذلك ، فحشا البيت بما لا وجه له.

وأما الضرب المحمود فكقول كثيّر :

لو أنّ الباخلين وأنت فيهم

رأوك تعلّموا منك المطالا (٢)

__________________

(١) ديوانه ٤٩ ، ٦٧.

(٢) المطال : التسويف.

٤٨

قوله : «وأنت فيهم» حشو إلّا أنه مليح. ويسمّى أهل الصنعة هذا الجنس اعتراض كلام فى كلام.

ومنه قول الآخر ، وهو جرير (١) :

إنّ الثمانين وبلغتها

قد أحوجت سمعى إلى ترجمان

وسنأتى على هذا الباب فيما بعد إن شاء الله.

ومن الكلام الذى لا حشو فيه قول صبرة بن شيمان حين دخل على معاوية مع الوفود فتكلّموا فأكثروا ، فقال صبرة : يا أمير المؤمنين ، إنّا حىّ فعال ، ولسنا حىّ مقال ، ونحن بأدنى فعالنا عند أحسن مقالهم.

فقال معاوية : صدقت.

ومن هذا قول الشاعر :

وتجهل أيدينا ويحلم رأينا

ونشتم بالأفعال لا بالتّكلّم

وكتب رجل إلى أخ له : ثقتى بكرمك تمنع من اقتضائك ، وعلمى بشغلك يحدو على ادّكارك.

وقال آخر : فى الناس طبائع سيئة وحسنة ، فارتبط بمن رجحت محاسنه.

وقال الحسن : نعم الله على العبد أكثر من أن تشكر ، إلّا أن يعان عليها. وذنوبه أكثر من أن يسلم منها ، إلا أن يعفى له عنها.

وأما قرب المأخذ فهو أن تأخذ عفو الخاطر ، وتتناول صفو الهاجس ، ولا تكدّ فكرك ، ولا تتعب نفسك. وهذه صفة المطبوع.

وروى أن الرشيد ، أو غيره ، قال لندمائه ـ وقد طلعت الثريّا : أما ترون الثريّا؟ فقال بعضهم : كأنها عقد ريا.

__________________

(١) التبيان : ٣ ـ ٢١٦ ، وقد نسبه هناك إلى عوف بن محلم.

٤٩

وقال بعضهم لأبى العتاهية :

عذب الماء فطابا

فقال أبو العتاهية :

حبّذا الماء شرابا

وقال بشار ، وقد حبسه يعقوب بن داود على بابه :

طال الثّواء على رسوم المنزل

فرفع إليه قوله ، فقال :

فإذا تشاء أبا معاذ (١) فارحل

ومن قرب المأخذ أنّ الجاحظ أو غيره قال للجماز : أريد أن أنظر إلى الشيطان ، فقال : انظر فى المرآة.

وقال بعض الولاة لأعرابى : قل الحقّ وإلا أوجعتك ضربا! فقال الأعرابى : وأنت أيضا فاعمل به ، فو الله لما أوعدك الله به منه أعظم مما أوعدتنى به منك.

ومنه أن المأمون قال لأمّ الفضل بن سهل بعد قتله إياه : أتجزعين ولك ولد مثلى؟ قالت : وكيف لا أجزع على ولد أفادنيك.

وهذا على حسب ما قال أبو حنيفة : إذا أتتك معضلة فاجعل جوابها منها.

ومن ذلك ما أخبرنا به أبو أحمد قال حدثنا الجوهرى ، قال : حدثنا محمد بن زكريا ، قال : حدثنا مهدى بن سابق ، قال : حدثنا عطاء بن مصعب عن عاصم بن الحدثان ، قال : دعا عبد الملك بن مروان يوما بالغداء وبحضرته رجل فدعاه إلى غدائه ، فقال ليس : بى غداء يا أمير المؤمنين ، قد تغدّيت. فقال عبد الملك : أقبح بالرجل أن يأكل حتى لا يكون فيه فضل للطعام. فقال : يا أمير المؤمنين ، فىّ فضل ، ولكن أكره أن آكل فأصير إلى ما استقبحه أمير المؤمنين.

و [أمّا] قوله : «إيجاز فى صواب» ، فسنذكره فى بابه. و [أمّا] الاستعارة فسنضعها فى مواضعها.

__________________

(١) كنية بشار.

٥٠

وأما قوله : «وقصد إلى الحجّة» ، فقد ذكرنا الكلام فيه.

وقال محمد بن على رضى الله عنهما : البلاغة قول مفقه (١) فى لطف ؛ فالمفقه : المفهم ، واللّطيف من الكلام : ما تعطف به القلوب النافرة ، ويؤنس القلوب المستوحشة ، وتلين به العريكة الأبيّة المستصعبة ، ويبلغ به الحاجة ، وتقام به الحجّة ؛ فتخلص نفسك من العيب ، ويلزم صاحبك الذنب ، من غير أن تهيجه (٢) وتقلقه ، وتستدعى غضبه ، وتستثير حفيظته.

كقول بعض الكتّاب لأخ له : أنفذ إلىّ أبو فلان كتابا منك ؛ فيه ذرّ (٣) من عتاب ، كان أحلى عندى من تعريسة الفجر (٤) ، وألذّ من الزّلال العذب ، ولك العتبى داعيا مستجابا له ، وعاتبا معتذرا إليه. ولو شئت مع هذا أن أقول : إنّ العتب عليك أوجب ، والاعتذار لك ألزم لفعلت ، ولكنى أسامحك ولا أشاحك (٥) ، وأسلّم إليك ولا أرادّك ؛ لأنّ أفعالك عندى مرضية ، وشيمك لدىّ مقبولة ، ولو لا أنّ للحجّة موقعها لأعرضت عما أومأت إليه وما عرضت مما بدأت به ، وقلت :

إذا مرضنا أتيناكم نعودكم

وتذنبون فنأتيكم فنعتذر

فانظر كيف خلّص نفسه من الجرم ، وأوجبه لصاحبه فى ألطف وجه ، وألين مسّ.

ومن الكلام الذى يعطف القلوب النافرة قول آخر لأخ له : زيّن الله ألفتنا بمعاودة صلتك ، واجتماعنا بترادف زيارتك ، وأيامنا الموحشة ـ لغيبتك ـ برؤيتك ؛ توعّدتنى بالانتقام على إخلالى بمطالعتك ، وحسبى من عقوبتك ما ابتليت به من عدم مشاهدتك.

وقال علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه : البلاغة إيضاح الملتبسات ، وكشف

__________________

(١) فقهه كعلمه : فهمه ، وفقهه تفقيها : علمه ، كأفقهه.

(٢) هاجه : أثاره.

(٣) أصل الذر صغار النمل ، ولعله يريد : قليل من عتاب.

(٤) التعريس : نزول القوم فى السفر آخر الليل.

(٥) تشاحا على الأمر : لا يريدان أن يفوتهما.

٥١

عوّار (١) الجهالات ، بأسهل ما يكون من العبارات.

وقريب منه قول الحسن بن على رضى الله عنهما : البلاغة تقريب بعيد الحكمة بأسهل العبارة.

ومثله قول محمد بن على رضى الله عنهما : البلاغة تفسير عسير الحكمة بأقرب الألفاظ. وقد مضى فيما تقدّم من كلامنا ما يكون مثالا لهذه الفصول.

وأنا أورد هاهنا فصلا ينشرح به أبوابها ، ويتّضح وجوهها. أخبرنى أبو أحمد عن أبيه عن عسل بن ذكوان ، قال : قال المأمون لمرتدّ عن الإسلام إلى النصرانية : أى شيء أوحشك من الإسلام فتركته ؛ قال : أوحشنى ما رأيت من كثرة الاختلاف فيكم. فقال المأمون : لنا اختلافان : أحدهما كاختلافنا فى الأذان ، وتكبير الجنائز ، والاختلاف فى التشهد ، وفى صلاة الأعياد ، وتكبير التشريق ، ووجوه القراءات ، واختلاف وجوه الفتيا ، وما أشبه ذلك. وليس هذا باختلاف ؛ وإنما ذلك توسعة وتخفيفا من المحنة. والاختلاف الآخر كنحو اختلافنا فى تأويل الآية من كتابنا ، وتأويل الخبر عن نبيّنا عليه الصلاة والسلام ، مع إجماعنا على أصل التنزيل ، واتفاقنا على عين الخبر.

فإن كان الذى أوحشك هو هذا حتى أنكرت هذا الكتاب فينبغى أن يكون اللفظ بجميع التوراة والإنجيل متّفقا على تأويله ، كما يكون متّفقا على تنزيله ، ولا يكون بين النصارى اختلاف فى شيء من التأويلات. ولو شاء الله أن ينزّل كتبه ويجعل كلام أنبيائه ، وورثة رسله كلاما لا يحتاج إلى التفسير لفعل ؛ ولكننا لم نر شيئا من الدّين والدنيا دفع إلينا على الكفاية. ولو كان الأمر كذلك لسقطت المحنة والبلوى ، وذهبت المسابقة والمنافسة ، ولم يكن تفاضل ؛ وليس على هذا بنى الله الدنيا.

__________________

(١) العوار : كل ما أعل العين ، والرمد والقذى.

٥٢

فقال المرتدّ : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ولا ولد ، وأن المسيح عبد الله ، وأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم صادق ، وأنك أمير المؤمنين حقّا.

وقال ابن المقفّع : البلاغة كشف ما غمض (١) من الحقّ ، وتصوير الحقّ فى صورة الباطل.

والذى قاله أمر صحيح لا يخفى موضع الصواب فيه على أحد من أهل التمييز والتحصيل ؛ وذلك أنّ الأمر الظاهر الصحيح الثابت المكشوف ينادى على نفسه بالصحّة ، ولا يحوج إلى التكلّف لصحّته حتى يوجد المعنى فيه خطيبا.

وإنما الشأن فى تحسين ما ليس بحسن ، وتصحيح ما ليس بصحيح بضرب من الاحتيال والتحيّل (٢) ، ونوع من العلل والمعاريض (٣) والمعاذير ، ليخفى موضع الإشارة ، ويغمض موقع التقصير ؛ وما أكثر ما يحتاج الكاتب إلى هذا الجنس عند اعتذاره من هزيمة ، وحاجته إلى تغير رسم ؛ أو رفع منزلة دنىء له فيه هوى ؛ أو حطّ منزلة شريف استحقّ ذلك منه ، إلى غير ذلك من عوارض أموره.

فأعلى رتب البلاغة أن يحتجّ للمذموم حتى يخرجه فى معرض المحمود ، وللمحمود حتى يصيّره فى صورة المذموم. وقد ذمّ عبد الملك بن صالح المشورة ، وهى ممدوحة بكل لسان ، فقال : ما استشرت أحدا إلا تكبر على وتصاغرت له ، ودخلته العزّة ودخلتنى الذّلة ؛ فعليك بالاستبداد فإن صاحبه جليل فى العيون ، مهيب فى الصدور ؛ وإذا افتقرت إلى العقول حقرتك العيون ، فتضعضع شأنك ، ورجفت (٤) بك أركانك ، واستحقرك الصغير ، واستخفّ بك الكبير ، وما عزّ سلطان لم يغنه عقله عن عقول وزرائه وآراء نصائحه.

ومدح بعضهم الموت فقال :

قد قلت إذ مدحوا الحياة فأكثروا

فى الموت ألف فضيلة لا تعرف

__________________

(١) فى ط «أغمض» ، وصوابه عن ا ، ب

(٢) التحيل : الاحتيال.

(٣) المعاريض : التورية بالشىء وعن الشىء.

(٤) رجفت : تحركت واضطربت.

٥٣

فيه أمان لقائه بلقائه

وفراق كلّ معاشر لا ينصف

فالمتمكّن من نفسه يضع لسانه حيث يريد.

ومثل هذا كثير لا وجه لاستيفائه فى مثل هذا الموضع.

ذكرت فى هذا الباب ـ وهو ثلاثة فصول ـ من نعوت البلاغة ، ووجوه البيان والفصاحة ما فيه كفاية ؛ وأتيت من تفسير مشكلها على ما فيه مقنع ، ولم يسبقنى إلى تفسير هذه الأبواب وشرح وجوهها أحد ، وإنما اقتصر من كان قبلى على ذكر تلك النعوت عارية مما هى مفتقرة إليه من إيضاح غامضها ، وإنارة مظلمها ؛ فكان المنفعة بها للعالم دون المتعلّم ، والسابق دون اللاحق ؛ وربما اعترض الشكّ فيها للعالم المبرّز ، فسقطت عنه معرفة كثير منها. وأنت أيّدك الله تعتمد ما ذكرته من ذلك ، وتأتمّ بما شرحته منه ، وتستدلّ به على ما ألفيته من جنسه إذا عثرت به ، لتستغنى عن جميع ما صنّف فى البلاغة ، وسائر ما ذكر من أصناف البيان والفصاحة إن شاء الله.

٥٤

الباب الثّانى

فى تمييز الكلام جيده من رديه ونادره من بارده والكلام فى المعانى (فصلان)

الفصل الأول من الباب الثانى

فى تمييز الكلام

الكلام ـ أيدك الله ـ يحسن بسلاسته ، وسهولته ، ونصاعته ، وتخيّر لفظه ، وإصابة معناه ، وجودة مطالعه ، ولين مقاطعه ، واستواء تقاسيمه ، وتعادل أطرافه ، وتشابه (١) أعجازه بهواديه (٢) ، وموافقة مآخيره لمباديه ، مع قلّة ضروراته ، بل عدمها أصلا ، حتى لا يكون لها فى الألفاظ أثر ؛ فتجد المنظوم مثل المنثور فى سهولة مطلعه ، وجودة مقطعه ، وحسن رصفه وتأليفه ؛ وكمال صوغه وتركيبه.

فإذا كان الكلام كذلك كان بالقبول حقيقا ، وبالتحفظ خليقا ؛ كقول الأول :

هم الألى وهبوا للمجد أنفسهم

فما يبالون ما نالوا إذا حمدوا

وقول معن بن أوس (٣) :

لعمرك ما أهويت كفّى لريبة

ولا حملتنى نحو فاحشة رجلى

ولا قادنى سمعى ولا بصرى لها

ولا دلّنى رأيى عليها ولا عقلى

وأعلم أنّى لم تصبنى مصيبة

من الدّهر إلّا قد أصابت فتى قبلى

ولست بماش ما حييت لمنكر (٤)

من الأمر لا يمشى إلى مثله مثلى

__________________

(١) فى ط ، ب «تشبه» ، وما أثبتناه عن ا.

(٢) الهادى : العنق ، والمتقدم ، وجمعه الهوادى.

(٣) الأمالى : ٢ ـ ٢٣٤.

(٤) فى الأمالى : «بمنكر» من الأمر ما يمشى ...

٥٥

ولا مؤثرا نفسى على ذى قرابة (١)

وأوثر ضيفى ـ ما أقام ـ على أهلى

وقول الآخر :

ولست بنظّار إلى جانب الغنى

إذا كانت العلياء فى جانب الفقر

وقال الآخر (٢) :

ذرينى أسيّر فى البلاد لعلّنى

أصيب غنى فيه لذى الحقّ محمل (٣)

فإن نحن لم نسطع دفاعا لحادث

تجيء به الأيّام فالصبر أجمل

أليس كثيرا أن تلمّ ملمّة

وليس علينا فى الحقوق معوّل!

ومما هو فصيح فى لفظه جيد فى رصفه قول الشنفرى (٤) :

أطيل مطال (٥) الجوع حتى أميته

وأضرب عنه القلب صفحا فيذهل

ولو لا اجتناب العار لم يلف مشرب

يعاش به إلّا لدىّ ومأكل

ولكن نفسا مرّة ما تقيمنى

على الضّيم إلّا ريثما أتحوّل

وقول الآخر :

إذا أنت لم تشرب مرارا على القذى

ظمئت وأىّ الناس تصفو مشاربه

وقول الآخر :

وما إن قتلناهم بأكثر منهم

ولكن بأوفى للطّعان وأكرما

وقال دعبل :

وإنّ امرأ أمست مساقط رحله

بأسوان لم يترك له الحزم معلما (٦)

__________________

(١) فى الأمالى : «على ذى قرابتى».

(٢) لعروة بن الورد. وانظر ديوانه ١٠٦

(٣) المحمل : المعتمد.

(٤) ديوان مختارات شعراء العرب : ٢٣. والأبيات من لاميته المشهورة بلامية العرب. وهى فى مختارات شعراء العرب :

أديم مطال الجوع حتى أميته

وأصرف عنه الذكر صفحا فأذهل

ولو لا اجتناب الذام لم يبق مشرب

يعاش به إلا لدى ومأكل

ولكن نفسا حرة لا تقيم بى

على الضيم إلا ريثما أتحول

(٥) المطال : المطل : التسويف.

(٦) أسوان : بلدة بالصعيد من بلاد مصر. قال فى القاموس : بالضم ويفتح.

٥٦

حللت محلّا يقصر الطّرف دونه

ويعجز عنه الطّيف أن يتجشما (١)

وقول النابغة (٢) :

ولست بمستبق أخا لا تلمّه

على شعت ، أىّ الرجال المهذّب؟

وليس لهذا البيت نظير فى كلام العرب. وقال بعضهم : نظيره قول أوس بن حجر :

ولست بخابئ أبدا طعاما

حذار غد ، لكلّ غد طعام

وهذا وإن كان نظيره فى التأليف فإنه دونه لما تكرّر فيه من لفظ «غد».

فإذا كان الكلام قد جمع العذوبة ، والجزالة ، والسهولة ، والرّصانة ، مع السلاسة والنصاعة ، واشتمل على الرّونق والطّلاوة ، وسلم من حيف (٣) التأليف ، وبعد عن سماجة التركيب ، وورد على الفهم الثاقب قبله ولم يردّه ، وعلى السّمع المصيب استوعبه ولم يمجّه ؛ والنفس تقبل اللطيف ، وتنبو عن الغليظ ، وتقلق من الجاسى (٤) البشع ؛ وجميع جوارح البدن وحواسّه تسكن إلى ما يوافقه ، وتنفر عمّا يضادّه ويخالفه ؛ والعين تألف الحسن ، وتقذى بالقبيح ؛ والأنف يرتاح للطيب ، وينغر (٥) للمنتن ؛ والفم يلتذّ بالحلو ، ويمجّ المرّ ؛ والسمع يتشوّف للصواب الرائع وينزوى عن الجهير الهائل ؛ واليد تنعم باللّين ، وتتأذّى بالخشن ؛ والفهم يأنس من الكلام بالمعروف ، ويسكن إلى المألوف ، ويصغى إلى الصواب ، ويهرب من المحال ، وينقبض عن الوخم ، ويتأخّر عن الجافى الغليظ ، ولا يقبل الكلام المضطرب إلا الفهم المضطرب ، والرويّة الفاسدة.

وليس الشأن فى إيراد المعانى ، لأنّ المعانى يعرفها العربىّ والعجمىّ والقروى

__________________

(١) التجشم : التكلف على مشقة.

(٢) ديوانه : ١٣ ، والموشح : ٢٣.

(٣) الحيف : الميل.

(٤) الجاسى : الصلب الغليظ.

(٥) نغر ـ بفتح الغين وكسرها : غضب واغتاظ ، من نغر القدر وهو غليانها وفورها. أو من نغر الجرح : إذا سال منه الدم.

٥٧

والبدوى ، وإنما هو فى جودة اللفظ وصفائه ، وحسنه وبهائه ، ونزاهته ونقائه ؛ وكثرة طلاوته ومائه ، مع صحة السّبك والتركيب ، والخلوّ من أود (١) النّظم والتأليف. وليس يطلب من المعنى إلا أن يكون صوابا ، ولا يقنع من اللفظ بذلك حتى يكون على ما وصفناه من نعوته التى تقدّمت.

ألا ترى إلى قول حبيب (٢) :

مستسلم لله سائس أمة

بذوى تجهضمها له استسلام

فإنه صواب اللفظ ، وليس هو بحسن ولا مقبول ـ (الجهضمة ، الوثوب والغلبة).

وقال أبو داود : رأس الخطابة الطّبع ، وعمودها الدّربة ، وجناحها رواية الكلام ، وحليها الإعراب ، وبهاؤها تخيّر الألفاظ ؛ والمحبّة مقرونة بقلّة الاستكراه. وأنشد :

يرمون بالخطب الطوال وتارة

وحى الملاحظ خشية الرّقباء

ومن الدليل على أنّ مدار البلاغة على تحسين اللفظ أنّ الخطب الرائعة ، والأشعار الرائقة ما عملت لإفهام المعانى فقط ؛ لأنّ الردىء من الألفاظ يقوم مقام الجيدة منها فى الإفهام ، وإنما يدلّ حسن الكلام ، وإحكام صنعته ، ورونق ألفاظه ، وجودة مطالعه ، وحسن مقاطعه ، وبديع مباديه ، وغريب مبانيه على فضل قائله ، وفهم منشئه.

وأكثر هذه الأوصاف ترجع إلى الألفاظ دون المعانى. وتوخّى صواب المعنى أحسن من توخّى هذه الأمور فى الألفاظ. ولهذا تأنّق الكاتب فى الرسالة ، والخطيب فى الخطبة ، والشاعر فى القصيدة. يبالغون فى تجويدها ، ويغلون فى ترتيبها ؛ ليدلّوا على براعتهم ، وحذقهم بصناعتهم ؛ ولو كان الأمر

__________________

(١) عوج.

(٢) ديوانه ٢٨٠

٥٨

فى المعانى لطرحوا أكثر ذلك فربحوا كدّا كثيرا ، وأسقطوا عن أنفسهم تعبا طويلا.

ودليل آخر ؛ إنّ الكلام إذا كان لفظه حلوا عذبا ، وسلسا سهلا ، ومعناه وسطا ، دخل فى جملة الجيّد ، وجرى مع الرائع النادر ؛ كقول الشاعر (١) :

ولمّا قضينا من منى كلّ حاجة

ومسّح بالأركان من هو ماسح

وشدّت على حدب المهارى رحالنا

ولم (٢) ينظر الغادى الّذى هو رائح

أخذنا بأطراف (٣) الأحاديث بيننا

وسالت بأعناق المطىّ الأباطح

وليس تحت هذه الألفاظ كبير معنى ، وهى رائقة معجبة ، وإنما هى : ولمّا قضينا الحجّ ومسحنا الأركان وشدّت رحالنا على مهازيل الإبل ولم ينتظر بعضنا بعضا جعلنا نتحدّث وتسير بنا الإبل فى بطون الأودية.

وإذا كان المعنى صوابا ، واللفظ باردا وفاترا ؛ والفاتر شرّ من البارد ، كان مستهجنا ملفوظا ، ومذموما مردودا ، والبارد من الشعر قول عمرو بن معدى كرب :

قد علمت سلمى وجاراتها

ما قطّر الفارس إلّا أنا (٤)

شككت بالرّمح سرابيله

والخيل تعدو زيما حولنا (٥)

وقول الفند الزمانى :

أيا تملك يا تمل

وذات الطوق والحجل

ذرينى وذرى عذلى

فإنّ العذل كالقتل

وقول النمر :

يهينون من حقروا شيبه

وإن كان فيهم يفى أو يبر

__________________

(١) الأمالى : ٣ ـ ١٦٦ ، الشعر والشعراء ١١

(٢) فى الشعر والشعراء : «ولا ينظر الغادى»

(٣) أطراف الأحاديث : ما يستطرف منها ويؤثر.

(٤) اللسان ـ مادة قطر. وقطرت الرجل : صرعته صرعة شديدة.

(٥) السرابيل : الدروع. زيما : متفرقة.

٥٩

وقول أبى العتاهية :

مات والله سعيد بن وهب

رحم الله سعيد بن وهب

يا أبا عثمان أبكيت عينى

يا أبا عثمان أوجعت قلبى

والبارد فى شعر أبى العتاهية كثير ؛ والشعر كلام منسوج ، ولفظ منظوم ، وأحسنه ما تلاءم نسجه ولم يسخف ، وحسن لفظه ولم يهجن ، ولم يستعمل فيه الغليظ من الكلام ، فيكون جلفا بغيضا ، ولا السّوقىّ من الألفاظ فيكون مهلهلا دونا ؛ فالبغيض كقول أبى تمام (١) :

جعل (٢) القنا الدرجات للكذجات ذا

ت الغيل والحرجات والأدحال (٣)

قد كان حزن الخطب فى أحزانه (٤)

فدعاه داعى الحين للأسهال (٥)

وقوله (٦) :

يا دهر قوّم من أخدعيك فقد (٧)

أضججت هذا الأنام من خرقك

ولا خير فى المعانى إذا استكرهت قهرا ، والألفاظ إذا اجترّت قسرا ، ولا خير فيما اجيد لفظه إذا سخف معناه ، ولا فى غرابة المعنى إلّا إذا شرف لفظه مع وضوح المغزى ، وظهور المقصد.

وقد غلب الجهل على قوم فصاروا يستجيدون الكلام إذا لم يقفوا على معناه إلا بكدّ ، ويستفصحونه (٨) إذا وجدوا ألفاظه كزّة غليظة ، وجاسية غريبة ، ويستحقرون الكلام إذا رأوه سلسا عذبا وسهلا حلوا ؛ ولم يعلموا أنّ السهل أمنع جانبا ، وأعزّ مطلبا ؛ وهو أحسن موقعا ، وأعذب مستمعا.

__________________

(١) ديوانه : ٢٦١ ، ٢٦٢.

(٢) فى الديوان : جعلوا.

(٣) الكذج : المأوى (معرب). الغيل ـ بالكسر ويفتح : الغاب. الحرجات : مجتمعات الأشجار. الأدحال : مصانع تجمع الماء.

(٤) الحزن ـ بفتح فسكون : ما غلظ من الأرض

(٥) فى الديوان : «بالأسهال». الحين : الهلاك. وأسهل : صار إلى السهل ، وهو ضد الحزن.

(٦) ديوانه : ٣٦٢

(٧) الأخدع : عرق فى المحجمتين ، وهو شعبة من الوريد. والخرق : الجهل.

(٨) فى ط «يستصحفونه» ، وصوابه عن ا ، ب.

٦٠