كتاب الصّناعتين الكتابة والشعر

أبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري

كتاب الصّناعتين الكتابة والشعر

المؤلف:

أبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري


المحقق: علي محمد البجاوي ومحمد ابوالفضل ابراهيم
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٨

ولا يكاد يرى تشبيه أبرد من هذا.

وكتب آخر إلى أخ له يعتذر من ترك زيارته : قد طلعت فى إحدى أثيىّ بثرة ، فعظمت حتى كأنها الرمانة الصغيرة.

وقال علىّ الأسوارى : فلما رأيته اصفرّ وجهى حتى صار كأنه لون الكشّوت (١).

وقال له محمد بن الجهم : كم آخذ من الدواء الذى جئت به؟ قال : مقدار بعرة.

فجاء بلفظ قذر ، ولم يبن عن المراد ؛ لأن البعر يختلف فى الكبر والصغر ، ولا يعرف أبعرة ظبى أراد أم بعرة شاة أم بعرة جمل.

ومن التشبيه المتنافر قول الجمانى يصف ليلا :

كأنما الطرف يرمى فى جوانبه

عن العمى وكأن النجم قنديل

اجتماع العمى والقنديل فى غاية التنافر.

ومن رديء التشبيه قول ابن المعتز :

أرى ليلا من الشعر

على شمس من الناس

الجمع بين الليل والناس رديء. وقد وقع هاهنا باردا.

__________________

(١) الكشوث : نبات مجتث مقطوع الأصل ، وقيل : لا أصل له وهو أصفر يتعلق بأطراف الشوك.

٢٦١

الباب الثّامن

فى ذكر السجع والازدواج

لا يحسن منثور الكلام ولا يحلو حتى يكون مزدوجا ، ولا تكاد تجد لبليغ كلاما يخلو من الازدواج ، ولو استغنى كلام عن الازدواج لكان القرآن ؛ لأنه فى نظمه خارج من كلام الخلق ، وقد كثر الازدواج فيه حتى حصل فى أوساط الآيات فضلا عما تزاوج فى الفواصل منه (١). كقول الله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ). وقوله عزوجل : (أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ). وقوله تعالى : (وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ). وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ). إلى غير ذلك من الآيات.

وأما ما زووج بينه بالفواصل فهو كثير. مثل قوله تعالى : (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ ، وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ). وقوله سبحانه : (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ ، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ). وقوله عزوجل : (وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ). وقوله جل ذكره : (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا) ؛ وهذا من المطابقة التى لا تجد فى كلام الخلق مثلها حسنا ولا شدة احتصار ؛ على كثرة المطابقة فى الكلام. وكذلك جميع ما فى القرآن مما يجرى على التسجيع والازدواج مخالف فى تمكين المعنى ، وصفاء اللفظ ، وتضمّن الطّلاوة والماء لما يجرى مجراه من كلام الخلق. ألا ترى قوله عز اسمه : (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً فَالْمُورِياتِ قَدْحاً فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) قد بان عن جميع أقسامهم الجارية هذا المجرى ، من مثل قول

__________________

(١) فى ا «بالفاصل منه».

٢٦٢

الكاهن : والسماء والأرض ، والقرض والفرض ، والغمر والبرض (١). ومثل هذا من السجع مذموم لما فيه من التكلف والتعسف. ولهذا ما قال النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لرجل ، قال له : أندى (٢) من لا شرب ولا أكل ، ولا صاح ، فاستهلّ ، فمثل ذلك يطل (٣) : أسجعا كسجع الكهان! لأن التكلف فى سجعهم فاش ، ولو كرهه عليه الصلاة والسلام لكونه سجعا لقال : أسجعا ؛ ثم سكت ، وكيف يذمه ويكرهه ، وإذا سلم من التكلّف ، وبرئ من التعسّف لم يكن فى جميع صنوف الكلام أحسن منه.

وقد جرى عليه كثير من كلامه عليه‌السلام ؛ فمن ذلك ما حدثنا به يوسف الإمام بواسط ، قال حدثنا محمد بن خالد بن عبد الله أبو شهاب عن عوف عن زرارة ابن أوفى عن عبد الله بن سلام ، قال : لما قدم النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة انجفل الناس قبله ؛ فقيل : قدم رسول الله ، فجئت فى الناس لأنظر إليه. فلما تبينت وجهه عرفت أنه ليس بوجه كذاب ، فكان أول شيء تكلم به أن قال : «أيّها الناس ؛ أفشوا السّلام ، وأطعموا الطعام ، وصلوا الأرحام ، وصلّوا بالليل ، والناس نيام ، تدخلوا الجنة بسلام».

وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم ربما غيّر الكلمة عن وجهها للموازنة بين الألفاظ وإتباع الكلمة أخواتها ؛ كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعيذه من الهامّة ، والسّامّة ، وكل عين لامّة». وإنما أراد «ملمّة». وقوله عليه‌السلام : «ارجعن مأزورات ، غير مأجورات». وإنما أراد «موزورات» ، من الوزر. فقال : مأزورات ، لمكان مأجورات ، قصدا للتوازن وصحة التسجيع.

فكل هذا يؤذن بفضيلة التسجيع على شرط البراءة من التكلّف والخلو من التعسف.

__________________

(١) البرض : القليل وماء برض قليل وهو خلاف الغمر.

(٢) أندى ، من الدية وذلك حق القتيل.

(٣) يطل ؛ من طل دمه ؛ إذا أهدره. (والعبارة فى نقد النثر ١٠٧)

٢٦٣

وقد اعتمد فى موضع تجنب السجع وهو معرّض له ، وكلامه كان يطالبه. فقال : «وما يدريك أنه شهيد ، لعله كان يتكلم بما لا يعنيه ، ويبخل بما لا ينفعه». ولو قال : بما لا يغنيه ، لكان سجعا. والحكيم العليم بالكلام يتكلم على قدر المقامات ، ولعل قوله : «ينفعه» كان أليق بالمقام فعدل إليه.

وجوه السجع

والسجع على وجوه : فمنها أن يكون الجزءان متوازنين متعادلين ، لا يزيد أحدهما على الآخر ، مع اتفاق الفواصل على حرف بعينه. وهو كقول الأعرابى : سنة جردت ، وحال جهدت ، وأيد جمدت ، فرحم الله من رحم ، فأقرض من لا يظلم. فهذه الأجزاء متساوية لا زيادة فيها ولا نقصان ، والفواصل على حرف واحد. ومثله قول آخر من الأعراب ، وقد قيل له : من بقى من إخوانك؟ فقال : كلب نابح ، وحمار رامح ، وأخ فاضح. وقال أعرابى لرجل سأل لئيما : نزلت بواد غير ممطور ، وفناء غير معمور ، ورجل غير مسرور ؛ فأقم بندم ، أو ارتحل بعدم. ودعا أعرابى ، فقال : اللهم هب لى حقّك ، وأرض عنى خلقك. وقال آخر : شهادات الأحوال ، أعدل من شهادات الرجال. ودعا أعرابى ، فقال : أعوذ بك من الفقر إلّا إليك ، ومن الذّلّ إلا لك. وقال أعرابى ذهب بابنه السيل : اللهم إن كنت قد أبليت ، فإنك طالما عافيت. وقيل لأعرابى : ما خير العنب؟ قال : ما اخضرّ عوده ، وطال عموده ، وعظم عنقوده. وقال أعرابى : باكرنا وسمى ، ثم خلفه ولىّ (١). فالأرض كأنها وشى منشور ، عليه لؤلؤ منثور ، ثم أتتنا غيوم جراد ، بمناجل حصاد ، فاحترثت البلاد ، وأهلكت العباد ، فسبحان من يهلك القوىّ الأكول ، بالضعيف المأكول.

فهذه الفصول متوازية لا زيادة فى بعض أجزائها على بعض ، بل فى القليل منها ،

__________________

(١) الوسمى : مطر الربيع الأول ، والولىّ : المطر بعد المطر.

٢٦٤

وقليل ذلك مغتفر لا يعتدّ به. فمن ذلك قوله : «فسبحان من يهلك القوىّ الأكول» فيه زيادة على ما بعده وهو حسن.

ومنها أن يكون ألفاظ الجزأين المزدوجين مسجوعة ، فيكون الكلام سجعا فى سجع ، وهو مثل قول البصير : حتى عاد تعريضك تصريحا ، وتمريضك تصحيحا. فالتعريض والتمريض سجع ، والتصريح والتصحيح سجع آخر ، فهو سجع فى سجع ؛ وهذا الجنس إذا سلم من الاستكراه فهو أحسن وجوه السجع. ومثله قول الصاحب : لكنه عمد للشوق فأجرى جياده غرّا وقرحا (١) ، وأورى زناده قدحا فقدحا. وقوله : هل من حق الفضل تهضمه شغفا ببلدتك ، وتظلمه كلفا بأهل جلدتك. وقوله : وقد كتبت إلى فلان ما يوجز الطريق إلى تخلية نفسه ، وينجز وعد الثقة فى فك حبسه ؛ فهذان الوجهان من أعلى مراتب الازدواج والسجع.

والذى هو دونهما : أن تكون الأجزاء متعادلة ، وتكون الفواصل على أحرف متقاربة المخارج إذا لم يمكن أن تكون من جنس واحد ، كقول بعض الكتّاب : إذا كنت لا تؤتى من نقص كرم ، وكنت لا أوتى من ضعف سبب ؛ فكيف أخاف منك خيبة أمل ، أو عدولا عن اغتفار زلل ، أو فتورا عن لم شعث ، أو قصورا عن إصلاح خلل. فهذا الكلام جيّد التوازن ولو كان بدل «ضعف سبب» كلمة آخرها ميم ليكون مضاهيا لقوله : «نقص كرم» لكان أجود ؛ وكذلك القول فيما بعده.

والذى ينبغى أن يستعمل فى هذا الباب ولا بدّ منه هو الازدواج ، فإن أمكن أن يكون كل فاصلتين على حرف واحد ، أو ثلاث ، أو أربع لا يتجاوز ذلك كان أحسن ؛ فإن جاوز ذلك نسب إلى التكلف. وإن أمكن أيضا أن تكون الأجزاء متوازنة كان أجمل ، وإن لم يكن ذلك فينبغى أن يكون الجزء الأخير أطول ، على أنه

__________________

(١) الغر : جمع أغر ، وهو الحصان يكون فى وجهه بياض. القرح : جمع أقرح ، وهو ما كان فى وجهه بياض دون الغرة.

٢٦٥

قد جاء فى كثير من ازدواج الفصحاء ما كان الجزء الأخير منه أقصر ، حتى جاء فى كلام النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم منه شيء كثير. كقوله للأنصار يفضّلهم على من سواهم : «إنكم لتكثرون عند الفزع ، وتقلّون عند الطّمع». وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رحم الله من قال خيرا فغنم ، أو سكت فسلم». وكقول أعرابى : فلان صحيح النسب ، مستحكم السبب ، من أى أقطاره أتيته أتى إليك بحسن مقال ، وكرم فعال. وقال آخر من الأعراب : اللهم اجعل خير عملى ما ولى أجلى.

وينبغى أيضا أن تكون الفواصل على زنة واحدة ، وإن لم يمكن أن تكون على حرف واحد ، فيقع التعادل والتوازن ، كقول بعضهم : اصبر على حرّ اللقاء ، ومضض النزال ، وشدة المصاع (١) ، ومداومة المراس. فلو قال : على حرّ الحرب ، ومضض المنازلة ، لبطل رونق التوازن ، وذهب حسن التعادل.

ومن عيوب الازدواج التجميع ؛ وهو أن تكون فاصلة الجزء الأول بعيدة المشاكلة لفاصلة الجزء الثانى ؛ مثل ما ذكر قدامة : أن كاتبا كتب : وصل كتابك فوصل به ما يستعبد الحرّ ، وإن كان قديم العبودية ، ويستغرق الشكر ، وإن كان سالف ودك لم يبق منه شيئا ؛ فالعبودية بعيدة عن مشاكلة منه.

ومن عيوبه التطويل ؛ وهو أن تجيء بالجزء الأول طويلا ، فتحتاج إلى إطالة الثانى ضرورة ، مثل ما ذكر قدامة : أن كاتبا كتب فى تعزية : إذا كان للمحزون فى لقاء مثله أكبر الراحة فى العاجل ... فأطال هذا الجزء وعلم أن الجزء الثانى ينبغى أن يكون طويلا مثل الأول وأطول ، فقال : وكان الحزن راتبا إذا رجع إلى الحقائق وغير زائل. فأتى باستكراه ، وتكلّف عجيب.

وقد أعجب العرب السجع حتى استعملوه فى منظوم كلامهم ، وصار ذلك الجنس

__________________

(١) المصاع : القتال والمجالدة.

٢٦٦

من الكلام منظوما فى منظوم ، وسجعا فى سجع. وهذا مثل قول امرئ القيس (١) :

سليم الشّظى عبل الشّوى شنج النّسا (٢)

وقوله (٣) :

وأوتاده ماذية وعماده

ردينية فيها أسنة قعضب (٤)

وقوله (٥) :

فتور القيام قطيع الكلام

يفتر عن ذى غروب خصر (٦)

وسمى أهل الصنعة هذا النوع من الشعر المرصّع ، وستراه فى موضعه مشروحا مستقصى إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) ديوانه : ٦٥ ، وبقيته :

له حجبات مشرفات على الفالى

(٢) الشظى : عظم لاصق بالذراع فإذا زال قيل شظيت الدابة. والشوى : اليدان والرجلان. والشنج : التقبض. والنساء : عرق فى الفخذ.

(٣) ديوانه : ٧٩

(٤) الماذية : الدروع البيض. والردينية : الرماح. وقعضب : رجل كان فى الجاهلية يصنع الرماح.

(٥) ديوانه : ٨.

(٦) الغروب : حدة الأسنان وماؤها. والخاصر : البارد.

٢٦٧

الباب التّاسع

فى شرح البديع ، وهو خمسة وثلاثون فصلا

الفصل الأول فى الاستعارة والمجاز ، الفصل الثانى فى التطبيق ، الفصل الثالث فى التجنيس ، الفصل الرابع فى المقابلة ، الفصل الخامس فى صحة التّقسيم ، الفصل السادس فى صحة التفسير ، الفصل السابع فى الإشارة ، الفصل الثامن فى الأرداف والتوابع ، الفصل التاسع فى المماثلة ، الفصل العاشر فى الغلوّ ، الفصل الحادى عشر فى المبالغة ، الفصل الثانى عشر فى الكناية والتعريض ، الفصل الثالث عشر فى العكس والتبديل ، الفصل الرابع عشر فى التذييل ، الفصل الخامس عشر فى الترصيع ، الفصل السادس عشر فى الإيغال ، الفصل السابع عشر فى الترشيح ، الفصل الثامن عشر فى رد الأعجاز على الصدور ، الفصل التاسع عشر فى التكميل والتتميم ، الفصل العشرون فى الالتفات ، الفصل الحادى والعشرون فى الاعتراض ، الفصل الثانى والعشرون فى الرجوع ، الفصل الثالث والعشرون فى تجاهل العارف ، الفصل الرابع والعشرون فى الاستطراد ، الفصل الخامس والعشرون فى جمع المؤتلف والمختلف ، الفصل السادس والعشرون فى السلب والإيجاب ، الفصل السابع والعشرون فى الاستثناء ، الفصل الثامن والعشرون فى المذهب الكلامى ، الفصل التاسع والعشرون فى التشطير ، الفصل الثلاثون فى المحاورة ، الفصل الحادى والثلاثون فى الاستشهاد والاحتجاج ، الفصل الثانى والثلاثون فى التعطف ، الفصل الثالث والثلاثون فى المضاعف ، الفصل الرابع والثلاثون فى التطريز ، الفصل الخامس والثلاثون فى التلطف.

٢٦٨

فهذه أنواع البديع التى ادّعى من لا رواية له ولا دراية عنده أن المحدثين ابتكروها وأن القدماء لم يعرفوها ؛ وذلك لما أراد أن يفخّم أمر المحدثين ؛ لأن هذا النوع من الكلام إذا سلم من التكلف ، وبرئ من العيوب ، كان فى غاية الحسن ، ونهاية الجودة.

وقد شرحت فى هذا الكتاب فنونه ، وأوضحت طرقه ، وردت على ما أورده المتقدمون ستة أنواع : التشطير ، والمحاورة ، والتطريز ، والمضاعف ، والاستشهاد ، والتلطف. وشذبت على ذلك فضل تشذيب ، وهذبته زيادة تهذيب ، وبالله أستعين على ما يزلف لديه ، ويستدعى الإحسان من عنده وهو تعالى وليه ومولاه إن شاء الله.

٢٦٩

الفصل الأوّل

فى الاستعارة والمجاز

الاستعارة والغرض منها

الاستعارة : نقل العبارة عن موضع استعمالها فى أصل اللغة إلى غيره لغرض ، وذلك الغرض إما أن يكون شرح المعنى وفضل الإبانة عنه ، أو تأكيده والمبالغة فيه ، أو الإشارة إليه بالقليل من اللفظ ، أو تحسين المعرض الذى يبرز فيه ؛ وهذه الأوصاف موجودة فى الاستعارة المصيبة ؛ ولو لا أن الاستعارة المصيبة تتضمّن ما لا تتضمنه الحقيقة ؛ من زيادة فائدة لكانت الحقيقة أولى منها استعمالا.

والشاهد على أن للاستعارة المصيبة من الموقع ما ليس للحقيقة أن قول الله تعالى : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) أبلغ وأحسن وأدخل مما قصد له من قوله لو قال : يوم يكشف عن شدة الأمر ، وإن كان المعنيان واحدا ؛ ألا ترى أنك تقول لمن تحتاج إلى الجد فى أمره : شمّر عن ساقك فيه ، واشدد حيازيمك له ؛ فيكون هذا القول منك أوكد فى نفسه من قولك : جدّ فى أمرك ، وقول دريد بن الصمة (١) :

كميش الإزار خارج نصف ساقه

صبور على العزّاء طلّاع أنجد (٢)

وقال الهذلىّ (٣) :

وكنت إذا جارى دعا لمضوفة

أشمّر حتى ينصف الساق مئزرى

ومن ذلك قوله تعالى : (وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) ، (وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) ؛ وهذا أبلغ من قوله سبحانه : (وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) ؛ وإن كان فى قوله : ولا يظلمون شيئا أنفى لقليل الظلم وكثيره فى الظاهر. وكذا قوله تعالى : (ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ)

__________________

(١) ديوان الحماسة : ٢ ـ ٣٠٨ (شرح التبريزى).

(٢) كميش الإزار : قصيره. وطلاع أنجد : ضابط للأمور غالب لها.

(٣) ديوان الهذليين : ٣ ـ ٩٢. لمضوفة ، أى أمر ضافه ، أى نزل به وشق عليه.

٢٧٠

أبلغ من قوله تعالى : (ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) ، وإن كان هذا أنفى لجميع ما يملك فى الظاهر. وتقول العرب : ما رزأته زبالا. والزّبال : ما تحمله النحلة بفيها ؛ يريدون ما نقصته شيئا. وقال النابغة (١) :

يجمع الجيش ذا الألوف ويعدو

ثمّ لا يرزأ العدوّ فتيلا (٢)

ولو قلت أيضا : ما يملك شيئا البتة ، وما يظلمون شيئا لما عمل عمل قولك : ما يملكون قطميرا. ولا يظلمون نقيرا (٣) ؛ وإن كان فى الأول ما يؤكده من قولك : البتة ، وأصلا. كذا حكاه لى أبو أحمد عن أبيه عن عسل بن ذكوان. وليس يقتضى هذا أنهم يظلمون دون النقير ، أو يملكون دون القطمير ؛ بل هو نفى لجميع الملك والظلم ، لا يشك فى ذلك من يسمعه.

وفضل هذه الاستعارة وما شاكلها على الحقيقة أنها تفعل فى نفس السامع ما لا تفعل الحقيقة ؛ ومن غير هذا النوع قوله تعالى : (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) معناه سنقصد ؛ لأنّ القصد لا يكون إلا مع الفراغ ، ثم فى الفراغ هاهنا معنى ليس فى القصد وهو التوعد والتهديد. ألا ترى قولك : سأفرغ لك ، يتضمن من الإيعاد ما لا يتضمّنه قولك : سأقصد لك. وهكذا قوله تعالى : (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) ؛ أى لا تعي شيئا ، لأن المكان إذا كان خاليا فهو هواء حتى يشغله شيء. وقولك : هذا أوجز من قولك : لا تعى شيئا ، فلإيجازه فضل الحقيقة. وكذلك قوله تعالى : (أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ) ، معناه أطلعنا عليهم. والاستعارة أبلغ ؛ لأنها تتضمن غفلة القوم عنهم حتى اطلعوا عليهم ، وأصله أن من عثر بشىء وهو غافل نظر إليه حتى يعرفه ، فاستعير الإعثار مكان التبيين والإظهار. ومنه قول الناس : ما عثرت من فلان على سوء قط ؛ أى ما ظهرت على ذلك منه.

__________________

(١) ديوانه : ٩٠.

(٢) الفتيل : ما كان فى شق النواة.

(٣) القطمير : القشرة الرقيقة على النواة. والنقير : النكتة فى النواة.

٢٧١

ومنه قوله عز اسمه : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) ؛ فاستعمل النور مكان الهدى ، لأنه أبين ، والظلمة مكان الكفر لأنها أشهر. وكذلك قوله تعالى : (وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) ، وأصل الوزر ما حمله الإنسان على ظهره. ومن ذلك قوله عزوجل : (وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها) أى أحمالا من حليهم ، فذكر الحمل وأراد الإثم لما فى وضع الحمل عن الظهر من فضل الاستراحة ، وحسن ذكر إنقاض الظهر وهو صوته لذكر الحمل ؛ لأن حامل الحمل الثقيل جدير بإنقاض الظهر ، والأوزار أيضا : السلاح. ومنه قوله تعالى : (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها). وقال الشاعر :

وأعددت للحرب أوزارها

رماحا طوالا وخيلا ذكورا (١)

وقوله تعالى : (وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) ؛ أى ترخصوا. والاستعارة أبلغ ؛ لأن قولك : أغمض عن الشىء أدعى إلى ترك الاستقصاء فيه من قولك : رخص فيه. وكذلك قوله تعالى : (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ) معناه فإنه يماسّ المرأة وزوجها يماسّها. والاستعارة أبلغ ؛ لأنها أدل على اللصوق وشدة المماسة. ويحتمل أن يقال : إنهما يتجردان ويجتمعان فى ثوب واحد ويتضامّان فيكون كل واحد منهما للآخر بمنزلة اللباس ؛ فيجعل ذلك تشبيها بغير أداة التشبيه.

ولا بد لكل استعارة ومجاز من حقيقة ، وهى أصل الدلالة على المعنى فى اللغة ، كقول امرئ القيس (٢) :

وقد أغتدى والطير فى وكناتها

بمنجرد قيد الأوابد هيكل (٣)

__________________

(١) البيت للأعشى : قال فى اللسان قال ابن برى : وصواب إنشاده بفتح التاء من أعددت ، لأنه يخاطب هوذة بن على الحنفى.

(٢) ديوانه : ٣٤

(٣) الوكنات : المواضع التى تأوى إليها الطير فى رءوس الجبال. والمنجرد : الفرس القصير الشعر ، وذلك من صفة الخيل العتاق. والأوابد : واحده آبدة الوحش. والهيكل : الفرس الفخم المشرف.

٢٧٢

والحقيقة مانع الأوابد من الذهاب والإفلات ، والاستعارة أبلغ ؛ لأن القيد من أعلى مراتب المنع عن التصرف ، لأنك تشاهد ما فى القيد من المنع ، فلست تشك فيه. وكذلك قولهم : هذا ميزان القياس ؛ حقيقته تعديل القياس ، والاستعارة أبلغ ؛ لأن الميزان يصوّر لك التعديل حتى تعاينه ، وللعيان فضل على ما سواه. وكذلك : العروض ميزان الشعر ، حقيقته تقويمه.

ولا بدّ أيضا من معنى مشترك بين المستعار والمستعار منه ؛ والمعنى المشترك بين قيد الأوابد ومانع الأوابد هو الحبس وعدم الإفلات ، وبين ميزان القياس وتعديله حصول الاستقامة وارتفاع الحيف والميل إلى أحد الجانبين ؛ وهكذا جميع الاستعارات والمجازات.

ومن ذلك قوله تعالى : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) حقيقته عمدنا ، وقدمنا أبلغ ؛ لأنه دلّ فيه على ما كان من إمهاله لهم ، حتى كأنه كان غائبا عنهم ، ثم قدم فاطلع منهم على غير ما ينبغى فجازاهم بحسبه ؛ والمعنى الجامع بينهما العدل فى شدة النكير ؛ لأن العمد إلى إبطال الفاسد عدل. وأما قوله : (هَباءً مَنْثُوراً) فحقيقته أبطلناه حتى لم يحصل منه شيء ، والاستعارة أبلغ ؛ لأنه إخراج ما لا يرى إلى ما يرى. والشاهد أيضا على أن الاستعارة أبلغ من الحقيقة أن قوله تعالى : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ) حقيقته علا وطما ، والاستعارة أبلغ ؛ لأن فيها دلالة القهر ، وذلك أن الطغيان علوّ فيه غلبة وقهر. وكذلك قوله تعالى : (بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ) حقيقته شديدة ، والاستعارة أبلغ ؛ لأن العتو شدّة فيها تمرد. وقوله تعالى : (سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ. تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) حقيقة الشهيق هاهنا الصوت الفظيع ؛ وهما لفظتان ، والشهيق لفظة واحدة فهو أوجز على ما فيه من زيادة البيان. وتميّز : حقيقته تنشق من غير تباين ، والاستعارة أبلغ ؛ لأن التميز فى الشىء هو أن يكون كلّ نوع منه مباينا لغيره وصائرا على حدته ، وهو أبلغ من الانشقاق ؛ لأن الانشقاق قد يحصل فى الشىء من غير تباين ، والغيظ

٢٧٣

حقيقته شدة الغليان ، وإنما ذكر الغيظ ؛ لأن مقدار شدته على النفس مدرك محسوس ، ولأن الانتقام منا يقع على قدره ؛ ففيه بيان عجيب وزجر شديد لا تقوم مقامه الحقيقة البتة.

وقوله تعالى : (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ) معناه ذهب ، وسكت أبلغ ؛ لأن فيه دليلا على موقع العودة فى الغضب إذا تؤمل الحال ، ونظر فيما يعود به عبادة العجل من الضرر فى الدين ، كما أن الساكت يتوقّع كلامه.

وقوله تعالى : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً). وحقيقته ذر بأسى وعذابى ؛ إلا أن الأول أبلغ فى التهدد ؛ كما تقول إذا أردت المبالغة والإيعاد : ذرنى وإياه ، ولو قال : ذر ضربى له وإنكارى عليه لم يسدّ ذلك المسد ، ولعله لم يكن حسنا مقبولا. وقوله عزوجل : (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ) معناه كشفنا الظلمة ، والأول أبلغ ؛ لأنك إذا قلت : محوت الشىء فقد بينت أنك لم تبق له أثرا ؛ وإذا قلت : كشفت الشىء مثل الستر وغيره لم تبن أنك أذهبته حتى لم تبق له أثرا. وقوله سبحانه : (وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) حقيقته مضيئة ، والاستعارة أبلغ ؛ لأنها تكشف عن وجه المنفعة ، وتظهر موقع النعمة فى الإبصار.

وقوله تعالى : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) حقيقته كثر الشيب فى الرأس وظهر ، والاستعارة أبلغ ؛ لفضل ضياء النار على ضياء الشيب ، فهو إخراج الظاهر إلى ما هو أظهر منه ، ولأنه لا يتلافى انتشاره فى الرأس ، كما لا يتلافى اشتعال النار. وقوله تعالى : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ) ، حقيقته بل نورد الحقّ على الباطل فيذهبه. والقذف أبلغ من الإيراد ؛ لأن فيه بيان شدة الوقع وفى شدة الوقع بيان القهر ، وفى القهر هاهنا بيان إزالة الباطل على جهة الحجة ، لا على جهة الشك والارتياب ، والدمغ أشد من الإذهاب ، لأن فى الدمغ من شدة التأثير وقوة النكاية ما ليس فى الإذهاب. وقوله تعالى : (عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) وقوله عز اسمه : (إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ) فالعقيم التى لا تجيء بولد ؛ والولد من أعظم النعم ، وأجسم الخيرات ؛ ولهذا قالت العرب : شوهاء ولود ، خير من حسناء عقيم.

٢٧٤

فلما كان ذلك اليوم لم يأت بمنفعة حين جاء ، ولم يبق خيرا حين مر سمى عقيما. ويمكن أن يقال : إنما سمى عقيما لأنه لم يبق أحدا من القوم ، كما أن العقيم لا يخلف نسلا ، وسمى الريح ، عقيما لأنها لم تأت بمطر ينتفع به ويبقى له أثر من نبات وغيره ؛ كما أنّ العقيم من النساء لا تأتى بولد يرجى.

وفضل الاستعارة على الحقيقة فى هذا أنّ حال العقيم فى هذا أظهر قبحا من حال الريح التى لا تأتى بمطر ؛ لأن العقيم كانت عند العرب أكره وأشنع من ريح لا تأتى بمطر ؛ لأن العادة فى أكثر الرياح ألّا تأتى بمطر ، وليست العادة فى النساء أن يكون أكثرهن عقيما.

وقوله تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) ، وهذا الوصف إنما هو على ما يتلوح (١) للعين لا على حقيقة المعنى ؛ لأن الليل والنهار اسمان يقعان على هذا الجو عند إظلامه لغروب الشمس وإضاءته لطلوعها ، وليسا على الحقيقة شيئين يسلخ أحدهما من الآخر ، إلا أنهما فى رأى العين كأنهما ذلك ، والسلخ يكون فى الشىء الملتحم بعضه ببعض ، فلما كانت هوادى الصبح عند طلوعه كالملتحمة بأعجاز الليل أجرى عليها اسم السلخ ؛ فكان أفصح من قوله : يخرج ؛ لأن السلخ أدل على الالتحام المتوهّم فيهما من الإخراج.

وقوله تعالى : (فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) ؛ من قولهم : أنشر الله الموتى فنشروا ، وحقيقته أظهرنا به النبات ؛ إلا أن إحياء الميت أعجب ، فعبر عن إظهار النبات به فصار أحسن من الحقيقة.

وقوله تعالى : (وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) ، يعنى الحرب ، فنبّه على ما له تخاف الحرب ؛ وهو شوكة السلاح وهى حدّه ، فصار أحسن من الحقيقة لإنبائه عن نفس المحذور. ألا ترى أن قولك لصاحبك : لأوردنّك على حدّ السيف ، أشدّ موقعا من قولك له : لأحاربنّك.

وقوله تعالى : (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) ، أى كثير. والاستعارة أبلغ ، لأن معنى العرض فى مثل هذا الموضع التمام. قال كثيّر :

أنت ابن فرعى قريش لو تقايسها

فى المجد صار إليك العرض والطول

__________________

(١) تلوح : بان ووضح.

٢٧٥

أى صار إليك المجد بتمامه ؛ وقد يكون كثيرا غير تام.

وقوله تعالى : (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) ، حقيقته إذا انتشر ، وتنفّس أبلغ لما فيه من بيان الرّوح عن النفس عند إضاءة الصّبح ؛ لأن لليل كربا وللصبح تفرّجا. قال الطرماح :

على أنّ للعينين فى الصّبح راحة

بطرحهما طرفيهما كلّ مطرح

والراحة التى يجدها الإنسان عند التنفس محسوسة.

وقوله تعالى : (مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا) ، حقيقته أزعجوا ، والزلزلة أبلغ ، لأنها أشد من الازعاج ومن كل لفظة يعبر بها عنه أيضا.

وقوله تعالى : (أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً) ، حقيقته صبّرنا ، والاستعارة أبلغ ؛ لأن الإفراغ يدل على العموم ، معناه ارزقنا صبرا يعمّ جميعنا كإفراغك الماء على الشىء فيعمّه.

وقوله سبحانه : (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) ، حقيقته حصلت ، إلا أن للضرب تبيينا ليس للحصول ، وقالوا : ضرب على فلان البعث ، أى أوجب وأثبت عليه ، والشىء يثبت بالضرب ولا يثبت بالحصول ، والضرب أيضا ينبئ عن الإذلال والنقص ، وفى ذلك الزّجر وشدة النقير عن حالهم.

وقوله تعالى : (فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ) ، حقيقته غفلوا عنه ، والاستعارة أبلغ ؛ لأن فيه إخراج ما لا يرى إلى ما يرى ، ولأن ما حصل وراء ظهر الإنسان فهو أحرى بالغفلة عنه مما حصل قدامه.

وقوله تعالى : (أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا) ، حقيقته ذات سرور ، والاستعارة أبلغ ؛ لأن العادة جرت فى الأعياد بتوفير السرور عند الصّغير والكبير ، فتضمن من معنى السرور ما لا تتضمّنه الحقيقة.

وكذلك قوله عز اسمه : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا). وقوله تعالى : (فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ) ، أخرج ما لا يرى من تنقّصهم بآيات القرآن إلى الخوض الذى يرى. وعبّر عن فعل إبليس الذى لا يشاهد بالتدلّى من العلوّ إلى سفل وهو مشاهد. ولما كانوا يتكلمون فى آيات القرآن ، ويتنقصونها بغير بصيرة شبّه ذلك بالخوض ؛ لأن الخائض يطأ على غير بصيرة.

وكذلك قوله تعالى : (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) ، حقيقته خطأ ؛ لأن الاعوجاج

٢٧٦

مشاهد والخطأ غير مشاهد. وكذلك قوله سبحانه : (أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) ، أى إلى معين ؛ والاستعارة أبلغ ؛ لأن الركن مشاهد ، والمعين لا يشاهد من حيث أنه معين.

وكذلك قوله تعالى : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ) ، حقيقته لا تكوننّ ممسكا ، والاستعارة أبلغ ؛ لأن الغل مشاهد والإمساك غير مشاهد ، فصور له قبح صورة المغول ليستدل به على قبح الإمساك.

وقوله تعالى : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ) ، حقيقته لنرينّهم ، والاستعارة أبلغ ؛ لأن حسّ الذائق لإدراك ما يذوقه قوى ، وللذوق فضل على غيره من الحواسّ. ألا ترى أنّ الإنسان إذا رأى شيئا ولم يعرفه شمّه فإن عرفه وإلا ذاقه ، لما يعلم أن للذوق فضلا فى تبين الأشياء.

وقوله تعالى : (فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً) ، حقيقته منعناهم (١) بآذانهم ، من غير صمم يبطل آلة السمع ، كالضرب على الكتاب يمنع من قراءته ولا يبطله ، والاستعارة أبلغ ؛ لإيجازه وإخراج ما لا يرى إلى ما يرى.

وقوله عز اسمه : (وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ) ليس فى جميع القرآن أبلغ ولا أفصح من هذا ، وحقيقة القرض هاهنا أن الشمس تمسّهم وقتا يسيرا ثم تغيب عنهم ، والاستعارة أبلغ ؛ لأن القرض أقل فى اللفظ من كل ما يستعمل بدله من الألفاظ ، وهو دال على سرعة الارتجاع ، والفائدة أن الشمس لو طاولتهم بحرّها لصهرتهم (٢) ، وإنما كانت تمسّهم قليلا بقدر ما يصلح الهواء الذى هم فيه ؛ لأن الشمس إذا لم تقع فى مكان أصلا فسد.

فهذه جملة مما فى كتاب الله عزوجل من الاستعارة ، ولا وجه لاستقصاء جميعه ؛ لأن الكتاب يخرج عن حده.

الاستعارة فى كلام العرب

وأما ما جاء فى كلام العرب منه ، فمثل قولهم : هذا رأس الأمر ووجهه ، وهذا الأمر فى جنب غيره يسير ، ويقولون : هذا جناح الحرب وقلبها. وهؤلاء رءوس

__________________

(١) فى ط «معنى الإحساس» ، وصوابه فى ب.

(٢) الصهر : هنا بمعنى الإذابة ، من قولهم : صهر الشحم ونحوه يصهره صهرا : أذابه.

٢٧٧

القوم وجماجمهم وعيونهم. وفلان ظهر فلان ، ولسان قومه ونابهم وعضدهم. وهذا كلام له ظهر وبطن. وفى العرب الجماجم ، والقبائل ، والأفخاذ ، والبطون ، وخرج علينا عنق (١) من الناس. وله عندى يد بيضاء ، وهذه سرّة الوادى ، وبابل عين الأقاليم ، وهذا أنف الجبل ، وبطن الوادى ، ويسمون النبات نوءا. قال (٢) :

وجف أنواء السّحاب المرتزق

أى جفّ البقل ، ويقولون للمطر : سماء. قال الشاعر (٣) :

إذا سقط السماء بأرض قوم

رعيناه وإن كانوا غضابا

ويقولون : ضحكت الأرض ، إذا أنبتت ؛ لأنها تبدى عن حسن النبات كما يفتر الضاحك عن الثغر ، ويقال : ضحكت الطلعة. والنور يضاحك الشمس.

قال الأعشى (٤) :

يضاحك الشمس منها كوكب شرق

مؤزّر بعميم النبت مكتهل (٥)

ويقولون : ضحك السحاب بالبرق ، وحنّ بالرعد ، وبكى بالقطر. ويقولون : لقيت من فلان عرق القربة ، أى شدة ومشقة. وأصل هذا أنّ حامل القربة يتعب من نقلها حتى يعرق. ويقولون أيضا : لقيت منه عرق الجبين ، والعرب تقول : بأرض فلان شجر قد صاح ؛ وذلك إذا أطال فتبين للناظر بطوله ، ودل على نفسه ؛ لأنّ الصائح يدل على نفسه. ويقولون : هذا شجر واعد ، إذا أقبل بماء ونضرة ؛ كأنه يعد بالثمر ؛ قال سويد بن أبى كاهل (٦) :

لعاع تهاداه الدكادك واعد (٧)

__________________

(١) العنق بالضم : الجماعة الكثيرة من الناس ، مذكر ، والجمع أعناق.

(٢) أراجيز العرب ٢٧ ، والقائل رؤبة. وفيه : أنواء الربيع.

(٣) معاهد التنصيص : ١ ـ ٢٦١ ، وهو لمعاوية بن مالك.

(٤) المعلقات : ٢٧٦.

(٥) يضاحك الشمس : يدور معها. والشرق : الريان. والعميم : التام. والمكتهل : الذى انتهى فى التمام.

(٦) اللسان (لعع) ، يصف ثورا وكلابا ، وصدره :

رعى غير مذعور بهن وراقه

(٧) اللعاع : نبات لين من أحرار البقول فيه ماء كثير لزج. والدكادك : واحده دكدك ، والدكدك من الرمل : ما التبد بعضه على بعض بالأرض ولم يرتفع كثيرا.

٢٧٨

ومثله قول الشاعر :

يريد الرمح صدر أبى براء

ويرغب عن دماء بنى عقيل

ومثله قوله تعالى : (جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ).

وأنشد الفراء :

إنّ دهرا يلفّ شملى بسلمى

لزمان يهمّ بالإحسان

الاستعارة فى كلام النبى والصحابة والأعراب

ومما فى كلام النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والصحابة رضى الله عنهم ، ونثر الأعراب ، وفصول الكتاب من الاستعارة قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة».

وقال طفيل :

وللخيل أيّام فمن يصطبر لها

ويعرف لها أيامها الخير تعقب

وقول النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كلّما سمع هيعة (١) طار إليها». وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أكثروا من ذكر هادم اللذات». وقال عليه الصلاة والسلام : «البلاء موكّل بالمنطق». ورأى عليّا مع فاطمة رضى الله عنهما فى بيت فردّ عليهما الباب وقال : «جدع الحلال أنف الغيرة».

وقال علىّ رضى الله عنه : السفر ميزان القوم. وقوله : فأما وقد اتسع نطاق الإسلام فكل امرئ وما يختار. وقوله لابن عباس رضى الله عنه : ارغب راغبهم ، واحلل عقدة الخوف عنهم. وقوله : العلم قفل ومفتاحه المسألة. وقوله : الحلم والأناة توأمان ، نتيجتهما علوّ الهمة. وقوله لبعض الخوارج : والله ما عرفته حتى فغر الباطل فمه ، فنجمت نجوم قرن الماعزة. وقال فى بعض خطبه يصف الدنيا : إن امرأ لم يكن منها فى فرحة ، إلا أعقبته بعدها ترحه ؛ ولم يلق من سرّائها بطنا ، إلا منحته من ضرّائها ظهرا ؛ ولم تظله فيها غيابة رخاء ، إلا هبّت عليه مزنة بلاء ، ولم يمس منها فى جناح أمن ، إلا أصبح منها على قوادم خوف.

وقال أبو بكر رضى الله عنه : إن الملك إذا ملك زهده الله فى ماله ، ورغبه فيما

__________________

(١) الهيعة : الصوت الذى يفزع منه ويخاف.

٢٧٩

فى يدى غيره ، وأشرب قلبه الإشفاق فهو يحسد على القليل ، ويسخط الكثير ، جذل الظاهر ، حزين الباطن. فإذا وجبت نفسه ، ونضب عمره ، وضحا ظلّه ، حاسبه الله عزوجل فأشد حسابه ، وأقل عفوه.

وكتب خالد بن الوليد رضى الله عنه إلى مرازبة فارس : الحمد لله الذى فضّ خدمتكم (١) ، وفرّق كلمتكم.

وقالت عائشة رضى الله عنها : كان عمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ديمة (٢). وقال الحجاج : دلونى على رجل سمين الأمانة ، أعجف الخيانة. وقال عبد الله بن وهب الراسبى لأصحابه : لا خير فى الرأى الفطير ، والكلام العضيب (٣) ؛ فلما بايعوه ، قال : دعوا الرأى يغبّ فإن غبوبه يكشف لكم عن محضه. وقيل لأعرابى : إنك لحسن الكدنة ؛ (٤) قال : ذاك عنوان نعمة الله عندى. وقال أكثم بن صيفى : الحلم دعامة العقل. وسئل عن البلاغة فقال : دنوّ المأخذ ، وقرع الحجة ، وقليل من كثير. وقال خالد بن صفوان لرجل : رحم الله أباك ، فإنه كان يقرى العين جمالا ، والأذن بيانا. وقيل لأعرابية : أين بلغت قدرك ، قالت : حين قام خطيبها. وقيل لأعرابية : كم أهلك؟ قالت : أب وأم وثلاثة أولاد ، أنا سبيل عيشهم. وقيل لرؤبة : كيف تركت ما وراك؟ قال : التراب يابس ، والمال عابس. وقال المنصور لبعضهم : بلغنى أنك يخيل ، فقال : ما أجمد فى حق ، ولا أذوب فى باطل. وقال إبراهيم الموصلى : قلت للعباس بن الحسن : إنى لأحبك قال : رائد ذاك عندى. وقال بعضهم : الاستطالة لسان الجهالة. وقال يحيى بن خالد : الشكر كفء النعمة. وقال أعرابى : خرجت فى ليلة حندس ، ألقت على الأرض أكارعها ، فمحت صورة الأبدان ؛ فما كنا نتعارف

__________________

(١) الخدمة : الحلقة المستديرة.

(٢) الديمة : المطر الدائم فى سكون ، شبهت عمله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى دوامه مع الاقتصاد بديمة المطر الدائم ، وأصل الحديث : وسئلت رضى الله عنها عن عمل سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعبادته فقالت : كان عمله ديمة.

(٣) قوله العضيب : من العضب وذلك بمعنى القطع.

(٤) رجل ذو كدنة : إذا كان غليظا سمينا.

٢٨٠