كتاب الصّناعتين الكتابة والشعر

أبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري

كتاب الصّناعتين الكتابة والشعر

المؤلف:

أبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري


المحقق: علي محمد البجاوي ومحمد ابوالفضل ابراهيم
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٨

فجعل الحجل أوسع من الحقاب ؛ لأنّ امتلاء الأسوق محمود ودقّة الخصور ممدوح.

والجيّد فى ذكر الوشاح قول ذى الرمة (١) :

عجزاء ممكورة خمصانة قلق

عنها الوشاح وتم الجسم والقصب (٢)

وقال ابن مقبل :

وقد دقّ منها الخصر حتّى وشاحها

يجول ، وقد عمّ الخلاخيل والقلبا (٣)

وقال طرفة (٤) :

وملء السوار مع الدملجين

وأما الوشاح عليها فجالا

وقال كثير (٥) :

يجول الوشاح بأقرابها (٦)

وتأبى خلاخلها أن تجولا

ومن الخطأ قوله ـ أى أبو تمام (٧) :

قسم الزّمان ربوعها بين الصّبا

وقبولها ودبورها أثلاثا

والصّبا : هى القبول.

أخبرنا أبو أحمد ، قال : أخبرنا أبو بكر بن دريد عن أبى حاتم عن الأصمعى قال : مهب الجنوب من مطلع سهيل إلى طرف جناح الفجر ، وما يقابل ذلك من ناحية المغرب ، فهى الشمال ، وما يجيء من وراء البيت الحرام فهى دبور ، وما يقابل ذلك فهى القبول ، والقبول والصّبا واحدة.

__________________

(١) ديوانه : ١٢ ، الموازنة : ٦٦.

(٢) العجزاء : العظيمة العجز. والممكورة : مستديرة السافين ، أو المرتوية الساق. والخمصانة : الضامرة البطن. والقلق : الاضطراب عن ضيق أو سعة. والوشاح : هو ما تقلده المرأة متشحة به.

(٣) القلب : السوار ، والبيت فى الموازنة صفحة ٦٧ هكذا :

ومن دق منها الخصر حتى وشاحها

يجول وقد عم الخلاخيل والقلبا

(٤) الموازنة : ٦٧.

(٥) الموازنة : ٦٧.

(٦) القرب ـ بضم القاف وسكون الراء : الخاصرة ، والجمع أقراب.

(٧) ديوانه : ٦٣ ، الموازنة : ٧٠.

١٢١

والجيّد ما قال البحترى (١) :

متروكة للريح بين شمالها

وجنوبها ودبورها وقبولها

وأما قوله (٢) :

شنئت الصّبا إذ قيل وجّهن قصدها

وعاديت من بين الرياح قبولها

فإنما يعنى شنئت هذين الاسمين ؛ لأنّ حمول الظاعنين توجّهت نحوها.

ومن الخطأ قول أبى المعتصم :

كأنما أربعة إذا تناهبن الثّرى

ريح القبول والدّبور والشّمال والصّبا

ومن الخطأ قوله ـ أى أبو تمام ـ (٣) :

الودّ للقربى ولكن عرفه (٤)

للأبعد الأوطان دون الأقرب

ولا أعرف لم حرم أقارب هذا الممدوح عرفه وصيره للأبعدين؟ فنقصه الفضل فى صلة الرحم ، وإذا لم يكن مع الود نفع لم يعتدّ به. قال الأعشى :

بانت وقد أسأرت (٥) فى النفس حاجتها

بعد ائتلاف وخير الودّ ما نفعا

وقال المقنع :

جعلت لهم منّى مع الصّلة الودّا (٦)

وقد أغرى أبو تمام بهذا القول أقرباء الممدوح ؛ لأنّهم إذا رأوا عرفه يفيض فى الأبعدين ويقصر عنهم أبغضوه وذمّوه.

وقد ذمّ الشّاعر الطريقة التى يمدح بها أبو تمام ، فقال :

كمرضعة أولاد أخرى وضيّعت

بنيها فلم ترقع بذلك مرقعا

وقال آخر ـ وهو ابن هرمة (٧) :

__________________

(١) ديوانه : ١٨٤ ، الموازنة : ٧٠.

(٢) ديوانه : ١٩٧ ، الموازنة : ٧٠.

(٣) ديوانه : ١٤.

(٤) العرف : عمل المعروف.

(٥) أسأرت : أبقت.

(٦) صدر البيت كما فى الموازنة :

إذا جمعوا صرمى معا وقطيعتى

(٧) الموشح ٢٣٧.

١٢٢

كتاركة بيضها بالعراء

وملبسة بيض أخرى جناحا

وقال أبو دواد الإيادى (١) :

إذا كنت مرتاد الرّجال لنفعهم

فرش (٢) واصطنع عند الذين بهم ترمى

وقال آخر (٣) :

وإذا أصبت من النّوافل رغبة

فامنح عشيرتك الأدانى فضلها

وذمّ قديما المذهب الذى ذهب إليه أبو تمام مسافر العبشمى ، فقال (٤) :

تمدّ إلى الأقصى بثديك كلّه

وأنت على الأدنى صرور مجدّد

فإنّك لو أصلحت من أنت مفسد

تودّدك الأقصى الذى تتودّد

وقال المسيب بن علس (٥) :

من الناس من يصل الأبعدين

ويشقى به الأقرب الأقرب

وقال الحارث بن كلدة (٦) :

من الناس من يغشى الأباعد نفعه

ويشقى به حتّى الممات أقاربه

وقد ذهب البحترى مذهب أبى تمام ، فقال (٧) :

بل كان أقربهم من سيبه سببا

من كان أبعدهم من جذمه رحما

إلا أنه لم يخرجهم من معروفه ، وإن كان قد دخل تحت الإساءة.

والجيّد قوله (٨) :

ظل فيه البعيد مثل القرى

ب المجتبى والعدوّ مثل الصديق

وقوله أيضا (٩) :

ما إن يزال النّدى يدنى إليه يدا

ممتاحة من بعيد الدّار والرّحم

__________________

(١) الموازنة : ٨١.

(٢) راش السهم : ألزق عليه الريش.

(٣) الموازنة : ٨٣.

(٤) الموازنة : ٨٣

(٥) الموازنة : ٨٣

(٦) الموازنة : ٨٣

(٧) الموازنة : ٨٣ ، ديوانه : ٢٦٠

(٨) الموازنة : ٨٤

(٩) الموازنة : ٨٤.

١٢٣

ومن الخطأ قوله (١) :

ورحب صدر لو انّ الأرض واسعة

كوسعه لم يضق عن أهله بلد

وذلك أنّ البلدان التى تضيق بأهلها لم تضق بأهلها لضيق الأرض ، ومن اختطّ البلدان لم يختطّها على قدر ضيق الأرض وسعتها ؛ وإنما اختطّت على حسب الاتّفاق ؛ ولعل المسكون منها لا يكون جزءا من ألف جزء ؛ فلأى معنى تصييره ضيق البلدان الضيقة من أجل ضيق الأرض. والصواب أن يقول : ورحب صدر لو أن الأرض واسعة كوسعه لم يسعها الفلك ؛ أو لضاقت عنها السماء ؛ أو يقول : لو أن سعة كلّ بلد كسعة صدره لم يضق عن أهله بلد.

والجيّد فى هذا المعنى قول البحترى (٢) :

مفازة صدر لو تطرّق لم يكن

ليسلكها فردا سليك المقانب (٣)

أى لم يكن ليسلكها إلّا بدليل لسعتها ؛ على أن قوله «مفازة صدر» استعارة بعيدة.

ومن الخطأ قول أبى تمام (٤) :

سأحمد نصرا (٥) ما حييت وإنّنى

لأعلم أن قد جلّ نصر عن الحمد

وقد رفع الممدوح عن الحمد الذى رضيه الله جل وعزّ لنفسه ، وندب عباده لذكره ونسبه إليه ، وافتتح به كتابه. وقد قال الأول : الزيادة فى الحدّ نقصان ، ولم نعرف أحدا رفع أحدا عن الحمد ، ولا من استقلّ الحمد للممدوح.

قال زهير بن أبى سلمى (٦) :

متصرّف للحمد معترف

للرزء نهّاض إلى الذكر

وقال الأعشى (٧) :

__________________

(١) ديوان أبى تمام : ٩٧.

(٢) ديوانه : ٧٣.

(٣) المقانب : واحده مقنب بالكسر جماعة الخيل والفرسان.

(٤) ديوانه : ١١٦.

(٥) هو نصر بن منصور بن بسام الممدوح

(٦) ديوانه : ٩٣ ، الموازنة : ٩١.

(٧) الموازنة : ٩٢.

١٢٤

ولكن على الحمد إنفاقه

وقد يشتريه بأغلى ثمن

وقال الحطيئة :

ومن يعط أثمان المحامد يحمد

وقالت الخنساء (١) :

ترى الحمد يهوى إلى بيته

يرى أفضل المجد أن يحمدا

والجيّد قول البحترى (٢) :

لو جلّ خلق قطّ عن أكرومة

تنثى جللت عن النّدى والباس

ومن الخطأ قوله (٣) :

ظعنوا فكان بكاى حولا بعدهم

ثم ارعويت وذاك حكم لبيد

أجدر بجمرة لوعة إطفاؤها

بالدّمع أن تزداد طول وقود

هذا خلاف ما يعرفه الناس ؛ لأنهم قد أجمعوا أنّ البكاء يطفئ الغليل ، ويبرد حرارة المحزون ، ويزيل شدّة الوجد.

وذكروا أنّ امرأة مات ولدها فأمسكت نفسها عن البكاء صبرا واحتسابا ، فخرج الدم من ثدييها ؛ وذلك لما ورد عليها من شدّة الحزن مع الامتناع من البكاء.

وقد شهد أبو تمام بصحّة ما ذكرناه ، وخالف قوله الأوّل ، فقال (٤) :

نثرت فريد مدامع لم تنظم

والدمع يحمل بعض ثقل المغرم (٥)

وقال (٦) :

واقع (٧) بالحدود والبرد منه

واقع بالقلوب والأكباد

__________________

(١) شواعر العرب : ٨ ، وفى رواية : جموع الضيوف إلى بيته يرى أفضل الكسب.

(٢) ديوانه ٢ ـ ٦٠.

(٣) الموازنة ٩٢.

(٤) ديوانه ٣١٢ ، الموازنة ٩٣

(٥) فى ديوانه : بعض شجو المغرم.

(٦) ديوانه ٧٥ ، الموازنة ٩٣

(٧) فى الديوان : واقعا بالخدود والحر منه.

١٢٥

وقال امرؤ القيس (١) :

وإنّ شفائى عبرة مهراقة

فهل عند رسم دارس من معوّل

وأخبرنا أبو أحمد قال أخبرنا الأنبارى ، قال : حدثنا محمد بن المرزبان ، قال حدثنا حماد بن إسحاق بن إبراهيم الموصلى قال : حدثنا محمد بن كناسة ، قال ، قال أبو بكر بن عياش : كنت وأنا شابّ إذا أصابتني مصيبة لا أبكى فيحترق جوفى ، فرأيت أعرابيا بالكناس على ناقة له والناس حوله وهو ينشد (٢) :

خليلىّ عوجا من صدور الرّواحل

ببرقة حزوى (٣) فابكيا فى المنازل

لعلّ انحدار الدّمع يعقب راحة

من الوجد أو يشفى نجىّ البلابل

فسألت عن الأعرابى ؛ فقيل : هو ذو الرمّة ؛ فكنت بعد ذلك إذا أصابتنى مصيبة بكيت فاشتفيت. فقلت : قاتل الله الأعرابى ما كان أبصره! وقال الفرزدق (٤) :

فقلت لها إنّ البكاء لراحة

به يشتفى من ظنّ أن لا تلاقيا

وقد تبعه البحترى على إساءته ، فقال (٥) :

فعلام فيض مدامع تدق الجوى

وعذاب قلب فى الحسان معذّب

تدق : من الوديقة ، وهى الهاجرة لدنوّ الحرّ فيها. والودق : أصله الدنو ؛ يقال : أتان وديق ، إذا دنت من الفحل. والودق : القطر ؛ لدنوّه من الأرض بعد انحلاله من السحاب.

والخطأ الفاحش له قوله ؛ أى أبو تمام (٦) :

رضيت وهل أرضى إذا كان مسخطى

من الأمر ما فيه رضا من له الأمر

والمعنى : لست أرضى إذا كان الذى يسخطنى هو الذى يرضاه الله عزوجل ؛

__________________

(١) ديوانه ١٩.

(٢) ديوان ذى الرمة. ٧.

(٣) فى الديوان : بجمهور حزوى ، وحزوى : موضع فى ديار بنى تميم.

(٤) الموازنة ٩٣.

(٥) ديوانه : ٦٠ ، الموازنة ٩٣.

(٦) ديوانه : ٤٧٥.

١٢٦

لأنّ هل تقرير لفعل ينفيه عن نفسه ، كما تقول : هل يمكننى المقام؟ وهل آتى بما تكره؟ معناه لا يمكننى المقام. ومعنى قوله : هل أرضى إذا كان مسخطى؟ أى لا أرضى.

ومن الخطأ قوله (١) :

ويوم (٢) كطول الدّهر فى عرض مثله

ووجدى من هذا وهذاك أطول

قد استعمل الناس الطول والعرض فيما ليس له ، استعمالا مخصوصا ، كقول كثير (٣) :

أنت ابن فرعى قريش لو تقايسها

فى المجد صار إليك العرض والطول

أى صار إليك المجد بتمامه.

وقول كثيّر أيضا :

بطاحىّ له نسب مصفّى

وأخلاق لها عرض وطول

فعلى هذا استعمل هذان اللفظان.

وقالوا : هذا الشىء فى طول ذلك وعرضه ؛ إذا كان مما يرى طوله وعرضه ، ولا يستعمل فيما ليس له طول وعرض على الحقيقة ، ولا يجوز مخالفة الاستعمال البتة.

وكان أبو تمام قد استوفى المعنى فى قوله : «كطول الدهر» ولم يكن به حاجة إلى ذكر العرض.

ومن الخطأ قول البحترىّ ـ ورواه لنا أبو أحمد عن ابن عامر لأبى تمام ، والصحيح أنه للبحترى :

بدت صفرة فى لونه إنّ حمدهم

من الدرّ ما اصفرّت حواشيه فى العقد

وإنما يوصف الدرّ بشدّة البياض ، وإذا أريد المبالغة فى وصفه وصف بالنصوع ، ومن أعيب عيوبه الصفرة. وقالوا : كوكب درّى ، لبياضه ؛ وإذا اصفرّ احتيل

__________________

(١) ديوانه : ٢٤٤ ، الموازنة ٨٧.

(٢) فى الديوان : بيوم.

(٣) الموازنة ٨٧.

١٢٧

فى إزالة صفرته. ليتضوّا. واستعمال الحواشىّ فى الدر أيضا خطأ ؛ ولو قال نواحيه ، لكان أجود ، والحاشية للبرد والثوب ، فأما حاشية الدرّ فغير معروف ، وفيها :

وجرّت على الأيدى مجسة جسمه

كذلك موج البحر ملتهب الوقد

وهذا غلط ؛ لأنّ البحر غير ملتهب الموج ولا متّقد الماء ، ولو كان متّقدا أو ملتهبا لما أمكن ركوبه ؛ وإنما أراد أن يعظّم أمر الممدوح فجاء بما لا يعرف. وفيها :

ولست ترى شوك القتادة خائفا

سموم رياح القادحات من الزّند

وهذا خطأ ؛ لأنه شبّه العليل بشوك القتاد على صلابته على شدّة العلّة ، وزعم أنّ شوك القتاد لا يخاف النّار التى تقدح بالزّناد. وقد علمنا أنّ النار تفلق الصّخر وتلين الحديد ؛ فكيف يسلم منها القتاد؟ وليس لذكر السّموم والرياح أيضا فى هذا البيت فائدة ولا موقع.

ولما مات المتوكل أنشد رجل جماعة (١) :

مات الخليفة أيّها الثّقلان

فقالوا : جيّد ؛ نعى الخليفة إلى الجنّ والإنس فى نصف بيت ، فقال :

فكأننى أفطرت فى رمضان

فضحكوا منه.

ونورد هاهنا جملة نتمّم بها معانى هذا الباب :

ينبغى أن تعرف أن أجود الوصف ما يستوعب أكثر معانى الموصوف ، حتى كأنه يصوّر الموصوف لك فتراه نصب عينك ، وذلك مثل قول الشماخ فى نبالة (٢) :

خلت (٣) غير آثار الأراجيل ترتمى

تقعقع فى الآباط منها وفاضها

__________________

(١) فى ديوان أبى العتاهية نقلا عن كتاب العمدة : أن أبا العتاهية صاحب هذا القول.

(٢) ديوانه : ٥٣.

(٣) فى الديوان : عفت ... تعترى. والأراجيل : الرجال.

تعترى : تقصد.

١٢٨

فهذا البيت يصوّر لك هرولة الرجالة ، ووفاضها فى آباطها تتقعقع.

وإفاض جمع وفضة وهى الجعبة. وقول يزيد بن عمرو الطائى :

ألا من رأى قومى كأنّ رجالهم

نخيل أتاها عاضد فأمالها

فهذا التشبيه كأنه يصوّر لك القتلى مصروعين.

وقال العتابى فى السحاب :

والغيم كالثوب فى الآفاق منتشر

من فوقه طبق من تحته طبق

تظنه مصمتا لا فتق فيه فإن

سالت عزاليه قلت الثوب منفتق

إن معمع الرّعد فيه قلت منخرق

أو لألأ البرق فيه قلت محترق

وينبغى أن يكون التشبيب دالّا على شدة الصبابة ، وإفراط الوجد ، والتهالك فى الصبوة ، ويكون بريّا من دلائل الخشونة والجلادة ، وأمارات الإباء والعزّة. ومن أمثلة ذلك قول أبى الشيص (١) :

وقف الهوى بى حيث أنت فليس لى

متأخّر عنه ولا متقدّم

أجد الملامة فى هواك لذيذة

حبّا لذكرك فليلمنى اللّوّم

أشبهت أعدائى فصرت أحبّهم

إذ كان حظّى منك حظّى منهم

وأهنتنى فأهنت نفسى صاغرا

ما من يهون عليك ممّن أكرم

فهذا غاية التهالك فى الحب ، ونهاية الطاعة للمحبوب.

ويستجاد التشبيب أيضا إذا تضمّن ذكر التشوق والتذكّر لمعاهد الأحبة ، بهبوب الرياح ، ولمع البروق ، وما يجرى مجراهما من ذكر الدّيار والآثار.

__________________

(١) العقد الفريد ٥ : ٣٧٤

١٢٩

فمن أجود ما قيل فى الديار قول الأزدى :

فلم تدع الأرياح والقطر والبلى

من الدار إلّا ما يشفّ ويشغف

وفى ذكر البروق قول الأول :

سرى البرق من نحو الحجاز فشاقنى

وكلّ حجازىّ له البرق شائق

بدا مثل نبض العرق والبعد دونه

وأكناف لبنى دوننا والأسالق (١)

نهارى بأشراف التّلاع موكّل

وليلى إذا ما جنّنى اللّيل آرق

فوا كبدى ممّا ألاقى من الهوى

إذا حنّ إلف أو تألّق بارق

وكذا ينبغى أن يكون التشبيب دالّا على الحنين ، والتحسّر ، وشدة الأسف ؛ كقوله :

وليست عشيّات الحمى برواجع

إليك ولكن خلّ عينيك تدمعا

وأذكر أيام الحمى ثم أنثنى

على كبدى من خشية أن تصدّعا

وقال ابن مطير :

وكنت أذود العين أن ترد البكا

فقد وردت ما كنت عنه أذودها

خليلىّ ما فى العيش عيب لو أنّنا

وجدنا لأيّام الحمى من يعيدها

فهذا يدلّ على تحسّر شديد ، وحنين مفرط.

وقول الآخر :

وددت بأبرق العيشوم أنّى

ومن أهوى جميعا فى رداء

أباشره وقد نديت عليه

وألصق صحّة منه بدائى

فحنّ إليه حنين السقيم إلى الشفاء.

ومن الشعر الدالّ على شدّة الحسرة والشوق قول الآخر :

يقر بعينى أن أرى رملة الغضا

إذا ما بدت يوما لعينى قلالها

ولست وإن أحببت من يسكن الغضا

بأوّل راج حاجة لا ينالها

__________________

(١) السلق : المطمئن بين ربوتين ، وقيل : القاع الصفصف.

١٣٠

وينبغى أن يظهر الناسب الرغبة فى الحبّ ، وألّا يظهر التبرّم به ، كأبى صخر حين يقول (١) :

فيا حبّها زدنى جوى كلّ ليلة

ويا سلوة الأيّام موعدك الحشر

وقول الآخر :

تشكّى المحبّون الصّبابة ليتنى

تحمّلت ما يلقون من بينهم وحدى

فكانت لنفسى لذة الحبّ كلّها

ولم يلقها قبلى محبّ ولا بعدى

وينبغى أن يكون فى النسيب دليل التدلّه والتحيّر ، كقول الحكم الحضرى :

تساهم ثوباها ففى الدرع رأدة (٢)

وفى المرط لفّاوان ردفهما عبل

فو الله ما أدرى أزيدت ملاحة

وحسنا على النسوان أم ليس لى عقل

وقيل لبعضهم : ما بلغ من حبّك لفلانة؟ فقال : إنى أرى الشمس على حيطانها أحسن منها على حيطان جيرانها.

ولما كانت أغراض الشعراء كثيرة ، ومعانيهم متشعّبة جمّة ، لا يبلغها الإحصاء كان من الوجه أن نذكر ما هو أكثر استعمالا ، وأطول مدارسة له ، وهو المدح ، والهجاء ، والوصف ، والنسيب ، والمراثى ، والفخر ؛ وقد ذكرت قبل هذا المديح والهجاء وما ينبغى استعماله فيهما ؛ ثم ذكرت الآن الوصف والنسيب ، وتركت المراثى والفخر ؛ لأنهما داخلان فى المديح. وذلك أنّ الفخر هو مدحك نفسك بالطّهارة ، والعفاف ، والحلم ، والعلم ، والحسب ، وما يجرى مجرى ذلك. والمرثية مديح الميّت ، والفرق بينهما وبين المديح أن تقول : كان كذا وكذا ، وتقول فى المديح : هو كذا وأنت كذا. فينبغى أن تتوخّى فى المرثية ما تتوخّى فى المديح ، إلا أنك إذا أردت أن تذكر الميت بالجود والشجاعة تقول : مات الجود ، وهلكت الشّجاعة ؛ ولا تقول : كان فلانا جوادا وشجاعا ؛ فإنّ ذلك بارد غير مستحسن ، وما كان الميت يكدّه فى حياته فينبغى ألّا يذكر أنه يبكى عليه مثل

__________________

(١) العمدة : ٢ ـ ١١٥.

(٢) الرأدة : الناعمة.

١٣١

الخيل والإبل وما يجرى مجراهما ، وإنما يذكر اغتباطهم بموته. وقد أحسنت الخنساء حيث تقول (١) :

فقد فقدتك طلقة واستراحت

فليت الخيل فارسها يراها

بل يوصف بالبكاء عليه من كان يحسن فى حياته (٢) إليه كما قال الغنوىّ :

ليبكك شيخ لم يجد من يعينه

وطاوى الحشا نائى المزار غريب

فهذه جملة إذا تدبّرها صانع الكلام استغنى بها عن غيرها ، وبالله التوفيق.

__________________

(١) شواعر العرب : ١٨.

(٢) فى ط : «من كان يحسن إليه فى حياته إليه» والصواب ما أثبتناه عن ا ، ب.

١٣٢

الباب الثالث

فى معرفة صنعة الكلام وترتيب الألفاظ (فصلان)

الفصل الأوّل

فى كيفية نظم الكلام والقول فى فضيلة الشعر وما ينبغى استعماله فى تأليفه

إذا أردت أن تصنع كلاما فأخطر معانيه ببالك ، وتنوّق له كرائم اللفظ ، واجعلها على ذكر منك ؛ ليقرب عليك تناولها ، ولا يتعبك تطلّبها ، واعمله ما دمت فى شباب نشاطك ؛ فإذا غشيك الفتور ، وتخوّنك الملال فأمسك ؛ فإنّ الكثير مع الملال قليل ، والنفيس مع الضّجر خسيس ؛ والخواطر كالينابيع يسقى منها شيء بعد شيء ، فتجد حاجتك من الرّى ، وتنال أربك من المنفعة. فإذا أكثرت عليها نضب ماؤها ، وقلّ عنك غناؤها.

وينبغى أن تجرى مع الكلام معارضة ، فإذا مررت بلفظ حسن أخذت برقبته ، أو معنى بديع تعلّقت بذيله ، وتحذّر أن يسبقك فإنه إن سبقك تعبت فى تتبّعه ، ونصبت فى تطلّبه ؛ ولعلك لا تلحقه على طول الطلب ، ومواصلة الدأب ؛ وقد قال الشاعر :

إذا ضيّعت أول كل أمر

أبت أعجازه إلّا التواء

وقالوا : ينبغى لصانع الكلام ألّا يتقدّم الكلام تقدما ، ولا يتبع ذناباه تتبّعا ، ولا يحمله على لسانه حملا ؛ فإنه إن تقدّم الكلام لم يتبعه خفيفه وهزيله وأعجفه والشارد منه. وإن تتبعه فاتته سوابقه ولواحقه ، وتباعدت عنه جياده وغرره ؛ وإن حمله على لسانه ثقلت عليه أوساقه وأعباؤه ، ودخلت مساويه فى محاسنه.

١٣٣

ولكنه يجرى معه فلا تندّ عنه نادّة معجبة سمنا إلّا كبحها ، ولا تتخلّف عنه مثقلة هزيلة إلّا أرهقها. فطورا يفرّقه ليختار أحسنه ، وطورا يجمعه ليقرب عليه خطوة الفكر ، ويتناول اللفظ من تحت لسانه ، ولا يسلّط الملل على قلبه ولا الإكثار على فكره. فيأخذ عفوه ، ويستغزر درّه ، ولا يكره أبيّا ، ولا يدفع أتيا.

وقال بشر بن المعتمر (١) : خذ من نفسك ساعة لنشاطك ، وفراغ بالك ، وإجابتها لك ؛ فإنّ قلبك فى تلك الساعة أكرم جوهرا ، وأشرق حسنا ، وأحسن فى الأسماع ، وأحلى فى الصدور ، وأسلم من فاحش الخطأ ، وأجلب لكل غرّة من لفظ كريم ، ومعنى بديع.

واعلم أنّ ذلك أجدى عليك ممّا يعطيك يومك الأطول بالكدّ والمطالبة والمجاهدة والتكلّف والمعاودة ؛ ومهما أخطأك لم يخطئك أن يكون مقبولا قصدا ، وخفيفا على اللسان سهلا ؛ وكما خرج عن ينبوعه ، ونجم من معدنه.

وإياك والتوعّر ؛ فإن التوعّر يسلمك إلى التعقيد ، والتعقيد هو الذى يستهلك معانيك ، ويشين ألفاظك ، ومن أراغ معنى كريما فليلتمس له لفظا كريما ؛ فإنّ حقّ المعنى الشريف اللفظ الشريف ، ومن حقهما أن يصونهما عما يدنّسهما ويفسدهما ويهجنهما ، فتصير بهما إلى حدّ تكون فيه أسوأ حالا منك قبل أن تلتمس منازل البلاغة ، وترتهن نفسك فى ملابستهما ، فكن فى ثلاث منازل :

فأوّل الثلاث أن يكون لفظك شريفا عذبا ، وفخما سهلا ، ويكون معناك ظاهرا مكشوفا ، وقريبا معروفا. فإن كانت هذه لا تواتيك ، ولا تسنح لك عند أوّل خاطر ، وتجد اللفظة لم تقع موقعها ، ولم تصل إلى مركزها ، ولم تتّصل بسلكها ، وكانت قلقة فى موضعها ، نافرة عن مكانها ، فلا تكرهها على اغتصاب

__________________

(١) العمدة : ١ ـ ١٨٦ ، والبيان والتبيين ١ : ١٣٥.

١٣٤

الأماكن ، والنزول فى غير أوطانها ؛ فإنك إن لم تتعاط قريض الشعر المنظوم ، ولم تتكلّف اختيار الكلام المنثور لم يعبك بذلك أحد ، وإن تكلّفته ولم تكن حاذقا مطبوعا ، ولا محكما لشأنك بصيرا عابك من أنت أقلّ عيبا منه ، وزرى عليك من هو دونك.

فإن ابتليت بتكلّف (١) القول ، وتعاطى الصناعة ، ولم تسمح لك الطبيعة فى أوّل وهلة ، وتعصّى عليك بعد إجالة الفكرة ، فلا تعجل ، ودعه سحابة يومك ولا تضجر ، وأمهلة سواد ليلتك ، وعاوده عند نشاطك ؛ فإنك لا تعدم الإجابة والمواتاة إن (٢) كانت هناك طبيعة وجريت من الصناعة على عرق ؛ وهى ـ المنزلة الثانية.

فإن تمنّع عليك بعد ذلك مع ترويح الخاطر ، وطول الإمهال ، فالمنزلة (٣) الثالثة أن تتحوّل عن هذه الصناعة إلى أشهى الصناعات إليك ، وأخفّها عليك ؛ فإنك لم تشتهها إلّا وبينكما نسب ، والشىء لا يحنّ إلا إلى ما شاكله ، وإن كانت المشاكلة قد تكون فى طبقات ؛ فإنّ النفوس لا تجود بمكنونها ، ولا تسمح بمخزونها مع الرهبة ، كما تجود مع الرّغبة والمحبّة.

وينبغى أن تعرف أقدار المعانى ، فتوازن بينها وبين أوزان المستمعين ، وبين أقدار الحالات ؛ فتجعل لكلّ طبقة كلاما ، ولكلّ حال مقاما ، حتى تقسم أقدار المعانى على أقدار المقامات ، وأقدار المستمعين على أقدار الحالات.

واعلم أنّ المنفعة مع موافقة الحال ، وما يجب لكلّ مقام من المقال ؛ فإن كنت متكلّما ، أو احتجت إلى عمل خطبة لبعض من تصلح له الخطب ، أو قصيدة لبعض ما يراد له القصيد ، فتخطّ ألفاظ المتكلمين ، مثل الجسم والعرض والكون والتأليف والجوهر ، فإنّ ذلك هجنة.

__________________

(١) فى ط ، ب : «بتكلفة» ، وما أثبتناه عن ا.

(٢) فى ط : وإن.

(٣) فى ط : والمنزلة.

١٣٥

وخطب بعضهم فقال : إنّ الله أنشأ الخلق وسوّاهم ومكّنهم ثم لاشاهم ، فضحكوا منه ؛ وقال بعض المتأخرين :

نور تبين فيه لاهوتيه

فيكاد يعلم علم ما لن يعلما

فأتى من الهجنة بما لا كفاء له ، وكذلك كن أيضا إذا كنت كاتبا.

الرسائل والخطب

واعلم أنّ الرسائل والخطب متشاكلتان فى أنهما كلام لا يلحقه وزن ولا تقفية ، وقد يتشاكلان أيضا من جهة الألفاظ والفواصل ؛ فألفاظ الخطباء تشبه ألفاظ الكتّاب فى السهولة والعذوبة ؛ وكذلك فواصل الخطب ، مثل فواصل الرسائل ؛ ولا فرق بينهما إلّا أنّ الخطبة يشافه بها ، والرسالة يكتب بها ؛ والرسالة تجعل خطبة ، والخطبة تجعل رسالة ، فى أيسر كلفة ؛ ولا يتهيّأ مثل ذلك فى الشعر من سرعة قلبه وإحالته إلى الرسائل إلّا بكلفة ؛ وكذلك الرسالة والخطبة لا يجعلان شعرا إلا بمشقّة.

ومما يعرف أيضا من الخطابة والكتابة أنّهما مختصّتان بأمر الدين والسلطان ، وعليهما مدار الدّار ، وليس للشّعر بهما اختصاص.

أمّا الكتابة فعليها مدار السلطان.

والخطابة لها الحظّ الأوفر من أمر الدّين ؛ لأنّ الخطبة شطر الصلاة التى هى عماد الدّين فى الأعياد والجمعات والجماعات ، وتشتمل على ذكر المواعظ التى يجب أن يتعهّد بها الإمام رعيّته لئلّا تدرس من قلوبهم آثار ما أنزل الله عزوجل من ذلك فى كتابه ، إلى غير ذلك من منافع الخطب.

الشعر

ولا يقع الشّعر (١) فى شيء من هذه الأشياء موقعا ، ولكنّ له مواضع لا ينجع فيها غيره من الخطب والرسائل وغيرها ، وإن كان أكثره قد بنى على الكذب والاستحالة من الصفات الممتنعة ، والنعوت الخارجة عن العادات والألفاظ الكاذبة ؛

__________________

(١) العمدة : ١ ـ ١٠.

١٣٦

من قذف المحصنات ، وشهادة الزور ، وقول البهتان ؛ لا سيما الشعر الجاهليّ الذى هو أقوى الشعر وأفحله ؛ وليس يراد منه إلّا حسن اللفظ ، وجودة المعنى ؛ هذا هو الذى سوّغ استعمال الكذب وغيره مما جرى ذكره فيه.

وقيل لبعض الفلاسفة : فلان يكذب فى شعره ؛ فقال : يراد من الشاعر حسن الكلام ، والصّدق يراد من الأنبياء.

ميزات الشعر على غيره

فمن مراتبه العالية التى لا يلحقه فيها شيء من الكلام النظم (١) الذى به زنة الألفاظ ، وتمام حسنها ؛ وليس شيء من أصناف المنظومات يبلغ فى قوة اللفظ منزلة الشعر.

ومما يفضل به غيره أيضا طول بقائه على أفواه الرّواة ، وامتداد الزمان الطويل به ؛ وذلك لارتباط بعض أجزائه ببعض ؛ وهذه خاصة له فى كلّ لغة ، وعند كلّ أمة ؛ وطول مدة الشىء من أشرف فضائله.

ومما يفضل به غيره من الكلام استفاضته فى الناس وبعد سيره فى الآفاق ؛ وليس شيء أسير من الشعر الجيّد ، وهو فى ذلك نظير الأمثال.

وقد قيل : لا شيء أسبق إلى الأسماع ، وأوقع فى القلوب ، وأبقى على الليالى والأيام من مثل سائر ، وشعر نادر.

ومما يفضل به غيره أنه ليس يؤثّر فى الأعراض والأنساب تأثير الشعر فى الحمد والذم شيء من الكلام ؛ فكم من شريف وضع ، وخامل دنىء رفع ؛ وهذه فضيلة غير معروفة فى الرسائل والخطب.

ومما يفضلهما به أيضا أنه ليس شيء يقوم مقامه فى المجالس الحافلة ، والمشاهد الجامعة ، إذا قام به منشد على رءوس الأشهاد ، ولا يفوز أحد من مؤلّفى الكلام بما يفوز به صاحبه من العطايا الجزيلة ، والعوارف السنيّة ، ولا يهتزّ ملك ، ولا رئيس لشيء من الكلام كما يهتزّ له ، ويرتاح لاستماعه ؛ وهذه فضيلة أخرى لا يلحقه فيها شيء من الكلام.

__________________

(١) فى ط : هو النظم.

١٣٧

ومنه أنّ مجالس الظّرفاء والأدباء لا تطيب ، ولا تؤنس إلّا بإنشاد الأشعار ، ومذاكرة الأخبار ؛ وأحسن الأخبار عندهم ما كان فى أثنائها أشعار ؛ وهذا شيء مفقود فى غير الشعر.

ومما يفضل به الشعر أن الألحان ـ التى هى أهنى اللّذات ـ إذا سمعها ذوو القرائح الصافية ، والأنفس اللطيفة ، لا تتهيّأ صنعتها إلا على كل منظوم من الشعر ؛ فهو لها بمنزلة المادّة القابلة لصورها الشريفة ؛ إلّا ضربا من الألحان الفارسية تصاغ على كلام غير منظوم نظم الشعر ، تمطّط فيه الألفاظ ؛ فالألحان منظومة ، والألفاظ منثورة.

ومن أفضل فضائل الشّعر أنّ ألفاظ اللغة إنما يؤخذ جزلها وفصيحها ، وفحلها وغريبها من الشعر ؛ ومن لم يكن راوية لأشعار العرب تبيّن النقص فى صناعته.

ومن ذلك أيضا أنّ الشواهد تنزع من الشّعر ، ولولاه لم يكن على ما يلتبس من ألفاظ القرآن وأخبار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم شاهد.

وكذلك لا نعرف أنساب العرب وتواريخها وأيّامها ووقائعها إلّا من جملة أشعارها ؛ فالشعر ديوان العرب ، وخزانة حكمتها ، ومستنبط آدابها ، ومستودع علومها ؛ فإذا كان ذلك كذلك فحاجة الكاتب والخطيب وكلّ متأدّب بلغة العرب أو ناظر فى علومها [إليه] ماسّة وفاقته إلى روايته شديدة.

وأمّا النقص الذى يلحق الشّعر من الجهات التى ذكرناها فليس يوجب الرغبة عنه والزّهادة فيه ، واستثناء الله عزوجل فى أمر الشعراء يدلّ على أنّ المذموم من الشعر إنما هو المعدول عن جهة الصواب إلى الخطأ والمصروف عن جهة الإنصاف والعدل إلى الظلم والجور.

وإذا ارتفعت هذه الصفات ارتفع الذم ، ولو كان الذمّ لازما له لكونه شعرا لما جاز أن يزول عنه على حال من الأحوال. ومع ذلك فإنّ من أكمل الصفات

١٣٨

صفات الخطيب والكاتب أن يكونا شاعرين كما أن من أتمّ صفات الشاعر أن يكون خطيبا كاتبا. والذى قصّر بالشعر كثرته وتعاطى كلّ أحد له حتى العامة والسفلة ؛ فلحقه من النقص ما لحق العود والشّطرنج حين تعاطاهما كلّ أحد.

ومن صفات الشعر الذى يختصّ بها دون غيره أنّ الإنسان إذا أراد مديح نفسه فأنشأ رسالة فى ذلك أو عمل خطبة فيه جاء فى غاية القباحة ، وإن عمل فى ذلك أبياتا من الشعر احتمل.

ومن ذلك أنّ صاحب الرئاسة والأبّهة لو خطب بذكر عشيق له ، ووصف وجده به ، وحنينه إليه ، وشهرته فى حبّه ، وبكاءه من أجله لاستهجن منه ذلك ، وتنقّص به فيه ؛ ولو قال فى ذلك شعرا لكان حسنا.

كيف تعمل للشعر

وإذا أردت أن تعمل شعرا فأحضر المعانى التى تريد نظمها فكرك ، وأخطرها على قلبك ، واطلب لها وزنا يتأتّى فيه إيرادها وقافية يحتملها ؛ فمن المعانى ما تتمكّن من نظمه فى قافية ولا تتمكّن منه فى أخرى ، أو تكون فى هذه أقرب طريقا وأيسر كلفة منه فى تلك ؛ ولأن تعلو الكلام فتأخذه من فوق فيجىء سلسا سهلا ذا طلاوة ورونق خير من أن يعلوك فيجىء كزّا فجّا ومتجعدا جلفا.

فإذا عملت القصيدة فهذّبها ونقّحها ؛ بإلقاء ما غثّ من أبياتها ، ورثّ ورذل ، والاقتصار على ما حسن وفخم ، بإبدال حرف منها بآخر أجود منه ، حتى تستوى أجزاؤها وتتضارع هواديها وأعجازها.

فقد أنشدنا أبو أحمد رحمه‌الله قال : أنشدنا أبو بكر بن دريد :

طرقتك عزّة من مزار نازح

يا حسن زائرة وبعد مزار

ثم ثال أبو بكر : لو قال : «يا قرب زائرة وبعد مزار» لكان أجود. وكذلك هو لتضمّنه الطّباق.

وأخبرنا أبو أحمد عن أبى بكر عن عبد الرحمن عن عمه عن المنتجع بن نبهان ،

١٣٩

قال : سمعت الأشهب بن جميل يقول : أنا أوّل من ألقى الهجاء بين جرير وابن لجأ ، أنشدت جريرا قوله (١) :

تصطكّ إلحيها على دلائها

تلاطم الأزد على عطائها

حتى بلغت إلى قوله :

تجرّ بالأهون من دعائها

جزّ العجوز الثّنى من كسائها (٢)

فقال جرير : ألا قال : «جرّ الفتاة طرفى ردائها» فرجعت إلى ابن لجأ فأخبرته. فقال : والله ما أردت إلا ضعفة العجوز ؛ ووقع بينهما الشرّ. وقول جرير : «جرّ العروس طرفى ردائها». أحسن وأظرف وأحلى من قول عمرو بن لجأ : «جرّ العجوز الثنى من كسائها». وليس فى اعتذار ابن لجأ بضعفة العجوز فائدة ؛ لأنّ الفتاة معها من الدلال ما يقوم فى الهوينا مقام ضعفة العجوز. وإنكار جرير قوله : «الثّنى من كسائها» نقد دقيق ، وإنما أنكره لأنّ فيه شعبة من التكلف. وقول جرير : «طرفى ردائها» أسلس وأسهل وأقلّ حروفا.

وقولك : رأيت الإيعاز بذلك أجود من قولك : رأيت أن أوعز بذلك ؛ كذا وجدت حذّاق الكتّاب يقولون. وعجبت من البحترى كيف قال (٣) :

لعمر الغوانى يوم صحراء أربد

لقد هيّجت وجدا على ذى توجّد

ولو قال : «على متوجد» لكان أسهل وأسلس وأحسن.

وفى غير هذه الرواية قال ، فقال ابن لجأ لجرير : فقد قلت أعجب من هذا ، وهو قولك (٤) :

وأوثق عند المردفات عشيّة

لحاقا إذا ما جرّد السيف لامع

والله لو لم يلحقن إلا عشيّا لما لحقن حتى نكحن وأحبلن.

__________________

(١) الموشح ١٢٨

(٢) فى الموشح : من خفائها. وقال : الخفاء : طرف اللسان.

(٣) ديوانه ١٩٦.

(٤) ديوانه : ٣٧٢ ، والموشح : ١٢٧.

١٤٠