أبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري
المحقق: علي محمد البجاوي ومحمد ابوالفضل ابراهيم
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٨
الباب الرّابع
فى البيان عن حسن النظم وجودة الرّصف والسّبك وخلاف ذلك
أجناس الكلام المنظوم ثلاثة : الرسائل ، والخطب ، والشّعر ، وجميعها تحتاج إلى حسن التأليف وجودة التركيب.
وحسن التأليف يزيد المعنى وضوحا وشرحا ، ومع سوء التأليف ورداءة الرّصف والتركيب شعبة من التّعمية ، فإذا كان المعنى سبيّا ، ووصف الكلام رديّا لم يوجد له قبول ، ولم تظهر عليه طلاوة. وإذا كان المعنى وسطا ، ورصف الكلام جيّدا كان أحسن موقعا ، وأطيب مستمعا ؛ فهو بمنزلة العقد إذا جعل كل خرزة منه إلى ما يليق بها كان رائعا فى المرأى وإن لم يكن مرتفعا جليلا ، وإن اختلّ نظمه فضمّت الحبّة منه إلى ما لا يليق بها اقتحمته العين وإن كان فائقا ثمينا.
وحسن الرّصف أن توضع الألفاظ فى مواضعها ، وتمكّن فى أماكنها ، ولا يستعمل فيها التقديم والتأخير ، والحذف والزيادة إلا حذفا لا يفسد الكلام ، ولا يعمّى المعنى ؛ وتضمّ كل لفظة منها إلى شكلها ، وتضاف إلى لفقها.
وسوء الرّصف تقديم ما ينبغى تأخيره منها ، وصرفها عن وجوهها ، وتغيير صيغتها ، ومخالفة الاستعمال فى نظمها.
وقال العتابى : الألفاظ أجساد ، والمعانى أرواح ؛ وإنما تراها بعيون القلوب ، فإذا قدّمت منها مؤخّرا ، أو أخّرت منها مقدّما أفسدت الصورة وغيّرت المعنى ؛ كما لو حوّل رأس إلى موضع يد ، أو يد إلى موضع رجل ، لتحوّلت الخلقة ، وتغيّرت الحلية.
(11 ـ الصناعتين)
وقد أحسن فى هذا التمثيل وأعلم به على أنّ الذى ينبغى فى صيغة الكلام وضع كلّ شيء منه فى موضعه ليخرج بذلك من سوء النظم.
من سوء النظم |
فمن سوء النّظم المعاظلة ، وقد مدح عمر بن الخطاب رضى الله عنه زهيرا لمجانبتها (١). فقال : كان لا يعاظل بين الكلام ؛ وأصل هذه الكلمة من قولهم : تعاظلت الجرادتان إذا ركبت إحداهما الأخرى ، وعاظل الرجل المرأة إذا ركبها ؛ فمن المعاظلة قول الفرزدق (٢) :
تعال فإن عاهدتنى لا تخوننى |
|
تكن مثل من يا ذئب يصطحبان |
وقوله (٣) :
هو السّيف الذى نصر ابن أروى |
|
به عثمان مروان المصابا |
وقوله للوليد بن عبد الملك (٤) :
إلى ملك ما أمّه من محارب |
|
أبوه ولا كانت كليب (٥) تصاهره |
وقوله يمدح هشام بن إسماعيل (٦) :
وما مثله فى الناس إلّا مملّكا |
|
أبو أمّه حىّ أبوه يقاربه |
وقوله :
الشمس طالعة ليست بكاسفة |
|
تبكى عليك نجوم اللّيل والقمرا |
وقوله (٧) :
ما من ندى رجل أحقّ بما أتى |
|
من مكرمات عظائم الأخطار |
من راحتين (٨) يزيد يقدح زنده (٩) |
|
كفّاهما وأشدّ عقد إزار |
وقوله (١٠) :
إذا جئته أعطاك عفوا ولم يكن |
|
على ماله حال الردى مثل سائله |
__________________
(١) أى المعاظلة.
(٢) ديوانه : ١٥٣.
(٣) ديوانه : ٦٤.
(٤) ديوانه : ٦٦.
(٥) فى ط ، ب «كليبا» وصوابه من ا.
(٦) ديوانه : ٢٦.
(٧) ديوانه : ٦٠.
(٨) فى الديوان : من ساعدين.
(٩) فى ط : تريد تقطع زنده.
(١٠) هو لذى الرمة كما فى ديوانه صفحة ٧٠ ، واللسان ـ مادة نعل.
إلى ملك لا تنصف الساق نعله |
|
أجل لا وإن كانت طوالا محامله (١) |
وقال قدامة : لا أعرف المعاظلة إلا فاحش الاستعارة ؛ مثل قول أوس (٢) :
وذات هدم عار نواشرها |
|
تصمت بالماء تولبا جدعا (٣) |
فسمى الصبى تولبا ؛ والتّولب : ولد الحمار.
وقول الآخر (٤) :
وما رقد الولدان حتى رأيته |
|
على البكر يمريه بساق وحافر (٥) |
فسمّى قدم الإنسان حافرا. وهذا غلط من قدامة كبير ؛ لأنّ المعاظلة فى أصل الكلام إنما هى ركوب الشىء بعضه بعضا ؛ وسمى الكلام به إذا لم ينضد نضدا مستويا ، وأركب بعض ألفاظه رقاب بعض ، وتداخلت أجزاؤه ، تشبيها بتعاظل الكلاب والجراد ، على ما ذكرناه ؛ وتسمية القدم بحافر ليست بمداخلة كلام فى كلام ؛ وإنما هو بعد فى الاستعارة.
والدليل على ما قلنا أنك لا ترى فى شعر زهير شيئا من هذا الجنس ، ويوجد فى أكثر شعر الفحول نحو (٦) ما نفاه عنه عمر رضى الله عنه وحده ؛ فمما وجد منه فى شعر النابغة قوله (٧) :
__________________
(١) هذه رواية اللسان قال : ويروى حمائله ، وفى ديوان ذى الرمة : ترى سيفه. وصفه بالطول.
(٢) اللسان ـ مادة هدم ، ونقد الشعر : ٦١ ، والموشح : ٦٣ ، وهو أوس بن حجر.
(٣) الهدم ، بالكسر : الكساء الذى ضوعفت رقاعه وخص ابن الأعرابى به الكساء البالى من الصوف. والنواشر : عصب الذراع من داخل وخارج ، وقيل : هى العصب التى فى ظاهرها. وقال فى اللسان : ذات بالرفع ، لأنه معطوف على فاعل قبله وهو :
ليبكك الشرب والمدامة وال |
|
فتيان طرا وطامع طمعا |
(٤) الموشح : ٦٤ ، واللسان ـ مادة حفر.
(٥) البكر : الفتى من الإبل. يمريه ـ من مريت الفرس : إذا استخرجت ما عنده من الجرى. والبيت لجبيها الأسدى يصف ضيفا طارقا أسرع إليه ـ كما فى اللسان ـ وقبله :
فأنصر نارى وهى شقراء أوقدت |
|
بليل فلاحت للعيون النواظر |
(٦) فى الأصول : فنحو
(٧) ديوانه : ٦٢.
يثرن الثّرى حتى يباشرن برده |
|
إذا الشمس مجّت ريقها بالكلاكل (١) |
معناه : يثرن الثّرى حتى يباشرن برده بالكلاكل إذا الشمس مجّت ريقها.
وهذا مستهجن جدّا ؛ لأنّ المعنى تعمّى فيه.
وقول الشماخ (٢) :
تخامص عن برد الوشاح إذا مشت |
|
تخامص حافى الخيل فى الأمعز الوجى (٣) |
معناه تخامص الحافى الوجى فى الأمعز.
وقول لبيد :
وشمول قهوة (٤) باكرتها |
|
فى التّباشير مع الصّبح الأول (٥) |
أى فى التباشير الأول مع الصّبح.
وكقول ذى الرمة :
كأنّ أصوات من إيغالهنّ بنا |
|
أواخر الميس أصوات الفراريج (٦) |
يريد كأن أصوات آخر الميس أصوات الفراريج من إيغالهن.
وقوله أيضا :
نضا البرد عنه وهو من ذو جنونه |
|
أجارىّ تصهال وصوت صلاصل (٧) |
كأنه من تخليطه كلام مجنون أو هجر مبرسم (٨) يريد : وهو من جنونه ذو أجارىّ.
__________________
(١) الكلكل والكلكال : الصدر من كل شيء. والبيت فى ديوانه هكذا :
يثرن الحصى حتى يباشرن برده |
|
إذا الشمس مدت ريقها بالكلاكل |
(٢) ديوانه : ٧.
(٣) التخامص : التجافى عن الشىء قاله فى اللسان واستشهد له بالبيت. والأمعز : المكان الذى فيه غلظ وصلابة. ويقال ، وجى الفرس وهو أن يجد وجعا فى حافره.
(٤) القهوة : الخمر.
(٥) روى هذا البيت اللسان ، قال : قال لبيد يصف صاحبا له عرّس فى السفر فأيقظه :
قلما عرس حتى هجته |
|
بالتباشير من الصبح الأول |
قال : والتباشير : طرائق ضوء الصبح فى الليل.
(٦) الميس : الرحل. الإيغال : السير السريع.
(٧) يقال : فرس ذو أجارى : أى ذو فنون فى الجرى.
(٨) المبرسم : المصاب بعلة البرسام.
وكقول أبى حية النميرى (١) :
كما خطّ الكتاب بكفّ يوما |
|
يهودىّ يقارب أو يزيل |
يريد : كما خط الكتاب بكف يهودىّ يوما يقارب أو يزيل.
وقول الآخر (٢) :
هما أخوا فى الحرب من لا أخا له |
|
إذا خاف يوما نبوة فدعاهما |
يريد : أخوا من لا أخ له فى الحرب.
وليس للمحدث أن يجعل هذه الأبيات حجّة ، ويبنى عليها ؛ فإنه لا يعذر فى شيء منها ، لاجتماع الناس اليوم على مجانبة أمثالها ، واستجادة ما يصحّ من الكلام ويستبين ، واسترذال ما يشكل ويستبهم.
فمن الكلام المستوى النظم ، الملتئم الرّصف قول بعض العرب (٣) :
أيا شجر الخابور مالك مورقا |
|
كأنك لم تحزن (٤) على ابن طريف |
فتى لا يحبّ الزّاد إلّا من التّقى |
|
ولا المال إلّا من قنا وسيوف |
ولا الخيل (٥) إلا كلّ جرداء شطبة |
|
وأجرد شطب فى العنان خنوف (٦) |
كأنك لم تشهد طعانا (٧) ولم تقم |
|
مقاما على الأعداء غير خفيف |
فلا تجزعا يا بنى طريف (٨) فإنّنى |
|
أرى الموت حلالا (٩) بكلّ شريف |
والمنظوم الجيد ما خرج مخرج المنثور فى سلاسته ، وسهولته واستوائه ، وقلة ضروراته ؛ ومن ذلك قول بعض المحدثين :
__________________
(١) الموشح : ٢٢٧.
(٢) قال فى الموشح ـ ٢٢٧ : ومثله لامرأة من بنى قيس.
(٣) معاهد التنصيص : ٣ ـ ١٥٩. وقد نسب هذه الأبيات إلى ليلى بنت طريف الشيبانى ترثى أخاها.
(٤) فى معاهد التنصيص : لم تجزع.
(٥) فى المعاهد :
ولا الذخر إلا كل جرداء صلدم |
|
معاودة للكر بين صفوف |
(٦) الخنوف : الفرس الذى يلوى حافره.
(٧) فى المعاهد : هناك.
(٨) فى المعاهد : عليه سلام الله وقفا ...
(٩) فى المعاهد : وقاعا.
وقوفك تحت ظلال السيوف |
|
أقر الخلافة فى دارها |
كأنك مطّلع فى القلوب |
|
إذا ما تناجت بأسرارها |
فكرّات طرفك مردودة |
|
إليك بغامض أخبارها |
وفى راحتيك الرّدى والنّدى |
|
وكلتاهما طوع ممتارها |
وأقضية الله محتومة |
|
وأنت منفّذ أقدارها |
ولا تكاد القصيدة تستوى أبياتها فى حسن التأليف ، ولا بدّ أن تتخالف ؛ فمن ذلك قول عبيد بن الأبرص (١) :
وقد علا لمّتى شيب فودّعنى |
|
منه الغوانى وداع الصّارم القالى |
وقد أسلّى همومى حين تحضرنى |
|
بجسرة كعلاة القين شملال (٢) |
زيّافة بقتود الرّحل ناجية |
|
تفرى الهجير بتبغيل وإرقال (٣) |
وفيها :
تحتى مسوّمة جرداء عجلزة |
|
كالسّهم أرسله من كفّه الغالى (٤) |
والشّيب شين لمن أرسى بساحته |
|
لله درّ سواد اللمّة الخالى |
فهذا نظم حسن وتأليف مختار.
وفيها ما هو رديء لا خير فيه ، وهو قوله :
بان الشّباب فآلى لا يلمّ بنا |
|
واحتلّ بى من مشيب كل (٥) محلال |
__________________
(١) ديوان المختار من شعراء العرب : ٩٧.
(٢) الجسرة : الناقة إذا كانت طويلة ضخمة. والعلاة : السندان ، أى ما يضرب عليه الحداد الحديد ، ويقال للناقة علاة : تشبه بها فى صلابتها. والشملال : الخفيفة السريعة.
(٣) الزيافة : الناقة المختالة. والقتود ، بفتح القاف : خشب الرحل. وفى ط : بقدود الرحل ، أى سيوره. والتبغيل والإرقال : ضربان من السير.
(٤) المسومة : المعلمة بعلامة. والعجلزة : الصلبة. والغالى : الذى يغلو بسهمه أى يباعد به فى الرمى (اللسان ـ مادة غلا).
(٥) فى ديوان مختارات العرب : أىّ.
وقوله :
فبت (١) ألعبها طورا (٢) وتلعبنى |
|
ثم انصرفت وهى منّى على بال (٣) |
قوله : «واحتل بى من مشيب كلّ محلال» بغيض خارج عن طريقة الاستعمال وأبغض منه قوله : «وهى منى على بال».
وفيها :
وكبش ملمومة باد نواجذها |
|
شهباء ذات سرابيل وأبطال (٤) |
السرابيل : الدروع ، فلو وضع السيوف موضع الدروع لكان أجود.
وفيها :
أوجرت جفرته خرصا فمال به |
|
كما انثنى خضد من ناعم الضّال (٥) |
النصف الثانى أكثر ماء من النصف الأول.
وفيها :
وقهوة كرضاب (٦) المسك طال بها |
|
فى دنّها كرّ حول بعد أحوال |
هذا البيت متوسط.
باكرتها قبل أن يبدو الصّباح لنا |
|
فى بيت منهمر الكفّين مفضال |
النصف الثانى أجود من النصف الأول.
__________________
(١) فى الديوان : قد بت.
(٢) فى الديوان : وهنا.
(٣) ألعبها ، ألعب المرأة : جعلها تعلب ، أو جاءها بما تلعب به ، وقد استدل اللسان على هذين المعنيين ببيت عبيد.
(٤) الكبش من القوم : رئيسهم. والملمومة : الكتيبة المجتمعة المضموم بعضها إلى بعض.
(٥) أوجره الرمح : طعنه به فى فيه. والجفرة : وسط كل شيء ومعظمه ، والخرص : سنان الرمح ، وتجوز فيه الحركات الثلاث. والخضد : ما قطع من عود رطب. والضال : السدر البرى والمخضود منه الذى قطع شوكه. وهذا البيت اضطربت الأصول فى روايته ، وما أثبتناه موافق لما فى المختارات واللسان ـ مادة خرص ، خضد.
(٦) فى الديوان : كرفات.
وقوله :
أما إذا دعيت نزال (١) فإنهم |
|
يجثون للركبات فى الأبدان |
هذا رديء الرّصف.
وبعده :
فخلدت بعدهم ولست بخالد |
|
والدهر ذو غير وذو ألوان |
متوسط.
وبعده :
إلّا لأعلم ما جهلت بعقبهم (٢) |
|
وتذكّرى ما فات أىّ أوان |
مختلّ النظم ، ومعناه لست بخالد إلا لأعلم ما جهلت ، وتذكرى ما فات ، أىّ أوان كان.
وقول النمر بن تولب (٣) :
لعمرى لقد أنكرت نفسى ورابنى |
|
مع الشيب أبدالى التى أتبدل |
فضول أراها فى أديمى بعد ما |
|
يكون كفاف اللّحم أو هو أفضل (٤) |
بطىء عن الدّاعى ، فلست بآخذ |
|
سلاحى إليه مثل ما كنت أفعل (٥) |
كأنّ محطّا فى يدى حارثيّة |
|
صناع علت منى به الجلد من عل (٦) |
تدارك ما قبل الشباب وبعده |
|
حوادث أيّام تمرّ وأغفل (٧) |
يودّ الفتى طول السّلامة والغنى |
|
فكيف ترى طول السلامة تفعل |
__________________
(١) نزال : مثل قطام بمعنى انزل ، وهو معدول عن المنازلة. وفى ط : «يحدون» ، صوابه عن ب
(٢) عقب كل شيء : آخره.
(٣) جمهرة أشعار العرب : ١٩٦.
(٤) اللسان ـ مادة كفف ، وفيه : أو هو أجمل. وأراد بالفضول : تغضن جلده لكبره بعد ما كان مكتنز اللحم.
(٥) أورده فى الجمهرة بعد قوله :
وكنت صفى النفس لا شيء دونه |
|
وقد صرت من إقصا حبيبى أذهل |
(٦) المحط : الذى يوشم به ، وقيل : الحديدة التى تكون مع الخرازين ينقشون بها الأديم ، والبيت فى اللسان ـ مادة حطط.
(٧) فى الجمهرة : «تضر وأعقل».
يردّ (١) الفتى بعد اعتدال وصحّة |
|
ينوء إذا رام القيام ويحمل |
فهذه الأبيات جيدة السبك حسنة الرصف.
وفيها :
فلا الجارة الدّنيا لها تلحينّها (٢) |
|
ولا الضيف فيها إن أناخ محوّل |
فالنّصف الأول مختلّ ؛ لأنه خالف فيه وجه الاستعمال (٣) ؛ ووجهه أن يقول :
فهى لا تلحى الجارة الدنيا ، أى القريبة.
وكذلك قوله :
إذا هتكت أطناب بيت وأهله |
|
بمعطنها لم يوردوا الماء قيّلوا (٤) |
هذا مضطرب لتناوله المعنى من بعيد. ووجه الكلام أن يقول : إذا دنت إبلنا من حىّ ولم ترد إبلهم الماء قيلوا من إبلنا. والقيل : شرب نصف النهار.
وأشدّ اضطرابا منه قوله :
وما قمعنا فيه الوطاب وحولنا |
|
بيوت علينا كلها فوه مقبل (٥) |
ووجه الكلام : أن يقول : لسنا نحقن اللبن فنجعل الأقماع فى الوطاب ، لأنّ حولنا بيوت أفواههم مقبلة علينا ، يرجون خيرنا ؛ فاضطرب نظم هذه الأبيات لعدو لها عن وجه الاستعمال.
__________________
(١) فى الجمهرة : يود ، ثم قال شارحها : يحمل فى آخر البيت مبنى للمعلوم ، وفسره بأنه يريد أنه يحمل السلاح. وبعض هذه الأبيات سبق فى صفحة ٣٨
(٢) تلومها.
(٣) لأنه أدخل النون التى للتوكيد.
(٤) المعطن : مبرك الإبل حول الحوض ، ورواية البيت فى الجمهرة :
إذا هتكت أطناب بيت ـ وأهله |
|
بمعظمها ـ لم يورد الماء أقبل |
(٥) فى الجمهرة :
وأقمعنا فيها الوطاب وحولنا |
|
.... مقفل |
والوطب : الزق الذى يكون فيه السمن واللبن.
ومثله :
رأت أمّنا كيصا يلفّف وطبه |
|
إلى الأنس البادين فهو مزمّل (١) |
فقالت فلان قد أغاث عياله (٢) |
|
وأودى عيال آخرون فهزّلوا |
ألم يك ولدان أعانوا ومجلس |
|
قريب فيجرى إذ يكفّ ويجمل (٣) |
الكيص : الذى ينزل وحده. والوطب : وعاء اللبن. والأنس البادون : أهله لأنه يرده إليهم ، فمنهم من يتذمم فيسقى لبنه ومنهم من يرده كيصا مثل فعل الذى ينزل وحده. مزمل : مبرد (٤).
فهذه الأبيات سمجة الرّصف ؛ لأنّ الفصيح إذا أراد أن يعبّر عن هذه المعانى ، ولم يسامح نفسه عبّر عنها بخلاف ذلك.
وكان القوم لا ينتقد عليهم ، فكانوا يسامحون أنفسهم فى الإساءة.
فأما مثال الحسن الرّصف من الرسائل فكما كتب بعضهم : ولو لا أنّ أجود الكلام ما يدلّ قليله على كثيره ، وتغنى جملته عن تفصيله ، لوسّعت نطاق القول فيما أنطوى عليه من خلوص المودّة ، وصفاء المحبة ؛ فجال مجال الطّرف فى ميدانه ، وتصرّف تصرّف الرّوض فى افتنانه ؛ لكن البلاغة بالإيجاز أبلغ من البيان بالإطناب.
ومن تمام حسن الرصف أن يخرج الكلام مخرجا يكون له فيه طلاوة وماء ، وربما كان الكلام مستقيم الألفاظ ، صحيح المعانى ؛ ولا يكون له رونق ولا رواء ؛ ولذلك قال الأصمعى لشعر لبيد : كأنه طيلسان طبرانى ، أى هو محكم الأصل ولا رونق له.
__________________
(١) رواية اللسان فى مادة كيص :
رأت رجلا كيصا يلفف وطبه |
|
فيأتى به البادين وهو مزمل |
وقال فى اللسان بعد أن فسر الكيص بالرجل الأشر وذكر البيت : يحتمل أن تكون ألف كيصا للإلحاق ، ويحتمل أن تكون التى هى عوض من التنوين فى النصب.
(٢) فى الجمهرة : قد أعاش عياله.
(٣) فى الجمهرة : فنخزى إذا كنا نحل ونحمل.
(٤) المزمل : المغطى. وزمل الشىء : أخفاه.
والكلام إذا خرج فى غير تكلّف وكد وشدّة تفكر وتعمّل كان سلسا سهلا ، وكان له ماء ورواء ورقراق ، وعليه فرند (١) لا يكون على غيره مما عسر بروزه واستكره خروجه ؛ وذلك مثل قول الحطيئة (٢) :
هم القوم الذين إذا ألمّت |
|
من الأيام مظلمة أضاءوا |
وقوله :
لهم فى بنى الحاجات أيد كأنّها |
|
تساقط ماء المزن فى البلد القفر |
وكقول أشجع :
قصر عليه تحية وسلام |
|
نشرت عليه جمالها الأيّام |
وإذا سيوفك صافحت هام العدا |
|
طارت لهنّ عن الفراخ الهام |
برقت سماؤك للعدوّ فأمطرت |
|
هاما لها ظلّ السيوف غمام |
رأى الإمام وعزمه وحسامه |
|
جند وراء المسلمين قيام |
وكقول النمر :
خاطر بنفسك كى تصيب غنيمة |
|
إنّ الجلوس مع العيال قبيح |
فالمال فيه تجلّة ومهابة |
|
والفقر فيه مذلة وقبوح (٣) |
وكقول الآخر :
نامت جدودهم وأسقط نجمهم |
|
والنجم يسقط والجدود تنام |
وكقول الآخر :
لعن الإله تعلّة بن مسافر |
|
لعنا يشنّ عليه من قدّام |
ففى هذه الأبيات مع جودتها رونق ليس فى غيرها مما يجرى مجراها فى صحة المعنى وصواب اللفظ.
__________________
(١) الفرند : وشى السيف.
(٢) المختار من ديوان العرب : ١٢٢.
(٣) القبوح : مصدر كالقبح : ضد الحسن.
ومن الكلام الصحيح المعنى واللفظ ، القليل الحلاوة العديم الطلاوة قول الشاعر :
أرى رجالا بأدنى الدّين قد قنعوا |
|
ولا أراهم رضوا فى العيش بالدّون |
فاستغن بالله عن دنيا الملوك كما اس |
|
تغنى الملوك بدنياهم عن الدّين |
ومن الشعر المستحسن الرونق قول دعبل (١) :
وإنّ امرأ أمست مساقط رحله |
|
بأسوان لم يترك له الحرص معلما |
حللت محلّا يقصر البرق دونه |
|
ويعجز عنه الطيف أن يتجشّما |
__________________
(١) تقدم ذكرهما فى صفحة ٥٦.
الباب الخامس
فى ذكر الإيجاز والإطناب (فصلان)
الفصل الأول
من الباب الخامس فى ذكر الإيجاز
الإيجاز |
قال أصحاب الإيجاز : الإيجاز قصور البلاغة على الحقيقة ، وما تجاوز مقدار الحاجة فهو فضل داخل فى باب الهذر والخطل ، وهما من أعظم أدواء الكلام ، وفيهما دلالة على بلادة صاحب الصناعة.
تفضيل الإيجاز |
وفى تفضيل الإيجاز يقول جعفر بن يحيى لكتّابه : إن قدرتم أن تجعلوا كتبكم توقيعات فافعلوا.
وقال بعضهم : الزيادة فى الحدّ نقصان. وقال محمد الأمين : عليكم بالإيجاز فإنّ له إفهاما ، وللإطالة استبهاما. وقال شبيب بن شبة : القليل الكافى خير من كثير غير شاف. وقال آخر : إذا طال الكلام عرضت له أسباب التكلّف ، ولا خير فى شيء يأتى به التكلّف. وقد قيل لبعضهم : ما البلاغة؟ فقال : الإيجاز. قيل : وما الإيجاز؟ قال : حذف الفضول ، وتقريب البعيد.
وسمع رسول الله صلىاللهعليهوسلم رجلا يقول لرجل : كفاك الله ما أهمّك. فقال : هذه البلاغة. وسمع آخر يقول : عصمك الله من المكاره. فقال : هذه البلاغة. وقوله صلىاللهعليهوسلم : أوتيت جوامع الكلم.
وقيل لبعضهم : لم لا تطيل الشّعر؟ فقال : حسبك من القلادة ما أحاط بالعنق. وقيل ذلك لآخر ، فقال : لست أبيعه مذارعة.
وقيل للفرزدق : ما صيّرك إلى القصائد القصار بعد الطوال؟ فقال : لأنى رأيتها فى الصدور أوقع ، وفى المحافل أجول.
وقالت بنت الحطيئة لأبيها : ما بال قصارك أكثر من طوالك؟ فقال : لأنها فى الآذان أولج ، وبالأفواه أعلق. وقال أبو سفيان لابن الزبعرى : قصرت فى شعرك؟ فقال : حسبك من الشّعر غرّة لائحة ، وسمة واضحة.
وقيل للنابغة الذبيانى : الا تطيل القصائد كما أطال صاحبك ابن حجر؟ فقال : من انتحل انتقر (١).
وقيل لبعض المحدثين : مالك لا تزيد على أربعة واثنين؟ قال : هنّ بالقلوب أوقع ، وإلى الحفظ أسرع ، وبالألسن أعلق ، وللمعانى أجمع ، وصاحبها أبلغ وأوجز.
وقيل لابن حازم : ألا تطيل القصائد؟ فقال :
أبى لى أن أطيل الشعر قصدى |
|
إلى المعنى وعلمى بالصّواب |
وإيجازى بمختصر قريب |
|
حذفت به الفضول من الجواب |
فابعثهنّ أربعة وستّا |
|
مثقفة بألفاظ عذاب |
خوالد ما حدا ليل نهارا |
|
وما حسن الصّبا بأخى الشّباب |
وهنّ إذا وسمت بهنّ قوما |
|
كأطواق الحمائم فى الرّقاب |
وكنّ إذا أقمت مسافرات |
|
تهاداها الرّواة مع الرّكاب (٢) |
وقال أمير المؤمنين علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه : ما رأيت بليغا قطّ إلّا وله فى القول إيجاز ، وفى المعانى إطالة.
وقيل لإياس بن معاوية : ما فيك عيب غير أنك كثير الكلام. قال : أفتسمعون صوابا أم خطأ؟ قالوا : بل صوابا. قال : فالزيادة من الخير خير. وليس كما قال ؛ لأنّ للكلام غاية ؛ ولنشاط السامعين نهاية ؛ وما فضل عن مقدار الاحتمال دعا إلى
__________________
(١) الانتقار : الاختيار.
(٢) هذا البيت لم يرد فى ا ، ب وفى ط : تهاداه.
الاستثقال ، وصار سببا للملال ؛ فذلك هو الهذر والإسهاب والخطل ، وهو معيب عند كل لبيب.
وقال بعضهم : البلاغة بالإيجاز أنجع من البيان بالإطناب. وقال : المكثار كحاطب الليل. وقيل لبعضهم : من أبلغ الناس؟ قال : من حلى المعنى المزير باللفظ الوجيز ، وطبّق المفصل قبل التحزيز.
المزيز : الفاضل ، والمزّ : الفضل. وقوله : «وطبّق المفصل قبل التّحزيز» : مأخوذ من كلام معاوية رضى الله عنه وهو قوله لعمرو بن العاص لما أقبل أبو موسى : يا عمرو ؛ إنه قد ضمّ إليك رجل طويل اللسان ، قصير الرأى والعرفان ؛ فأقلل الحزّ ، وطبّق المفصل ، ولا تلقه بكلّ رأيك. فقال عمرو : أكثر من الطعام ، وما بطن قوم إلا فقدوا بعض عقولهم.
والإيجاز : القصر والحذف.
نوعا الإيجاز |
فالقصر تقليل الألفاظ ، وتكثير المعانى ؛ وهو قول الله عزوجل : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ).
ويتبيّن فضل هذا الكلام إذا قرنته بما جاء عن العرب فى معناه ، وهو قولهم : «القتل أنفى للقتل». فصار لفظ القرآن فوق هذا القول لزيادته عليه فى الفائدة ، وهو إبانة العدل لذكر القصاص وإظهار الغرض المرغوب عنه فيه لذكر الحياة ، واستدعاء الرّغبة والرّهبة لحكم الله به ولإيجازه فى العبارة. فإنّ الذى هو نظير قولهم : «القتل أنفى للقتل» إنما هو : «القصاص حياة» وهذا أقلّ حروفا من ذاك ، ولبعده من الكلفة بالتكرير ، وهو قولهم : «القتل أنفى للقتل». ولفظ القرآن بريء من ذلك ، وبحسن التأليف وشدة التلاؤم المدرك بالحسّ ؛ لأنّ الخروج من الفاء إلى اللام أعدل من الخروج من اللام إلى الهمزة.
ومن القصر أيضا قوله تعالى : (إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ
عَلى بَعْضٍ) لا يوازى هذا الكلام فى الاختصار شيء. وقوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ). وقوله عزّ اسمه : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) وإنما كان سوء عاقبة المكر والبغى راجعا عليهم وحائقا بهم ، فجعله للبغى والمكر اللّذين هما من فعلهم إيجازا واختصارا. وقوله سبحانه : (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً».) وقوله تعالى : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ). وقوله تعالى : (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا) تحيّر فى فصاحته جميع البلغاء ، ولا يجوز أن يوجد مثله فى كلام البشر. وقوله تعالى : (وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ). وقوله تعالى : (يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي) الآية .. تتضمّن مع الإيجاز والفصاحة دلائل القدرة. وقوله تعالى : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) كلمتان استوعبتا جميع الأشياء على غاية الاستقصاء. وروى أنّ ابن عمر رحمهالله قرأها ، فقال : من بقى له شيء فليطلبه. وقوله تعالى : (وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ) اختلاف اللغات والمناظر والهيئات. وقوله تعالى فى صفة خمر أهل الجنّة : (لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ) انتظم قوله سبحانه (ولا ينزفون) عدم العقل وذهاب المال ونفاد الشراب. وقوله تعالى : (أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ) دخل تحت الأمن جميع المحبوبات ؛ لأنه نفى به أن يخافوا شيئا أصلا من الفقر والموت وزوال النّعمة والجور ، وغير ذلك من أصناف المكاره ؛ فلا ترى كلمة أجمع من هذه.
وقوله عزوجل : (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ) جمع أنواع التّجارات ، وصنوف المرافق التى لا يبلغها العدّ والإحصاء. ومثله قوله سبحانه : (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ) جمع منافع الدنيا والآخرة.
وقوله تعالى : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) ثلاث كلمات تشتمل على أمر الرسالة وشرائعها وأحكامها على الاستقصاء ؛ لما فى قوله «فاصدع» من الدلالة على التأثير ، كتأثير الصدع.
وقوله تعالى : (وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) ثلاث كلمات اشتملت على عواقب الدنيا والآخرة.
وقوله تعالى : (وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) وإنما ذكر الساكن ولم يذكر المتحرّك ؛ لأنّ سكون الأجسام الثقيلة مثل الأرض والسماء فى الهواء من غير علاقة ودعامة أعجب وأدلّ على قدرة مسكنها.
وقوله عزوجل : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) فجمع جميع مكارم الأخلاق بأسرها ؛ لأنّ فى العفو صلة القاطعين ، والصفح عن الظالمين ، وإعطاء المانعين ، وفى الأمر بالعرف تقوى الله وصلة الرّحم ، وصون اللسان عن الكذب ، وغضّ الطّرف عن الحرمات ، والتبرّؤ من كل قبيح ؛ لأنه لا يجوز أن يأمر بالمعروف وهو يلابس شيئا من المنكر ؛ وفى الإعراض عن الجاهلين الصّبر والحلم وتنزيه النفس عن مقابلة السفيه بما يوتغ (١) الدين ويسقط القدرة.
وقوله تعالى : (أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها) ؛ فدلّ بشيئين على جميع ما أخرجه من الأرض قوتا ومتاعا للناس ، من العشب والشجر والحطب واللباس والنّار والملح والماء ؛ لأنّ النار من العيدان ، والملح من الماء ، والشاهد على أنّه أراد ذلك كلّه قوله تعالى : (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ).
وقوله تعالى : (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) ، فانظر هل يمكن أحدا من أصناف المتكلمين إيراد هذه المعانى فى مثل هذا القدر من الألفاظ.
وقوله عزوجل : (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) جمع الأشياء كلها حتى لا يشذّ منها شيء على وجه.
وقوله تعالى : (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) جمع فيه من نعم الجنة ما لا تحصره الأفهام ، ولا تبلغه الأوهام.
__________________
(١) الوتغ ، بالتحريك : الهلاك ، والإثم ، وفساد الدين.
(١٢ ـ الصناعتين)
وقول رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إياكم وخضراء الدّمن» (١). وقوله صلىاللهعليهوسلم : «حبّك الشىء يعمى ويصم». وقوله صلىاللهعليهوسلم : «إنّ من البيان لسحرا». وقوله عليه الصلاة والسلام : «مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلمّ» (٢). وقوله صلىاللهعليهوسلم : «الصحة والفراغ نعمتان». وقوله عليه الصلاة والسلام : «نيّة المؤمن خير من عمله». وقوله صلىاللهعليهوسلم : «ترك الشرّ صدقة». وقوله صلىاللهعليهوسلم : «الحمى فى أصول النخل».
فمعانى هذا الكلام أكثر من الفاظه ، وإذا أردت أن تعرف صحّة ذلك فحلها وابنها بناء آخر ؛ فإنّك تجدها تجيء فى أضعاف هذه الألفاظ.
قوله صلىاللهعليهوسلم : «إذا أعطاك الله خيرا فليبن عليك ، وابدأ بمن تعول ، وارتضخ من الفضل ، ولا تلم على الكفاف ، ولا تعجز عن نفسك».
وقوله صلىاللهعليهوسلم : «فليبن عليك» أى فليظهر أثره عليك بالصدقة والمعروف ، ودلّ على ذلك بقوله : «وابدأ بمن تعول ، وارتضخ من الفضل» ، أى اكسر من مالك وأعط ، واسم الشىء الرضيخة. «ولا تعجز عن نفسك» أى لا تجمع لغيرك وتبخل عن نفسك ، فلا تقدّم خيرا.
وقول أعرابى : اللهم هب لى حقك ، وأرض عنى خلقك.
__________________
(١) الدمن : جمع دمنة والأصل فيه ما تدمنه الإبل والغنم من أبعارها وأبوالها ، أى تلبده فى مرابضها ، فربما نبت فيها الكلأ يرى له غضارة وهو وبيء المرعى منتن الأصل ، شبه به المرأة الحسناء فى المنبت السوء ؛ لأن تمام الحديث : قيل : وما ذاك؟ قال : المرأة الحسناء فى المنبت السوء.
(٢) والحبط : أن تأكل الماشية فتكثر حتى تنتفخ لذلك بطونها ولا تخرج عنها ما فيها. والحديث جاء فى اللسان فى مادة حبط. وفيه : إن قوله صلىاللهعليهوسلم : إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا. مثل الحريص والمفرط فى الجمع والمنع. وذلك أن الربيع ينبت أحرار العشب التى تحلوليها الماشية فتستكثر منها حتى تنتفخ بطونها وتهلك ، كذلك الذى يجمع الدنيا ويحرص عليها ويشح على ما جمع حتى يمنع ذا الحق حقه منها ، يهلك فى الآخرة بدخول النار واستيجاب العذاب. وارجع إلى مادة حبط فى اللسان ففيها بحث حول هذا الحديث مستفيض.
وقال آخر : أولئك قوم جعلوا أموالهم مناديل لأعراضهم ؛ فالخير بهم زائد ، والمعروف لهم شاهد ؛ أى يقون أعراضهم بأموالهم.
وقيل لأعرابى يسوق مالا كثيرا : لمن هذا المال؟ فقال : لله فى يدى.
وقال أعرابى لرجل يمدحه : إنه ليعطى عطاء من يعلم أنّ الله مادته.
وقول آخر : أما بعد فعظ الناس بفعلك ، ولا تعظهم بقولك ، واستحى من الله بقدر قربه منك ، وخفه بقدر قدرته عليك.
وقال آخر : إن شككت فاسأل قلبك عن قلبى.
المساواة |
ومما يدخل فى هذا الباب المساواة ، وهو أن تكون المعانى بقدر الألفاظ ، والألفاظ بقدر المعانى لا يزيد بعضها على بعض ، وهو المذهب المتوسط بين الإيجاز والإطناب ؛ وإليه أشار القائل بقوله : كأنّ ألفاظه قوالب لمعانيه ؛ أى لا يزيد بعضها على بعض.
فما فى القرآن من ذلك قوله عزوجل : (حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ)(١). وقوله تعالى : (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ)(٢). ومثله كثير.
ومن كلام النبى صلىاللهعليهوسلم : «لا تزال أمتى بخير ما لم تر الأمانة مغنما والزكاة مغرما». وقوله صلىاللهعليهوسلم : «إياك والمشارّة فإنها تميت الغرّة وتحيى العرّة» (٣).
ومن ألفاظ هذه الفصول ما كانت معانيه أكثر من ألفاظه ، وإنما يكره تميزها كراهة الإطالة.
ومن نثر الكتّاب قول بعضهم : سألت عن خبرى وأنا فى عافية لا عيب فيها إلا فقدك ، ونعمة لا مزيد فيها إلا بك.
__________________
(١) مقصورات : أى محبوسات على أزواجهن.
(٢) قال فى اللسان عن الفراء (ودوا لو تدهن فيدهنون) بمعنى ودوا لو تكفر فيكفرون. وقيل : ودوا لو تصانعهم فى الدين فيصانعونك.
(٣) المشارة : المفاعلة من الشر أى لا تفعل به شرا فتحوجه إلى أن يفعل بك مثله. والغرة : الحسن والعمل الصالح. والعرة : القذر واستعير للمساويء والمثالب.
وقوله : علمتنى نبوتك سلوتك ، وأسلمنى يأسى منك إلى الصّبر عنك. وقوله : فحفظ الله النعمة عليك وفيك ، وتولّى إصلاحك والإصلاح لك ، وأجزل من الخير حظّك والحظّ منك ، ومنّ عليك وعلينا بك.
وقال آخر : يئست من صلاحك بى ، وأخاف فسادى بك ، وقد أطنب فى ذم الحمار من شبّهك به.
ومن المنظوم قول طرفة (١) :
ستبدى لك الأيام ما كنت جاهلا |
|
ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد |
وقول الآخر :
تهدى الأمور بأهل الرّأى ما صلحت |
|
فإن تأبّت فبالأشرار تنقاد |
وقول الآخر :
فأمّا الّذى يحصيهم فمكثّر |
|
وأمّا الّذى يطريهم فمقلّل |
وقول الآخر (٢) :
أهابك إجلالا وما بك قدرة |
|
علىّ ولكن ملء عين حبيبها |
وما هجرتك النّفس أنك عندها |
|
قليل ، ولكن قلّ منك نصيبها |
وقول الآخر :
أصدّ بأيدى العيس عن قصد أهلها |
|
وقلبى إليها بالمودّة قاصد |
وقول الآخر :
يقول أناس لا يضيرك فقدها |
|
بلى كل ما شفّ النفوس يضيرها (٣) |
وقال الآخر :
يطول اليوم لا ألقاك فيه |
|
وحول نلتقى فيه قصير |
__________________
(١) جمهرة شعراء العرب : ١٤٧. الشعر والشعراء : ١٤٥.
(٢) ديوان الحماسة : ٣ ـ ٣٠٤.
(٣) يضير : يضر.