أبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري
المحقق: علي محمد البجاوي ومحمد ابوالفضل ابراهيم
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٨
الفصل العاشر
فى الغلو
الغلو |
الغلو تجاوز حد المعنى والارتفاع فيه إلى غاية لا يكاد يبلغها ؛ كقول الله تعالى : (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ). وقال تأبط شرا (١) :
ويوم كيوم العيكتين (٢) وعطفة |
|
عطفت وقد مسّ القلوب الحناجر |
وقال الله تعالى : (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) ، بمعنى لتكاد تزول منه. ويقال إنها فى مصحف ابن مسعود مثبته ؛ وقد جاءت فى القرآن مثبتة وغير مثبتة. قال الله تعالى : (وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ.)
وقال الشاعر (٣) :
يتقارضون إذا التقوا فى موطن |
|
نظرا يزيل مواطئ الأقدام (٤) |
وكاد إنما هى للمقاربة ، وهى أيضا مع إثباتها توسع ؛ لأن القلوب لا تقارب البلوغ إلى الحناجر وأصحابها أحياء.
وقوله تعالى : (وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) ، وهذا إنما هو على البعيد ؛ ومعناه لا يدخل الجمل فى سمّ الخياط ولا يدخل هؤلاء الجنة.
ومثله قول الشاعر (٥) :
إذا زال عنكم أسود العين (٦) كنتم |
|
كراما وأنتم ما أقام ألائم |
وقول الآخر (٧) :
فرجّى الخير وانتظرى إيابى |
|
إذا ما القارظ العنزىّ آبا |
__________________
(١) مهذب الأغانى : ١ ـ ٢٢٤.
(٢) العيكتان : اسم موضع ، وأورد ياقوت ، اللسان ـ مادة عيك ، لتأبط شرا قوله :
ليلة صاحوا وأغروا بى سراعهم |
|
بالعيكتين لدى معدى ابن براق |
(٣) اللسان (قرض).
(٤) أراد نظر بعضهم إلى بعض بالعداوة والبغضاء.
(٥) اللسان (لأم).
(٦) أسود العين : جبل
(٧) اللسان (قرظ) ، وهو بشر بن أبى خازم.
وقال النابغة (١) :
فإنك سوف تحلم أو تناهى |
|
إذا ما شبت أو شاب الغراب |
مثال الغلو من النثر |
ومثال الغلو من النثر قول امرأة من العجم كانت لا تظهر إذا طلعت الشمس فقيل لها فى ذلك ، فقالت : أخاف أن تكسفنى. وقال أعرابى : لنا تمرة فطساء جرداء ؛ تضع التمرة فى فيك ، فتجد حلاوتها فى كعبك. وقيل لأعرابىّ : ما حضر (٢) فرسك؟ قال : يحضر ما وجد أرضا. ووصف أعرابى فرسه ، فقال : إن الوابل ليصيب عجزه ؛ فلا يبلغ إلى معرفته حتى أبلغ حاجتى. وذمّ أعرابى رجلا ، فقال : يكاد يعدى لؤمه من تسمّى باسمه.
كتب بعضهم يصف رجلا ، فقال : أما بعد ، فإنك قد كتبت تسأل عن فلان ، كأنك قد هممت بالقدوم عليه ، أو حدّثت نفسك بالوفود إليه ، فلا تفعل ، فإنّ حسن الظن به لا يقع إلا بخذلان الله تعالى ، وإنّ الطمع فيما عنده لا يخطر على القلب إلا بسوء التوكل على الله تعالى ، والرجاء لما فى يديه لا ينبغى إلا بعد اليأس من رحمة الله تعالى ؛ لا يرى إلا أن الإقتار الذى نهى الله عنه هو التبذير الذى يعاقب عليه ، والاقتصاد الذى أمر به هو الإسراف الذى يغضب منه ، وأن الصنيعة مرفوعة ، والصلة موضوعة ، والهمة مكروهة ، والثقة منسوخة ، والتوسع ضلالة ، والجود فسوق ، والسخاء من همزات الشياطين ، وأن مواساة الرجل أخاه من الذنوب الموبقة ، وإفضاله عليه إحدى الكبائر المرهقة ، وأن الله تعالى لا يغفر أن يؤثر المرء على نفسه ، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ، ومن آثر على نفسه فقد ضل ضلالا بعيدا ، وخسر خسرانا مبينا ؛ كأنه لم يسمع بالمعروف إلا فى الجاهلية الذين قطع الله دابرهم ، ومحا معالمهم ، ونهى المسلمين عن اتباع آثارهم ، وحظر عليهم أن يختاروا مثل اختيارهم ، يظنّ أن الرّجفة لم تأخذ أهل مدين إلا لسخاء كان فيهم ، ولم تهلك عادا بالريح العقيم
__________________
(١) ديوانه : ١٤.
(٢) حضر الفرس : ارتفاعه فى عدوه.
إلا لتوسّع كان فيهم ، فهو يخشى العقاب على الإنفاق ، ويرجو الثواب على الإمساك ، ويعذر نفسه فى العقوق ، ويلوى ماله عن الحقوق ؛ خيفة أن ينزل به قوارع العالمين. ويأمرها بالبخل خشية أن يصيبه ما أصاب القرون الأولين ، فأقم ـ رحمك الله ـ على مكانك ، واصطبر على عسرتك ، عسى الله أن يبدّلنا وإياك خيرا منه زكاة وأقرب رحما.
وقالت سكينة بنت الحسين رضى الله عنهما وقد أثقلت ابنتها بالدر : ما ألبستها إياه إلا لتفضحه ؛ ونحوه قول الشاعر :
جارية أطيب من طيبها |
|
والطّيب فيه المسك والعنبر |
ووجهها أحسن من حليها |
|
والحلى فيه الدرّ والجوهر |
وقال ابن مطير (١) :
مخصّرة الأوساط زانت عقودها |
|
بأحسن مما زينتها عقودها |
وقيل لأعرابى : فلان يدّعى الفضل على فلان ، فقال : والله لئن كان أطول من مسيره ما بلغ فضله ، ولو وقع فى ضحضاح معروفه غرق. وقال أعرابى : الناس يأكلون أماناتهم لقما ، وفلان يحسوها حسوا ، ولو نازعت فيه الخنازير لقضى به لها لقرب شبهه منها ، وما ميراثه عن آدم إلا أنه سمى آدميا. وذكر أعرابى رجلا ، فقال : كيف يدرك بثاره وفى صدره حشو مرفقة من البلغم ، وهو المرء لو دقّ بوجهه الحجارة لرضّها ، ولو خلا بالكعبة لسرقها.
وأخبرنا أبو أحمد ، قال : أخبرنا الصولى ، قال : حدثنا الحسن بن الحسين الأزدى قال : حدثنا ابن أبى السرى ، عن رزين العروضى ، قال : لقيت أبا الحرث جميزا (٢) ومعه غلام لمحمد بن يحيى البرمكى متعلق به ، فقلت له : ما لهذا متعلق بك؟ فقال : لأنى دخلت أمس على مولاه وبين يديه خوان من نصف خشخاشة ، فتنفست فطار
__________________
(١) ديوان الحماسة : ٢ ـ ٦٥.
(٢) فى ا «حمسا».
الخوان فى أنفى فهذا يستعدى علىّ ، فقلت له : أما تستحى مما تقول؟ فقال : الطلاق له لازم لو أن عصفورا نقر حبّة من طعام بيدره ما رضى حتى يؤتى بالعصفور مشويا بين رغيفين ، والرغيفان من عند العصفور! قلت : قبحك الله! ما أعظم تعدّيك! فقال : علىّ المشى إلى بيت الله الحرام إن لم يكن صعود السماء على سلم من زبد حتى يأخذ بنات نعش أيسر عليه من أن يطعمك رغيفا فى اليوم.
من المنظوم |
ومن المنظوم قول امرئ القيس (١) :
من القاصرات الطرف لو دبّ محول |
|
من الذّرّ فوق الإتب منها لأثّرا (٢) |
وقول الأعشى (٣) :
فتى لو ينادى الشمس ألقت قناعها |
|
أو القمر السارى لألقى المقالدا |
ينادى : أى يجالس ؛ وقول أبى الطمحان (٤) :
أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم |
|
دجى الليل حتى نظّم الجزع ثاقبه |
ومثله (٥) :
وجوه لو ان المدلجين اعتشوا بها |
|
صدعن الدجى حتى ترى الليل ينجلى |
وقول الآخر :
من البيض الوجوه بنى سنان |
|
لو انك تستضيئ بهم أضاءوا |
وقول النابغة الجعدى (٦) :
بلغنا السماء مجدنا وسناؤنا |
|
وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا |
وقول النّمرى (٧).
تظلّ تحفر عنه إن ضربت به |
|
بعد الذراعين والساقين والهادى |
__________________
(١) ديوانه : ١٠٣.
(٢) القاصرات الطرف : النساء اللائى قصرن أعينهن عن الرجال. والمحول : الذى أتى عليه حول. والإتب : قميص غير مخيط.
(٣) اللسان (ندى).
(٤) عيون الأخبار : ٤ ـ ٢٤ ، ونسبه إلى لقيط ، وهو فى الكامل : ١ ـ ١٦٨ لأبى الطمحان.
(٥) عيون الأخبار : ٤ ـ ٢٥ ، واللسان (عشا) ونسبه إلى مزاحم العقيلى.
(٦) مهذب الأغانى : ٢ ـ ٧٥.
(٧) مهذب الأغانى : ٢ ـ ١٠٤ ، وروايته :
تظل تحفر عنه الأرض مندفعا
وقول الطّرمّاح : (١)
تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا |
|
ولو سلكت سبل المكارم ضلت |
ولو أنّ برغوثا على ظهر قملة |
|
يكرّ على صفّى تميم لولّت |
ولو أنّ أم العنكبوت بنت لها |
|
مظلتها يوم الندى لاستظلت |
ولو جمعت يوما تميم جموعها |
|
على ذرّة معقولة لاستقلت |
ولو أن يربوعا يزقّق مسكه |
|
إذن نهلت منه تميم وعلّت |
يزقق : أى يجعل منه زقاقا.
وقال الآخر :
وتبكى السموات إذا ما دعا |
|
وتستغيث الأرض من سجدته |
لما اشتهى يوما لحوم القطا |
|
صرّعها فى الجوّ من نكهته |
ومثله فى الإفراط قول الخثعمى :
يدلى يديه إلى القليب فيستقى |
|
فى سرجه بدل الرشاء المحصد (٢) |
وكما أفرطوا فى صفة الطّول كذلك أفرطوا فى صفة القصر ؛ قال بعضهم :
فأقسم لو خرّت من استك بيضة |
|
لما انكسرت من قرب بعضك من بعض |
وقال آخر فى صفة كثير عزة وكان قصيرا :
قصير القميص فاحش عند بيته |
|
يعضّ القراد باسته وهو قائم |
وقال بعض المحدثين :
وقصير لا تعمل الش |
|
شمس ظلّا لقامته |
يعثر الناس فى الطرى |
|
ق به من دمامته |
وقال أبو عثمان الناجم :
ألا يا بيدق الشطرن |
|
ج فى القيمة والقامة |
__________________
(١) ديوانه ١٣٣ مع اختلاف فى الرواية وترتيب الأبيات ، والشعر والشعراء ٥٦٨
(٢) فى ا : «المكرب». والمحصد من الحبل : ما كان محكم القتل.
وقال أبو نواس يصف قدرا :
يغصّ بحيزوم الجرادة صدرها |
|
وينضج ما فيها بعود خلال |
وتغلى بذكر النار من غير حرّها |
|
وتنزلها عفوا بغير جعال |
هى القدر قدر الشيخ بكر بن وائل |
|
ربيع اليتامى عام كل هزال |
وقال آخر فى خلاف ذلك :
بقدر كأنّ الليل شحمة قعرها |
|
ترى الفيل فيها طافيا لم يقطّع |
ومن الإفراط قول المؤمل :
من رأى مثل حبّتى |
|
تشبه البدر إذ بدا |
تدخل اليوم ثم تد |
|
خل أرادفها غدا |
ومثله قول الآخر :
أنت فى البيت وعرن |
|
ينك فى الدّار يطوف |
ومثله :
لقد مرّ عبد الله فى السوق راكبا |
|
له حاجة من أنفه ومطّرق |
وعنّت له فى جانب السوق مخطة |
|
توهمت أن السوق منها سيغرق |
فأقذر به أنفا وأقذر بربّه |
|
على وجهه منه كنيف معلّق |
ومثله فى الإفراط قول آخر فى إمام بطىء القراءة :
إن قرأ «العاديات» فى رجب |
|
لم تفن آياتها إلى رجب |
بل هو لا يستطيع فى سنة |
|
بختم «تبت يدا أبى لهب» |
وقال ابن مقبل :
يقلقل من ضغم اللجام لهاته |
|
تقلقل عود المرخ فى الجعبة الصّفر |
وقال إبراهيم بن العباس (١) :
يا أخا لم أر فى الدهر خلا |
|
مثله أسرع هجر ووصلا |
__________________
(١) الطرائف الأدبية : ١٦٤.
كنت لى فى صدر يومى صديقا |
|
فعلى عهدك أمسيت أم لا |
وقال ابن الرومى :
يا ثقيلا على القلوب خفيفا |
|
فى الموازين دون وزن النقير |
طر مخيفا أو قع مقيتا فطو |
|
را كسفاة وتارة كثبير (١) |
وقبول النفوس إياك عندى |
|
آية فيك للّطيف الخبير |
إن قوما أصبحت تنفق فيهم |
|
لعلى غاية من التسخير |
ومن الناس من يكره الإفراط الشديد ويعيبه ؛ وإذا تحرز المبالغ واستظهر فأورد شرطا ، أو جاء ـ بكاد ـ وما يجرى مجراها يسلم من العيب ؛ وذلك مثل قول الأول (٢) :
لو كنت من شيء سوى بشر |
|
كنت المنوّر ليلة البدر |
وقول العرجى :
لو كان حيّا قبلهنّ ظعائنا |
|
حيا الحطيم وجوههنّ وزمزم |
وقول الأسدى :
فلو قاتل الموت امرؤ عن حميمه |
|
لقاتلت جهدى سكرة الموت عن معن |
فتى لا يقول الموت من وقعة به |
|
لك ابنك خذه ليس من حاجتى دعنى |
وقول الآخر :
لو كان يخفى على الرّحمن خافية |
|
من خلقه خفيت عنه بنو أسد |
قوم أقام بدار الذلّ أو لهم |
|
كما أقامت عليه جذمة الوتد |
وقول البحترى (٣) :
ولو أن مشتاقا تكلّف غير ما (٤) |
|
فى وسعه لسعى إليك المنبر |
من عيوب الغلو |
ومن عيوب هذا الباب أن يخرج فيه إلى المحال ، ويشوبه بسوء الاستعارة ، وقبيح العبارة ؛ كقول أبى نواس فى الخمر :
__________________
(١) ثبير : جبل.
(٢) صفحة ٢٨٦.
(٣) ديوانه : ٢١٢.
(٤) رواية الديوان : «فوق ما».
توهمتها فى كأسها فكأنما |
|
توهمت شيئا ليس يدرك بالعقل |
وصفراء أبقى الدهر مكنون روحها |
|
وقد مات من مخبورها جوهر الكل |
فما يرتقى التكييف منها إلى مدى |
|
تحدّ به إلّا ومن قبله قبل |
فجعلها لا تدرك بالعقل وجعلها لا أول لها ، وقوله : «جوهر الكل» و «التكييف» فى غاية التكلف ، ونهاية التعسف. ومثل هذا من الكلام مردود ، لا يشتغل بالاحتجاج عنه له ، والتحسين لأمره ، وهو بترك التداول أولى ؛ إلا على وجه التعجب منه ومن قائله. ومن الغلو الغث قول المتنبى (١) :
فتى ألف جزء رأيه فى زمانه |
|
أقلّ جزء بعضه الرأى أجمع |
وقوله (٢) :
تتقاصر الأفهام عن إدراكه |
|
مثل الذى الأفلاك فيه والدّنا |
سئل عما فيه الأفلاك والدنا ، فقال : علم الله ؛ ونيته لا تدل عليه ؛ فأفرط وعمّى ، وجمع دنيا على قول أهل الأدوار والتناسخ.
__________________
(١) ديوانه : ٢ ـ ٢٤٢.
(٢) ديوانه : ٤ ـ ٢١٠.
الفصل الحادى عشر
فى المبالغة
المبالغة |
المبالغة أن تبلغ بالمعنى أقصى غاياته ، وأبعد نهاياته ، ولا تقتصر فى العبارة عنه على أدنى منازله وأقرب مراتبه ؛ ومثاله من القرآن قول الله تعالى : (يَوْمَ (تَرَوْنَها) تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى). ولو قال : تذهل كل امرأة عن ولدها لكان بيانا حسنا وبلاغة كاملة ؛ وإنما خص المرضعة للمبالغة ، لأن المرضعة أشفق على ولدها لمعرفتها بحاجته إليها ، وأشغف به لقربه منها ولزومها له ، لا يفارقها ليلا ولا نهارا ، وعلى حسب القرب تكون المحبة والإلف ؛ ولهذا قال امرؤ القيس (١) :
فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع |
|
فألهيتها عن ذى تمائم محول |
لما أراد المبالغة فى وصف محبّة المرأة له ، قال : إنى أليتها عن ولدها الذى ترضعه لمعرفته بشغفها به ، وشفقتها عليه فى حال إرضاعها إياه.
وقوله تعالى : (كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً) ، لو قال يحسبه الرائى لكان جيدا ؛ ولكن لما أراد المبالغة ذكر الظمآن ؛ لأن حاجته إلى الماء أشد ، وهو على الماء أحرص ؛ وقد ذكرناه قبل. ومثل ذلك قول دريد بن الصّمة (٢) :
متى ما تدع قومك أدع قومى |
|
وحولى من بنى جشم فئام (٣) |
فوارس بهمة حشد إذا ما |
|
بدا حضر الحيّية والحذام (٤) |
فالمبالغة الشديدة فى قوله : «الحيية». ومن المبالغة نوع آخر ، وهو أن يذكر المتكلم حالا لو وقف عليها أجزأته فى غرضه منها ، فيجاوز ذلك حتى يزيد فى المعنى
__________________
(١) ديوانه : ٢٤.
(٢) نقد الشعر : ٨٤.
(٣) الفئام : الجماعة من الناس.
(٤) البهمة : الشجاع.
زيادة تؤكده ، ويلحق به لاحقة تؤيده. كقول عمير بن الأهتم التغلبى (١) :
ونكرم جارنا ما دام فينا |
|
ونتبعه الكرامة حيث مالا |
فإكرامهم الجار ما دام فيهم مكرمة ، وإتباعهم إياه الكرامة حيث مال من المبالغة. وقول الحكم الخضرى (٢) :
وأقبح من قرد وأبخل بالقرى |
|
من الكلب أمسى وهو غرثان أعجف |
فالكلب بخيل على ما ظفر به ، وهو أشد بخلا إذا كان جائعا أعجف. ومن هاهنا أخذ حماد عجرد قوله فى بشار (٣) :
ويا أقبح من قرد |
|
إذا ما عمى القرد |
وقول رواس بن تميم (٤) :
وإنّا لنعطى النّصف منّا وإننا |
|
لنأخذه من كل أبلخ (٥) ظالم |
المبالغة فى قوله : «أبلخ».
وقول أوس بن غلفاء الهجيمى (٦) :
وهم تركوك أسلح من حبارى |
|
رأت صقرا ، وأشرد من نعام |
فقوله : «رأت صقرا» من المبالغة.
وكتبت فى فصل إلى بعض أهل الأدب : قربك أحبّ إلىّ من الحياة فى ظل اليسر والسعة ، ومن طول البقاء فى كنف الخفض والدّعة ، ومن إقبال الحبيب مع إدبار الرقيب ، ومن شمول الخصب بعد عموم الجدب ، وأقرّ لعينى من الظّفر بالبغية بعد إشرافى على الخيبة ، وأسرّ لنفسى من الأمن بعد الخوف ، والإنصاف بعد الحيف. وأسأل الله أن يطيل بقاءك ، ويديم نعماءك ، ويرزقنى عدلك ووفاءك ، ويكفينى نبوّك وجفاءك.
__________________
(١) نقد الشعر : ٨٤.
(٢) نقد الشعر : ٨٤.
(٣) مهذب الأغانى : ٨ ـ ٢٥٩.
(٤) نقد الشعر : ٨٤.
(٥) الأبلخ : الجرىء على ما أتى من الفجور.
(٦) نقد الشعر : ٨٥.
فقولى : «الحياة فى ظل اليسر والسعة». و «البقاء فى كنف الخفض والدعة». وقولى : «إقبال الحبيب مع إدبار الرقيب» وقولى : «الخصب بعد عموم الجدب» ، وما بعده إلى آخر الفصول مبالغات.
من عيوب المبالغة |
ومن عيوب هذا الباب قول بعض المتأخرين (١) :
فلا غيضت بحارك يا جموما |
|
على علل الغرائب والدّخال (٢) |
أراد أن يقول : إنك كثير الجود على كثرة سؤالك فلا نقصت ؛ فعبر عنه بهذه العبارة الغثّة ، والجموم : البئر الكثيرة الماء ؛ وقوله (٣) :
ليس قولى فى شمس فعلك كالشم |
|
س ولكن فى الشّمس كالإشراق |
على أن حقيقة معنى هذا البيت لا يوقف عليها.
ومن رديء المبالغة قول أبى تمام (٤) :
ما زال يهذى بالمكارم والعلا |
|
حتى ظننّا أنه محموم |
أراد أن يبالغ فى ذكر الممدوح باللهج بذكر الجود ، فقال : «ما زال يهذى» فجاء بلفظ مذموم ، والجيد فى معناه قول الآخر :
ما كان يعطى مثلها فى مثله |
|
إلا كريم الخيم أو مجنون |
قسم قسمين : ممدوحا ومذموما ، ليخرج الممدوح من المذموم إلى الممدوح المحمود.
ومن جيد المبالغة قول عمرو بن حاتم :
خليلىّ أمسى حبّ خرقاء قاتلى |
|
ففى الحبّ منى وقدة وصدوع |
ولو جاورتنا العام خرقاء لم نبل |
|
على جدبنا ألّا يصوب ربيع |
قوله : «على جدبنا» مبالغة جيدة.
__________________
(١) المتنبى ، ديوانه : ٣ ـ ٢٠.
(٢) العلل : الشرب الثانى. الغرائب : جمع غريبة ؛ وهى التى ترد الحوض ، وليست لأهل الحوض. والدخال أن يدخل بعير قد شرب بين بعيرين لم يشربا.
(٣) المتنى ، ديوانه : ٢ ـ ٣٧١.
(٤) ديوانه : ٣٠٠.
الفصل الثّانى عشر
فى الكناية والتعريض
الكناية والتعريض |
وهو أن يكنى عن الشىء ويعرّض به ولا يصرح ، على حسب ما عملوا باللّحن والتّورية عن الشىء. كما فعل العنبرى إذ بعث إلى قومه بصرّة شوك وصرّة رمل وحنظلة ، يريد : جاءتكم بنو حنظلة فى عدد كثير ككثرة الرمل والشوك.
وفى كتاب الله تعالى عزوجل : (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) ، فالغائط كناية عن الحاجة ، وملامسة النساء كناية عن الجماع.
وقوله تعالى : (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) كناية عن النّساء.
ومن مليح ما جاء فى هذا الباب قول أبى العيناء ، وقيل له : ما تقول فى ابنى وهب؟ قال : (وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) سليمان أفضل ، قيل : وكيف؟ قال : (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).
من التعريض الجيد |
ومن التعريض الجيد ما كتب به عمرو بن مسعدة إلى المأمون : أما بعد ، فقد استشفع بى فلان إلى أمير المؤمنين ، ليتطوّل عليه فى إلحاقه بنظرائه من المرتزقين فيما يرتزقون ، فأعلمته أنّ أمير المؤمنين لم يجعلنى فى مراتب المستشفع بهم ، وفى ابتدائه بذلك تعدّى طاعته والسلام. فوقع فى كتابه : قد عرفنا تصريحك له ، وتعريضك بنفسك ، وأجبناك إليهما ، وأوقفناك عليهما.
ومن المنظوم قول بشّار :
وإذا ما التقى ابن نهيا وبكر |
|
زاد فى ذا شبر وفى ذاك شبر |
أراد أنهما يتبادلان ، وقال آخر فى ابن حجام :
أبوك أب ما زال للناس موجعا |
|
لأعناقهم نقرا كما ينقر الصّقر |
إذا عوّج الكتّاب يوما سطورهم |
|
فليس بمعوج له أبدا سطر |
وقال بعض المتقدمين :
وقد جعل الوسمىّ ينبت بيننا |
|
وبين بنى دودان نبعا وشوحطا |
النّبع والشّوحط ، كأنه كنّى بهما عن القسى والسهام ؛ ومثله قول الآخر :
وفى البقل ما لم يدفع الله شرّه |
|
شياطين ينزو بعضهنّ على بعض |
وقول رؤبة :
يا ابن هشام أهلك النّاس اللبن |
|
فكلّهم يعدو بقوس وقرن |
وهذه كنايات عن القتال والوقائع بينهم أيام الربيع ، وهو وقت الغزو عندهم.
وكتب كافى الكفاة : إن فلانا طرق بيته وهو الخيف ؛ لا خوف على من دخله ، ولا يد على من نزله ، فصادف فتيانا يعاطون كريمته الكئوس تارة ، والفئوس مرة ، فمن ذى معول يهدم ، ومن ذى مغول (١) يثلم. فبائع الرقيق يكتب من بينهم بالغليظ ، فوثبت العفيفة خفيفة ذفيفة (٢) ، تحكم يمناها فى أخادعه ، وتتقى بيسراها وقع أصابعه ، والحاضرون يحرّضونها على القتال ، ويدعونها إلى النزال ، والشيخ يناديهم :
تجمعتم من كل أوب وبلدة |
|
على واحد لا زلتم قرن واحد |
ثم علم أن الحرب خدعة ، ولكل امرئ فرصة ، فتلقّاها بالأثافى طلاقا بتّا وفراقا بتلا. وأخذ ينشد :
إنى أبىّ أبىّ ذو محافظة |
|
وابن أبىّ أبىّ من أبيين (٣) |
ولكن بعد ما ذا ، بعد ما ضمّوا الخصر ، وأموا الحصر ، وأدمنوا العصر ، وافتتحوا القصر.
__________________
(١) المغول : سوط فى جوفه سيف.
(٢) الذفيفة : السريعة الخفيفة.
(٣) البيت لذى الإصبع العدوانى ، المفضليات : ١ ـ ١٦١.
وكان ما كان مما لست أذكره |
|
فظنّ شرّا ولا تسأل عن الخبر |
فأكثر هذا الكلام كنايات.
مما عيب من الكناية |
ومما عيب من هذا الباب ما أخبرنا به أبو أحمد ، قال : قال أبو الحسن بن طباطبا الأصبهانى يصف غلاما :
منعّم الجسم يحكى الماء رقته |
|
وقلبه قسوة يحكى أبا أوس |
أى قلبه حجر ، أراد والد أوس بن حجر ، فأبعد التناول. فكتب إليه أبو مسلم قال : وأنشدنيها أبو مسلم ، ولم ينسبها إلى نفسه :
أبا حسن حاولت إيراد قافية |
|
مصلّبة المعنى فجاءتك واهيه |
وقلت أبا أوس تريد كناية |
|
عن الحجر القاسى فأوردت داهيه |
فإن جاز هذا فاكسرن غير صاغر |
|
فمى بأبى القرم الهمام معاوية |
وإلا أقمنا بيننا لك جدّه |
|
فتصبح ممنونا بصفّين ثانيه |
أراد : فاكسرن فمى بصخر ، وإلا أقمنا بيننا لك حربا وهو جد معاوية ؛ وقال أبو نواس فى جلد عميرة :
إذا أنت أنكحت الكريمة كفأها |
|
فانكح حسينا راحة بنت ساعد |
وقل بالرّفا ما نلت من وصل حرّة |
|
لها راحة حفّت بخمس ولائد |
ومن شنيع الكناية ، قول بعض المتأخرين (١) :
إنى على شغفى بما فى خمرها (٢) |
|
لأعفّ عما فى سراويلاتها |
وسمعت بعض الشيوخ يقول : الفجور أحسن من عفاف يعبّر عنه بهذا اللفظ. قال : وقريب من ذلك قول الآخر :
وما نلت منها محرما غير أننى |
|
إذا هى بالت بلت حيث تبول |
__________________
(١) هو المتنبى ، ديوانه : ١ ـ ٢٢٦.
(٢) اخمر : جمع خمار ، وهو ما تختمر به المرأة.
الفصل الثّالث عشر
فى العكس
العكس |
العكس : أن تعكس الكلام فتجعل فى الجزء الأخير منه ما جعلته فى الجزء الأول ، وبعضهم يسمّيه التبديل ؛ وهو مثل قول الله عزوجل : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ).
وقوله تعالى : (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ).
وكقول القائل : اشكر لمن أنعم عليك ، وأنعم على من شكرك. وقول الآخر : اللهم أغننى بالفقر إليك ، ولا تفقرنى بالاستغناء عنك. وقول بعض النساء لولدها : رزقك الله حظّا يخدمك به ذوو العقول ، ولا رزقك عقلا تخدم به ذوى الحظوظ. وقال بعضهم لرجل كان يتعهده : أسأل الله الّذى رحمنى بك ، أن يرحمك بى. وقال بعض القدماء : ما أقلّ منفعة المعرفة مع غلبة الشهوة! وما أكثر قلة المعرفة مع ملك النفس! وقال بعضهم : كن من احتيالك على عدوك ، أخوف من احتيال عدوك عليك. وقال آخر : ليس معى من فضيلة العلم إلا أنى أعلم أنى لا أعلم. وفى معناه قول الشاعر :
جهلت ولم تعلم بأنك جاهل |
|
فمن لى بأن تدرى بأنّك لا تدرى |
وعزّى رجل أخاه على ولد ، فقال : عوّضك الله منه ما عوّضه منك ـ يعنى الجنّة. وقال بعضهم : إنى أكره للرّجل أن يكون مقدار لسانه فاضلا عن مقدار علمه ، كما أكره أن يكون مقدار علمه فاضلا عن مقدار لسانه. وقال عمر بن الخطاب رضوان الله عنه : إذا أنا لم أعلم ما لم أر فلا علمت ما رأيت. وقيل للحسن بن سهل ـ وكان يكثر العطاء : ليس فى السّرف خير ، فقال : ليس فى الخير سرف.
فعكس اللفظ واستوفى المعنى.
مثاله من المنظوم |
وقال بعضهم ؛ كان الناس ورقا لا شوك فيه ، فصاروا شوكا لا ورق فيه.
ومثاله من المنظوم قول عدى بن الرقاع (١) :
ولقد ثنيت يد الفتاة وسادة |
|
لى جاعلا إحدى يدىّ وسادها |
وقال بعض المحدثين :
لسانى كتوم لأسراركم |
|
ودمعى نموم لسرى مذيع |
فلولا دموعى كتمت الهوى |
|
ولو لا الهوى لم تكن لى دموع |
وقال آخر :
تلك الثنايا من عقدها نظمت |
|
أو نظّم العقد من ثناياها |
والعكس أيضا من وجه آخر ؛ وهو أن يذكر المعنى ثم يعكسه إيراد خلاف ؛ كقول الصاحب :
وتسمى شمس المعالى وهو كسوفها
__________________
(١) الطرائف الأدبية : ٨٩.
الفصل الرابع عشر
فى التذييل
موقع التذييل فى الكلام |
التذييل |
وللتذييل فى الكلام موقع جليل ، ومكان شريف خطير ؛ لأن المعنى يزداد به انشراحا والمقصد اتضاحا. وقال بعض البلغاء : للبلاغة ثلاثة مواضع ؛ الإشارة ، والتذييل ، والمساواة. وقد شرحنا الإشارة والمساواة فيما تقدم ؛ فأما التذييل فهو إعادة الألفاظ المترادفة على المعنى بعينه ، حتى يظهر لمن لم يفهمه ، ويتوكد عند من فهمه ، وهو ضدّ الإشارة والتعريض ؛ وينبغى أن يستعمل فى المواطن الجامعة ، والمواقف الحافلة ؛ لأن تلك المواطن تجمع البطيء الفهم ، والبعيد الذهن ، والثاقب القريحة ، والجيد الخاطر ، فإذا تكررت الألفاظ على المعنى الواحد توكد عند الذهن اللقن ، وصح للكليل البليد.
مثاله من القرآن |
ومثاله من القرآن قول الله عزوجل : (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) ؛ ومعناه وهل يجازى بمثل هذا الجزاء إلا الكفور.
وقوله تعالى : (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ). وإن كل (نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) جميعا تذييل.
من النثر |
ومثاله من النثر قول بعضهم : قبول السّعاية شر من السعاية ؛ لأنّ السعاية إخبار ودلالة ، والقبول إنفاذ وإجازة ، وهل الدّال المخبر ، مثل المجيز المنفذ ، فإذا كان كذلك فالحزم أن يمقت الساعى على سعايته إن كان صادقا للؤمه فى هتك العورة ، وإضاعة الحرمة ، وأن يجمع له إلى المقت العقوبة إن كان كاذبا ، لجمعه على إضاعة الحرمة ، وهتك العورة ومبارزة الرحمن بقول الزّور واختلاق البهتان. فقوله : «وهل الدال المخبر مثل المجيز المنفذ» تذييل ما تقدم من الكلام.
وكتب رجل إلى أخ له : أما بعد ، فقد أصبح لنا من فضل الله تعالى ما لا نحصيه ، ولسنا نستحى من كثرة ما نعصيه ، وقد أعيانا شكره ، وأعجزنا حمده ، فما ندرى ما نشكر : أجميل ما نشر ، أم قبيح ما ستر ، أم عظيم ما أبلى ، أم كثير ما عفا ، فاستزد الله من حسن بلائه بشكره على جميع آلائه. فقوله : «فما ندرى ما نشكر» تذييل لقوله «قد أعيانا شكره».
وكتب سليمان بن وهب لبعضهم : بلغنى حسن محضرك ، فغير بديع من فضلك ، ولا غريب عندى من برّك ؛ بل قليل اتّصل بكثير ، وصغير لحق بكبير ؛ حتى اجتمع فى قلب قد وطّن لموتك ، وعنق قد ذلّلت لطاعتك ، ونفس قد طبعت على مرضاتك ؛ وليس أكثر سؤلها ، وأعظم إربها ، إلا طول مدتك ، وبقاء نعمتك ، قوله : «فغير بديع من فضلك ولا غريب عندى من برك» تذييل لقوله : «بل قليل اتصل بكثير ، وصغير لحق بكبير» فأكد ما تقدم.
من المنظوم |
ومن المنظوم قول الحطيئة (١) :
قوم هم الأنف والأذناب غيرهم |
|
ومن يقيس (٢) بأنف الناقة الذنبا |
فاستوفى المعنى فى النّصف الأول ، وذيّل بالنصف الثانى.
وقول الآخر :
فدعوا نزال فكنت أول نازل |
|
وعلام أركبه إذا لم أنزل |
وقول طرفة (٣) :
لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى |
|
لكالطّول المرخى وثنياه باليد (٤) |
فالنصف الآخر تشبيه وتذييل.
وقول أبى نواس :
عرم الزمان على الذين عهدتهم |
|
بك قاطنين وللزمن عرام (٥) |
قوله : «وللزمان عرام» تذييل.
__________________
(١) ديوانه : ٧.
(٢) فى الديوان : «ومن يسوى».
(٣) المعلقات : ٨٦.
(٤) الطول : الحبل. وثنياه : ما ثنى منه.
(٥) العرام : الشدة والأذى.
الفصل الخامس عشر
فى الترصيع
التصريع مثاله |
وهو أن يكون حشو البيت مسجوعا ، وأصله من قولهم : رصّعت العقد ، إذا فصّلته. ومثاله قول امرئ القيس (١) :
سليم الشّظى عبل الشّوى شنج النّسا |
|
له حجبات مشرفات على الفال (٢) |
وقوله (٣) :
وأوتاده ماذيّة وعماده |
|
ردينية فيها أسنّة قعضب (٤) |
وقوله (٥) :
فتور القيام قطيع الكلى |
|
م تفترّ عن ذى غروب خصر |
وضرب منه قوله (٦) :
مخشّ مجش مقبل مدبر معا |
|
كتيس ظباء الحلّب العدوان (٧) |
وضرب منه ، قوله (٨) فى صفة الكلب :
ألصّ الضّروس حبىّ الضّلوع |
|
تبوع طلوب نشيط أشر (٩) |
فقوله : «الضّروس مع الضلوع» ، سجع ؛ وإن لم يكن القاطع على حرف واحد ؛ وقد أحكمنا هذا فى السجع والازدواج.
__________________
(١) ديوانه : ٦٤.
(٢) الشظى : عظم لازق بالذراع. والشوى : اليدان والرجلان. والنسا : عرق فى الفخذ. والحجبات : رءوس عظام اليدين. والفالى : اللحم الذى على الورك.
(٣) ديوانه : ٨٧.
(٤) المازية : الدروع البيض. وقعضب : رجل كان يصنع الرماح.
(٥) ديوانه : ٨.
(٦) ديوانه : ١٢٣.
(٧) رواية الديوان :
مكر مفر مقبل مدبر معا |
|
كتيس ظباء الحلب العدوان |
الحلب : بقلة تأكلها الوحش فتضمر عليها بطونها. العدوان : المسرع.
(٨) ديوانه : ١١.
(٩) الألص : الذى التصقت أسنانه بعضها ببعض. حبى الضلوع (بالباء) : منتفخ.
وقال زهير (١) :
كبداء مقبلة عجزاء مدبرة |
|
قوداء فيها إذا استعرضتها خضع (٢) |
وقال أوس (٣) :
جشّا حناجرها علما مشافرها |
|
تستنّ أولادها فى قرقر ضاحى (٤) |
وقال طرفة (٥) :
بطىء عن الجلّى سريع إلى الخنا |
|
ذلول بأجماع الرجال ملهّد (٦) |
وقال النمرى (٧) :
من صوب سارية علّت بغادية |
|
تنهلّ حتى يكاد الصبح ينجاب |
وقال تأبط شرا (٨) :
بل من لعذّالة خذّالة أشب |
|
حرّقت باللّوم جلدى أى تحراق (٩) |
وقال أيضا (١٠) :
حمال ألوية شهاد أنديه |
|
هبّاط أودية جوّال آفاق |
وقال النمر (١١) :
طويل الذّراع قصير الكراع |
|
يواشك بالسّبسب الأغبر |
وقال الأفوه الأودى (١٢) :
سود غدائرها بلج محاجرها |
|
كأن أطرافها لمّا اجتلى الطّنف (١٣) |
__________________
(١) ديوانه : ٢٣٧.
(٢) كبداء : ضخمة الوسط. قوداء : طويلة العنق. استعرضتها : نظرت عرضها. الخضع : تطامن فى العنق.
(٣) نقد الشعر : ٢٥.
(٤) الجش : جمع أجش ، وهو الغليظ الصوت. والعلم : جمع أعلم وهو المشقوق الشفة العليا.
(٥) المعلقات : ٩٦.
(٦) الجلى : الأمر العظيم. أجماع : جمع جمع ، وهو ظهر الكف. الملهد : المضروب.
(٧) نقد الشعر : ٢٦.
(٨) المفضليات : ٢٨.
(٩) العذالة : الكثير اللوم. والخذالة : الذى يكثر خذلان صاحبه. والأشب : المعترض.
(١٠) المفضليات : ٢٧.
(١١) نقد الشعر : ٢٩.
(١٢) الطرائف الأدبية : ٢٠.
(١٣) الطنف : السيور.