أبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري
المحقق: علي محمد البجاوي ومحمد ابوالفضل ابراهيم
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٨
قصّر. ومنهم من إذا كتب أحسن ، وإذا حاور وأملى أساء. ومنهم من يحسن فى جميع هذه الحالات. ومنهم من يسيء فيها كلّها.
فأحسن حالات المسيء الإمساك ، وأحسن حالات المحسن التوسّط ؛ فإنّ الإكثار يورث الإملال ، وقلّما ينجو صاحبه من الزّلل والعيب والخطل (١).
وليس ينبغى للمحسن فى أحد هذه الفنون المسيء فى غيرها أن يتجاوز ما هو محسن فيه إلى ما هو مسىء فيه ؛ فإن اضطر فى بعض الأحوال إلى تجاوزه فخير سبله فيه قصد الاختصار ، وتجنّب الإكثار والإهذار ؛ ليقلّ السقط فى كلامه ، ولا يكثر العيب فى منطقه.
وقيل لابن المقفّع : لم لا تطيل القصائد؟ قال : لو أطلنها عرف صاحبها. يريد أن المحدث يتشبّه بالقديم فى القليل من الكلام ، فإذا أطال اختلّ ، فعرف أنه كلام مولّد. على أن السابق فى ميادين البلاغة إذا أكثر سقط ، فكيف المقصّر عن غايتها ، والمتخلّف عن أمدها؟
ومن تمام آلات البلاغة التوسّع فى معرفة العربية ، ووجوه الاستعمال لها ؛ والعلم بفاخر الألفاظ وساقطها ، ومتخيّرها ، ورديئها ؛ ومعرفة المقامات ، وما يصلح فى كل واحد منها من الكلام ، إلى غير ذلك مما سنذكره فى الباب الثانى عند ذكر صنعة الكلام إن شاء الله.
وقوله (٢) : وهو «أن يكون الخطيب رابط الجأش» ساكن النفس جدا ؛ لأنّ الحيرة والدّهش (٣) يورثان الحبسة والحصر (٤) ؛ وهما سبب الإرتاج والإجبال (٥).
__________________
(١) الخطل : الخطأ.
(٢) أى حكيم الهند ص ١٩ ، وعبارته هناك : «وذلك أن يكون الخطيب رابط الجأش».
(٣) الدهش : التحير.
(٤) الحبسة : تعذر الكلام عند إرادته.
والحصر : العى فى المنطق.
(٥) أرتج عليه : استغلق عليه الكلام. وأجبل الشاعر : صعب عليه القول.
وقد بلغك ما أصاب عثمان بن عفّان رضى الله عنه أول ما صعد المنبر فأرتج عليه ، فقال : إن اللّذين كانا قبلى كانا يعدّان لهذا المقام مقالا ، وأنتم إلى إمام عادل أحوج منكم إلى إمام قائل ، وستأتيكم الخطبة على وجهها. ثم نزل.
وصعد بعض العرب منبرا بخراسان فأرتج عليه ، فقال حين نزل (١) :
لئن لم أكن فيكم خطيبا فإننى |
|
بسيفى إذا جدّ الوغى لخطيب |
ومن حسن الاعتذار عند الإرتاج ما أخبرنا به أبو أحمد ، قال : أخبرنا الشطنى : قال : أخبرنا الغلابى قال : أخبرنا العتبى عن أبيه ؛ قال : خطب داود بن على ، فحمد الله جلّ وعزّ وأثنى عليه وصلّى على النبى صلىاللهعليهوسلم فلما قال : «أما بعد» ، امتنع عليه الكلام ، ثم قال : أمّا بعد فقد يجد المعسر ، ويعسر الموسر ، ويفلّ الحديد ، ويقطع الكليل ، ؛ وإنّما الكلام بعد الإفحام كالإشراق بعد الإظلام. وقد يعزب البيان ، ويعتقم الصّواب ؛ وإنما اللسان مضغة من الإنسان. يفتر بفتوره إذا نكل ، ويثوب بانبساطه إذا ارتجل. ألا وإنا لا ننطق بطرا ، ولا نسكت حصرا ؛ بل نسكت معتبرين ، وننطق مرشدين ، ونحن بعد أمراء القول ، فينا وشجت (٢) أعراقه ، وعلينا عطفت أغصانه ، ولنا تهدّلت ثمرته. فنتخيّر منه ما احلولى وعذب ، ونطّرح منه ما املولح وخبث ، ومن بعد مقامنا هذا مقام ، وبعد أيامنا أيام ، يعرف فيها فضل البيان ، وفصل الخطاب ، والله أفضل مستعان». ثم نزل (٣).
وعلامة سكون نفس الخطيب ورباطة جأشه هدوؤه فى كلامه ، وتمهّله فى منطقه.
__________________
(١) العقد الفريد : ٤ ـ ٩٦ ، ١٤٧
(٢) وشجت : اشتبكت.
(٣) تروى هذه الخطبة لصالح بن على ، وتروى لأبى العباس السفاح. وانظر زهر الآداب (٢ : ٢٨٥) ، وأمالى المرتضى (٤ : ١٩).
وقال ثمامة : كان جعفر بن يحيى أنطق الناس ، قد جمع الهدوء والتمهّل ، والجزالة والحلاوة. ولو كان فى الأرض ناطق يستغنى عن الإشارة لكانه.
وقوله (١) : «متخيّر الألفاظ». فمدار البلاغة على تخيّر اللفظ ؛ وتخيّره أصعب من جمعه وتأليفه. وسنشبع الكلام فى هذا إن شاء الله.
وقوله : «يكون فى قواه فضل التصرف فى كل طبقة» ، وهو أن يكون صائغ الكلام قادرا على جميع ضروبه ، متمكّنا من جميع فنونه ، لا يعتاص (٢) عليه قسم من جميع أقسامه. فإن كان شاعرا تصرّف فى وجوه الشعر ؛ مديحه وهجائه ومراثيه وصفاته ومفاخره ، وغير ذلك من أصنافه.
ولاختلاف قوى الناس فى الشعر وفنونه ما قيل : كان امرؤ القيس أشعر الناس إذا ركب ، والنابغة إذا رهب ، وزهير إذا رغب ، والأعشى إذا طرب.
وكذلك الكاتب ربما تقدّم فى ضرب من الكتابة وتأخّر فى غيره ، وسهل عليه نوع منها وعسر نوع آخر.
وأخبرنا أبو أحمد عن أبى بكر الصولى ، قال : حدثنا القاسم بن إسماعيل ، قال : حدثنا إبراهيم بن العباس ، قال : سمعت أحمد بن يوسف يقول : أمرنى المأمون أن أكتب إلى النواحى فى الاستكثار من القناديل فى المساجد فى شهر رمضان ، فبتّ لا أدرى كيف أحتذي ، فأتانى آت فى منامى فقال : قل : «فإنّ فى ذلك عمارة للمساجد ، وأنسا للسابلة (٣) ، وإضاءة للمتهجّدين ، ونفيا لمكامن الرّيب ، وتنزيها لبيوت الله جلّ وعزّ عن وحشة الظّلم». فانتبهت وقد انفتح لى ما أريد ، فابتدأت بهذا وأتممت عليه.
والمقدّم فى صنعة الكلام هو المستولى عليه من جميع جهاته ، المتمكّن من
__________________
(١) حكيم الهند ص ١٩.
(٢) لا يعتاص : اعتاص الأمر عليه : اشتد عليه فلم يهتد للصواب.
(٣) السابلة : القوم المختلفون على الطرق المسلوكة.
جميع أنواعه ، وبهذا فضّلوا جريرا على الفرزدق. وقالوا : كان له فى الشعر ضروب لا يعرفها الفرزدق. وماتت امرأته النّوار فناح عليها بشعر جرير (١) :
لو لا الحياء لها جنى استعبار |
|
ولزرت قبرك والحبيب يزار |
وكان البحترى يفضّل الفرزدق على جرير ، ويزعم أنه يتصرّف من المعانى فيما لا يتصرّف فيه جرير ، ويورد منه فى شعره فى كلّ قصيدة خلاف ما يورده فى الأخرى. قال : وجرير يكرّر فى هجاء الفرزدق ذكر الزبير ، وجعثن ، والنوار (٢) ، وأنه قين مجاشع. لا يذكر شيئا غير هذا.
وسئل بعضهم عن أبى نواس ومسلم ؛ فذكر أن أبا نواس أشعر ؛ لتصرّفه فى أشياء من وجوه الشعر وكثرة مذاهبه فيه ، قال : ومسلم جار على ووتيرة واحدة لا يتغيّر عنها.
وأبلغ من هذه المنزلة أن يكون فى قوة صائغ الكلام أن يأتى مرّة بالجزل ، وأخرى بالسهل ؛ فيلين إذا شاء ، ويشتدّ إذا أراد. ومن هذا الوجه فضّلوا جريرا على الفرزدق ، وأبا نواس على مسلم. قال جرير (٣) :
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا |
|
وقت الزيارة فارجعى بسلام |
تجرى السّواك على أغرّ كأنه |
|
برد تحدّر من متون غمام |
فانظر إلى رقّة هذا الكلام. وقال أيضا (٤) :
وابن اللّبون إذا ما لزّ فى قرن |
|
لم يستطع صولة البزل القناعيس (٥) |
فانظر إلى صلابة هذا الكلام.
__________________
(١) ديوانه ١٩٩.
(٢) الزبير وجعثن والنور أسماء كان جرير يعير بها الفرزدق فى شعره. وانظر الموشح ص ١٢٢.
(٣) ديوانه : ٥٥١
(٤) ديوانه : ٣٢٣.
(٥) ابن اللبون : ولد الناقة إذا طعن فى الثالثة. ولز : شد.
والقرن : الحبل. والبزل : واحده بازل : البعير الذى دخل فى السنة التاسعة. والقناعيس : جمع قنعاس : العظيم من الإبل.
والفرزدق يجرى على طريقة واحدة ، والتصرف فى الوجوه أبلغ.
وقال أبو نواس (١) :
قل لذى الوجه الطّرير (٢) |
|
ولذى الرّدف الوثير (٣) |
ولمغلاق همومى |
|
ولمفتاح سرورى |
يا قليلا فى التّلاقى |
|
وكثيرا فى الضّمير |
فانظر إلى سلاسة هذا الكلام وسهولته ، وقال (٤) :
ما هوى إلّا له سبب |
|
يبتدى منه وينشعب (٥) |
فتنت قلبى محجّبة |
|
برداء الحسن تنتقب |
خلّيت والحسن تأخذه |
|
تنتقى منه وتنتخب |
فانتقت منه طرائفه |
|
واستزادت فضل ما تهب |
صار جدّا (٦) ما مزحت به |
|
ربّ جدّ جرّه اللعب |
فهذا أجزل من الأول قليلا. وقال فى صفة الكلب (٧) :
أنعت كلبا جال فى رباطه |
|
جول مصاب فرّ من إسعاطه (٨) |
[عند طبيب خاف من سياطه] |
|
هجنا به وهاج من نشاطه |
كالكوكب الدّرّى فى انحطاطه (٩) |
|
عند تهاوى الشدّ وانبساطه |
يقحّم (١٠) القائد فى حطاطه (١١) |
|
وقدّه البيداء فى اغتباطه (١٢) |
__________________
(١) ديوانه ٤٢١
(٢) الطرير : ذو المنظر والرواء.
(٣) فى الديوان : لذا.
(٤) ديوانه ٣٦١
(٥) ينشعب : يتفرق.
(٦) الجد : ضد الهزل.
(٧) ديوانه ٢٠٧.
(٨) الإسعاط : أسعطه الدواء : أدخله فى أنفه.
(٩) فى الديوان : «انخراطه».
(١٠) قحمته الفرس تقحيما : رمته على وجهه.
(١١) الحطاط : حط البعير حطاطا : اعتمد فى الزمام على أحد شقيه كانحط.
(١٢) قد المسافر الفلاة : خرقها أى قطعها. الاغتباط : التبجح على حسن حال ومسرة. وفى الديوان «الاعتباط» بالعين المهملة ، من قولهم : اعتبطت الريح وجه الأرض قشرته ؛ ونسب ذلك إلى الكلب مبالغة فى شدة عدوه.
لمّا رأى العلهب فى أقواطه |
|
سابحه ومرّ فى التباطه (١) |
كالبرق يقرى المرو بالتقاطه |
|
مثل قلىّ طار فى أنفاطه (٢) |
وانصاع يتلوه على قطاطه |
|
أغضف لا ييأس من خلاطه (٣) |
يصيد بعد البعد وانبساطه |
|
إن لم يبتّ القلب من نياطه (٤) |
فلم يزل يأخذ فى لطاطه |
|
كالصّقر ينقضّ على غطاطه (٥) |
يقشر جلد الأرض من بلاطه (٦) |
|
بأربع يذهب فى إفراطه |
لشدّة الجرى ولاستحطاطه |
|
ما أن يمسّ الأرض فى أشواطه |
قد خدشت رجلاه فى آباطه |
|
وخرق الأذنين بانتشاطه (٧) |
خلج ذراعيه إلى ملاطه |
|
ينقدّ عند الضّيق بانعطاطه (٨) |
فى هبوات الضّيق أو رياطه |
|
فأدرك الظّبى ولم يباطه (٩) |
ولفّ عشرين إلى أشراطه |
|
فلم نزل نقرن فى رباطه |
__________________
(١) العلهب : التيس الطويل القرنين. والأقواط : جمع قوط القطيع من الغنم ، وسابحه أبعد معه فى السير. والالتباط : العدو فى وثب.
(٢) يقال : قروت الأرض وكروتها : تتبعتها. والمرو : حجارة بيض براقة تورى النار. أو أصل الحجارة. والإنفاط من نفطت القدر تنفط ؛ إذا غلت
(٣) انصاع : انفتل راجعا مسرعا. والقطاط : المثال يحذو عليه الحاذى. غضف الكلب أذنه : أرخاها وكسرها. والخلاط : اختلاط الإبل والناس والمواشى.
(٤) البت. القطع.
النياط : معلق كل شيء. وفى الديوان : «فى انتياطه».
(٥) اللطاط : الملازمة. والغطاط بالفتح : القطا أو ضرب منه.
(٦) البلاط : الأرض المستوية الملساء.
(٧) الانتشاط : النشاط وفى الديوان : وخرم.
(٨) الخلج : الجذب والانتزاع ، وهو القشر. والملاط : الجنب. والانعطاط : الثنى من غير كسر. ورواية الديوان :
خلج ذراعيه إلى ملاطه |
|
ينقد عنه الصيق بانعطاطه |
والصيق ، بكسر الصاد : الغبار الجائل فى الهواء.
(٩) الهبوات : جمع هبوة ، بالفتح وهى الغبرة. والرياط : من راط الوحش بالأكمة يروط ويريط ؛ أى لاذ.
ويعجل (١) الشّاوون من خماطه |
|
ويطبخ الطابخ من أسقاطه (٢) |
حتى علا فى الجوّ من شياطه (٣) |
فانظر إليه كيف يتصرّف بين الشدّة واللّين ، ويضع كلّ واحد منهما فى موضعه ، ويستعمله فى حينه.
وقوله : «ولا يكلم سيد الأمّة بكلام الأمة ، ولا الملوك بكلام السّوقة». لأنّ ذلك جهل بالمقامات ، وما يصلح فى كلّ واحد منهما من الكلام. وأحسن الذى قال : لكلّ مقام مقال. وربما غلب سوء الرأى ، وقلة العقل على بعض علماء العربية ؛ فيخاطبون السّوقىّ والمملوك والأعجمىّ بألفاظ أهل نجد ، ومعانى أهل السراة ؛ كأبى علقمة إذ قال لحجّامه : اشدد قصب الملازم (٤) ، وأرهف ظباة المشارط ، وأمرّ المسح ، واستنجل الرشح (٥) ، وخفّف الوطء ، وعجّل النّزع ، ولا تكرهنّ أبيّا ، ولا تمنعنّ أتيّا. فقال له الحجّام : ليس لى علم بالحروب.
ورأى الناس قد اجتمعوا عليه ، فقال : ما لكم تكأكأتم علىّ كأنكم قد تكأكأتم على ذى جنّة ، افرنقعوا (٦) عنى.
وأخبرنا أبو أحمد عن الصولى عن على بن محمد الأسدى ، عن محمد بن أبى المغازل الضبى ، عن أبيه ، قال : كان لنا جار بالكوفة لا يتكلّم إلا بالغريب ، فخرج إلى ضيعة له على حجر (٧) معها مهر ، فأفلتت ، فذهبت ومعها مهرها ، فخرج يسأل
__________________
(١) فى الديوان «ويخمط» ، من خمط اللحم يخمطه خمطا فهو خميط إذا شواه.
(٢) السقط : ما أسقط من الشىء ، وما لا خير منه وجمعه أسقاط.
(٣) شاط : احترق أو نضج حتى كاد يهلك.
(٤) الملازم. جمع ملزم ، بكسر الميم وإسكان اللام : خشبتان تشد أوساطها بحديدة.
(٥) الظبات : واحده ظبة وهى حد سيف أو سنان ونحوه. والمشارط : مبضع الحجام الذى يشرط به الجلد ، واستنجل الرشح : استخرجه. أمر الحبل : أجاد فتله ، والمراد الإحكام.
(٦) تكأكأ ـ بالهمز : تجمع. وافرنقعوا : اذهبوا.
(٧) الحجر : الأنثى من الخيل.
عنها ، فمر بخيّاط ، فقال : يا ذا النّصّاح (١) ، وذات السّمّ (٢) ؛ الطاعن بها فى غير وغى ، لغير عدى ؛ هل رأيت الخيفانة القبّاء (٣) ، يتبعها الحاسن المسرهفّ (٤). كأنّ غرّته القمر الأزهر ، ينير فى حضره كالخلّب الأجرد. فقال الخيّاط : اطلبها فى تزلخ (٥). فقال : ويلك. وما تقول قبّحك الله؟ فما أعلم رطانتك. فقال : لعن الله أبغضنا لفظا ، وأخطأنا منطقا.
ومثله ما أخبرنا به أبو أحمد عن أبى بكر الصولى قال : حدثنا أحمد بن إسماعيل ، قال حدثنى سعيد بن حميد ، قال : نظر رجل إلى أبى علقمة ، وتحته بغل مصرى حسن المنظر ؛ فقال : إن كان مخبر هذا البغل كمنظره فقد كمل. فقال أبو علقمة : والله لقد خرجت عليه من مصر ، فتنكّبت الطريق ، مخافة السّراق ، وجور السلطان ؛ فبينما أنا أسير فى ليلة ظلماء قتماء طخياء (٦) مدلهمّة حندس (٧) داجية ، فى صحصح (٨) أملس ، إذ أحسّ بنبأة (٩) من صوت نغر (١٠) ، أو طيران ضوع (١١) ، أو نغض سبد (١٢) ؛ فحاص عن الطريق متنكّبا لعزّة نفسه ، وفضل قوّته ، فبعثته باللّجام فعسل (١٣) ، وحرّكته بالركاب فنسل (١٤). وانتعل الطريق يغتاله معترما ، والتحف الليل لا يهابه مظلما. فو الله ما شبهته إلا بظبية نافرة ، تحفزها (١٥) فتخاء شاغية (١٦). قال الرجل : ادع الله وسله أن يحشر هذا البغل
__________________
(١) النصاح : الخياط
(٢) ذات السم : الإبرة ذات الثقب
(٣) الخيفانة : الناقة السريعة. والقباء : الدقيقة الخصر الضامرة البطن.
(٤) الحاسن الحسن. والمسرهف من سرهفت الصبى : أحسنت غذاءه ونعمته
(٥) قوله : فى تزلخ ، أراد به التهكم ، والزلخ : المزلة تزل منها الأقدام.
(٦) الطخياء : الليلة المظلمة.
(٧) الحندس : الليل المظلم.
(٨) الصحصح : ما استوى من الأرض.
(٩) النبأة : الصوت الخفى.
(١٠) النغر : البلبل وفراخ العصافير.
(١١) والضوع : طائر من طير الليل.
(١٢) النغض : التحرك. والسبد ، كصرد : طائر لين الريش إذا وقع عليه قطرتان من الماء جرى.
(١٣) عسل : اضطرب فى عدوه وهز رأسه.
(١٤) نسل : أسرع.
(١٥) الحفز : الدفع من خلف.
(١٦) الفتخاء : العقاب اللينة الجناح. والشاغية : وصف لنوع منها.
معك يوم القيامة ، قال : ولم؟ قال : ليجيزك الصّراط بطفرة (١).
وقال أبو علقمة لطبيب : أجد رسيسا فى أسناخى (٢) ، وأرى وجعا فيما بين الوابلة إلى الأطرة (٣) من دايات العنق. فقال الطبيب : هى هى هذا وجع القرشى ، قال : وما يبعدنا منهم يا عدىّ نفسه؟ نحن من أرومة واحدة ، ونجل واحد. قال الطبيب : كذبت ، وكلما خرج هذا الكلام من جوفك كان أهون لك ، قال : بل لك الهوان والخسار والحقارة والسباب ، اخرج عنى قبّحك الله.
وقال لجارية كان يهواها : يا خريدة ، قد كنت إخالك عروبا ، فإذا أنت نوار (٤) ، مالى أمقك وتشنئينى! قالت : يا رقيع ، ما رأيت أحدا يحبّ أحدا فيشتمه!
وإذا كان موضوع الكلام على الإفهام فالواجب أن تقسّم طبقات الكلام على طبقات الناس ، فيخاطب السّوقى بكلام السّوقة ، والبدوىّ بكلام البدو ، ولا يتجاوز به عما يعرفه إلى ما لا يعرفه ؛ فتذهب فائدة الكلام ، وتعدم منفعة الخطاب.
وقوله : «ولا يدقق المعانى كلّ التدقيق». لأنّ الغاية فى تدقيق المعانى سبيل إلى تعميته ، وتعمية المعنى لكنة ؛ إلا إذا أريد به الإلغاز وكان فى تعميته فائدة ، مثل أبيات المعانى ، وما يجرى معها من اللّحون التى استعملوها وكنّوا بها عن المراد لبعض الغرض.
فأمّا من أراد الإبانة فى مديح ، أو غزل ، أو صفة شيء فأتى بإغلاق دلّ ذلك على عجزه عن الإبانة ، وقصوره عن الإفصاح ، كأبى تمام حيث يقول (٥) :
خان الصفاء أخ خان الزمان أخا |
|
عنه فلم يتخوّن جسمه الكمد (٦) |
__________________
(١) الطفر : وثب فى ارتفاع.
(٢) الرسيس : ابتداء الحمى ، والأسناخ : الأصول ومفرده سنخ.
(٣) الوابلة : طرف الكتف ، والأطرة ـ بضم فسكون : عطف الشىء ، ودايات العنق : فقارها.
(٤) العروب : المتحببة إلى زوجها ، والنوار المرأة النفور.
(٥) ديوانه ٣٦٦.
(٦) رواية الديوان :
خان الصفاء أخ خان الزمان له |
|
أخا .... |
وقوله (١) :
يوم أفاض جوى أغاض تعزّيا |
|
خاض الهوى بحرى حجاه المزيد |
وقوله (٢) :
وإنّ نجريّة بانت جأرت لها |
|
إلى يدى جلدى فاستوهك الجلد (٣) |
وقوله (٤) :
جهميّة (٥) الأوصاف إلّا أنّهم |
|
قد لقّبوها جوهر الأشياء |
وقوله : «ولا تنقّح الألفاظ كل التنقيح». وتنقيح اللفظ أن يبنى منه بناء لا يكثر فى الاستعمال. كما قال بعضهم لبعض الوزراء : أحسن الله إبانتك. فقال له الوزير : عجّل الله إماتتك.
ويدخل فى تنقيح اللفظ استعمال وحشيّه وترك سلسله وسهله. وقد أخذ الرواة على زهير (٦) قوله :
نقىّ تقىّ لم يكثر غنيمة |
|
بنهكة ذى القربى ولا بحقلّد |
فاستبشعوا الحقلّد وهو السيئ الخلق. وقالوا : ليس فى لفظ زهير أنكر منه.
وقال يحيى بن يعمر لرجل حاكمته امرأته إليه : أإن سألتك ثمن شكرها وشبرك أنشأت تطلّها وتضهلها.
الشكر : الرضاع. والشّبر : النّكاح. وتطلّها : تسعى فى بطلان حقها. وتضهلها : تعطيها الشىء القليل.
__________________
(١) ديوانه : ١١١.
(٢) ديوانه : ٣٦٧.
(٣) رواية الديوان :
وإن بجيرية نابت جأرت لها |
|
إلى ذرا جلدى استؤهل الجلد |
البجيرية : الداهية. نابت : أصابت. جأرت : رفعت صوتى. استؤهل : استوجب.
(٤) ديوانه : ٣
(٥) جهمة الليل : قريب من السحر ، قال الجعدى :
وقهوة صهباء باكرتها |
|
بجهمة والديك لم ينعب |
والمراد هنا مظلمة الأوصاف.
(٦) ديوانه : ٢٣٤
قال أبو عثمان : رأيتهم يديرون فى كتبهم هذا الكلام ، فإن كانوا إنما رووه ودوّنوه لأنه يدلّ على فصاحة وبلاغة فقد باعده الله من صفة الفصاحة والبلاغة ؛ وإن كانوا فعلوا ذلك لأنه غريب فأبيات من شعر العجاج ، وشعر الطرماح ، وأشعار هذيل ، يأتى لهم مع الرصف الحسن على أكثر من ذلك. ولو خاطب أحد الأصمعىّ بمثل هذا الكلام لظننت أنه سيجهل بعضه. وهذا خارج عن عادة البلغاء.
وقوله : «ويصفّيها كلّ التصفية ، ويهذّبها كل التهذيب». فتصفيته تعريته من الوحشىّ ، ونفى الشواغل عنه. وتهذيبه تبرئته من الردىّ المرذول ، والسوقىّ المردود.
فمن الكلام المهذّب الصافى قول بعض الكتاب : مثلك أوجب حقا لا يجب عليه ، وسمح بحقّ وجب له ، وقبل واضح العذر ، واستكثر قليل الشكر ، لا زالت أياديك فوق شكر أوليائك ، ونعمة الله عليك فوق آمالهم فيك.
ومثله قول آخر : ما أنتهى إلى غاية من شكرك إلّا وجدت وراءها حادثا من برّك ؛ فلا زالت أياديك ممدودة بين آمل فيك تبلّغه ، وأمل فيك تحقّقه ، حتى تتملّى (١) من الأعمار أطولها ، وتنال من الدرجات أفضلها.
وقول أحمد بن يوسف : يومنا يوم ليّن الحواشى وطيء النّواحى ، وهذه سماء قد تهلّلت بودقها (٢) ، وضحكت بعابس غيمها ولا مع برقها ، وأنت قطب السرور ، ونظام الأمور ؛ فلا تغب عنا فنقلّ ، ولا تفردنا فنستوحش ؛ فإن الحبيب بحبيبه كثير ، وبمساعديه جدير.
وقوله : ولا يفعل ذلك حتى يلقى حكيما ، وفيلسوفا عليما ، ومن تعوّد حذف فضول الكلام ، ومشتركات الألفاظ ، ونظر فى المنطق على جهة الصناعة فيها ،
__________________
(١) تملى عمره : استمتع منه.
(٢) الودق : المطر.
لا على جهة الاستطراف والتظرّف لها.
يقول : ينبغى أن يتكلّم بفاخر الكلام ، ونادره ورصينه ومحكمه عند من يفهمه عنه ، ويقبله منه ، ممن عرف المعانى والألفاظ علما شافيا ؛ لنظره واللغة والإعراب والمعانى على جهة الصناعة ، لا كمن استطرف شيئا منها ؛ فنظر ، به نظرا غير كامل ، أو أخذ من أطرافه ، وتناول من أطراره (١) ، فتحلّى باسه ، وخلا من وسمه. فإذا سمع لم يفقه ، وإذا سئل لم ينقه. وإذا تكلّم عند من هذه صفته ذهبت فائدة كلامه ، وضاعت منفعة منطقه ؛ لأنّ العامىّ إذا كلمته بكلام العلية سخر منك ، وزرى عليك ؛ كما روى عن بعضهم أنه قال لبعض العامّة : بم كنتم تنتقلون البارحة؟ يعنى على النبيذ. فقال : بالحمّالين. ولو قال له : أى شيء كان نقلكم (٢) لسلم من سخريته. فينبغى أن يخاطب كلّ فريق بما يعرفون ، ويتجنّب ما يجهلون.
وأما قوله : «من تعوّد حذف فضول الكلام». فحذف فضول الكلام هو أن يسقط من الكلام ما يكون الكلام مع إسقاطه تامّا غير منقوص ، ولا يكون فى زيادته فائدة.
وذلك مثل ما روى عن معاوية أنه قال لصحار العبدى : ما البلاغة؟ فقال : أن تقول فلا تخطى ، وتسرع فلا تبطئ. ثم قال : أقلنى ؛ هو ألّا تخطئ ولا تبطئ. فألقى اللفظتين ؛ لأنّ فى الذى أبقى غنى عنهما ، وعوضا منهما.
فأما إذا كان فى زيادة الألفاظ وتكثيرها ، وترديدها وتكريرها ، زيادة فائدة فذلك محمود ، وهو من باب التذييل. ونشرحه فى موضعه إن شاء الله.
وقوله : ومشتركات الألفاظ ؛ وقول جعفر بن يحيى : وتخرجه من الشركة ؛ فهو أن يريد الإبانة عن معنى فيأتى بألفاظ لا تدلّ عليه خاصة ؛ بل تشترك معه فيها معان أخر ، فلا يعرف السامع أيها أراد. وربما استبهم الكلام فى نوع من هذا الجنس
__________________
(١) أطراره : أطرافه
(٢) النقل : ما يتنقل به على الشراب.
حتى لا يوقف على معناه إلا بالتوهّم. فمن الجنس الأول قول جرير (١) :
لو كنت أعلم أن آخر عهدكم |
|
يوم الرحيل فعلت ما لم أفعل |
فوجه الاشتراك فى هذا أنّ السامع لا يدرى إلى أىّ شيء أشار من أفعاله فى قوله : «فعلت ما لم أفعل». أراد أن يبكى إذا رحلوا ، أو يهيم على وجهه من الغمّ الذى لحقه ، أو يتبعهم إذا ساروا ، أو يمنعهم من المضىّ على عزمة الرحيل ، أو يأخذ منهم شيئا يتذكّرهم به ، أو يدفع إليهم شيئا يتذكرونه به ، أو غير ذلك ، مما يجوز أن يفعله العاشق عند فراق أحبته ، فلم يبن عن غرضه ؛ وأحوج السامع إلى أن يسأله عما أراد فعله عند رحيلهم.
وليس هذا كقولهم : لو رأيت عليا بين الصفين ؛ لأن دليل البسالة والنكاية فى هذا الكلام بيّن ؛ وأمارة النقصان فى بيت جرير واضحة ؛ فمن يسمعه وإن لم يكن من أهل البلاغة يستبرده ويستغثّه ، ويسترجع الآخر ويستجيده.
ومثله قول سعد بن مالك الأزدى :
فإنك لو لاقيت سعد بن مالك |
|
للاقيت منه بعض ما كان يفعل |
فلم يبن عما أراد بقوله يلقى. أخيرا أراد أم شرّا؟ إلا أن يسمع ما قبله أو ما بعده ؛ فيتبيّن معناه ، وأمّا فى نفس البيت فلا يتبيّن مغزاه.
ومثله قول أبى تمّام (٢) :
وقمنا فقلنا بعد أن أفرد الثرى |
|
به ما يقال فى السحابة تقلع |
فقول الناس فى السحاب إذا أقلع على وجوه كثيرة ؛ فمنهم من يمدحه ، ومنهم من يذمّه ، ومنهم من كان يحبّ إقلاعه ، ومنهم من يكره إقشاعه (٣) ، على حسب ما كانت حالاتها عندهم ، ومواقعها منهم ؛ فلم يبن بقوله ما يقال فى السحابة تقلع معنى يعتمده السامع. وأبين منه قول مسلم :
فاذهب كما ذهبت غوادى مزنة |
|
أثنى عليها السّهل والأوعار |
__________________
(١) ديوانه : ٤٤٣
(٢) ديوانه : ٣٧٣ ، وفيه «أفرد الندى»
(٣) أقشعت الريح السحاب : كشفته.
على أنّ المحتج له لو قال : إن أكثر العادة فى السحاب أن يحمد أثره ، ويثنى عليه بعده لما كان مبعدا. ولم أزد عيب أبى تمام بما قلت ، وإنما أردت الإخبار عن وجوه الاشتراك ، وذكر ما يتشعّب منه ، وما يقرب من بابه ، وينظر إليه من قريب أو بعيد.
ومثل قول أبى تمام قول ابن قيس الرقيات :
إن تعش لا نزل بخير وإن ته |
|
لك نزل مثل ما يزول العماء |
والعماء : السّحاب. بل هذا أجود من بيت أبى تمام وأبين.
ومن اللفظ المشترك قول أبى نواس :
وخبن ما يخبن من آخر |
|
منه وللطّابن أمهار (١) |
الأمهار هاهنا جمع مهر ، من قولهم : مهر يمهر مهرا. والمصادر لا تجمع ، ولا يشكّ سامع هذا الكلام أنه يريد جمع مهر فيشكل المعنى عليه.
وخطب بعض المتكلّمين ، فقال فى صفة الله تعالى : لا يقاس بالقياس ، ولا يدرك بالالماس. أراد جمع لمس ؛ فأصاب السجع وأخطأ المعنى.
وأمّا ما يستبهم فلا يعرف معناه إلا بالتوهّم فهو مثل قول أبى تمام (٢) :
جهميّة الأوصاف إلّا أنهم |
|
قد لقّبوها جوهر الأشياء |
فوجه الاشتراك فى هذا : أن لجهم مذاهب كثيرة ، وآراء مختلفة متشعّبة ، لم يدلّ فحوى كلام أبى تمام على شيء منها يصلح أن يشبّه به الخمر وينسب إليه ، إلا أن يتوهّم المتوهم فيقول : إنما أراد كذا وكذا ، من مذاهب جهم ، من غير أن يدلّ الكلام منه على شيء بعينه.
ولا يعرف معنى قوله : «قد لقّبوها جوهر الأشياء» إلا بالتوهّم أيضا.
ومن الكلام الخالى من الاشتراك قول بعضهم لأخ له أراد فراقه : لما تصفّحت أخلاقك فوجدتها مباينة لمشاكلتى ، زائغة عن قصد طريقتى ـ صبرت عليها ؛ رياضة لنفسى على الصبر لمساوى أخلاق المعاشرين ، ولعلمى بكامن العدوان فى جميع العالمين ، والذى رجوت من مذمّة خصالك بما أقابلها به من التجاوز ، وأسحب على سوء آثارها
__________________
(١) فى الديوان ص ٩٢ «وخبن ما يخبن من بعده». الطابن : الفطن.
(٢) ديوانه : ٣.
أذيال التّغاضى ، وأنت مع ذلك دائب لا تقوّم اعوجاج مذاهبك ، ولا يعطف بك الرأى إلى رشدك ؛ فلمّا فنيت حيلتي فيك ، وانقطعت أسباب أملى منك ، ورأيت الداء لا يزيد على التعهّد بالدواء إلّا فسادا ، والخرق على التّرقيع إلا اتّساعا قدّمت اليأس منك على الرجاء فيك ، واحتسبت أيّامى السالفة فى استصلاحى لك.
وقوله : وحقّ المعنى أن يكون له الاسم طبقا ؛ أى يكون الاسم طبقا للّفظ بقدر المعنى غير زائد عليه ، ولا ناقص عنه. وكأن ذلك من قول امرئ القيس (١) :
طبق الأرض تحرّى وتدرّ
أى هى على الأرض كالطّبق على الإناء لا ينقص منه شيء. وسنأتى بالكلام على هذا فى فصل الإيجاز إن شاء الله.
وقوله : ولا يكون الاسم فاضلا ولا مقصّرا. فهذا داخل فى الأوّل من قوله : وحق المعنى أن يكون الاسم له طبقا.
ومثال الفاضل من اللفظ عن المعنى قول عروة بن أذينة (٢) :
واسق العدوّ بكأسه واعلم له |
|
بالغيب أن قد كان قبل سقاكها |
واجز الكرامة من ترى أن لوله |
|
يوما بذلت كرامة لجزاكها |
ومعنى هذا الكلام محصور تحت ثلاث كلمات : أجز كلّا بفعله. وكان السكوت لعروة خيرا منه.
ومن الكلام الفاضل لفظه عن معناه قول أبى العيال الهذلى (٣) :
ذكرت أخى فعاودنى |
|
صداع الرأس والوصب |
فذكر الرأس مع الصداع فضل.
وقول أوس بن حجر (٤) :
وهم لمقلّ المال أولاد علّة |
|
وإن كان محضا فى العمومة مخولا |
فقوله : «المال» مع «المقلّ» فضلة.
__________________
(١) ديوانه : ١٣١ واللسان ، مادة طبق ، وصدره :
ديمة هطلاء فيها وطف
(٢) الموشح ٢١٢
(٣) شعراء الهذليين : ٢ ـ ٢٤٢.
(٤) الموشح ٩٠
والمقصّر من الكلام : مالا ينبيك بمعناه عند سماعك إيّاه ويحوجك إلى شرح ؛ كبيت الحارث بن حلّزة (١) :
والعيش خير فى ظلا |
|
ل النّوك ممّن رام كدّا |
وسنذكر وجه العيب فيه بعد هذا.
وقوله : ولا مضمّنا : التضمين أن يكون الفصل الأوّل مفتقرا إلى الفصل الثانى ، والبيت الأول محتاجا إلى الأخير كقول الشاعر :
كأنّ القلب ليلة قيل يغدى |
|
بليلى العامريّة أو يراح |
قطاة غرّها شرك فباتت |
|
تجاذبه وقد علق الجناح |
فلم يتمّ المعنى فى البيت الأول حتى أتمّه فى البيت الثانى ، وهو قبيح.
ومثاله من نثر الكتاب قول بعضهم : وجعل سيدنا آخذا من كل ما دعى ويدعى به فى الأعياد ، بأجزل الأقسام وأوفر الأعداد.
وقد تسمى استعارتك الأنصاف والأبيات من شعر غيرك ، وإدخالك إيّاه فى أثناء أبيات قصيدتك تضمينا ؛ وهذا حسن وهو كقول الشاعر :
إذا دلّه عزم على الحزم لم يقل |
|
«غدا غدها إن لم تعقها العوائق» |
ولكنّه ماض على عزم يومه |
|
فيفعل ما يرضاه خلق وخالق |
فقوله : «غدا غدها إن لم تعقها العوائق» من شعر غيره وهو هاهنا مضمّن.
وكقول الآخر :
عوّذ لمّا بتّ ضيفا له |
|
أقراصه بخلا بياسين |
فبتّ والأرض فراشى وقد |
|
غنّت «قفانبك» (٢)مصارينى |
وقول الآخر :
ولقد سما للخرّمىّ ولم يقل |
|
بعد الوغا «لكن تضايق مقدمى» (٣) |
__________________
(١) نقد الشعر : ١٢٧ ، الموشح ٢٣٢.
(٢) من كلام امرئ القيس.
(٣) لعنترة.
وقول ابن الرّومى فى مغنّ :
مجلسه مأتم اللذاذة وال |
|
قصف وعرس الهموم والسقم |
ينشدنا اللهو عند طلعته |
|
«من أوحشته الديار لم يقم» |
وكقول جحظة :
أصبحت بين معاشر هجروا الندى |
|
وتقبّلوا الأخلاق عن أسلافهم |
قوم أحاول نيلهم فكأنّما |
|
حاولت نتف الشّعر من آنافهم |
هات اسقينها بالكبير وغنّنى |
|
«ذهب الذين يعاش فى أكنافهم» |
وباقى كلامه يتضمّن صفة المتكلم لا صفة الكلام. إلا قوله : ويكون تصفّحه لموارده بقدر تصفّحه لمصادره. وسنأتى على الكلام فى هذا ونستقصيه فى فصل المقاطع والمبادى.
وقال بعض الحكماء : البلاغة قول يسير ، يشتمل على معنى خطير. وهذا مثل قول الآخر : البلاغة حكمة تحت قول وجيز. وقول الآخر : البلاغة علم كثير فى قول يسير.
ومثاله قول الأعرابى ، وقد سئل عن مال يسوقه ، لمن هو؟ فقال : لله فى يدى. فأىّ شيء لم يدخل تحت هذا الكلام القليل من الفوائد الخطيرة ، والحكم البارعة الجسيمة.
وقال الله عزوجل اسمه : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ). قد دخل تحت قوله : فهو حسبه من المعانى ما يطول شرحه من إيتاء ما يرجى ، وكفاية ما يخشى.
وهذا مثل قوله عزوجل : وفيها ما تشتهى (الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ).
وسئل بعض الأوائل : ما كان سبب موت أخيك؟ قال : كونه. فأحسن ما شاء.
وقد تنازع الناس فى هذا المعنى. أخبرنا أبو أحمد قال : أخبرنا أبو بكر بن دريد عن الرياشى ، قال : قيل لأعرابى : كيف حالك؟ فقال : ما حال من يفنى ببقائه ، ويسقم بسلامته ، ويؤتى من مأمنه.
وأخبرنا أبو أحمد قال : حدثنا محمد بن يحيى ، قال : حدثنا الغلابى ، قال : حدثنا ابن عائشة ، قال : قلت لأبى : حدّثنى حماد بن سلمة ، عن حميد بن ثابت ، عن أنس والحسن ، أنّ النبى صلىاللهعليهوسلم قال : كفى بالسّلامة داء. قال : يا بنى ، ولا أراه إلا مسندا ؛ فقد قال حميد بن ثور (١) :
أرى بصرى قد رابنى بعد صحّة |
|
وحسبك داء أن تصحّ وتسلما |
وقال آخر :
كانت قناتى لا تلين لغامز |
|
فألانها الإصباح والإمساء |
ودعوت ربّى بالسلامة جاهدا |
|
ليصحنى فإذا السلامة داء |
وأوّل من نطق بهذا المعنى النّمر بن تولب فى الجاهلية (٢) :
يودّ الفتى طول السلامة والغنى |
|
وكيف يرى طول السلامة تفعل |
يردّ الفتى بعد اعتدال وصحة |
|
ينوء إذا رام القيام ويحمل |
وقال آخر (٣) :
ما حال من آفته بقاؤه |
|
نغّص عيشى كلّه فناؤه |
وقال ابن الرومى (٤) :
لعمرك ما الدنيا بدار إقامة |
|
إذا زال عن نفس البصير غطاؤها |
وكيف بقاء العيش فيها وإنما |
|
ينال بأسباب الفناء بقاؤها |
ونقله إلى موضع آخر فقال (٥) :
__________________
(١) ديوانه ٧ ، التبيان : ٢ ـ ٢٩٠
(٢) ديوان المعانى : ٢ ـ ١٣٨
(٣) ديوان المعانى : ٢ ـ ١٨٣
(٤) ليسا فى ديوانه الذى بأيدينا
(٥) ديوان المعانى : ٢ ـ ١٨٤
فإنّ الداء أكثر ما تراه |
|
من الأشياء تحلو فى الحلوق |
وقريب من ذلك قول محمد بن على رضى الله عنهما : مالك من عيشك إلّا لذة تزدلف بك إلى حمامك ، وتقرّبك من يومك ، فأية أكلة ليس معها غصص ، وشربة ليس معها شرق ؛ فتأمّل أمرك ؛ فكأنك قد صرت الحبيب المفقود ، أو الخيال المخترم. وقال أبو العتاهية :
أسرع فى نقص امرئ تمامه
ومن الأمثال : كلّ من أقام شخص ، وكلّ من زاد نقص ، ولو كان يميت الناس الداء لأحياهم الدواء. وقال آخر :
إذا تمّ أمر دنا نقصه |
|
توقّع زوالا إذا قيل تم |
وقلت :
ما خير عيش صفوه يكدّره |
|
لا بدّ أن يشكوه من يشكره |
والمرء ينسى والمنايا تذكره |
|
يميته بقاؤه فيقبره |
وكسره منه الذى لا يجبره |
|
يطويه من مداه ما لا ينشره |
فى كلّ مجرى نفس يكرّره |
|
يهدم من عمرك مالا تعمره |
وقلت :
قد قرب الأمر بعد بعده |
|
وأسعف الإلف بعد صدّه |
وبعد بؤس وضيق عيش |
|
صرت إلى خفضه ورغده |
لكنّه ملبس معار |
|
لا بدّ من نزعه وردّه |
وهل يسرّ الفتى بحظّ |
|
وجوده علّة لفقده |
وقال الرومى : البلاغة حسن الاقتضاب عند البداهة ، والغزارة عند الإطالة.
الاقتضاب : أخذ القليل من الكثير ؛ وأصله من قولهم : اقتضبت الغصن
إذا قطعته من شجرته. وفيه معنى السرعة أيضا ؛ فيقول : البلاغة إجادة فى إسراع ، واقتصار على كفاية.
فمن البديهة الحسنة ما أخبرنا به أبو أحمد قال أخبرنا إبراهيم بن محمد الشطنى قال : حدثنى أحمد بن يحيى ثعلب قال : دخل المأمون ديوان الخراج فمرّ بغلام جميل على أذنه قلم فأعجبه ما رأى من حسنه ؛ فقال : من أنت يا غلام؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، الناشئ فى دولتك ، وخرّيج أدبك ، والمتقلّب فى نعمتك ، الحسن بن رجاء. فقال المأمون : بالإحسان فى البديهة تفاضلت العقول. ثم أمر أن يرفع عن مرتبة الديوان ويعطى مائة ألف درهم.
ومن الاقتضاب الجيد : ما أخبرنا به أبو أحمد قال : أخبرنى أبو أحمد الواذارى عن شيخ له قال : قال أبو حاتم : سمعت أبا عبيدة يقول : استفتحت غلامين فى الصبا. فزكنت (١) منهما بلوغ الغاية ، فجاءا كما زكنت : بلغنى أن النظام يتعاطى علم الكلام فمرّ وهو غلام على حمار يطير به ، فقلت له : يا غلام ؛ ما عيب الزّجاج؟ فالتفت إلىّ وقال : يسرع إليه الكسر ، ولا يقبل الجبر. وبلغنى أنّ أبا نواس يتعاطى قرض الشّعر ، فتلقّانى وهو سكران ملتخ (٢) ، وما طرّ شاربه بعد ؛ فقلت له : كيف فلان عندك؟ فقال : ثقيل الظل ، جامد النّسيم. فقلت : زد. فقال : مظلم الهواء ، منتن الفناء. فقلت : زد. فقال : غليظ الطّبع ، بغيض الشّكل. فقلت : زد. فقال : وخم الطلعة ، عسر القلعة. قلت : زد. قال : نابى الجنبات ، بارد الحركات. ثم قال : زدنى سؤالا أزدك جوابا. فقلت : كفى من القلادة ما أحاط بالعنق.
ومن جيد البدائة ما أخبرنا به أبو أحمد قال : أخبرنى أبى عسل بن ذكوان قال :
__________________
(١) زكنه كفرح وأزكنه : علمه وفهمه وتفرسه وظنه.
(٢) التخ فى الأمر : اختلط. وسكران ملتخ : مختلط لا يفهم شيئا.