أبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري
المحقق: علي محمد البجاوي ومحمد ابوالفضل ابراهيم
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٨
وكتب ابن القرّية ـ عن الحجاج ـ إلى عبد الملك : بعثت بفرس حسن المنظر ، محمود المخبر ، جيّد القد ، أسيل الخدّ ، يسبق الطّرف ، ويستغرق الوصف.
وأجود ما قيل فى العدو قول عبدة بن الطبيب (١) :
يخفى التّراب بأظلاف ثمانية |
|
فى أربع مسّهنّ الأرض تحليل (٢) |
والتحليل ، من تحلّة اليمين ، وهو أن يقول إن شاء الله ؛ فقول الحالف : إن شاء الله ، لا يكون إلا موصولا باليمين. يقول : إن مواصلة هذا الثور بين خطواته كمواصلة الحالف بالتحلّة يمينه من غير تراخ. أخذه المحدث فقال :
كأنّما يرفعن ما لم يوضع
وقال أبو النّجم (٣) :
جاء كلمع البرق جاش ما طره |
|
يسبح أولاه ويطفو آخره |
فما يمسّ الأرض منه حافره |
وأخذ على أبى النجم قوله :
يسبح أولاه ويطفو آخره
أنشده الأصمعى فقال : حمار الكسّاح أسرع من هذا ؛ لأنّ اضطراب مآخيره قبيح ؛ وقد أحسن فى قوله : «ويطفو آخره» (٤). وقوله : «فما يمس الأرض منه حافره» جيد.
وقال أبو نواس (٥) :
ما إن يقعن الأرض إلا فرطا |
|
كأنما يعجلن شيئا لقطا |
__________________
(١) المفضليات : ١ ـ ١٣٨ ، ديوان المعانى : ٢ ـ ١٠٨.
(٢) يخفى التراب : يستخرجه لشدة عدوه. أربع : أى قوائمه. وفى كل قائمة ظلفان.
(٣) ديوان المعانى : ٢ ـ ١٠٨ ، الشعر والشعراء : ٥٨٦.
(٤) رواية الشعر والشعراء : يسبح أخراه ويطفو أوله. وقال بعد ذلك : قال الأصمعى : إذا كان كذلك فحمار الكساح أسرع منه ، لأن اضطراب مآخيره قبيح.
قال : وما أحسن فى قوله : ويطفو أوله (صفحة ٥٨٦).
(٥) ديوانه : ٢٠٩
وقال (١) :
فانصاع كالكوكب فى انحداره |
|
لفت المشير موهنا بناره |
وقال ذو الرمة :
كأنه كوكب فى إثر عفرية
أخذه ابن الرومى ، فقال (٢) :
خذها تبوعا لمن ولى مسومة (٣) |
|
كأنها كوكب فى إثر عفريت |
وقال ابن المعتز فى كلبة :
وكلبة زهراء كالشهاب |
|
تحسبها فى ساعة الذّهاب |
نجما منيرا لاح فى انصباب |
|
خفيفة الوطء على التّراب |
وقال خلف بن الأحمر (٤) :
كالكوكب الدّرّى منصلتا |
|
شدا يفوت الطّرف أسرعه |
وكأنما جهدت أليته |
|
أن لا تمسّ الأرض أربعة |
أخذه من قول الأعشى :
بجلالة أجد مداخلة |
|
ما إن تكاد خفافها تقع (٥) |
وقال أبو نواس (٦) :
أرسله كالسّهم إذ غلا به |
|
يسبق طرف العين فى التهابه |
يكاد أن ينسلّ من إهابه |
|
كلمعان البرق فى سحابه |
مأخوذ من قول ذى الرمة (٧) :
لا يذخران من الإيغال باقية |
|
حتّى تكاد تفرّى عنهما الأهب (٨) |
__________________
(١) ديوانه : ٢١٢.
(٢) ليس فى ديوانه الذى بين أيدينا.
(٣) تبوعا : أى متابعة لمن هرب. والمسومة : هنا المرسلة.
(٤) ديوان المعانى ٢ ـ ١٣٤.
(٥) الجلالة : الناقة العظيمة. والأجد : الناقة القوية الموثقة الخلق.
(٦) ليس فى ديوانه الذى بين أيدينا.
(٧) ديوان المعانى ٢ ـ ١٣٣.
(٨) الإيغال : من أوغل ، أى أبعد فى ذهابه ، أو بالغ فى سيره.
وقال كثير :
إذا جرى معتمدا لأمه |
|
يكاد يفرى (١) جلده عن لحمه |
وقال أعرابى :
غاية مجد رفعت فمن لها |
|
نحن حويناها وكنّا أهلها |
لو أرسل الرّيح لجئنا قبلها |
وقال أبو النجم :
كأنّ فى المرو حريقا يشعله |
|
أو لمع برق خافق مسلسله (٢) |
ومما عيب على طرفة قوله (٣) :
وإذا تلسننى ألسنها |
|
إننى لست بموهون فقر (٤) |
والعاشق يلاطف من يحبّه ولا يحاجّه ، ويلاينه ولا يلاجّه.
وقد قال بعض المحدثين (٥) :
بنى الحبّ على الجور فلو |
|
أنصف العاشق فيه لسمج |
ليس يستحسن فى وصف الهوى |
|
عاشق يعرف تأليف الحجج |
ومن خطأ المعانى قول الأعشى :
وما رابها من ريبة غير أنّها |
|
رأت لمّتى شابت وشابت لداتيا |
وأى ريبة عند امرأة أعظم من الشيب.
ومثله قوله (٦) :
وأنكر تنى وما كان الّذى نكرت |
|
من الحوادث إلّا الشّيب والصّلعا |
__________________
(١) يفرى : يقطع.
(٢) المرو ، بالفتح : حجارة بيض رقاق براقة تقدح منها النار.
(٣) المختار من شعر العرب : ٤٠ ، واللسان ـ مادة لسن ومادة فقر.
(٤) لسنه : أخذه بلسانه. ولسنه أيضا : كلمه. ورجل فقر ، بفتح الفاء وكسر القاف : يشتكى فقاره من كسر أو مرض. وفى مختارات شعر العرب : غمر ، بضم الغين والميم صفحة ٤٠.
(٥) فى زهر الآداب (١ ـ ١١) أن الشعر لعلية بنت المهدى.
(٦) الموشح : ٥٢.
وأعجب منه قوله أيضا (١) :
صدّت هريرة عنّا ما تكلّمنا |
|
جهلا بأمّ خليد حبل من تصل |
أإن رأت رجلا أعشى أضرّ به |
|
ريب الزّمان ودهر خاتل خبل |
وأىّ شيء أبغض عند النساء من العشا والضر يتبيّنه فى الرجل؟ وأعجب ما فى هذا الكلام أنه قال : حبل من تصل هذه المرأة بعدى وأنا بهذه الصفة من العشا والفقر والشّيب؟ فلا ترى كلاما أحمق من هذا.
ومن اضطراب المعنى قول امرئ القيس (٢) :
أراهنّ لا يحببن من قلّ ماله |
|
ولا من رأين الشّيب فيه وقوّسا (٣) |
وهن يبغضنه من قبل التقويس ، فما معنى ذكر التقويس؟ فأما بغضهنّ لمن قوّس فجدير وليس ببديع.
ومن الجيّد فى هذا الباب قول بعض المتأخرين (٤) :
لقد أبغضت نفسى فى مشيبى |
|
فكيف تحبنى الخود (٥) الكعاب |
وقلت (٦) :
فلا تعجبا أن يعبن المشيب |
|
فما عبن من ذاك إلّا معيبا |
إذا كان شيبى بغيضا إلىّ |
|
فكيف يكون إليها حبيبا |
ومن فساد المعنى قول النابغة (٧) :
تحيد عن أستن سود أسافله |
|
مشى الإماء الغوادى تحمل الحزما (٨) |
وإنما تحمل الإماء حزم الحطب عند رواحهنّ ؛ فأما غدوهنّ إلى الصحراء فإنهن مخفّات.
__________________
(١) القصائد العشر : ٢٩٤
(٢) ديوانه : ١٢٩
(٣) قوس الشيخ : انحنى
(٤) هو ابن المعتز كما فى ديوان المعانى : ٢ ـ ١٥٧ وديوانه ١٣٥
(٥) الخود : جمع خود ، بفتح وسكون : الشابة الحسنة الخلق أو الناعمة
(٦) ديوان المعانى : ٢ ـ ١٥٧
(٧) ديوانه : ٩٥ ، واللسان ـ مادة ستن.
(٨) الأستن ، على وزن أحمر : شجر يفشو فى منابته ويكثر ، وإذا نظر إليه الناظر من بعد شبهه بشخوص الناس.
والجيد قول التغلبى :
يظلّ بها ربذ النّعام كأنّها |
|
إماء تزجّى بالعشىّ حواطب (١) |
وقد روى مثل الإماء (٢). وإذا صحّت هذه الرواية سلم المعنى.
والأستن : شجر بشع المنظر تسمّيه العرب رءوس الشياطين. وجاء فى بعض التفسير فى قوله تعالى : (طلعها كأنّه رءوس الشياطين) : إنه عنى الأستن.
وقد أساء النابعة أيضا فى وصف الثور حيث يقول (٣) :
من وحش وجرة موشيّ أكارعه |
|
طاوى المصير كسيف الصّيقل الفرد (٤) |
أراد بالفرد أنه مسلول من غمده ، فلم يبن بقوله : «الفرد» عن سلّه بيانا واضحا.
والجيد قول الطّرمّاح وقد أخذه منه : (٥)
يبدو وتضمره البلاد كأنّه |
|
سيف على شرف يسلّ ويغمد |
وهذا غاية فى حسن الوصف.
وربما سامح الشاعر نفسه فى شيء فيعود عليه بعيب كبير. وقد قال المتلمّس (٦) :
وقد أتناسى الهمّ عند احتضاره |
|
بناج عليه الصّيعريّة مكدم (٧) |
__________________
(١) الربذ ، وزان كتف : الخفيف القوائم فى مشيه.
(٢) أى بيت النابغة. كما فى اللسان مادة ستن.
(٣) ديوانه ٢٧. الشعر والشعراء ١٢٣.
(٤) وجرة : موضع بين مكة والبصرة كثير الوحش. موشى أكارعه : أبيض وفى قوائمه نقط سود. والمصير : المعى كنى به عن البطن. والفرد : المنفرد
(٥) الشعر والشعراء : ١٢٣ ، ٥٧٢ ، ديوان المعانى ٢ : ١٣١
(٦) الموشح ٧٦ ، ٨٧ ، واللسان ـ مادة صعر ، ونسبه فيهما إلى المسيب بن علس واستدل به على أن الصيعرية قد يوسم بها الذكور.
(٧) المكدم : الصلب.
كميت كناز اللحم أو حميريّة |
|
مواشكة تنفى الحصى بمثلم (١) |
والصيعرية : سمة للنوق فجعلها للجمل.
وسمعه طرفة ينشدها ، فقال : استنوق الجمل. فضحك الناس وسارت مثلا. فقال له المتلمّس : ويل لرأسك من لسانك ، فكان قتله بلسانه ـ وروى هذا الحديث له مع المسيّب بن علس.
وأخبرنا أبو أحمد عن مهلهل بن يموت عن أبيه ، عن الجاحظ أنه قال : وممّن أراد أن يمدح فهجا الأخطل وانبرى له فتى ، فقال له : أردت أن تمدح سماكا الأسدى فهجوته ، فقلت (٢) :
نعم المجير سماكا من بنى أسد |
|
بالطّفّ (٣) إذ قتلت جيرانها مضر |
قد كنت أحسبه قينا وأنبؤه |
|
فاليوم طيّر عن أثوابه الشّرر (٤) |
وأردت أن تهجو سويد بن منجوف فمدحته ، فقلت (٥) :
وما جذع سوء خرّب السّوس جوفه (٦) |
|
بما حمّلته وائل بمطيق |
فأعطيته الرئاسة على وائل ، وقدره دون ذلك.
وأردت أن تهجو حاتم بن النعمان الباهلى وأن تصغّر من شأنه وتضع منه ، فقلت :
وسوّد حاتما أن ليس فيها |
|
إذا ما أوقد النّيران نار |
فأعطيته السؤدد فى الجزيرة وأهلها ومنعته ما لا يضره.
وقلت فى زفر بن الحرث (٧) :
بنى أميّة إنى ناصح لكم |
|
فلا يبيتنّ فيكم آمنا زفر |
__________________
(١) كناز : أى كثيرة اللحم صلبة. وقوله مواشكة : أى سريعة. وفى مهذب الأغانى : بملثم ، وفسره بقوله : هو خف قد لثمته الحجارة.
(٢) الشعر والشعراء : ٤٦٠
(٣) الطف : أرض من ناحية الكوفة تشرف على ريف العراق ، فيها كان مقتل الحسين رضى الله عنه.
(٤) فى ط : السرر وهذه رواية الشعر والشعراء
(٥) الشعر والشعراء : ٤٦٠
(٦) فى الشعر والشعراء : وسطه لما.
(٧) الموشح ١٣٦
مفترش كافتراش اللّيث كلكله (١) |
|
لوقعة كائن فيها لكم جزر (٢) |
فأردت أن تغرى به فعظّمت أمره ، وهوّنت أمر بنى أمية.
ومن اضطراب المعنى ما أخبرنا به أبو أحمد عن مبرمان ، عن أبى جعفر بن القبسى (٣) ، قال : لما قتلت بنو تغلب عمير بن الحباب السلمى أنشد الأخطل عبد الملك والجحّاف السلمى عنده (٤) :
ألا سائل الجحّاف هل هو ثائر |
|
بقتلى أصيبت من سليم وعامر |
فخرج الجحّاف مغضبا حتى أغار على البشر ـ وهو ماء لبنى تغلب ـ فقتل منهم ثلاثة وعشرين رجلا ، وقال (٥) :
أبا مالك هل لمتنى مذ حضضتنى |
|
على القتل أو هل لامنى لك لائم |
متى تدعنى أخرى أجبك بمثلها |
|
وأنت امرؤ بالحقّ ليس بعالم |
فخرج الأخطل حتى أتى عبد الملك ، وقد قال (٦) :
لقد أوقع الجحّاف بالبشر وقعة |
|
إلى الله منها المشتكى والمعوّل |
فإلّا تغيّرها قريش بمثلها (٧) |
|
يكن عن قريش مستماز ومزحل (٨) |
فقال له عبد الملك : إلى أين يا بن اللخناء (٩)؟ فقال : إلى النّار. فقال. والله لو غيرها قلت لضربت عنقك! ووجه العيب فيه أنه هدّد عبد الملك ، وهو ملك الدنيا بتركه إياه والانصراف عنه إلى غيره. وهذه حماقة مجردة ، وغفلة لا يطار غرابها. ثم قال (١٠) :
__________________
(١) رواية الموشح : يظل مفترشا كالليث كلكله.
(٢) فى الأصل : حزر.
(٣) قول القبسى : هكذا فى بعض الأصول. وفى بعضها القتبى.
(٤) الشعر والشعراء : ٤٥٧ ، والموشح ١٣٧
(٥) الشعر والشعراء : ٤٦١
(٦) الشعر والشعراء : ٤٥٧ واللسان ـ مادة ميز ، وزحل
(٧) فى اللسان : فإلا تعيرها قريش بملكها.
(٨) مستماز : موضع ينفصل إليه ويتباعد. ومزحل : موضع يزحل إليه ، أى ينتحى ويتباعد.
(٩) اللخناء : التى لم تختن. واللخن : قبح ريح الفرج
(١٠) الموشح ، ١٣٨
فلا هدى الله قيسا من ضلالتها |
|
ولا لعا لبنى ذكوان إذ عثروا (١) |
ضجّوا من الحرب إذ عضّت غواربهم |
|
وقيس غيلان من أخلاقها الضّجر (٢) |
فقال له عبد الملك : لو كان الأمر كما زعمت لما قلت :
لقد أوقع الجحّاف بالبشر وقعة
وممن أراد أن يمدح نفسه فهجاها جرير فى قوله (٣) :
تعرّض التّيم لى عمدا لأهجوها |
|
كما تعرّض لاست الخارئ الحجر |
فشبّه نفسه باست الخارى.
وقريب من ذلك قول الرّاعى (٤) :
ولا أتيت نجيدة بن عويمر |
|
أبغى الهدى فيزيدنى تضليلا (٥) |
فأخبر أنه على شيء من الضلال ؛ لأن الزيادة لا تكون إلا على أصل ، وأراد أن يمدح نفسه فهجاها.
وأراد جرير [أن] يذكر عفوه عن بنى غدانة حين شفع فيهم عطية بن جعال ، فهجاهم أقبح هجاء حيث يقول (٦) :
أبنى غدانة إننى حرّرتكم |
|
فوهبتكم لعطيّة بن جعال |
لو لا عطيّة لاجتدعت أنوفكم |
|
ما بين ألأم آنف وسبال |
__________________
(١) لعا : كلمة يدعى بها للعاثر.
(٢) الغارب : الكاهل. والعض هنا كناية عن تأثير حمل السلاح فى غواربهم فلا يطيقون الحرب
(٣) ديوانه : ٢٨٣
(٤) جمهرة أشعار العرب : ٣٥٦.
(٥) نجيدة بن عويمر : تصغير نجدة بن عامر الحنفى. قال فى الجمهرة : كان باليمامة اتخذ مذهبا ينسب إليه النجدية وهم فرقة من الفرق الضالة. وقال المبرد فى كامله : كان رأسا ذا مقالة منفردة من مقالات الخوارج. وفى القاموس : وكان خارجيا ويقال لأصحابه : النجدات بالتحريك. والبيت مبدؤه فى الجمهرة بلما المخففة من قصيدته التى مطلعها :
ما بال دفك بالفراش مذيلا |
|
أقذى بعينك أم أردت رحيلا |
وأوردها فى قسم الملحمات. قال المبرد : وخاطب بها عبد الملك بن مروان.
(٦) الشعر والشعراء : ٤٥٣ ، والموازنة ١٩
فلما سمع عطية هذا الشعر قال : ما أسرع ما رجع أخى فى عطيّته.
ومثل ذلك سواء قول يزيد بن مالك العامرى حيث يقول (١) :
أكفّ الجهل عن حلماء قومى |
|
وأعرض عن كلام الجاهلينا |
فأخبر أنه يحلم عن الجهّال ولا يعاقبهم ، ثم نقض ذلك فى البيت الثانى ، فقال :
إذا رجل تعرّض مستخفّا |
|
لنا بالجهل أو شك أن يحينا |
فذكر أنه كاد أن يفتك بمن جهل عليه (٢).
وقريب منه قول عبد الرحمن بن عبد الله القس (٣) :
أرى هجرها والقتل مثلين فاقصروا |
|
ملامكم فالقتل أعفى وأيسر |
فأوجب أنّ الهجر والقتل سواء ، ثم ذكر أنّ القتل أعفى وأيسر (٤) ، ولو أتى ببل استوى (٥).
ومن عجائب الغلط قول ذى الرمة (٦) :
إذا انجابت الظّلماء أضحت رءوسها |
|
عليهنّ من جهد الكرى وهى ظلّع (٧) |
وقال ابن أبى فروة : قلت لذى الرّمة : ما علمت أحدا من الناس أظلع الرءوس غيرك! فقال : أجل.
ومن الغلط قول العجّاج (٨) :
كأنّ عينيه من الغئور |
|
قلتان أو حوجلتا قارور |
صيّرتا بالنّضح والتّصبير |
|
صلاصل الزّيت إلى الشّطور |
__________________
(١) نقد الشعر ١٢٤ ، الموشح ٢٢٦ وقد نسب فيهما هذان البيتان إلى يزيد بن مالك الغامدى.
(٢) تفسير لقول الشاعر : أوشك أن يحينا
(٣) الموشح : ٢٢٦
(٤) فى الموشح : فكأنه قال : إن القتل مثل الهجر وليس مثله
(٥) استوى : أى المعنى وسلم من الاستحالة والتناقض ؛ لأن مقام لفظة بل ، مقام ما ، ينفى الماضى ويثبت المستأنف.
(٦) الشعر والشعراء : ٥١٤
(٧) الظلع ، بتشديد اللام جمع ظالع ، وهو المائل أو المتأخر
(٨) أراجيز العرب : ٨٨ ، واللسان ـ مادة حجل ، وصل.
فجعل الزّجاج ينضح (١).
ومن الخطأ قول رؤبة فى صفة قوائم الفرس :
يهوين شتى ويقعن وقعا (٢)
فقال له سلم (٣) : أخطأت ، جعلته مقيّدا ، فقال له رؤبة : أدننى من ذنب البعير ، أى لست أبصر الخيل ، وإنما أنا بصير بالإبل.
ومن الغلط قول رؤبة أيضا (٤) :
وكلّ زجّاج سخام الخمل |
|
يبرى له فى رعلات خطل (٥) |
جعل للظليم عدّة إناث ؛ وليس للظليم إلا أنثى واحدة.
وأخطأ فى قوله (٦) :
كنتم كمن أدخل فى جحر يدا |
|
فأخطأ الأفعى ولاقى الأسودا |
__________________
(١) قوله : ينضح بالحاء فى ط : والذى فى اللسان (مادة صل) تبعا للصحاح وحواشى ابن برى ينضج بالجيم هكذا :
كأن عينيه من الغئور |
|
قلتان فى لحدى صفا منقور |
صفران أو حوجلتا قارور |
|
غيرتا بالنضج والتصبير |
صلاصل الزيت إلى الشطور |
القلتان : القلت بإسكان اللام : النقرة فى الجبل تمسك الماء. والحوجلة : قارورة صغيرة واسعة الرأس. والصلاصل : بقايا الماء وكذلك البقية من الدهن. قال فى اللسان : وأنشد الجوهرى صلاصل بالضم قال : وقال ابن برى : صوابه بالفتح لأنه مفعول لغيرتا وقال : ولم يشبههما بالجرار وإنما شبههما بالقارورتين. قال ابن سيده : شبه أعينها حين غارت بالجرار فيها الزيت إلى أنصافها (مادة صل) وإذا صح ذلك ينتفى ما أراده المؤلف.
(٢) الموشح : ٢١٩ ، وفيه : ويقعن وفقا. قال الأصمعى : لأن الجياد لا تقع حوافرها معا (الموشح).
(٣) هو سلم بن قتيبة كما فى الموشح.
(٤) أراجيز العرب : ١٢٥
(٥) فى ط : رخاج. وفى أراجيز العرب : زجاج من زج الظليم برجله : عدا ، فهو حينئذ نعت للظليم. والسحام ، بالحاء فى ط ، وفى أراجيز العرب : سخام ، بالخاء ، وهو اللين من الشعر والريش والقطن. والحمل ، بالحاء فى ط ، ولكنه فى أراجيز العرب بالخاء : الغراب.
والرعلات : جمع رعلة وهى النعامة سميت بذلك لأنها تتقدم فلا تكاد ترى إلا سابقة للظليم. وجاء فى أراجيز العرب : زعلات ؛ أى نشيطات. والخطل : بضم الخاء وإسكان الطاء جمع خطلاء ـ بالفتح : الطويلة اليدين ، أو المضطربة.
(٦) الشعر والشعراء : ٥٧٩.
فجعل الأفعى دون الأسود فى المضرّة ، وهى فوقه فيها.
ومن خطأ الوصف قول أبى النّجم (١) :
أخنس فى مثل الكظام المخطمة (٢)
والأخنس : القصير المشافر ، وإنما توصف المشافر بالسّبوطة (٣).
ووصف أعرابى إبلا ، فقال : كوم بهازر ، مكد خناجر ، عظام الحناجر ، سباط المشافر ، أجوافها رغاب ، وأعطانها رحاب ، تمنع من البهم ، وتبذل للجمم.
ناقة مكود وخنجورة (٤) : كثيرة اللبن (٥). والبهازر : العظام (٦). والكوم :
المرتفعة الأسنمة. ولم يحسن أيضا صفة ورود الإبل. قال (٧) :
جاءت تسامى (٨) فى الرّعيل الأوّل |
|
والظّلّ عن أخفافها لم يفضل |
ذكر أنها وردت فى الهاجرة ، وهذا خلاف المعهود ؛ وإنما يكون الورود غلسا ، كقول الآخر (٩) :
فوردت قبل الصّباح الفاتق (١٠)
__________________
(١) الشعر والشعراء ٥٩٠
(٢) الكظام : جمع كاظم ، والكاظم من الإبل : العطشان اليابس الجوف. المخطمة : أى المخطومة بالخطام ، قال ابن سيده : والخطام كل ما وضع فى أنف البعير ليقاد به. وناقة مخطومة ونوق مخطمة شدد للكثرة ، وخففت هنا للوزن. وجاء فى الشعر والشعراء : ٥٩٠ بدون أل هكذا :
أخنس فى مثل الكظام مخطمه
(٣) الطول.
(٤) فى ط بغير تاء.
(٥) فى القاموس : المكود : الناقة الدائمة الغزر ، والقليلة اللبن ضد ، أو هذه من أغاليط الليث.
(٦) العظام من النوق.
(٧) قائله أبو النجم ، والرعيل الأول : القطعة المتقدمة من الخيل أو من غيرها ـ الطرائف الأدبية ٦٤ ، والشعر والشعراء ٥٩٠.
(٨) تسامى : ترتفع.
(٩) الطرائف : ٧٠ ، والشعر والشعراء : ٥٩١.
(١٠) فى ط الفائق ، وهذه رواية الشعر والشعراء.
وقال الآخر (١) :
فوردن قبل تبيّن الألوان
وقول لبيد (١) :
إن من وردى تغليس النّهل
ومن الغلط قول أبى النّجم (١) :
صلب العصا جاف عن التغزّل (٢)
يصف راعى الإبل بصلابة العصا ، وليس بالمعروف.
والجيّد قول الراعى (٣) :
ضعيف العصا بادى العروق ترى له |
|
عليها إذا ما أجدب الناس إصبعا (٤) |
وإنما يقال : فلان صلب العصا على أهله إذا كان شديدا عليهم.
ومن الغلط قول أبى النّجم أيضا فى وصف الفرس ، وهو غلط فى اللّفظ (٥) :
كأنّها ميجنة القصّار
وإنما الميجنة لصاحب الأدم ، وهى التى يدقّ عليها الأدم من حجر وغيره.
ومن فساد المعنى قول الشمّاخ (٦) :
بانت سعاد وفى العينين ملمول (٧) |
|
وكان فى قصر من عهدها طول |
كان ينبغى أن يقول (٨) : فى طول من عهدها قصر ؛ لأنّ العيش مع الأحبّة يوصف بقصر المدة ، كما قال الآخر :
يطول اليوم لا ألقاك فيه |
|
وحول نلتقى فيه قصير |
__________________
(١) الطرائف : ٧٠ ، والشعر والشعراء : ٥٩١.
(٢) فى ط : التعزل بالعين ، وهذه رواية الطرائف والشعر والشعراء.
(٣) الشعر والشعراء ٥٩١
(٤) فى الشعر والشعراء : إذا ما أمحل الناس.
(٥) الشعر والشعراء ٥٩١
(٦) ديوانه ٧٧ ، والموشح ٨٨
(٧) الملمول : المكحال.
(٨) فى الموشح : وكان فى طول عهدها قصر ، أو يقول : فصار فى قصر عهدها طول.
ومن اضطراب المعنى قول أبى داود الأيادى (١) :
لو أنها بذلت لذى سقم |
|
حرض (٢) الفؤاد مشارف القبض |
حسن (٣) الحديث لظلّ مكتئبا |
|
حرّان من وجد بها مضّ |
وكان استواء المعنى أن يقول : لبرأ من سقمه ـ كما قال الأعشى :
لو أسندت ميتا إلى نحرها |
|
عاش ولم ينقل إلى قابر |
وقال تأبط شرا :
قليل غرار النّوم
تقديره قليل يسير النوم ، وهذا فاسد ؛ ووجه الكلام أن يكون ما ينام إلّا غرارا ؛ فإن احتلت له قلت : يعنى أن نومه أيسر من اليسير.
وقول أبى ذؤيب (٤) :
فلا يهنأ (٥) الواشون أن قد هجرتها |
|
وأظلم دونى ليلها ونهارها |
هذا من المقلوب ؛ كان ينبغى أن يقول : وأظلم دونها ليلى ونهارى.
وقول ساعدة (٦) :
فلو نبّأتك الأرض أو لو سمعته |
|
لأيقنت أنى كدت بعدك أكمد |
كان ينبغى أن يقول : إنّى بعدك أكمد.
ومن الخطأ قول طرفة يصف ذنب البعير (٧) :
كأنّ جناحى مضرحىّ تكنّفا |
|
حفافيه شكّا فى العسيب بمسرد (٨) |
وإنما توصف النجائب بخفّة الذنب (٩) |
|
وجعله هذا كثيفا طويلا عريضا. |
__________________
(١) الموشح ٨٨.
(٢) فى الموشح : مره.
(٣) فى الموشح : أنس الحديث.
(٤) أشعار الهذليين : ١ ـ ٢١ ، والموشح ٨٨.
(٥) فى الموشح : ولا يهنئ الواشين.
(٦) فى ط ساعد ، وهو ساعدة بن جؤية كما فى أشعار الهذليين : ١ ـ ٢٣٨.
(٧) الموشح ٨٨.
(٨) المضرحى : الصقر الطويل الجناح. وحفافيه : جانبيه. والعسيب : عظم ذنبه. والمسرد : المثقب. واستشهد له فى اللسان بالشطر الثانى من البيت ـ مادة سرد.
(٩) عبارة الموشح : وإنما توصف النجائب برقة شعر الذنب وخفته.
وقول امرئ القيس (١) :
وأركب فى الرّوع خيفانة |
|
كسا وجهها سعف منتشر |
شبّه ناصية الفرس بسعف النخلة لطولها ، وإذا غطى الشعر العين لم يكن الفرس كريما.
وقول الحطيئة (٢) :
ومن يطلب مساعى آل لأى |
|
تصعّده الأمور إلى علاها |
كان ينبغى أن يقول : من طلب مساعيهما جز عنها وقصّر دونها ، فأما إذا تناهى إلى علاها فأى فخر لهم ؛ فإن قيل : إنه أراد به [أنه] يلقى صعوبة كما يلقى الصاعد من أسفل إلى علو ، فالعيب أيضا لازم له ؛ لأنه لم يعبّر عنه تعبيرا مبينا.
وقول النابغة (٣) :
ماضى الجنان أخى صبر إذا نزلت |
|
حرب يوائل منها كل تنبال |
التنبال : القصير من الرجال ، وليس القصير بأولى بطلب الموئل من الطوال ؛ وإن جعل التّنبال الجبان فهو أبعد من الصواب ؛ لأن الجبان خائف وجل اشتدت الحرب أم سكنت.
والجيد قول الهمدانى :
يكرّ على المصافّ إذا تعادى |
|
من الأهوال شجعان الرّجال |
وقول المسيب بن علس (٤) :
فتسلّ حاجتها إذا هى أعرضت |
|
بخميصة سرح اليدين وساع |
وكأنّ قنطرة بموضع كورها |
|
وتمدّ ثنى جديلها بشراع (٥) |
وإذا أطفت بها أطفت بكلكل |
|
نبض الفرائص مجفر الأضلاع |
__________________
(١) ديوانه : ١١ ، والموشح ٨٩.
(٢) ديوان مختارات شعراء العرب : ١٣١ ، والموشح ٨٩.
(٣) الموشح ٧٩.
(٤) الموشح : ٩٠ والمفضليات ٥٩.
(٥) تكملة البيت فى الموشح والمفضليات :
ملساء بين غوامض الأنساع
وهذا من المتناقض ؛ لأنه قال خميصة ، ثم قال : كأن موضع كورها قنطرة ، وهى مجفرة الأضلاع ؛ فكيف تكون خميصة وهذه صفتها.
وقول الحطيئة (١) :
حرج يلاوذ بالكناس كأنّه |
|
متطوّف (٢) حتى الصباح يدور |
حتى إذا ما الصبح شقّ عموده |
|
وعلاه أسطع لا يردّ منير |
وحصى الكثيب بصفحتيه كأنه |
|
خبث الحديد أطارهنّ الكير |
زعم أنه يط وف حتى الصباح ، فمن أين صار الحصى بصفحتيه؟
وقول لبيد (٣) :
فلقد أعوص بالخصم (٤) وقد |
|
أملأ الجفنة من شحم القلل |
أراد السنام ، ولا يسمّى السنام شحما.
وقوله (٥) :
لو يقوم الفيل أو فيّاله |
|
زلّ عن مثل مقامى وزحل |
ليس للفيّال من الشدّة والقوة ما يكون مثلا.
ومن الخطأ قول أبى ذؤيب فى الدرة (٦) :
فجاء بها ما شئت من لطميّة |
|
يدوم الفرات فوقها ويموج |
والدّرّة إنما تكون فى الماء الملح دون العذب. وقال من احتج له : إنما يريد بماء الدّرة صفاءه فشبّه بماء الفرات ؛ لأنّ الفرات لا يخطئه الصفاء والحسن.
وقوله أيضا (٧) :
فما برحت فى الناس حتى تبيّنت |
|
ثقيفا بزيزاء (٨) الأشاة (٩) قبابها |
__________________
(١) الموشح ٩٠
(٢) فى ط متطرف.
(٣) الموشح ٨٩ ، واللسان ـ مادة عوص.
(٤) أعوص بالخصم : أدخله فيما لا يفهم ، أو لوى عليه أمره.
(٥) الموشح ٨٩ ، ٧٢.
(٦) أشعار الهذليين ١ ـ ٥٧.
(٧) أشعار الهذليين : ١ ـ ٧٣.
(٨) الزيزاء : ظهر منقاد غليظ من الأرض.
(٩) فى ط : الأساة ، وهذه رواية أشعار الهذليين ، قال : والأشاة : موضع.
يقول : ما زالت هذه الخمرة فى الناس يحفظونها حتى أتوا بها ثقيفا. قال الأصمعى :
وكيف تحمل الخمرة إلى ثقيف وعندهم العنب.
وقول عدى بن الرقاع :
لهم راية تهدى الجموع كأنها |
|
إذا خطرت فى ثعلب (١) الرّمح طائر |
والراية لا تخطر ، وإنما الخطران للرمح.
ومما لم يسمع مثله قط قول عدى بن زيد فى الخمرة ووصفه إياها بالخضرة حيث يقول :
والمشرف الهيدب يسعى بها |
|
أخضر مطموثا بماء الحريص (٢) |
والحريص : السّحابة تحرص وجه الأرض ، أى تقشرها بشدّة وقع مطرها.
ومن وضع الشىء فى غير موضعه قول الشاعر :
يمشى بها كلّ موشّى أكارعه |
|
مشى الهرابذ حجّوا بيعة الدّون |
فالغلظ فى هذا البيت فى ثلاثة مواضع : أحدها أن الهرابذ المجوس (٣) لا النصارى.
والثانى أن البيعة للنصارى لا للمجوس. والثالث أنّ النصارى لا يعبدون الأصنام ولا المجوس.
ومن المحال الذى لا وجه له قول القس (٤) :
وإنّى إذا ما الموت حلّ بنفسها |
|
يزال بنفسى قبل ذاك فأقبر |
وهذا شبيه بقول قائل لو قال : إذا دخل زيد الدار دخل عمرو قبله. وهذا عين المحال الممتنع الذى لا يجوز كونه.
ومن عيوب المعنى مخالفة العرف وذكر ما ليس فى العادة كقول المرار (٥) :
وخال على خدّيك يبدو كأنّه |
|
سنا البدر فى دعجاء باد دجونها |
__________________
(١) الثعلب : طرف الرمح.
(٢) الهيدب : سحاب يقرب من الأرض كأنه متدل يكاد يمسكه من قام براحته.
(٣) فى اللسان : هم قومة بيت النار التى للهند ـ فارسى معرب.
(٤) الموشح ٢٢٦.
(٥) الموشح ٢٣٢.
والمعروف أن الخيلان سود أو سمر ، والحدود الحسان إنما هى البيض ، فأتى هذا الشاعر بقلب المعنى.
وهكذا قول الآخر :
كأنّما الخيلان فى وجهه |
|
كواكب أحدقن بالبدر |
ويمكن أن يحتج لهذا الشاعر بأن يقال : شبّه الخيلان بالكواكب من جهة الاستدارة لا من جهة اللّون.
والجيد فى صفة الخال قول مسلم :
وخال كخال البدر فى وجه مثله |
|
لقينا المنى فيه فحاجزنا البذل |
وقال العباس بن الأحنف (١) :
لخال بذات الخال أحسن عندنا |
|
من النكتة السّوداء فى وضح البدر |
ومن المعانى ما يكون مقصرا غير بالغ مبلغ غيره فى الإحسان ، كقول كثير (٢) :
وما روضة بالحزن طيّبة الثّرى |
|
تمجّ الندى (٣) حوذانها (٤) وعرارها |
بأطيب من أردان عزّة موهنا |
|
وقد أوقدت بالمندل الرّطب (٥) نارها |
وقد صدق ؛ ليس ريح الروض بأطيب من ريح العود ، إلا أنه لم يأت بإحسان فيما وصف من طيب عرق المرأة ؛ لأن كلّ من تجمّر بالعود طابت رائحته.
والجيد قول امرئ القيس (٦) :
ألم تر أنّى كلّما جئت طارقا |
|
وجدت بها طيبا وإن لم تطيّب |
والعود الرطب ليس بمختار للبخور ؛ وإنما يصلح للمضغ والسواك ، والعود اليابس أبلغ فى معناه.
__________________
(١) ديوانه : ٧٩
(٢) الموشح : ١٥٠ ، ١٥١
(٣) فى ط : الثرى
(٤) الحوذان : نبت ، وفى الموشح : جثجاثها
(٥) فى رواية الموشح : وقد أوقدت بالمجمر اللدن.
(٦) ديوانه : ٦٦ ، ١٠٥ ، ٢٢٠.
وأنشد الكميت نصيبا (١) :
كأنّ الغطامط فى غليها |
|
أراجيز أسلم تهجو غفارا |
فقال نصيب : لم تهج أسلم غفارا قط ، فقال الكميت (٢) :
إذا ما الهجارس غنّينها |
|
تجاوبن (٣) بالفلوات الوبارا |
فقال نصيب : لا يكون بالفلوات وبار ، فاستحى الكميت وسكت (٤) ومن عيوب المديح عدول المادح عن الفضائل التى تختصّ بالنفس : من العقل ، والعفّة ، والعدل ، والشجاعة ، إلى ما يليق بأوصاف الجسم : من الحسن ، والبهاء والزّينة ، كما قال ابن قيس الرقيّات فى عبد الملك بن مروان (٥) :
يأتلق التّاج فوق مفرقه |
|
على جبين كأنّه الذّهب |
فغضب عبد الملك ، وقال : قد قلت فى مصعب (٦) :
إنما مصعب شهاب من اللّ |
|
ه تجلّت عن وجهه الظّلماء (٧) |
فأعطيته المدح بكشف الغمم ، وجلاء الظّلم ؛ وأعطيتنى من المدح ما لا فخر فيه ؛ وهو اعتدال التاج فوق جبينى الذى هو كالذّهب فى النضارة.
ومثل ذلك قول أيمن بن خزيم فى بشر بن مروان (٨) :
يا ابن الأكارم من قريش كلّها |
|
وابن الخلائف وابن كلّ قلمّس (٩) |
__________________
(١) الموشح : ١٩٣
(٢) الموشح : ١٩٣
(٣) فى الموشح : يجاوبن
(٤) الغطامط : الصوت. والهجارس : جمع هجرس وهو القرد والثعلب وقيل : ولده ، والدب وقيل : كل ما يعسعس بالليل دون الثعلب وفوق اليربوع. والوبار : جمع وبرة ، بالتسكين : حيوان كالسنور
(٥) نقد الشعر : ١١١ ، الموشح : ٢٢١
(٦) الموشح ٢٢١ ، نقد الشعر : ١١١
(٧) فى رواية : عن نوره.
(٨) نقد الشعر : ١١١ ، الموشح : ٢٢٢.
وقد أورد الأبيات قدامة بن جعفر فى كتابه نقد الشعر والمرزبانى فى الموشح وأولها عندهما :
يا بن الذوائب والذرى والأرؤس |
|
والفرع من مضر العفرنى الأقعس |
وابن المكارم من قريش ذا العلا |
|
........................................ |
(٩) يقال : عز قلمس : إذا كان قديما.
من فرع آدم كابرا عن كابر |
|
حتّى أتيت (١) إلى أبيك العنبس |
مروان ، إنّ قناته خطّيّة |
|
غرست أرومتها أعزّ المغرس |
وبنيت عند مقام ربك قبّة |
|
خضراء كلّل تاجها بالفسفس (٢) |
فسماؤها ذهب وأسفل أرضها |
|
ورق تلألأ فى صميم الحندس |
فما فى هذه الأبيات شيء يتعلّق بالمدح الذى يختصّ بالنفس ، وإنما ذكر سودد الآباء ، وفيه فخر للأبناء ، ولكن ليس العظامى كالعصامىّ ، وربما كان سودد الوالد وفضيلته نقيصة للولد إذا تأخّر عن رتبة الوالد ، ويكون ذكر الوالد الفاضل تقريعا للولد الناقص.
وقيل لبعضهم : لم لا تكون كأبيك؟ فقال : ليت أبى لم يكن ذا فضل ؛ فإنّ فضله صار نقصا لى.
وقد قال الأوّل :
إنّما المجد ما بنى والد الصّد |
|
ق وأحيا فعاله المولود |
وقال غيره فى خلافه :
لئن فخرت بآباء ذوى شرف |
|
لقد صدقت ولكن بئس ما ولدوا |
وقال آخر :
عفّت مقابح أخلاق خصصت بها |
|
على محاسن أبقاها أبوك لكا |
لئن تقدمت أبناء الكرام به |
|
لقد تأخّر آباء اللّئام بكا |
ثم ذكر أيمن بناء قبة حسنة ، وليس بناء القباب مما يدل على جود وكرم ؛ بل يجوز أن يبنى اللئيم البخيل الأبنية النفيسة ، ويتوسّع فى النفقة على الدور الحسنة
__________________
(١) فى الموشح : انتهيت
(٢) الفسفس : الفضة الرطبة. والبيت المصور بالفسيفساء : هو المنقوش بقطع صغيرة ملونة من الرخام وغيره يؤلف بعضها إلى بعض ثم تركب فى حيطانه من داخل.
مع منع الحق ، وردّ السائل ، وليس اليسار مما يمدح به مدحا حقيقيا ؛ ألا ترى كيف يقول أشجع السّلمى (١) :
يريد الملوك مدى جعفر |
|
ولا يصنعون كما يصنع |
وليس بأوسعهم فى الغنى |
|
ولكنّ معروفة أوسع |
ومن عيوب المدح قول أيمن بن خريم أيضا فى بشر بن مروان (٢) :
فإن أعطاك (٣) بشر ألف ألف |
|
رأى حقّا عليه أن يزيدا |
وأعقب مدحتى سرجا خلنجا |
|
وأبيض جوزجانيّا عنودا (٤) |
وإنّا قد رأينا أمّ بشر |
|
كأمّ الأسد مذكارا ولودا |
جميع هذا الكلام جار على غير الصواب ، إلّا فى ابتداء وصفه فى التناهى فى الجود ، ثم انحطّ إلى مالا يقع مع الأول موقعا وهو السّرج وغيره. وأتى فى البيت الثالث بما هو أقرب إلى الذّم منه إلى المدح ، وهو قوله :
وإنا قد رأينا أمّ بشر |
|
كأمّ الأسد مذكارا ولودا |
لأنّ الناس مجمعون على أنّ نتاج الحيوانات الكريمة أعسر وأولادها أقلّ. كما قال الأول (٥) :
بغاث الطّير أكثرها فراخا |
|
وأمّ الصّقر مقلات (٦) نزور |
ومن عيوب المدح قول بعضهم ـ هو عبيد الله بن الحويرث ـ لبشر بن مروان :
إنّى رحلت إلى عمرو لأعرفه |
|
إذ قيل بشر ولم أعدل به نشبا |
فنكّر الممدوح وسلبه النباهة ؛ وكان ينبغى أن يقول : ليعرفنى.
__________________
(١) نقد الشعر : ١١٢ ، الموشح : ٢٢٢
(٢) نقد الشعر : ١١٢ ، الموشح : ٢٢٢
(٣) فى نقد الشعر : «فلو أعطاك» ، وفى الموشح : «لو أعطاك».
(٤) كذا فى الأصول ، والذى فى نقد الشعر والموشح «عقودا». والخلنج : كل مخطوط بألوان وأشكال.
(٥) نقد الشعر : ١١٢ ، الموشح : ٢٢٣
(٦) المقلات : ناقة تضع واحدا ، ثم لا تحمل ، وامرأة لا يعيش لها ولد.