كتاب الصّناعتين الكتابة والشعر

أبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري

كتاب الصّناعتين الكتابة والشعر

المؤلف:

أبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري


المحقق: علي محمد البجاوي ومحمد ابوالفضل ابراهيم
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٨

وقال العجير (١) :

حمّ الذرى مرسلة منها العرى

وقال سليك (٢) :

إذا أسهلت خبّت وإن أحزنت مشت

وقال بشامة بن الغدير (٣) :

هوان الحياة وخزي الممات

وكلّا أراه طعاما وبيلا

وقال الراعى (٤) :

سود معاصمها خضر معاقمها

قد مسّها من عقيد القار تنصيل (٥)

وقالت ليلى الأخيلية (٦) :

وقد كان مرهوب السنان وبيّن ال

لسان ومجذام السّرى غير فاتر

وقال ذو الرمة :

كحلاء فى برج صفراء فى نعج (٧)

كأنها فضة قد مسها ذهب

وقال عامر بن الطفيل :

إنى وإن كنت ابن فارس عامر

وفى السرّ منها والصريح المهذّب

فما سوّدتنى عامر عن وراثة

أبى الله أن أسمو بأمّ ولا أب

ولكنّنى أحمى حماها وأتقى

أذاها وأرمى من رماها بمقنب

المقنب : جماعة الخيل.

كثرته

ومثل هذا إذا اتفق فى موضع من القصيدة أو موضعين كان حسنا ، فإذا كثر وتوالى دلّ على التكلّف ؛ وقد ارتكب قوم من القدماء الموالاة بين أبيات كثيرة

__________________

(١) نقد الشعر : ٢٧.

(٢) نقد الشعر : ٢٧.

(٣) نقد الشعر : ٢٧.

(٤) نقد الشعر : ٢٧.

(٥) المعاقم : فقر فى مؤخر الصلب ، وملتقى أطراف العظام.

(٦) نقد الشعر : ٢٧.

(٧) البرج : نجل العين وهو سعتها. والنعج : حسن اللون وخلوص بياضه.

٣٨١

من هذا الجنس فظهر فيها أثر التكلّف ، وبان عليها سمة التعسف ، وسلم بعضها ولم يسلم بعض ؛ فمن ذلك ما روى أنه للخنساء :

حامى الحقيقة محمود الخليقة مه

ديّ الطريقة نفاع وضرّار

هذا البيت جيد ؛ ثم قالت :

فعّال سامية ورّاد طامية

للمجد نامية تعنيه أسفار

هذا البيت رديء لتبرئ بعض ألفاظه من بعض ؛ ثم قالت :

جواب قاصية جزّاز ناصية

عقّاد ألوية للخيل جرّار

آخر هذا البيت لا يجرى مع ما قبله ، وإذا قسته بأوله وجدته فاترا باردا ؛ ثم قالت :

حلو حلاوته فصل مقالته

فاش حمالته للعظم جبّار

وهذا مثل ما قبله ؛ وقول أبى صخر الهذلى (١) :

وتلك هيكلة خود مبتّلة (٢)

صفراء رعبلة فى منصب سنم

هذا البيت صالح ؛ وبعده :

عذب مقبّلها جذل مخلخلها

كالدّعص (٣) أسفلها مخصورة القدم

كأن قوله : «مخصورة القدم» ناب عن موضعه غير واقع فى موقعه ؛ وبعده :

سود ذوائبها بيض ترائبها

محض ضرائبها صيغت على الكرم

وهذا البيت أيضا قلق القافية ؛ وبعده :

سمح خلائقها درم مرافقها

يروى معانقها من بارد شبم

هذا البيت رديء لبعد ما بين الخلائق ، والمرافق ، وما بين الدّرم ، والسمح ؛ ولو لا أن السجع اضطره لما قال : سمح وليس لعظم مرفقها حجم (٤). وهذا مثل قول القائل لو قال : خلق فلان حسن وشعره جعد (٥). ليس هذا من تأليف

__________________

(١) نقد الشعر ٢٨.

(٢) الخود : الشابة. والمبتلة : الحسنة الخلق.

(٣) المخلخل : موضع الخلخال. والدعص : مجتمع الرمل.

(٤) هذا تفسير للدرم.

(٥) الجعد من الشعر : القصير.

٣٨٢

البلغاء ونظم الفصحاء. وقول أبى المثلم (١) :

آبى الهضيمة ناء بالعظيمة مت

لاف الكريمة جلد غير ثنيان (٢)

حامى الحقيقة نسّال الوديقة مع

تاق الوسيقة لا نكس ولاوان (٣)

البيت الثانى أجود من الأول ؛ وقوله :

ربّاء مرقبة منّاع مغلبة

وهاب سلهبة قطاع أقران (٤)

وهذا البيت أيضا صالح ؛ وبعده :

هبّاط أودية حمّال ألوية

شهاد أندية سرحان فتيان (٥)

قوله : سرحان فتيان ناب قلق ؛ وبعده :

يعطيك ما لا تكاد النفس ترسله

من التلاد وهوب غير منّان

التارك القرن مصفرّا أنامله

كأن فى ريطتيه نضح إرقان (٦)

هذا البيت جيّد وقد سلم من سائر العيوب إذ لم يتكلّف فيه السجع ولم يتوخ الموازنة.

من جيد الترصيع

ومن جيد الباب قول ابن الرومى :

حوراء فى وطف قنواء فى ذلف

لفّاء فى هيف عجزاء فى قبب (٧)

من معيبه

ومن معيب هذا الباب أيضا قول بعض المتأخرين (٨) :

عجب الوشاة من اللّحاة وقولهم

دع ما نراك ضعفت عن إخفائه

هذا رديء لتعمية معناه.

__________________

(١) نقد الشعر : ٢٩ ، وفى ط قبل هذين البيتين نقلا عن نسخة كبر يلى هذا البيت :

لو كان للدهر مال كان متلده

لكان للدهر صخر مال فتيان

(٢) الثنيان : الذى يجيء ثانيا فى السؤدد.

(٣) نسال : أى ينسل فى الوديقة ، وهى شدة الحر. والمعتاق : الذى يطرد الطريدة. الوسيقة : القطعة من الإبل.

(٤) رباء : من ربا فوق الشىء إذا علاه. والمرقبة : المرتفع من الأرض. والسلهبة : الجسيم من الخيل.

(٥) السرحان : الأسد بلغة هذيل ، والبيت فى اللسان (سرح).

(٦) الريطة : الملاءة. والإرقان : الحناء والزعفران ، وهذا البيت لم يذكر فى ا.

(٧) الوطف : كثرة شعر الحاجبين. والقنا : ارتفاع الأنف. والذلف : صغر الأنف واستواء الرقبة. واللفاء : الضخمة الفخذين. والقبب : دقة الخصر.

(٨) المتنبى ، ديوانه : ١ ـ ٥.

٣٨٣

الفصل السّادس عشر

فى الإيغال

الإيغال

وهو أن يستوفى معنى الكلام قبل البلوغ إلى مقطعه ؛ ثم يأتى بالمقطع فيزيد معنى آخر يزيد به وضوحا وشرحا وتوكيدا وحسنا ، وأصل الكلمة من قولهم : أوغل فى الأمر إذا أبعد الذهاب فيه.

وأخبرنا أبو أحمد قال أخبرنا الصولى عن المبرّد عن التّوّزى ، قال : قلت للأصمعى : من أشعر الناس؟ فقال : من يأتى بالمعنى الخسيس فيجعله بلفظه كبيرا ، أو الكبير فيجعله بلفظه خسيسا ، أو ينقضى كلامه قبل القافية ، فإذا احتاج إليها أفاد بها معنى. قال : قلت : نحو من؟ قال : قول ذى الرّمة حيث يقول (١) :

قف العيس فى أطلال مية فاسأل

رسوما كأخلاق الرّداء المسلسل

فتم كلامه «بالرداء» قبل المسلسل ، ثم قال «المسلسل» ؛ فزاد شيئا بالمسلسل. ثم قال :

أظن الذى يجدى عليك سؤالها

دموعا كتبذير الجمان المفصّل

فتم كلامه ، بالجمان ، ثم قال : المفصل ، فزاد شيئا. قلت : ونحو من؟ قال : الأعشى حيث يقول (٢) :

كناطح صخرة يوما ليفلقها

فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل

فتم كلامه «بيضرها ، فلما احتاج إلى القافية قال : وأوهى قرنه الوعل ؛ فزاد معنى. قلت : وكيف صار الوعل مفضّلا على كل ما ينطح؟ قال : لأنه ينحطّ من قلة الجبل على قرنيه فلا يضيره.

وكتب بعض الكتاب : نبوّ الطرف من الوزير دليل على تغير الحال عنده ،

__________________

(١) نهاية الأرب : ٧ ـ ١٣٨ ، ديوانه ٧٢.

(٢) العمدة : ٢ ـ ٥٢ ، المعلقات : ٢٨٤.

٣٨٤

ولا صبر على الجفاء ممّن عود الله منه البرّ ، وقد استدللت بإزالة الوزير إياى عن المحل الذى كان يحلنيه بتطوّله على ما سؤت له ظنا بنفسى ، وما أخاف عتبا لأنى لم أجن ذنبا ، فإن رأى الوزير أن يقوّمنى لنفسى ، ويدلّنى على ما يراد منى فعل. تم كلامه عند قوله له «يقومنى» ثم جاء بالمقطع وهو قوله : «لنفسى» فزاد معنى.

وممن زاد توكيدا امرؤ القيس حيث يقول (١) :

كأنّ عيون الوحش حول خبائنا

وأرحلنا الجزع الذى لم يثقّب

قوله : «لم يثقب» يزيد التشبيه توكيدا ؛ لأن عيون الوحش غير مثقبة.

وزهير حيث يقول (٢) :

كأنّ فتات العهن (٣) فى كلّ منزل

نزلن به حبّ الفنا لم يحطّم

القنا إذا كسر ابيض. والفنا : شجر الثعلب (٤). ومن الزيادة قول امرئ القيس (٥) :

إذا ما جرى شأوين وابتلّ عطفه

تقول هزيز الريح مرّت بأثأب (٦)

فالتشبيه قد تم عند قوله «هزيز الريح» وزاد بقوله «مرت بأثأب» : لأنه أخبر به عن شدة حفيف الفرس ، وللريح فى أغصان الأثاب حفيف شديد. والأثأب : شجر.

وقول أبى نواس :

ذاك الوزير الذى طالت علاوته

كأنه ناظر فى السّيف بالطّول

فقوله «بالطول» أنفى للشبهة.

وقول راشد الكاتب :

كأنه ويد الحسناء تغمزه

سير الإداوة لما مسّه البلل

فقوله : «لما مسه البلل» تأكيد ، ويدخل أكثر هذا الباب فى التتميم ؛ وإنما يسمى إيغالا إذا وقع فى الفواصل والمقاطع.

__________________

(١) ديوانه : ٨٨.

(٢) ديوانه : ١٢.

(٣) العهن : الصوف.

(٤) هو شجر ثمره حب أحمر.

(٥) ديوانه : ٨٣.

(٦) الشأو : الطلق. وعطفه : ناحيته. وهزيز الريح صوتها.

٣٨٥

الفصل السّابع عشر

فى التوشيح

التوشيح

سمى هذا النوع التوشيح ، وهذه التسمية غير لازمة بهذا المعنى ، ولو سمى تبيينا لكان أقرب ، وهو أن يكون مبتدأ الكلام ينبئ عن مقطعه ؛ وأوله يخبر بآخره ، وصدره يشهد بعجزه ، حتى لو سمعت شعرا ، أو عرفت رواية ؛ ثم سمعت صدر بيت منه وقفت على عجزه قبل بلوغ السماع إليه ؛ وخير الشّعر ما تسابق صدوره وأعجازه ، ومعانيه وألفاظه ؛ فتراه سلسا فى النظام ، جاريا على اللسان ، لا يتنافى ولا يتنافر ؛ كأنه سبيكة مفرغة ، أو وشى منمنم ، أو عقد منظم من جوهر متشاكل ، متمكّن القوافى غير قلقة ، وثابتة غير مرجة ، ألفاظه متطابقة ، وقوافيه متوافقة ، ومعانيه متعادلة ، كلّ شيء منه موضوع فى موضعه ، وواقع فى موقعه ؛ فإذا نقض بناؤه ، وحلّ نظامه ، وجعل نثرا ؛ لم يذهب حسنه ، ولم تبطل جودته فى معناه ولفظه ؛ فيصلح نقضه لبناء مستأنف ، وجوهره لنظام مستقبل.

أمثلة من القرآن

فمما فى كتاب الله عزوجل من هذا النوع قوله تعالى : (وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) ؛ فإذا وقفت على قوله تعالى : «فيما» ، عرف فيه السامع أن بعده «يختلفون» ، لما تقدم من الدلالة عليه.

وهكذا قوله تعالى : (قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ) ذا وقف على «يكتبون» ، عرف أن بعده «ما يمكرون» ، لما تقدم من ذكر المكر.

وضرب منه آخر ، وهو أن يعرف السامع مقطع الكلام ، وإن لم يجد ذكره فيما تقدم ؛ وهو كقوله تعالى : (ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) ، فإذا وقف على قوله : «لننظر» مع ما تقدم من قوله تعالى : «جعلناكم خلائف فى الأرض» ، علم أن بعده : «تعملون» ، لأن المعنى يقتضيه.

٣٨٦

ومن الضرب الأول قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).

وهكذا قوله تعالى : (كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ) ؛ إذا وقف على «أوهن البيوت» ، يعرف أن بعده «بيت العنكبوت».

أمثلة من الشعر

ومن أمثلة ذلك قول الراعى (١) :

وإن وزن الحصى فوزنت قومى

وجدت حصى ضريبتهم رزينا

إذا سمع الإنسان أول هذا البيت وقد تقدمت عنده قافية القصيدة استخرج لفظ قافيته ؛ لأنه عرف أن قوله «وزن الحصى» سيأتى بعده «رزين» لعلتين : إحداهما أن قافية القصيدة توحيه ؛ والأخرى أن نظام البيت يقتضيه ؛ لأن الذى يفاخر برجاحة الحصى ينبغى أن يصفه بالرزانة.

وقول نصيب :

وقد أيقنت أن ستبين ليلى

وتحجب عنك لو نفع اليقين

وأنشد أبو أحمد قول مضرس بن ربعى :

تمنيت أن ألقى سليما ومالكا

على ساعة تنسى الحليم الأمانيا

ومن عجيب هذا الباب قول البحترى (٢) :

فليس الّذى حلّلته بمحلّل

وليس الذى حرّمته بحرام

وذلك أن من سمع النصف الأول عرف الأخير بكماله ؛ ونحوه قول الآخر :

فأما الذى يحصيهم فمكثّر

وأما الذى يطريهم فمقلّل

وقول الآخر :

هى الدرّ منثورا إذا ما تكلمت

وكالدرّ منظوما إذا لم تكلّم

وقول الآخر :

ضعائف يقتلن الرجال بلا دم

ويا عجبا للقاتلات الضعائف

__________________

(١) نهاية الأرب : ٧ ـ ١٣٨.

(٢) ديوانه : ٢ ـ ٢٢٣.

٣٨٧

وقول الآخر :

وقد لان أيام الحمى ثم لم يكد

من العيش شيء بعد ذاك يلين

يقولون ما أبلاك والمال عامر

عليك وضاحى الجلد منك كنين

فقلت لهم : لا تعذلونى وانظروا

إلى النازع المقصور كيف يكون

إذا قلت : «ضاحى الجلد منك» ، فليس شيء سوى «الكنين» ؛ وكذا إذا قلت : «إلى النازع المقصور كيف» ، فليس شيء سوى «يكون».

مما عيب منه

ومما عيب من هذا الضرب قول أبى تمام (١) :

صارت المكرمات بزلا وكانت

أدخلت بينها بنات مخاض (٢)

وقول بعض المتأخرين (٣) :

فقلقلت بالهمّ الذى قلقل الحشا

قلاقل عيس كلّهنّ قلاقل

وإنما أخذه من قول أبى تمام (٤) فأفسده :

طلبتك من نسل الجديل وشدقم

كوم عقائل من عقائل كوم (٥)

__________________

(١) ديوانه : ١٨٨.

(٢) البزل : الإبل الداخلة فى السنة الرابعة. بنات المخاض : الداخلة فى الثانية.

(٣) هو المتنبى ، ديوانه : ٣ ـ ١٧٦.

(٤) ديوانه : ٣٠٦.

(٥) جديل وشدقم : فحلان كانا للنعمان بن المنذر تنسب إليهما الجدليات والشدقميات من الإبل. والكوم الأولى : القطعة من الإبل ، والثانية : جمع أكوم ، وهى فى الأصل العظم فى كل شيء ثم غلب على السنام والبعير ، فقيل سنام أكوم وبعير أكوم أى عظيم.

٣٨٨

الفصل الثّامن عشر

فى رد الأعجاز على الصدور

فأول ما ينبغى أن تعلمه أنك إذا قدمت ألفاظا تقتضى جوابا فالمرضىّ أن تأتى بتلك الألفاظ بالجواب ، ولا تنتقل عنها إلى غيرها مما هو فى معناها ، كقول الله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها). وكتب بعض الكتاب فى خلاف ذلك : من اقترف ذنبا عامدا ، أو اكتسب جرما قاصدا لزمه ما جناه ، وحاق به ما توخّاه. والأحسن أن يقول : لزمه ما اقترف ، وحاق به ما اكتسب. وهذا يدلك على أن لردّ الأعجاز على الصدور موقعا جليلا من البلاغة ، وله فى المنظوم خاصة محلا خطيرا.

اقسامه

وهو ينقسم أقساما ؛ منها ما يوافق آخر كلمة فى البيت آخر كلمة فى النصف الأول ؛ مثل قول الأول :

تلقى إذا ما الأمر كان عرمرما

فى جيش رأى لا يفلّ عرمرم

وقال عنترة (١) :

فأجبتها إنّ المنية منهل

لا بدّ أن أسقى بذاك المنهل

وقال جرير (٢) :

زعم الفرزدق أن سيقتل مربعا

أبشر بطول سلامة يا مربع

وقال المخبل :

وينفس فيما أورثتنى أوائلى

ويرغب عما أورثته أوائله

__________________

(١) ديوانه : ١٠٠.

(٢) ديوانه : ٣٤٨.

٣٨٩

ومنها ما يوافق أول كلمة منها آخر كلمة فى النصف الأخير ، كقول الشاعر (١) :

سريع إلى ابن العم يلطم وجهه

وليس إلى داعى الوغى (٢) بسريع

وقول ابن الأسلت :

أسعى على جلّ بنى مالك

كلّ امرئ فى شأنه ساع

ومنه ما يكون فى حشو الكلام فى فاصلته ، كقول الله تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً). وقوله تعالى : (قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب (وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى). وكقول امرئ القيس (٣) :

إذا المرء لم يخزن عليه لسانه

فليس على شيء سواه بخزّان

وقول الآخر :

كذلك خيمهم ولكل قوم

إذا مستهم الضراء خيم

وقول زهير (٤) :

ولأنت تفرى ما خلقت (٥) وبع

ض القوم يخلق ثم لا يفرى

وقال جرير (٦) :

سقى الرمل جون مستهلّ ربابه

وما ذاك إلّا حبّ من حلّ بالرمل (٧)

أخذه من قول النّمرىّ :

لعمرك ما أسقى البلاد لحبها

ولكنما أسقيك حار بن تولب

وقول ابن مقبل :

يا حرّ من يعتذر من أن يلمّ به

ريب المنون فإنى لست أعتذر

__________________

(١) هو الأقيشر ، معاهد التنصيص : ٣ ـ ٢٤٢.

(٢) فى المعاهد : «الندى».

(٣) ديوانه : ١٢٥.

(٤) ديوانه : ٩٤.

(٥) الخالق : الذى يقدر ويهيئ للقطع.

(٦) ديوانه : ٤٦٠.

(٧) الجون : السحاب الأسود. والرباب : ما كان دون السحاب.

٣٩٠

وقول الحطيئة (١) :

إذا نزل الشتاء بدار قوم

تجنّب جار بيتهم الشتاء

وقول الآخر :

رأت نضو أسفار أميمة واقفا

على نضو أسفار فجنّ جنونها

وقول عمرو بن معديكرب (٢) :

إذا لم تستطع شيئا فدعه

وجاوزه إلى ما تستطيع

وقول الآخر :

أصدّ بأيدى العيس عن قصد دارها

وقلبى إليها بالمودّة قاصد

ومن الضرب الأول قول زهير (٣) :

الستر دون الفاحشات ولا

يلقاك دون الخير من ستر

وقول الحطيئة (٤) :

تدرّون إن شدّ العصاب عليكم

ونأبى إذا شدّ العصاب فلا ندر

وقول أبى تمام (٥) :

أسائله ما باله حكم البلى

عليه وإلا فاتر كونى أسائله

وقوله :

تجشّم حمل الفادحات وقلّما

أقيمت صدور المجد إلّا تجشّما

وقول الآخر :

مفيد إن تزره وأنت مقو

تكن من فضل نعمته مفيدا

وقول الآخر (٦) :

واستبدت مرّة واحدة

إنما العاجز من لا يستبد

__________________

(١) ديوانه : ٢٧.

(٢) ديوانه : ١ ـ ٦٢.

(٣) ديوانه : ٩٥.

(٤) ديوانه : ٥٠.

(٥) ديوانه : ٢٣٠.

(٦) نهاية الأرب : ٣ : ١٠٩.

٣٩١

ومنها ما يقع فى حشو النصفين ؛ كقول النمر :

يودّ الفتى طول السلامة والغنى

فكيف ترى طول السّلامة تفعل

وقلت :

ألا لا يذم الدهر من كان عاجزا

ولا يعدل الأقدار من كان وانيا

فمن لم تبلّغه المعالى نفسه

فغير جدير أن ينال المعاليا

وقفت على يحيى رجائى وإنما

وقفت على صوب الربيع رجائيا

إذا ما الليالى أدركت ما سعت له

تمطيت جدواه ففتّ اللياليا

من العيوب

ومما عيب من هذا الباب قول ذى نواس البجلى :

يتيّمنى برق المباسم بالضّحى

ولا بارق إلّا الكريم يتيّمه

وقال منصور بن الفرج :

زرناك شوقا ولو أن النوى نشرت

بسط النوى بيننا بعدا لزرناك

وهذا أيضا داخل فى سوء الاستعارة ، وقوله أيضا :

إذا احتجب الغيث احتبى فى نديّه

فيضرب أغياثا له أن تحجّبا

وهذا البيت على غاية الغثاثة.

٣٩٢

الفصل التّاسع عشر

فى التتميم والتكميل

التتميم والتكميل

مثاله

وهو أن توفى المعنى حظه من الجودة ، وتعطيه نصيبه من الصحة ؛ ثم لا تغادر معنى يكون فيه تمامه إلا تورده ، أو لفظا يكون فيه توكيده إلا تذكره ؛ كقول الله تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) ، فبقوله تعالى : «وهو مؤمن» تمّ المعنى.

ونحو قوله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) ، فبقوله تعالى : «استقاموا» تم المعنى أيضا ؛ وقد دخل تحته جميع الطاعات ، فهو من جوامع الكلم.

ونحو قوله تعالى : (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ).

ومن النثر قول أعرابية لرجل : كبت الله كلّ عدو لك إلا نفسك. فبقولها : «نفسك» تم الدعاء ؛ لأن نفس الإنسان تجرى مجرى العدو له ، يعنى إنها تورطه وتدعوه إلى ما يوبقه.

ومثله قوله الآخر : احرس أخاك إلا من نفسه. وقريب منه قول الآخر : من لك بأخيك كله.

ومن المنظوم قول عمرو بن براق :

فلا تأمننّ الدهر حرّا ظلمته

فما ليل مظلوم كريم بنائم

فقوله : «كريم» تتميم ؛ لأن اللئيم يغضى على العار ، وينام على الثار ، ولا يكون منه دون المظالم تكبر. وقول عمرو بن الأيهم :

بها نلنا الغرائب من سوانا

وأحرزنا الغرائب أن تنالا

فالذى أكمل جودة المعنى قوله : «وأحرزنا الغرائب أن تنالا».

وقول الآخر (١) :

رجال إذا لم يقبل الحق منهم

ويعطوه عادوا بالسيوف القواضب

__________________

(١) العمدة : ٢ ـ ٤٨.

٣٩٣

وقول طرفة (١) :

فسقى ديارك غير مفسدها

صوب الربيع وديمة تهمى

فقوله : «غير مفسدها» إتمام المعنى ، وتحرز من الوقوع فيما وقع فيه ذو الرمة فى قوله (٢) :

ألا يا سلمى يا دار ميّ على البلى

ولا زال منهلّا بجرعائك القطر

فهذا بالدعاء عليها أشبه منه بالدعاء لها ؛ لأن القطر إذا انهل فيها دائما فسدت ؛ ومن العجب أن ذا الرّمة كان يستحسن قول الأعرابية ـ وقد سألها عن الغيث ، فقالت : «غيثا ما شئنا» ، وهو يقول خلاف ما يستحسن.

ومن التتميم قول الراعى :

لا خير فى طول الإقامة لامرئ

إلّا إذا ما لم يجد متحوّلا

ونحوه قول الآخر :

إذا كنت فى دار يهينك أهلها

ولم تك مكبولا بها فتحوّل

وقول الآخر :

ومقام العزيز فى بلد الذّلّ

إذا أمكن الرحيل محال

فقوله : «إذا أمكن الرحيل» تتميم ؛ وقول النّمر :

لقد أصبح البيض الغوانى كأنما

يرين إذا ما كنت فيهنّ أجربا

وكنت إذا لاقيتهنّ ببلدة

يقلن على النّكراء أهلا ومرحبا

فقوله : «على النكراء» تتميم ؛ ولو كانت بينه وبينهن معرفة لم ينكر له منهن أهل ومرحب.

وقول الآخر :

وهل علمت بيتنا إلّا وله

شربة من غيره وأكله

فقوله : «من غيره» تتميم ؛ لأن لكل بيت شربة وأكلة من أهله.

__________________

(١) ديوانه : ٦٢.

(٢) ديوانه : ٢ ـ ٤٨.

٣٩٤

وقول الشماخ (١) :

جماليّة لو يجعل السّيف عرضها

على حده لاستكبرت أن تضوّرا (٢)

فقوله : «على حده» تتميم عجيب.

ويدخل فى هذا الباب قول الآخر :

وقلّ من جدّ فى أمر يطالبه

فاستصحب الصبر إلا فاز بالظفر

وقول الخنساء (٣) :

وإنّ صخرا لتأتمّ الهداة به

كأنه علم فى رأسه نار

فقولها : «فى رأسه نار» تتميم عجيب ؛ قالوا : لم يستوف أحد هذا المعنى استيفاءها ، وهو مأخوذ من قول الأعشى (٤) :

وتدفن منه الصالحات وإن يسيء

يكن ما أساء النار فى رأس كبكبا (٥)

إلا أنها أخرجته فى معرض أحسن من معرض الأعشى ، فشهر واستفاض ، وخمل معها بيت الأعشى ورذل ، وهذا دليل على صحة ما قلنا من أنّ مدار البلاغة على تحسين اللفظ ، وتجميل الصورة. وقول الآخر :

ألا ليت النهار يعود ليلا

فإنّ الصبح يأتى بالهموم

حوائج لا نطيق لها قضاء

ولا ردّا ، وروعات الغريم

فقوله : «ولا ردا» تتميم.

__________________

(١) ديوانه : ٢٨.

(٢) جمالية : تشبه الجمل فى خلقتها ، وشدتها. والتضور : التضعف.

(٣) العمدة : ٢ : ٥٥.

(٤) اللسان (كبب).

(٥) كبكبا : اسم جبل بمكة.

٣٩٥

الفصل العشرون

فى الالتفات

ضرباه

الالتفات على ضربين ؛ فواحد أن يفرغ المتكلم من المعنى ، فإذا ظننت أنه يريد أن يجاوزه يلتفت إليه فيذكره بغير ما تقدم ذكره به. أخبرنا أبو أحمد ، قال : أخبرنى محمد بن يحيى الصولى ، قال قال الأصمعى : أتعرف التفاتات جرير؟ قلت : لا ، فما هى؟ قال (١) :

أتنسى إذ تودّعنا سليمى

بعود بشامة سقى البشام (٢)

ألا تراه مقبلا على شعره. ثم التفت إلى البشام فدعا له. وقوله (٣) :

طرب الحمام بذى الأرك فشاقنى

لا زلت فى علل وأيك ناضر

فالتفت إلى الحمام فدعا له.

ومنه قول الآخر :

لقد قتلت بنى بكر بربّهم

حتى بكيت وما يبكى لهم أحد

فقوله : «وما يبكى لهم أحد» التفات ؛ وقول حسان (٤) :

إنّ التى ناولتنى فرددتها

قتلت قتلت فهاتها لم تقتل

فقوله : «قتلت» التفات.

والضرب الآخر أن يكون الشاعر آخذا فى معنى وكأنه يعترضه شكّ أو ظن أن رادا يردّ قوله ، أو سائلا يسأله عن سببه ، فيعود راجعا إلى ما قدمه ؛ فإما أن يؤكده ، أو يذكر سببه ، أو يزيل الشك عنه ؛ ومثاله قول المعطّل الهذلى : (٥)

تبين صلاة الحرب منّا ومنهم

إذا ما التقينا والمسالم بادن (٦)

__________________

(١) ديوانه : ٥١٢.

(٢) البشام : شجر ذو ساق وأفنان وورق ولا ثمر له.

(٣) ديوانه : ٣٠٤.

(٤) ديوانه : ٨٠.

(٥) ديوان الهذليين : ٣ ـ ٤٧.

(٦) تبين : تستبين. صلاة الحرب : الذين يصلونها.

٣٩٦

فقوله : «والمسالم بادن» رجوع من المعنى الذى قدّمه ؛ حتى بيّن أن علامة صلاة الحرب من غيرهم أن المسالم بادن ، والمحارب ضامر.

وقول عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر :

وأجمل إذا ما كنت لا بدّ مانعا

وقد يمنع الشىء الفتى وهو مجمل

وقول طرفة (١) :

وتصد عنك مخيلة الرجل الش

نوف موضحة عن العظم (٢)

بحسام سيفك أو لسانك وال

كلم الأصيل كأرغب الكلم (٣)

فكأنه ظن معترضا ، يقول له : كيف يكون مجرى اللسان والسيف واحدا ؛ فقال : «والكلم الأصيل كأرغب الكلم» ؛ وإنما أخذه من امرئ القيس :

وجرح اللسان كجرح اليد

وأخذه آخر فقال :

والقول ينفذ ما لا تنفذ الإبر

ومن الالتفات قول جدير بن ربعان :

معازيل فى الهيجاء ليسوا بزادة

مجازيع عند البأس والحرّ يصبر

فقوله : «والحر يصبر» التفات.

وقول الرّماح بن ميادة :

فلا صرمه يبدو وفى اليأس راحة

ولا ودّه يصفو لنا فنكارمه

كأنه يقول : «وفى اليأس راحة» ، والتفت إلى المعنى لتقديره أن معارضا يقول له : وما تصنع بصرمه؟ فيقول : لأنه يؤدّى إلى اليأس ، وفى اليأس راحة.

__________________

(١) ديوانه : ٦١.

(٢) الشنوف : الذى يرفع رأسه ، وفى ط : المشروف. موضحة : شجة تبدى عن العظم.

(٣) كأرغب الكلم : كأشد الجراح وأكثرها اتساعا.

٣٩٧

الفصل الحادى والعشرون

فى الاعتراض

الاعتراض

الاعتراض ، وهو اعتراض كلام فى كلام لم يتم ، ثم يرجع إليه فيتمه ؛ كقول النابغة الجعدى (١) :

ألا زعمت بنو سعد بأنى

ألا كذبوا ـ كبير السنّ فانى

وقول كثير (٢) :

لو أنّ الباخلين وأنت منهم

رأوك تعلّموا منك المطالا

وقول الآخر (٣) :

فظلت بيوم دع أخاك بمثله

على مشرع يروى ولما يصرّد (٤)

وقول الآخر :

إن الثمانين وبلّغتها

قد أحوجت سمعى إلى ترجمان

وكتب آخر : فإنك ـ والله يدفع عنك ـ علق مضنّة ، ينفس ويتنافس به ، فيكون خلفا مما سواه ، ولا يكون فى غيره منه ؛ فإن رأيت أن تسمع العذر وتقبله ؛ فلو لم تكن شواهده واضحة ، وأنواره لائحة ، لكان فى الحق أن تهب ذنبى لجزعى ، وإذلالى لإشفاقى ، ولا تجمع علىّ لوعة لك ، وروعة منك ـ فعلت. فقوله : «فإنك والله يدفع عنك» اعتراض مليح.

وقول البحترى (٥) :

ولقد علمت وللشباب جهالة

أن الصّبا بعد الشباب تصابى

وقلت :

أأسحب أذيال الوفاء ولم يكن

وحاشاك من فعل الدنيّة وافيا

__________________

(١) العمدة : ٢ ـ ٤٢.

(٢) العمدة : ٢ ـ ٤٢.

(٣) العمدة : ٢ ـ ٤٢.

(٤) التصريد : التقليل

(٥) ديوانه : ٢ ـ ١٦.

٣٩٨

الفصل الثّانى والعشرون

فى الرجوع

الرجوع

الرجوع ، وهو أن يذكر شيئا ثم يرجع عنه ؛ كقول القائل : ليس معك من العقل شيء ، بلى (١) بمقدار ما يوجب الحجة عليك. وقال آخر : قليل العلم كثير ، بل ليس من العلم قليل ؛ وكقول الشاعر :

أليس قليلا نظرة إن نظرتها

إليك وكلّا ليس منك قليل

أخذه ابن هرمة ، فقال :

ليت حظى كلحظة العين منها

وكثير منها القليل المهغّا (٢)

وقال غيره :

إنّ ما قلّ منك يكثر عندى

وكثير ممّن تحبّ القليل

وقال دريد بن الصمة :

عير الفوارس معروف بشكته

كاف إذا لم يكن فى كربه كافى

وقد قتلت به عبسا وإخوتها

حتى شفيت وهل قلبى به شافى

وقول آخر :

نبّئت فاضح قومه يغتابنى

عند الأمير وهل علىّ أمير!

وقول آخر (٣) :

وما بى انتصار إن غدا الدهر ظالمى

علىّ ، بلى إن كان من عندك النصر

وقال آخر :

إذا شئت أن تلقى القناعة فاستخر

جذام بن عمرو إن أجاب جذام

ومن المذموم منه

ومن مذموم هذا الباب قول أبى تمام :

رضيت وهل أرضى إذا كان مسخطى

من الأمر ما فيه رضا من له الأمر

__________________

(١) كذا فى ط ، وفى ا : «بل».

(٢) كذا فى ط ، وفى ا : «وقليل منها الكثير المهنا»

(٣) خزانة الأدب لابن حجة ٣٦٧ ، ونسبه إلى أبى البيداء.

٣٩٩

الفصل الثّالث والعشرون

فى تجاهل العارف ، ومزج الشك باليقين

تجاهل العارف

تجاهل العارف ومزج الشك باليقين : هو إخراج ما يعرف صحته مخرج ما يشك فيه ليزيد بذلك تأكيدا ؛ ومثاله من المنثور ما كتبته إلى بعض أهل الأدب : سمعت بورود كتابك ، فاستفزّنى الفرح قبل رؤيته ، وهزّ عطفى المرح أمام مشاهدته ؛ فما أدرى أسمعت بورود كتاب ، أم ظفرت برجوع شباب ، ولم أدر ما رأيت : أخط مسطور؟ أم روض ممطور وكلام منثور؟ أم وشى منشور؟ ولم أدر ما أبصرت فى أثنائه : أأبيات شعر ، أم عقود در؟ ولم أدر ما حملته : أغيث حلّ بوادى ظمآن ، أم غوث سيق إلى لهفان.

ونوع منه ما كتب به كافى الكفاة :

كتبت إليك والأحشاء تهفو

وقلبى ما يقرّ له قرار

عن سلامة ؛ إن كان فى عدم السالمين من اتّصل سهاده ، وطار رقاده ، ففؤاده يجف ، ودمعه يكف ؛ ونهاره للفكر ، وليله للسّهر.

ومن المنظوم قول بعض العرب (١) :

بالله يا ظبيات القاع قلن لنا

ليلاى منكنّ أم ليلى من البشر

وقول آخر :

أأنت ديار الحىّ أيتها الرّبا ال

أنيقة أم دار المهى والنّعائم

وسرب ظباء الوحش هذا الّذى

أرى بربعك أم سرب الظّباء النواعم

وأدمعنا اللّاتى عفاك انسجامها

وأبلاك أم صوب الغمام السّواجم

وأيامنا فيك اللّواتى تصرّمت

مع الوصل أم أضغاث أحلام نائم

__________________

(١) معاهد التنصيص ٣ : ١٦٧ ، للعرجى أو المجنون أو ذى الرمة أو الحسين الغزى.

٤٠٠