كتاب الصّناعتين الكتابة والشعر

أبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري

كتاب الصّناعتين الكتابة والشعر

المؤلف:

أبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري


المحقق: علي محمد البجاوي ومحمد ابوالفضل ابراهيم
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٨

وقال ذو الرمة (١) :

أيا ظبية الوعساء بين جلاجل

وبين النّقا أأنت أم أمّ سالم (٢)

وقال بعض المتأخرين (٣) :

أريقك أم ماء الغمامة أم خمر

وقلت :

أغرّة إسماعيل أم سنّة البدر

وفيض ندى كفّيه أم باكر القطر

وقلت أيضا :

أثغر ما أرى أم أقحوان

وقد ما بدا أم خيزران

وطرف ما تقلّب أم حسام

ولفظ ما تساقط أم جمان

وشوق ما أكابد أم حريق

وليل ما أقاسى أم زمان

وقال ابن المعتز (٤) :

كم ليلة عانقت فيها بدرها

حتّى الصباح موسّدا كفّيه

وسكرت لا أدرى أمن خمر الهوى

أم كأسه أم فيه أم عينيه

وقال أعرابى :

أيا شبه ليلى ما لليلى مريضة

وأنت صحيح إنّ ذا لمحال

أقول لظبى مرّ بى وهو راتع

أأنت أخو ليلى؟ فقال : يقال!

__________________

(١) معجم البلدان ٣ : ١١٩ ، معاهد التنصيص ٣ : ١٦٧.

(٢) الوعساء : الرابية من الرمل ، وجلاجل : جبل من جبال الدهناء : والنقا : القطعة المحدودبة من الرمل.

(٣) هو المتنبى ، ديوانه ٢ : ١٢٣ ، وبقيته :

بفى برود وهو فى كبدى جمر

(٤) ديوان المعانى ١ : ٢٣٧.

٤٠١

الفصل الرابع والعشرون

فى الاستطراد

الاستطراد

وهو أن يأخذ المتكلّم فى معنى ، فبينا يمرّ فيه يأخذ فى معنى آخر ؛ وقد جعل الأول سببا إليه ؛ كقول الله عزوجل : (وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) ، فبينا يدلّ الله سبحانه على نفسه بإنزال الغيث واهتزاز الأرض بعد خشوعها قال : (إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى) فأخبر عن قدرته على إعادة الموتى بعد إفنائها وإحيائها بعد إرجائها ، وقد جعل ما تقدّم من ذكر الغيث والنبات دليلا عليه ، ولم يكن فى تقدير السامع لأوّل الكلام ، إلا أنّه يريد الدلالة على نفسه بذكر المطر ، دون الدّلالة على الإعادة ، فاستوفى المعنيين جميعا.

مثاله من المنظوم

ومثاله من المنظوم قول حسان (١) :

إن كنت كاذبة الّذى حدّثتنى

فنجوت منجى الحارث بن هشام

ترك الأحبة أن يقاتل عنهم (٢)

ونجا برأس طمّرة ولجام (٣)

وذلك أن الحارث بن هشام فرّ يوم بدر عن أخيه أبى جهل ، وقال يعتذر (٤) :

الله يعلم ما تركت قتالهم

حتى علوا فرسى بأشقر مزبد

وعلمت أنّى إن أقاتل واحدا

أقتل ولا يضرر (٥) عدوّى مشهدى

وشممت ريح الموت من تلقائهم

فى مأزق والخيل لم تتبدّد

فصددت عنهم والأحبّة فيهم

طمعا لهم بعقاب يوم مرصد (٦)

وهذا أول من اعتذر من هزيمة رويت عن العرب.

__________________

(١) ديوانه ٩٥ وسيرة ابن هشام ٣ : ٣٨٣ ، إعجاز القرآن للباقلانى ٩٣.

(٢) فى الديوان : «دونهم».

(٣) الطمر ، بتشديد الراء : الفرس الجواد ، وقيل : المستفز للوثب ، والأنثى طمرة.

(٤) سيرة ابن هشام ٣ : ٣٨٥.

(٥) فى السيرة : «ينكى».

(٦) فى السيرة : «مفسد».

٤٠٢

ومن الاستطراد قول السموأل (١) :

وإنا أناس لا نرى القتل سبة

إذا ما رأته عامر وسلول

فقوله : «إذا ما رأته عامر وسلول» استطراد.

وقال الآخر :

إذا ما اتقى الله الفتى وأطاعه

فليس به بأس وإن كان من عكل

وقول زهير (٢) :

إن البخيل ملوم حيث كان ول

كنّ الجواد على علّاته (٣) هرم

ومن ظريف الاستطراد قول مسلم :

أجدك ما تدرين أن ربّ ليلة

كأنّ دجاها من قرونك ينشر

لهوت بها حتى تجلّت بغرّة

كغرّة يحيى حين يذكر جعفر

وقال أبو تمام (٤) :

وسابح هطل التّعداء هتّان

على الجراء أمين غير خوّان

أظمى الفصوص ولم تظمأ (٥) عرائكه

فخلّ عينيك فى ظمآن ريّان

فلو تراه مشيحا والحصى زيم (٦)

تحت السّنابك من مثنى ووحدان

أيقنت ـ إن لم تثبّت ـ أن حافره

من صخر تدمر أو من وجه عثمان

فبينا يصف قوائم الفرس خرج إلى هجاء عثمان ؛ وهو من قول الأعرابى : لو صكّ بوجهه الحجارة لرضّها ، ولو خلا بالكعبة لسرقها.

ومثله قول ابن المعتز :

لو كنت من شيء خلافك لم تكن

لتكون إلا مشجبا فى مشجب

يا ليت لى من جلد وجهك رقعة

فأقدّ منها حافرا للأشهب

__________________

(١) ديوان الحماسة ١ : ٢٨ ، الباقلانى ٩٢.

(٢) ديوانه ١٥٢.

(٣) على علاته : على يسره وعسره.

(٤) إعجاز القرآن للباقلانى : ٩٣.

(٥) فى الإعجاز : «قوائمه».

(٦) فى الإعجاز : «فلق».

٤٠٣

وقول البحترى فى الفرس (١) :

ما إن يعاف قذى ولو أوردته

يوما خلائق حمدويه الأحول

وقال مسلم :

وأحببت من حبها الباخلى

ن حتى ومقت ابن سلم سعيدا

إذا سيل عرفا كسا وجهه

ثيابا من البخل زرقا وسودا

يغار على المال فعل الجواد

وتأبى خلائقه أن يجودا

وقال بشار (٢) :

خليليّ من كعب أعينا أخاكما

على دهره إن الكريم معين

فلا تبخلا بخل ابن قزعة إنه

مخافة أن يرجى نداه حزين

إذا جئته فى الخلق أغلق بابه

فلم تلقه إلّا وأنت كمين

وقوله (٣) :

فما ذرّ قرن الشمس حتى كأننا

من الغىّ نحكى أحمد بن هشام

وقريب منه قول البحترى :

إذا عطفته الريح قلت التفاتة

لعلوة فى جاديّها المتعصفر

وهذا الباب يقرب من باب حسن الخروج ، وقد استقصيناه فى آخر الكتاب.

ومن الاستطراد ما قلته :

انظر إلى قطر السماء ووبلها

ودنوّ نائلها وبعد محلّها

وشمول ما نشرته من معروفها

فانبثّ فى حزن البلاد وسهلها

بل ما يروعك من وفور عطائها

وعلوّ موضعها ولذّة ظلها

انظر بنى زيد فإن محلّهم

من فوقها وعطاؤهم من قبلها

ومن الاستطراد ضرب آخر ، وهو أن يجيء بكلام يظن أنه يبدأ فيه بزهد وهو يريد غير ذلك ؛ كقول الشاعر :

يا من تشاغل بالطّلل

أقصر فقد قرب الأجل

واصل غبوقك بالصّبو

ح وعدّ عن وصف الملل

__________________

(١) إعجاز القرآن للباقلانى : ٩٣.

(٢) إعجاز القرآن : ٩٢.

(٣) إعجاز القرآن : ٩٣.

٤٠٤

الفصل الخامس والعشرون

فى جمع المؤتلف والمختلف

مثاله من القرآن

وهو أن يجمع فى كلام قصير أشياء كثيرة مختلفة أو متفقة ؛ كقول الله تعالى : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ).

وقوله عزّ اسمه : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ).

مثاله من النثر

ومثاله من النثر ما كتب به الشيخ أبو أحمد : فلو عاش حتى يرى ما منينا به من وغد حقير ، نقير ، نذل ، رذل ، غثّ ، رثّ ، لئيم ، زنيم ، أشحّ من كلب ، وأذلّ من نقد ، وأجهل من بغل ، سريع إلى الشر ، بطىء عن الخير ، مغلول عن الحمد ، مكتوف عن البذل ، جواد بشتم الأعراض ، سخى بضرب الأبشار ، لجوج ، حقود ، خرق ، نزق ، عسر ، نكد ، شكس ، شرس ، دعىّ ، زنيم ؛ يعتزى إلى أنباط سقّاط ، أهل لؤم أعراق ، ورقة أخلاق ، وينتمى إلى أخبث البقاع ترابا ، وأمرّها شرابا ، وأكمدها ثيابا ؛ فهو كما قال الله تعالى : (وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً).

ثم كما قال الشاعر :

نبطى آباؤه لم يلده

ذو صلاح ولم يلد ذا صلاح

معشر أشبهوا القرود ولكن

خالفوها فى خفّة الأرواح

مثاله من المنظوم

ومن المنظوم قول امرئ القيس (١) :

سماحة ذا وبرّ ذا ووفاء ذا

ونائل ذا إذا صحا وإذا سكر

__________________

(١) ديوانه : ١٢٨.

٤٠٥

وقوله (١) ـ وقد جمع أوصاف الدمع من كثرته وقلته :

فدمعهما سكب وسحّ وديمة

ورشّ وتوكاف وتنهملان (٢)

وما جمع من أنواع المكروه فى بيت كما جمع ابن أحمر (٣) :

نقائذ برسام وحمى وحصبة

وجوع وطاعون وفقر ومغرم (٤)

وقال سويد بن خذاق (٥) :

أبى القلب أن يأتى السّدير وأهله

وإن قيل عيش بالسّدير (٦) غزير

بها البقّ والحمّى وأسد خفية

وعمرو بن هند يعتدى ويجور (٧)

وقال أبو داود (٨) :

حديد القلب والناظ

ر والعرقوب والكعب

عريض الصدر والجبه

ة والصّهوة والجنب

جواد الشّدّ والتّقري

ب والإحضار والعقب

وقال دريد :

سليم الشّظى عبل الشّوى شنج النّسا

طوال القرا نهد أسيل المقلد (٩)

وقال ابن مطير (١٠) :

بسود نواصيها وحمر أكفها

وصفر تراقيها وبيض خدودها

وقال أوس بن حجر :

يشيعها فى كل هضب ورملة

قوائم عوج مجمرات مقاذف

__________________

(١) ديوانه : ١٢٤.

(٢) قال أبو بكر البطليوسى : «عطف الفعل على المصدر لقوة شبه الفعل بالمصدر».

(٣) الشعر والشعراء : ٣١٨.

(٤) النقائذ : جمع نقيذة ، وأصلها فى الخيل ما أنقذته من العدو.

(٥) الشعر والشعراء : ٣٤٧.

(٦) السدير : موضع بالحيرة.

(٧) الخفية : غيضة ملتفة ، يتخذ الأسد عرينه فيها.

(٨) أمالى القالى : ٢ ـ ٢٥٠ ، واللآلى : ٧٨٩ ، مع اختلاف فى الرواية وعدد الأبيات.

(٩) الشظى : جمع شظية ، وهى عظم الساق. والشوى : الأطراف. والعبل : الضخم. وشنج النسا : متقبضه. والنسا : عرق فى الفخذ. والقرا : وسط الظهر.

(١٠) ديوان الحماسة : ٢ ـ ٦٥.

٤٠٦

توائم ألّاف توال لواحق

سواه لواه مزبدات خوانف

مزبدات : خفاف. خوانف : تهوى بأيديها إلى ضبعها.

من أشعار المحدثين

ومن أشعار المحدثين قول أبى تمام (١) :

غدا الشيب مختطا بفودىّ خطة

سبيل الرّدى منها إلى النفس مهيع

هو الزور يجفى والمعاشر يجتوى

وذو الإلف يقلى والجديد يرقّع

وقوله (٢) :

كالغصن فى القدّ والغزالة فى ال

بهجة وابن الغزال فى غيده

وقوله (٣) :

رب خفض تحت السّرى وغناء

من عناء ونضرة من شحوب

وقول ابن المعتز :

والله ما أدرى بكنه صفاته

ملك القلوب فأوبقت فى أسره

أبوجهه أم شعره أم ثغره

أم نحره أم ردفه أم خصره

وقول أبى تمام (٤) :

فى مطلب أو مهرب أو رغبة

أو رهبة أو موكب أو فيلق

وقول البحترى :

بحلّ وعقد وحزم وفصل

ونبل وبذل وبأس وجود

وقلت :

حليف علاء ومجد وفخر

وبأس وجود وخير وخير

وقال أبو تمام (٥) :

يروعك أن تلقاه فى صدر فيلق

وفى نحر أعداء وفى قلب موكب

__________________

(١) ديوانه : ١٩٠.

(٢) ديوانه : ٩١.

(٣) ديوانه : ٣٦.

(٤) ديوانه : ٢١٢.

(٥) ديوانه : ٢٤ ، والرواية فيه :

يهولك أن تلقاه صدرا لمحفل

ونحرا لأعداء وقلبا لموكب

٤٠٧

وقلت :

وما هو إلا المزن يصفو ظلاله

ويعلو مبواه ويبكر هاطله

وقلت :

أنت الربيع الغضّ رقّ نسيمه

واخضر روضته وطاب غمامه

وقلت :

فتى لم نزنه بالقوافى وإنّما

حططنا إليه كى يزين القوافيا

من الغرّ لا حوا أشمسا ومضوا ظبى

وصالوا أسودا واستهلّوا سواريا

وقلت :

يسبيك منه مفلّج ومضرّج

ومقوّم ومعوّج ومهفهف

٤٠٨

الفصل السادس والعشرون

فى السلب والإيجاب

السلب والإيجاب

وهو أن تبنى الكلام على نفى الشىء من جهة ، وإثباته من جهة أخرى ، أو الأمر به فى جهة ، والنهى عنه فى جهة وما يجرى مجرى ذلك ؛ كقول الله تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً).

مثاله من القرآن

وقوله تعالى : (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ).

وقوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً).

مثاله من النثر

ومثاله من النثر قول رجل ليزيد بن المهلب : قد عظم قدرك من أن يستعان بك ، أو يستعان عليك ؛ ولست تفعل شيئا من المعروف ، إلا وأنت أكبر منه ، وهو أصغر منك ، وليس العجب من أن تفعل ، وإنما العجب من ألّا تفعل. وقول الشّعبىّ للحجاج : لا تعجب من المخطئ كيف أخطأ ، واعجب من المصيب كيف أصاب.

وأخبرنا أبو أحمد ، قال : حدثنا ابن الأنبارى ، قال : حدثنا أبى عن بعض أصحابه عن العتبى ، قال : قيل لبعض العلماء : إن صاحبنا مات وترك عشرة آلاف ، فقال : أما العشرة آلاف فلا تترك صاحبكم.

وقال بعض الأوائل : ليس معى من فضيلة العلم إلا أنى أعلم أنى لا أعلم.

من المنظوم

ومن المنظوم قول امرئ القيس (١) :

هضيم الحشا لا يملأ الكف خصرها

ويملأ منها كل حجل ودملج (٢)

وقال السموأل (٣) :

وننكر إن شئنا على الناس قولهم

ولا ينكرون القول حين نقول

__________________

(١) الصحيح أنه للشماخ ، ديوانه : ٦.

(٢) الحجل : الخلخال. والدملج ، المعضد من الحلى.

(٣) ديوانه الحماسة : ١ ـ ٣١.

٤٠٩

وقال :

لا يعجبان بقول الناس عن عرض

ويعجبان بما قالا وما سمعا

وقال آخر :

خفيف الحاذ نسّال الفيافى

وعبد للصحابة غير عبد

وقال الأعشى :

صرمت ولم أصرمكم وكصارم

أخ قد طوى كشحا وآب ليذهبا

وقال آخر :

حتى نجا من خوفه وما نجا

ومن شعر المحدثين قول البحترى (١) :

فابق عمر الزّمان حتى نؤدى

شكر إحسانك الذى لا يؤدى

وقال أبو تمام (٢) :

إلى سالم الأخلاق من كل عائب

وليس له مال على الجود سالم

وقال آخر (٣) :

أبلغ أخانا تولى الله صحبته

أنى وإن كنت لا ألقاه ألقاه

الله يعلم أنى لست أذكره

وكيف يذكره من ليس ينساه

وقال آخر :

هى الدرّ منثورا إذا ما تكلمت

وكالدرّ منظوما إذا لم تكلّم

تعبّد أحرار القلوب بدّلها

وتملأ عين الناظر المتوسّم

وقال آخر :

ثقى بجميل الصّبر منى على الدهر

ولا تثقى بالصّبر منى على الغدر

ولست بنظّار إلى جانب الغنى

إذا كانت العلياء فى جانب الفقر

__________________

(١) ديوانه : ١ ـ ١٢٨.

(٢) ديوانه : ٢٨٦.

(٣) عيون الأخبار : ٣ ـ ١٧ ، من أبيات ثلاثة ، نسبها إلى على بن الجهم.

٤١٠

وقال أبو تمّام (١) :

خليلىّ من بعد الجوى والأسى قفا

ولا تقفا فيض الدموع السواجم

وقلت :

أفى هذه الأيام زدت ولم تزد

سناء تعالى فيه قدرك عن قدرى

وقلت :

أخو عزائم لا تفنى عجائبها

والدّهر ما بينها تفنى عجائبه

تقضى مآربه من كل فائدة

لكن من المجد ما تقضى مآربه

__________________

(١) ديوانه : ٣٨٥.

٤١١

الفصل السابع والعشرون

فى الاستثناء

الاستثناء على ضربين

مثال الضرب الأول

والاستثناء على ضربين ؛ فالضرب الأول هو أن تأتى معنى تريد توكيده والزيادة فيه فتستثنى بغيره ؛ فتكون الزيادة التى قصدتها ، والتوكيد الذى توخيته فى استثنائك ؛ كما أخبرنا أبو أحمد ، قال : أخبرنى أبو عمر الزاهد ، قال : قال أبو العباس : قال ابن سلام ، لجندل بن جابر الفزارى (١) :

فتى كملت أخلاقه غير أنّه

جواد فما يبقى من المال باقيا

فتى كان فيه ما يسرّ صديقه

على أنّ فيه ما يسوء الأعاديا

فقال هذا استثناء ، فتبين هذا الاستثناء لهم ؛ كما قال النابغة (٢) :

ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم

بهنّ فلول من قراع الكتائب

ومثله قول أبى تمام (٣) :

تنصّل ربّها من غير جرم

إليك سوى النصيحة فى الوداد

وقلت :

ولا عيب فيه غير أن ذوى الندى

خساس إذا قيسوا به ولئام

الضرب الآخر ومثاله

والضرب الآخر استقصاء المعنى والتحرز من دخول النقصان فيه ، مثل قول طرفة (٤) :

فسقى ديارك غير مفسدها

صوب الربيع وديمة تهمى

وقول الآخر :

فلا تبعدن إلا من السوء إننى

إليك وإن شطّت بك الدار نازع

__________________

(١) الشعر للنابغة الجعدى ، إعجاز القرآن للباقلانى : ٩٤.

(٢) ديوانه : ٦.

(٣) ديوانه : ٨١.

(٤) ديوانه : ٦٢.

٤١٢

وقال الربيع بن ضبع :

فنيت ولا يفنى صنيعى ومنطقى

وكل امرئ إلا أحاديثه فان

وقال أعرابى يصف قوسا :

خرقاء إلّا أنها صناع

وقال آخر فى الخيل :

منها الدّجوجىّ ومنها الأرمك (١)

كالليل إلّا أنها تحرّك

__________________

(١) الدجوجى : الشديد السواد ، الأرمك : اللون الذى يخالط غبرته سواد.

٤١٣

الفصل الثامن والعشرون

فى المذهب الكلامى

جعله عبد الله بن المعتزّ الباب الخامس من البديع (١) ، وقال : ما أعلم أنّى وجدت شيئا منه فى القرآن. وهو ينسب إلى التكلّف ، فنسبه إلى التكلّف وجعله من البديع.

مثال من النثر

ومن أمثلة هذا الباب قول أعرابى لرجل : إنى لم أضر وجهى عن الطلب إليك قصر نفسك عن ردى (٢) ، فضعنى من كرمك ، بحيث وضعت نفسى من رجائك.

وقول أبى الدرداء : أخوف ما أخاف أن يقال لى : عملت فما عملت؟ وقول طاهر ابن الحسين للمأمون : يا أمير المؤمنين ؛ يحفظ على من قلبك ، ما لا أستعين على حفظه إلّا بك. وقال بعض الأوائل : لو لا أنّ قولى لا أعلم [تثبيت](٣) لأنى أعلم لقلت : لا أعلم. وقال آخر : لو لا العمل لم يطلب العلم ، ولو لا العلم لم يكن عمل ؛ ولأن أدع الحق جهلا به أحب إلىّ أن أدعه زهدا فيه.

وأنشد عبد الله قول الفرزدق (٤) :

لكل امرئ نفسان : نفس كريمة

وأخرى يعاصيها الهوى فيطيعها

ونفسك من نفسيك تشفع للندى

إذا قلّ من أحرارهن شفيعها

وأنشد لإبراهيم بن المهدى يعتذر للمأمون (٥) :

البرّ بى منك وطّأ العذر عندك لى

فما فعلت فلم تعذل ولم تلم

وقام علمك بى فاحتج عندك لى

مقام شاهد عدل غير متّهم

وأنشد (٦) :

إنّ هذا يرى ـ ولا رأى لل

أحمق ـ إنى أعده إنسانا

ذاك بالظنّ عنده وهو عندى

كالذى لم يكن وإن كان كانا

ومثله :

أما يحسن من يحسن

أن يغضب أن يرضى

أما يرضى بأن صرت

على الأرض له أرضا

__________________

(١) كتاب البديع : ١٠١

(٢) هكذا بالأصول

(٣) زيادة من ا

(٤) العمدة : ٢ ـ ٧٥ ، البديع لابن المعتز : ١٠١.

(٥) البديع : ١٠٢ ، العمدة : ٢ ـ ٧٦.

(٦) هو أبو نواس ، البديع : ١٠٢.

٤١٤

الفصل التاسع والعشرون

فى التشطير

التشطير

وهو أن يتوازن المصراعان والجزءان ، وتتعادل أقسامهما مع قيام كل واحد منهما بنفسه ، واستغنائه عن صاحبه.

مثاله من النثر

فمثاله من النثر قول بعضهم : من عتب على الزمان طالت معتبته ، ومن رضى عن الزمان طابت معيشته. وقول الآخر : الجود خير من البخل ، والمنع خير من المطل. وقول الآخر : رأس المداراة ترك المماراة ، فالجزآن من هذه الفصول متوازنا الألفاظ والأبنية.

وقد أوردت من هذا النوع فى باب الازدواج ما فيه كفاية.

مثاله من المنظوم

وأما مثاله من المنظوم ، فكقول أوس بن حجر :

فتحدركم عبس إلينا وعامر

وترفعنا بكر إليكم وتغلب

وقول ذى الرمة :

أستحدث الركب عن أشياعهم خبرا

أم راجع القلب من أطرابه طرب

وقول الآخر :

فأما الذى يحصيهم فمكثّر

وأما الذى يطربهم فمقلّل

وقول الآخر :

فكأنها فيه نهار ساطع

وكأنه ليل عليها مظلم

ومن شعر المحدثين قول البحترى (١) :

شوقى إليك تفيض منه الأدمع

وجوى إليك تضيق عنه الأضلع

وقول أبى تمام (٢) :

بمصعد من حسنه ومصوّب

ومجمّع من نعته ومفرّق

__________________

(١) ديوانه : ٢ ـ ٧٥.

(٢) ديوانه : ٢١٢.

٤١٥

وقوله (١) :

تصدّع شمل القلب من كلّ وجهة

وتشعبه بالبثّ من كل مشعب (٢)

بمختبل ساج من الطّرف أكحل

ومقتبل صاف من الثغر أشنب

وقوله (٣) :

أحاولت إرشادى فعقلى مرشدى

أو استمت (٤) تأديبى فدهرى مؤدبى

وقول البحترى (٥) :

فقف مسعدا فيهن إن كنت عاذرا

وسر مبعدا عنهن إن كنت عاذلا

وقال (٦) :

ومذهب حبّ لم أجد عنه مذهبا

وشاغل بثّ لم أجد عنه شاغلا

وقال (٧) :

طليعتهم إن وجّه الجيش غازيا

وساقتهم إن وجّه الجيش قافلا

وقال (٨) :

إذا اسودّ فيه الشكّ كان كواكبا

وإن سار فيه الخطب كان حبائلا

لأذكرته بالرّمح ما كان ناسيا

وعلّمته بالسّيف ما كان جاهلا

فمن كان منهم ساكتا كنت ناطقا

ومن كان منهم قائلا كنت فاعلا

وقال (٩) :

فلأجرينّ الدمع إن لم تجره

ولأعرفنّ الوجد إن لم تعرف

وقال فى جيش (١٠) :

يسودّ منه الأفق إن لم ينسدد

وتموت منه الشمس إن لم تكسف

وقلت :

وعلى الرّبى حلل وشاهنّ الحيا

فمسهم ومعصّب ومفوّف

والبرق يلمع مثل سيف ينتضى

والسيل يجرى مثل أفعى تزحف

والقطر يهمى وهو أبيض ناصع

ويصير سيلا وهو أغبر أكلف

__________________

(١) ديوانه : ٢٣. (٢) تصدع : تفرق. تشعبه : تشتته. البث : نشر السر المشعب : الطريق.

(٣) ديوانه : ٢٤. (٤) استمت : أردت.

(٥ و ٦ و ٨) ديوانه : ٢ ـ ٢١٢.

(٧) ديوانه : ٢ ـ ٢١٣.

(٩) ديوانه : ٢ ـ ١٢٠.

(١٠) ديوانه : ٢ : ١٢١.

٤١٦

الفصل الثلاثون

فى المجاورة

المجاورة

المجاورة : تردد لفظتين فى البيت ، ووقوع كل واحدة منهما بجنب الأخرى أو قريبا منها ، من غير أن تكون إحداهما لغوا لا يحتاج إليها ؛

مثالها

وذلك كقول علقمة :

ومطعم الغنم يوم الغنم مطعمه

أنّى توجّه والمحروم محروم

فقوله : «الغنم يوم الغنم» مجاورة ، و «المحروم محروم» مثله.

وقول الآخر :

وتندق منها فى الصدور صدورها

وقول أوس بن حجر (١) :

كأنها ذو وشوم بين مأفقة

والقطقطانة والبر عوم (٢) مذعور (٣)

وقول أبى تمام (٤) :

إنا أتيناكم نصور مآربا

يستصغر الحدث العظيم عظيمها (٥)

وقوله (٦) :

ردعوا الزمان وهم كهول جلّة

وسطوا على أحداثه أحداثا (٧)

وقول الآخر :

أنضاء شوق على أنضاء أسفار

وقول الآخر :

إنما يغفر العظيم العظيم

__________________

(١) ديوانه : ١٤.

(٢) الوشوم : العلامات ، ومأفقة والقطقطانة والبرعوم : أسماء مواضع.

(٣) معجم ما استعجم للبكرى : ٢٤١.

(٤) ديوانه : ٣١٠.

(٥) نصور : نجتنى ، وفى ط : نصون.

(٦) ديوانه : ٦٥.

(٧) أحداث : صغار.

٤١٧

وقول أبى تمام (١) :

وما ضيق أقطار البلاد أضافنى

إليك ولكن مذهبى فيك مذهبى

وقول أبى الشيص :

فأتوك أنقاضا على أنقاض

وقول أبى النجم :

تدنى من الجدول مثل الجدول

وقول رؤبة (٢) :

ترمى الجلاميد بجلمود مدق (٣)

وقول الآخر :

قم فاسقنى من كروم الرند ورد ضحا

ماء العناقيد فى ظل العناقيد (٤)

وقول آخر ، وقد بعث إلى جارية يقال لها راح براح :

قل لمن تملك القلوب

وإن كان قد ملك

قد شربناك فاشربى

وبعثنا إليك بك

ومن هذا النوع قول الشاعر :

فلونى والمدام ولون ثوبى

قريب من قريب من قريب

وقلت :

كأن الكأس فى يده وفيه

عقيق فى عقيق فى عقيق

وقلت أيضا :

دعونا ضرّة البدر المنير

فوافتنا على خضر نضير

مطرّزة الشوارب بالغوالى

مضمّخة السوالف بالعبير

ترى ما شئت من قد رشيق

وما أحببت من ردف وتير

__________________

(١) ديوانه : ٢٥.

(٢) أراجيز العرب ٣٠ ، اللسان (ق).

(٣) مدق ، يدق الأشياء. وانظر اللسان.

(٤) الرند : الآس ، وقيل هو العود الذى يتبخر به.

٤١٨

ألامسها وقد لبست حريرا

فأحسبها حريرا فى حرير

فأنس ثم لهو ثم زهر

سرور فى سرور فى سرور

وقلت أيضا :

ودار الكاس فى يد ذى دلال

رشيق القدّ يعرف بالرشيق

ومنه أيضا قول أبى تمام (١) :

دأب عينى البكاء والحزن دأبى

فاتركينى وقيت ما بى لما بى

وقوله أيضا (٢) :

كأن العهد عن عفر (٣) لدينا

وإن كان التلاقى عن تلاقى

وقوله (٤) :

طلبت أنفس الكماة فشقت

من وراء الجيوب منها الجيوبا (٥)

وقوله (٦) :

أيام للأيام فيك غضارة

والدهر فىّ وفيك غير ملوم

وقال ابن الرومى :

مشترك الحظ لا محصّله

محصّل المجد غير مشتركه

منتهك المال لا ممنّعه

ممنّع العرض غير منتهكه

وقول مسلم :

أتتك المطايا تهتدى بمطيّة

عليها فتى كالنّصل يؤنسه النصل

__________________

(١) ديوانه : ٣٥٥.

(٢) ديوانه : ٢١٥.

(٣) عفر : زمن.

(٤) ديوانه : ٢٨.

(٥) الكماة : الذين كموا أنفسهم بالسلاح ، أى ستروها. والجيوب : جمع جيب ، وهو ما ينفتح على النحر من القميص.

(٦) ديوانه : ٣٠٥.

٤١٩

الفصل الحادى والثلاثون

فى الاستشهاد والاحتجاج

معناه

وهذا الجنس كثير فى كلام القدماء والمحدثين ، وهو أحسن ما يتعاطى من أجناس صنعة الشعر ، ومجراه مجرى التذييل لتوليد المعنى ، وهو أن تأتى بمعنى ثم تؤكده بمعنى آخر يجرى مجرى الاستشهاد على الأول ، والحجة على صحته.

مثل من النثر

فمثاله من النثر ما كتب به كافى الكفاة فى فصل له : فلا تقس آخر أمرك بأوّله ، ولا تجمع من صدره وعجزه ، ولا تحمل خوافى صنعك على قوادمه ، فالإناء يملؤه القطر فيفعم ، والصغير يقترن بالصغير فيعظم ، والداء يلمّ ثم يصطلم ، والجرح يتباين ثم ينفتق ، والسيف يمس ثم يقطع ، والسهم يرد ثم ينفذ.

من الشعر

ومن الاستشهاد قول الآخر :

إنما يعشق المنايا من الأق

وام من كان عاشقا للمعالى

وكذاك الرّماح أول ما يك

سر منهنّ فى الحروب العوالى

وقال أبو تمام (١) :

هم مزّقوا عنه سبائب حلمه

وإذا أبو الأشبال أحرج عاثا

وقال أيضا (٢) :

عتقت وسيلته وأية قيمة

للمشرفى العضب (٣) ما لم يعتق

وقال أيضا (٤) :

يأخذ الزائرين قسرا ولو كفّ

دعاهم ربع خصيب

غير إن الرامى المسدد يحتا

ط مع العلم أنه سيصيب

__________________

(١) ديوانه : ٦٤.

(٢) ديوانه : ٢١٤.

(٣) العضب : القاطع.

(٤) ديوانه : ٥٨.

٤٢٠