كتاب الصّناعتين الكتابة والشعر

أبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري

كتاب الصّناعتين الكتابة والشعر

المؤلف:

أبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري


المحقق: علي محمد البجاوي ومحمد ابوالفضل ابراهيم
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٨

الباب الرّابع

فى البيان عن حسن النظم وجودة الرّصف والسّبك وخلاف ذلك

أجناس الكلام المنظوم ثلاثة : الرسائل ، والخطب ، والشّعر ، وجميعها تحتاج إلى حسن التأليف وجودة التركيب.

وحسن التأليف يزيد المعنى وضوحا وشرحا ، ومع سوء التأليف ورداءة الرّصف والتركيب شعبة من التّعمية ، فإذا كان المعنى سبيّا ، ووصف الكلام رديّا لم يوجد له قبول ، ولم تظهر عليه طلاوة. وإذا كان المعنى وسطا ، ورصف الكلام جيّدا كان أحسن موقعا ، وأطيب مستمعا ؛ فهو بمنزلة العقد إذا جعل كل خرزة منه إلى ما يليق بها كان رائعا فى المرأى وإن لم يكن مرتفعا جليلا ، وإن اختلّ نظمه فضمّت الحبّة منه إلى ما لا يليق بها اقتحمته العين وإن كان فائقا ثمينا.

وحسن الرّصف أن توضع الألفاظ فى مواضعها ، وتمكّن فى أماكنها ، ولا يستعمل فيها التقديم والتأخير ، والحذف والزيادة إلا حذفا لا يفسد الكلام ، ولا يعمّى المعنى ؛ وتضمّ كل لفظة منها إلى شكلها ، وتضاف إلى لفقها.

وسوء الرّصف تقديم ما ينبغى تأخيره منها ، وصرفها عن وجوهها ، وتغيير صيغتها ، ومخالفة الاستعمال فى نظمها.

وقال العتابى : الألفاظ أجساد ، والمعانى أرواح ؛ وإنما تراها بعيون القلوب ، فإذا قدّمت منها مؤخّرا ، أو أخّرت منها مقدّما أفسدت الصورة وغيّرت المعنى ؛ كما لو حوّل رأس إلى موضع يد ، أو يد إلى موضع رجل ، لتحوّلت الخلقة ، وتغيّرت الحلية.

(11 ـ الصناعتين)

١٦١

وقد أحسن فى هذا التمثيل وأعلم به على أنّ الذى ينبغى فى صيغة الكلام وضع كلّ شيء منه فى موضعه ليخرج بذلك من سوء النظم.

من سوء النظم

فمن سوء النّظم المعاظلة ، وقد مدح عمر بن الخطاب رضى الله عنه زهيرا لمجانبتها (١). فقال : كان لا يعاظل بين الكلام ؛ وأصل هذه الكلمة من قولهم : تعاظلت الجرادتان إذا ركبت إحداهما الأخرى ، وعاظل الرجل المرأة إذا ركبها ؛ فمن المعاظلة قول الفرزدق (٢) :

تعال فإن عاهدتنى لا تخوننى

تكن مثل من يا ذئب يصطحبان

وقوله (٣) :

هو السّيف الذى نصر ابن أروى

به عثمان مروان المصابا

وقوله للوليد بن عبد الملك (٤) :

إلى ملك ما أمّه من محارب

أبوه ولا كانت كليب (٥) تصاهره

وقوله يمدح هشام بن إسماعيل (٦) :

وما مثله فى الناس إلّا مملّكا

أبو أمّه حىّ أبوه يقاربه

وقوله :

الشمس طالعة ليست بكاسفة

تبكى عليك نجوم اللّيل والقمرا

وقوله (٧) :

ما من ندى رجل أحقّ بما أتى

من مكرمات عظائم الأخطار

من راحتين (٨) يزيد يقدح زنده (٩)

كفّاهما وأشدّ عقد إزار

وقوله (١٠) :

إذا جئته أعطاك عفوا ولم يكن

على ماله حال الردى مثل سائله

__________________

(١) أى المعاظلة.

(٢) ديوانه : ١٥٣.

(٣) ديوانه : ٦٤.

(٤) ديوانه : ٦٦.

(٥) فى ط ، ب «كليبا» وصوابه من ا.

(٦) ديوانه : ٢٦.

(٧) ديوانه : ٦٠.

(٨) فى الديوان : من ساعدين.

(٩) فى ط : تريد تقطع زنده.

(١٠) هو لذى الرمة كما فى ديوانه صفحة ٧٠ ، واللسان ـ مادة نعل.

١٦٢

إلى ملك لا تنصف الساق نعله

أجل لا وإن كانت طوالا محامله (١)

وقال قدامة : لا أعرف المعاظلة إلا فاحش الاستعارة ؛ مثل قول أوس (٢) :

وذات هدم عار نواشرها

تصمت بالماء تولبا جدعا (٣)

فسمى الصبى تولبا ؛ والتّولب : ولد الحمار.

وقول الآخر (٤) :

وما رقد الولدان حتى رأيته

على البكر يمريه بساق وحافر (٥)

فسمّى قدم الإنسان حافرا. وهذا غلط من قدامة كبير ؛ لأنّ المعاظلة فى أصل الكلام إنما هى ركوب الشىء بعضه بعضا ؛ وسمى الكلام به إذا لم ينضد نضدا مستويا ، وأركب بعض ألفاظه رقاب بعض ، وتداخلت أجزاؤه ، تشبيها بتعاظل الكلاب والجراد ، على ما ذكرناه ؛ وتسمية القدم بحافر ليست بمداخلة كلام فى كلام ؛ وإنما هو بعد فى الاستعارة.

والدليل على ما قلنا أنك لا ترى فى شعر زهير شيئا من هذا الجنس ، ويوجد فى أكثر شعر الفحول نحو (٦) ما نفاه عنه عمر رضى الله عنه وحده ؛ فمما وجد منه فى شعر النابغة قوله (٧) :

__________________

(١) هذه رواية اللسان قال : ويروى حمائله ، وفى ديوان ذى الرمة : ترى سيفه. وصفه بالطول.

(٢) اللسان ـ مادة هدم ، ونقد الشعر : ٦١ ، والموشح : ٦٣ ، وهو أوس بن حجر.

(٣) الهدم ، بالكسر : الكساء الذى ضوعفت رقاعه وخص ابن الأعرابى به الكساء البالى من الصوف. والنواشر : عصب الذراع من داخل وخارج ، وقيل : هى العصب التى فى ظاهرها. وقال فى اللسان : ذات بالرفع ، لأنه معطوف على فاعل قبله وهو :

ليبكك الشرب والمدامة وال

فتيان طرا وطامع طمعا

(٤) الموشح : ٦٤ ، واللسان ـ مادة حفر.

(٥) البكر : الفتى من الإبل. يمريه ـ من مريت الفرس : إذا استخرجت ما عنده من الجرى. والبيت لجبيها الأسدى يصف ضيفا طارقا أسرع إليه ـ كما فى اللسان ـ وقبله :

فأنصر نارى وهى شقراء أوقدت

بليل فلاحت للعيون النواظر

(٦) فى الأصول : فنحو

(٧) ديوانه : ٦٢.

١٦٣

يثرن الثّرى حتى يباشرن برده

إذا الشمس مجّت ريقها بالكلاكل (١)

معناه : يثرن الثّرى حتى يباشرن برده بالكلاكل إذا الشمس مجّت ريقها.

وهذا مستهجن جدّا ؛ لأنّ المعنى تعمّى فيه.

وقول الشماخ (٢) :

تخامص عن برد الوشاح إذا مشت

تخامص حافى الخيل فى الأمعز الوجى (٣)

معناه تخامص الحافى الوجى فى الأمعز.

وقول لبيد :

وشمول قهوة (٤) باكرتها

فى التّباشير مع الصّبح الأول (٥)

أى فى التباشير الأول مع الصّبح.

وكقول ذى الرمة :

كأنّ أصوات من إيغالهنّ بنا

أواخر الميس أصوات الفراريج (٦)

يريد كأن أصوات آخر الميس أصوات الفراريج من إيغالهن.

وقوله أيضا :

نضا البرد عنه وهو من ذو جنونه

أجارىّ تصهال وصوت صلاصل (٧)

كأنه من تخليطه كلام مجنون أو هجر مبرسم (٨) يريد : وهو من جنونه ذو أجارىّ.

__________________

(١) الكلكل والكلكال : الصدر من كل شيء. والبيت فى ديوانه هكذا :

يثرن الحصى حتى يباشرن برده

إذا الشمس مدت ريقها بالكلاكل

(٢) ديوانه : ٧.

(٣) التخامص : التجافى عن الشىء قاله فى اللسان واستشهد له بالبيت. والأمعز : المكان الذى فيه غلظ وصلابة. ويقال ، وجى الفرس وهو أن يجد وجعا فى حافره.

(٤) القهوة : الخمر.

(٥) روى هذا البيت اللسان ، قال : قال لبيد يصف صاحبا له عرّس فى السفر فأيقظه :

قلما عرس حتى هجته

بالتباشير من الصبح الأول

قال : والتباشير : طرائق ضوء الصبح فى الليل.

(٦) الميس : الرحل. الإيغال : السير السريع.

(٧) يقال : فرس ذو أجارى : أى ذو فنون فى الجرى.

(٨) المبرسم : المصاب بعلة البرسام.

١٦٤

وكقول أبى حية النميرى (١) :

كما خطّ الكتاب بكفّ يوما

يهودىّ يقارب أو يزيل

يريد : كما خط الكتاب بكف يهودىّ يوما يقارب أو يزيل.

وقول الآخر (٢) :

هما أخوا فى الحرب من لا أخا له

إذا خاف يوما نبوة فدعاهما

يريد : أخوا من لا أخ له فى الحرب.

وليس للمحدث أن يجعل هذه الأبيات حجّة ، ويبنى عليها ؛ فإنه لا يعذر فى شيء منها ، لاجتماع الناس اليوم على مجانبة أمثالها ، واستجادة ما يصحّ من الكلام ويستبين ، واسترذال ما يشكل ويستبهم.

فمن الكلام المستوى النظم ، الملتئم الرّصف قول بعض العرب (٣) :

أيا شجر الخابور مالك مورقا

كأنك لم تحزن (٤) على ابن طريف

فتى لا يحبّ الزّاد إلّا من التّقى

ولا المال إلّا من قنا وسيوف

ولا الخيل (٥) إلا كلّ جرداء شطبة

وأجرد شطب فى العنان خنوف (٦)

كأنك لم تشهد طعانا (٧) ولم تقم

مقاما على الأعداء غير خفيف

فلا تجزعا يا بنى طريف (٨) فإنّنى

أرى الموت حلالا (٩) بكلّ شريف

والمنظوم الجيد ما خرج مخرج المنثور فى سلاسته ، وسهولته واستوائه ، وقلة ضروراته ؛ ومن ذلك قول بعض المحدثين :

__________________

(١) الموشح : ٢٢٧.

(٢) قال فى الموشح ـ ٢٢٧ : ومثله لامرأة من بنى قيس.

(٣) معاهد التنصيص : ٣ ـ ١٥٩. وقد نسب هذه الأبيات إلى ليلى بنت طريف الشيبانى ترثى أخاها.

(٤) فى معاهد التنصيص : لم تجزع.

(٥) فى المعاهد :

ولا الذخر إلا كل جرداء صلدم

معاودة للكر بين صفوف

(٦) الخنوف : الفرس الذى يلوى حافره.

(٧) فى المعاهد : هناك.

(٨) فى المعاهد : عليه سلام الله وقفا ...

(٩) فى المعاهد : وقاعا.

١٦٥

وقوفك تحت ظلال السيوف

أقر الخلافة فى دارها

كأنك مطّلع فى القلوب

إذا ما تناجت بأسرارها

فكرّات طرفك مردودة

إليك بغامض أخبارها

وفى راحتيك الرّدى والنّدى

وكلتاهما طوع ممتارها

وأقضية الله محتومة

وأنت منفّذ أقدارها

ولا تكاد القصيدة تستوى أبياتها فى حسن التأليف ، ولا بدّ أن تتخالف ؛ فمن ذلك قول عبيد بن الأبرص (١) :

وقد علا لمّتى شيب فودّعنى

منه الغوانى وداع الصّارم القالى

وقد أسلّى همومى حين تحضرنى

بجسرة كعلاة القين شملال (٢)

زيّافة بقتود الرّحل ناجية

تفرى الهجير بتبغيل وإرقال (٣)

وفيها :

تحتى مسوّمة جرداء عجلزة

كالسّهم أرسله من كفّه الغالى (٤)

والشّيب شين لمن أرسى بساحته

لله درّ سواد اللمّة الخالى

فهذا نظم حسن وتأليف مختار.

وفيها ما هو رديء لا خير فيه ، وهو قوله :

بان الشّباب فآلى لا يلمّ بنا

واحتلّ بى من مشيب كل (٥) محلال

__________________

(١) ديوان المختار من شعراء العرب : ٩٧.

(٢) الجسرة : الناقة إذا كانت طويلة ضخمة. والعلاة : السندان ، أى ما يضرب عليه الحداد الحديد ، ويقال للناقة علاة : تشبه بها فى صلابتها. والشملال : الخفيفة السريعة.

(٣) الزيافة : الناقة المختالة. والقتود ، بفتح القاف : خشب الرحل. وفى ط : بقدود الرحل ، أى سيوره. والتبغيل والإرقال : ضربان من السير.

(٤) المسومة : المعلمة بعلامة. والعجلزة : الصلبة. والغالى : الذى يغلو بسهمه أى يباعد به فى الرمى (اللسان ـ مادة غلا).

(٥) فى ديوان مختارات العرب : أىّ.

١٦٦

وقوله :

فبت (١) ألعبها طورا (٢) وتلعبنى

ثم انصرفت وهى منّى على بال (٣)

قوله : «واحتل بى من مشيب كلّ محلال» بغيض خارج عن طريقة الاستعمال وأبغض منه قوله : «وهى منى على بال».

وفيها :

وكبش ملمومة باد نواجذها

شهباء ذات سرابيل وأبطال (٤)

السرابيل : الدروع ، فلو وضع السيوف موضع الدروع لكان أجود.

وفيها :

أوجرت جفرته خرصا فمال به

كما انثنى خضد من ناعم الضّال (٥)

النصف الثانى أكثر ماء من النصف الأول.

وفيها :

وقهوة كرضاب (٦) المسك طال بها

فى دنّها كرّ حول بعد أحوال

هذا البيت متوسط.

باكرتها قبل أن يبدو الصّباح لنا

فى بيت منهمر الكفّين مفضال

النصف الثانى أجود من النصف الأول.

__________________

(١) فى الديوان : قد بت.

(٢) فى الديوان : وهنا.

(٣) ألعبها ، ألعب المرأة : جعلها تعلب ، أو جاءها بما تلعب به ، وقد استدل اللسان على هذين المعنيين ببيت عبيد.

(٤) الكبش من القوم : رئيسهم. والملمومة : الكتيبة المجتمعة المضموم بعضها إلى بعض.

(٥) أوجره الرمح : طعنه به فى فيه. والجفرة : وسط كل شيء ومعظمه ، والخرص : سنان الرمح ، وتجوز فيه الحركات الثلاث. والخضد : ما قطع من عود رطب. والضال : السدر البرى والمخضود منه الذى قطع شوكه. وهذا البيت اضطربت الأصول فى روايته ، وما أثبتناه موافق لما فى المختارات واللسان ـ مادة خرص ، خضد.

(٦) فى الديوان : كرفات.

١٦٧

وقوله :

أما إذا دعيت نزال (١) فإنهم

يجثون للركبات فى الأبدان

هذا رديء الرّصف.

وبعده :

فخلدت بعدهم ولست بخالد

والدهر ذو غير وذو ألوان

متوسط.

وبعده :

إلّا لأعلم ما جهلت بعقبهم (٢)

وتذكّرى ما فات أىّ أوان

مختلّ النظم ، ومعناه لست بخالد إلا لأعلم ما جهلت ، وتذكرى ما فات ، أىّ أوان كان.

وقول النمر بن تولب (٣) :

لعمرى لقد أنكرت نفسى ورابنى

مع الشيب أبدالى التى أتبدل

فضول أراها فى أديمى بعد ما

يكون كفاف اللّحم أو هو أفضل (٤)

بطىء عن الدّاعى ، فلست بآخذ

سلاحى إليه مثل ما كنت أفعل (٥)

كأنّ محطّا فى يدى حارثيّة

صناع علت منى به الجلد من عل (٦)

تدارك ما قبل الشباب وبعده

حوادث أيّام تمرّ وأغفل (٧)

يودّ الفتى طول السّلامة والغنى

فكيف ترى طول السلامة تفعل

__________________

(١) نزال : مثل قطام بمعنى انزل ، وهو معدول عن المنازلة. وفى ط : «يحدون» ، صوابه عن ب

(٢) عقب كل شيء : آخره.

(٣) جمهرة أشعار العرب : ١٩٦.

(٤) اللسان ـ مادة كفف ، وفيه : أو هو أجمل. وأراد بالفضول : تغضن جلده لكبره بعد ما كان مكتنز اللحم.

(٥) أورده فى الجمهرة بعد قوله :

وكنت صفى النفس لا شيء دونه

وقد صرت من إقصا حبيبى أذهل

(٦) المحط : الذى يوشم به ، وقيل : الحديدة التى تكون مع الخرازين ينقشون بها الأديم ، والبيت فى اللسان ـ مادة حطط.

(٧) فى الجمهرة : «تضر وأعقل».

١٦٨

يردّ (١) الفتى بعد اعتدال وصحّة

ينوء إذا رام القيام ويحمل

فهذه الأبيات جيدة السبك حسنة الرصف.

وفيها :

فلا الجارة الدّنيا لها تلحينّها (٢)

ولا الضيف فيها إن أناخ محوّل

فالنّصف الأول مختلّ ؛ لأنه خالف فيه وجه الاستعمال (٣) ؛ ووجهه أن يقول :

فهى لا تلحى الجارة الدنيا ، أى القريبة.

وكذلك قوله :

إذا هتكت أطناب بيت وأهله

بمعطنها لم يوردوا الماء قيّلوا (٤)

هذا مضطرب لتناوله المعنى من بعيد. ووجه الكلام أن يقول : إذا دنت إبلنا من حىّ ولم ترد إبلهم الماء قيلوا من إبلنا. والقيل : شرب نصف النهار.

وأشدّ اضطرابا منه قوله :

وما قمعنا فيه الوطاب وحولنا

بيوت علينا كلها فوه مقبل (٥)

ووجه الكلام : أن يقول : لسنا نحقن اللبن فنجعل الأقماع فى الوطاب ، لأنّ حولنا بيوت أفواههم مقبلة علينا ، يرجون خيرنا ؛ فاضطرب نظم هذه الأبيات لعدو لها عن وجه الاستعمال.

__________________

(١) فى الجمهرة : يود ، ثم قال شارحها : يحمل فى آخر البيت مبنى للمعلوم ، وفسره بأنه يريد أنه يحمل السلاح. وبعض هذه الأبيات سبق فى صفحة ٣٨

(٢) تلومها.

(٣) لأنه أدخل النون التى للتوكيد.

(٤) المعطن : مبرك الإبل حول الحوض ، ورواية البيت فى الجمهرة :

إذا هتكت أطناب بيت ـ وأهله

بمعظمها ـ لم يورد الماء أقبل

(٥) فى الجمهرة :

وأقمعنا فيها الوطاب وحولنا

 .... مقفل

والوطب : الزق الذى يكون فيه السمن واللبن.

١٦٩

ومثله :

رأت أمّنا كيصا يلفّف وطبه

إلى الأنس البادين فهو مزمّل (١)

فقالت فلان قد أغاث عياله (٢)

وأودى عيال آخرون فهزّلوا

ألم يك ولدان أعانوا ومجلس

قريب فيجرى إذ يكفّ ويجمل (٣)

الكيص : الذى ينزل وحده. والوطب : وعاء اللبن. والأنس البادون : أهله لأنه يرده إليهم ، فمنهم من يتذمم فيسقى لبنه ومنهم من يرده كيصا مثل فعل الذى ينزل وحده. مزمل : مبرد (٤).

فهذه الأبيات سمجة الرّصف ؛ لأنّ الفصيح إذا أراد أن يعبّر عن هذه المعانى ، ولم يسامح نفسه عبّر عنها بخلاف ذلك.

وكان القوم لا ينتقد عليهم ، فكانوا يسامحون أنفسهم فى الإساءة.

فأما مثال الحسن الرّصف من الرسائل فكما كتب بعضهم : ولو لا أنّ أجود الكلام ما يدلّ قليله على كثيره ، وتغنى جملته عن تفصيله ، لوسّعت نطاق القول فيما أنطوى عليه من خلوص المودّة ، وصفاء المحبة ؛ فجال مجال الطّرف فى ميدانه ، وتصرّف تصرّف الرّوض فى افتنانه ؛ لكن البلاغة بالإيجاز أبلغ من البيان بالإطناب.

ومن تمام حسن الرصف أن يخرج الكلام مخرجا يكون له فيه طلاوة وماء ، وربما كان الكلام مستقيم الألفاظ ، صحيح المعانى ؛ ولا يكون له رونق ولا رواء ؛ ولذلك قال الأصمعى لشعر لبيد : كأنه طيلسان طبرانى ، أى هو محكم الأصل ولا رونق له.

__________________

(١) رواية اللسان فى مادة كيص :

رأت رجلا كيصا يلفف وطبه

فيأتى به البادين وهو مزمل

وقال فى اللسان بعد أن فسر الكيص بالرجل الأشر وذكر البيت : يحتمل أن تكون ألف كيصا للإلحاق ، ويحتمل أن تكون التى هى عوض من التنوين فى النصب.

(٢) فى الجمهرة : قد أعاش عياله.

(٣) فى الجمهرة : فنخزى إذا كنا نحل ونحمل.

(٤) المزمل : المغطى. وزمل الشىء : أخفاه.

١٧٠

والكلام إذا خرج فى غير تكلّف وكد وشدّة تفكر وتعمّل كان سلسا سهلا ، وكان له ماء ورواء ورقراق ، وعليه فرند (١) لا يكون على غيره مما عسر بروزه واستكره خروجه ؛ وذلك مثل قول الحطيئة (٢) :

هم القوم الذين إذا ألمّت

من الأيام مظلمة أضاءوا

وقوله :

لهم فى بنى الحاجات أيد كأنّها

تساقط ماء المزن فى البلد القفر

وكقول أشجع :

قصر عليه تحية وسلام

نشرت عليه جمالها الأيّام

وإذا سيوفك صافحت هام العدا

طارت لهنّ عن الفراخ الهام

برقت سماؤك للعدوّ فأمطرت

هاما لها ظلّ السيوف غمام

رأى الإمام وعزمه وحسامه

جند وراء المسلمين قيام

وكقول النمر :

خاطر بنفسك كى تصيب غنيمة

إنّ الجلوس مع العيال قبيح

فالمال فيه تجلّة ومهابة

والفقر فيه مذلة وقبوح (٣)

وكقول الآخر :

نامت جدودهم وأسقط نجمهم

والنجم يسقط والجدود تنام

وكقول الآخر :

لعن الإله تعلّة بن مسافر

لعنا يشنّ عليه من قدّام

ففى هذه الأبيات مع جودتها رونق ليس فى غيرها مما يجرى مجراها فى صحة المعنى وصواب اللفظ.

__________________

(١) الفرند : وشى السيف.

(٢) المختار من ديوان العرب : ١٢٢.

(٣) القبوح : مصدر كالقبح : ضد الحسن.

١٧١

ومن الكلام الصحيح المعنى واللفظ ، القليل الحلاوة العديم الطلاوة قول الشاعر :

أرى رجالا بأدنى الدّين قد قنعوا

ولا أراهم رضوا فى العيش بالدّون

فاستغن بالله عن دنيا الملوك كما اس

تغنى الملوك بدنياهم عن الدّين

ومن الشعر المستحسن الرونق قول دعبل (١) :

وإنّ امرأ أمست مساقط رحله

بأسوان لم يترك له الحرص معلما

حللت محلّا يقصر البرق دونه

ويعجز عنه الطيف أن يتجشّما

__________________

(١) تقدم ذكرهما فى صفحة ٥٦.

١٧٢

الباب الخامس

فى ذكر الإيجاز والإطناب (فصلان)

الفصل الأول

من الباب الخامس فى ذكر الإيجاز

الإيجاز

قال أصحاب الإيجاز : الإيجاز قصور البلاغة على الحقيقة ، وما تجاوز مقدار الحاجة فهو فضل داخل فى باب الهذر والخطل ، وهما من أعظم أدواء الكلام ، وفيهما دلالة على بلادة صاحب الصناعة.

تفضيل الإيجاز

وفى تفضيل الإيجاز يقول جعفر بن يحيى لكتّابه : إن قدرتم أن تجعلوا كتبكم توقيعات فافعلوا.

وقال بعضهم : الزيادة فى الحدّ نقصان. وقال محمد الأمين : عليكم بالإيجاز فإنّ له إفهاما ، وللإطالة استبهاما. وقال شبيب بن شبة : القليل الكافى خير من كثير غير شاف. وقال آخر : إذا طال الكلام عرضت له أسباب التكلّف ، ولا خير فى شيء يأتى به التكلّف. وقد قيل لبعضهم : ما البلاغة؟ فقال : الإيجاز. قيل : وما الإيجاز؟ قال : حذف الفضول ، وتقريب البعيد.

وسمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجلا يقول لرجل : كفاك الله ما أهمّك. فقال : هذه البلاغة. وسمع آخر يقول : عصمك الله من المكاره. فقال : هذه البلاغة. وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أوتيت جوامع الكلم.

وقيل لبعضهم : لم لا تطيل الشّعر؟ فقال : حسبك من القلادة ما أحاط بالعنق. وقيل ذلك لآخر ، فقال : لست أبيعه مذارعة.

١٧٣

وقيل للفرزدق : ما صيّرك إلى القصائد القصار بعد الطوال؟ فقال : لأنى رأيتها فى الصدور أوقع ، وفى المحافل أجول.

وقالت بنت الحطيئة لأبيها : ما بال قصارك أكثر من طوالك؟ فقال : لأنها فى الآذان أولج ، وبالأفواه أعلق. وقال أبو سفيان لابن الزبعرى : قصرت فى شعرك؟ فقال : حسبك من الشّعر غرّة لائحة ، وسمة واضحة.

وقيل للنابغة الذبيانى : الا تطيل القصائد كما أطال صاحبك ابن حجر؟ فقال : من انتحل انتقر (١).

وقيل لبعض المحدثين : مالك لا تزيد على أربعة واثنين؟ قال : هنّ بالقلوب أوقع ، وإلى الحفظ أسرع ، وبالألسن أعلق ، وللمعانى أجمع ، وصاحبها أبلغ وأوجز.

وقيل لابن حازم : ألا تطيل القصائد؟ فقال :

أبى لى أن أطيل الشعر قصدى

إلى المعنى وعلمى بالصّواب

وإيجازى بمختصر قريب

حذفت به الفضول من الجواب

فابعثهنّ أربعة وستّا

مثقفة بألفاظ عذاب

خوالد ما حدا ليل نهارا

وما حسن الصّبا بأخى الشّباب

وهنّ إذا وسمت بهنّ قوما

كأطواق الحمائم فى الرّقاب

وكنّ إذا أقمت مسافرات

تهاداها الرّواة مع الرّكاب (٢)

وقال أمير المؤمنين علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه : ما رأيت بليغا قطّ إلّا وله فى القول إيجاز ، وفى المعانى إطالة.

وقيل لإياس بن معاوية : ما فيك عيب غير أنك كثير الكلام. قال : أفتسمعون صوابا أم خطأ؟ قالوا : بل صوابا. قال : فالزيادة من الخير خير. وليس كما قال ؛ لأنّ للكلام غاية ؛ ولنشاط السامعين نهاية ؛ وما فضل عن مقدار الاحتمال دعا إلى

__________________

(١) الانتقار : الاختيار.

(٢) هذا البيت لم يرد فى ا ، ب وفى ط : تهاداه.

١٧٤

الاستثقال ، وصار سببا للملال ؛ فذلك هو الهذر والإسهاب والخطل ، وهو معيب عند كل لبيب.

وقال بعضهم : البلاغة بالإيجاز أنجع من البيان بالإطناب. وقال : المكثار كحاطب الليل. وقيل لبعضهم : من أبلغ الناس؟ قال : من حلى المعنى المزير باللفظ الوجيز ، وطبّق المفصل قبل التحزيز.

المزيز : الفاضل ، والمزّ : الفضل. وقوله : «وطبّق المفصل قبل التّحزيز» : مأخوذ من كلام معاوية رضى الله عنه وهو قوله لعمرو بن العاص لما أقبل أبو موسى : يا عمرو ؛ إنه قد ضمّ إليك رجل طويل اللسان ، قصير الرأى والعرفان ؛ فأقلل الحزّ ، وطبّق المفصل ، ولا تلقه بكلّ رأيك. فقال عمرو : أكثر من الطعام ، وما بطن قوم إلا فقدوا بعض عقولهم.

والإيجاز : القصر والحذف.

نوعا الإيجاز

فالقصر تقليل الألفاظ ، وتكثير المعانى ؛ وهو قول الله عزوجل : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ).

ويتبيّن فضل هذا الكلام إذا قرنته بما جاء عن العرب فى معناه ، وهو قولهم : «القتل أنفى للقتل». فصار لفظ القرآن فوق هذا القول لزيادته عليه فى الفائدة ، وهو إبانة العدل لذكر القصاص وإظهار الغرض المرغوب عنه فيه لذكر الحياة ، واستدعاء الرّغبة والرّهبة لحكم الله به ولإيجازه فى العبارة. فإنّ الذى هو نظير قولهم : «القتل أنفى للقتل» إنما هو : «القصاص حياة» وهذا أقلّ حروفا من ذاك ، ولبعده من الكلفة بالتكرير ، وهو قولهم : «القتل أنفى للقتل». ولفظ القرآن بريء من ذلك ، وبحسن التأليف وشدة التلاؤم المدرك بالحسّ ؛ لأنّ الخروج من الفاء إلى اللام أعدل من الخروج من اللام إلى الهمزة.

ومن القصر أيضا قوله تعالى : (إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ

١٧٥

عَلى بَعْضٍ) لا يوازى هذا الكلام فى الاختصار شيء. وقوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ). وقوله عزّ اسمه : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) وإنما كان سوء عاقبة المكر والبغى راجعا عليهم وحائقا بهم ، فجعله للبغى والمكر اللّذين هما من فعلهم إيجازا واختصارا. وقوله سبحانه : (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً».) وقوله تعالى : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ). وقوله تعالى : (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا) تحيّر فى فصاحته جميع البلغاء ، ولا يجوز أن يوجد مثله فى كلام البشر. وقوله تعالى : (وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ). وقوله تعالى : (يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي) الآية .. تتضمّن مع الإيجاز والفصاحة دلائل القدرة. وقوله تعالى : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) كلمتان استوعبتا جميع الأشياء على غاية الاستقصاء. وروى أنّ ابن عمر رحمه‌الله قرأها ، فقال : من بقى له شيء فليطلبه. وقوله تعالى : (وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ) اختلاف اللغات والمناظر والهيئات. وقوله تعالى فى صفة خمر أهل الجنّة : (لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ) انتظم قوله سبحانه (ولا ينزفون) عدم العقل وذهاب المال ونفاد الشراب. وقوله تعالى : (أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ) دخل تحت الأمن جميع المحبوبات ؛ لأنه نفى به أن يخافوا شيئا أصلا من الفقر والموت وزوال النّعمة والجور ، وغير ذلك من أصناف المكاره ؛ فلا ترى كلمة أجمع من هذه.

وقوله عزوجل : (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ) جمع أنواع التّجارات ، وصنوف المرافق التى لا يبلغها العدّ والإحصاء. ومثله قوله سبحانه : (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ) جمع منافع الدنيا والآخرة.

وقوله تعالى : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) ثلاث كلمات تشتمل على أمر الرسالة وشرائعها وأحكامها على الاستقصاء ؛ لما فى قوله «فاصدع» من الدلالة على التأثير ، كتأثير الصدع.

وقوله تعالى : (وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) ثلاث كلمات اشتملت على عواقب الدنيا والآخرة.

١٧٦

وقوله تعالى : (وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) وإنما ذكر الساكن ولم يذكر المتحرّك ؛ لأنّ سكون الأجسام الثقيلة مثل الأرض والسماء فى الهواء من غير علاقة ودعامة أعجب وأدلّ على قدرة مسكنها.

وقوله عزوجل : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) فجمع جميع مكارم الأخلاق بأسرها ؛ لأنّ فى العفو صلة القاطعين ، والصفح عن الظالمين ، وإعطاء المانعين ، وفى الأمر بالعرف تقوى الله وصلة الرّحم ، وصون اللسان عن الكذب ، وغضّ الطّرف عن الحرمات ، والتبرّؤ من كل قبيح ؛ لأنه لا يجوز أن يأمر بالمعروف وهو يلابس شيئا من المنكر ؛ وفى الإعراض عن الجاهلين الصّبر والحلم وتنزيه النفس عن مقابلة السفيه بما يوتغ (١) الدين ويسقط القدرة.

وقوله تعالى : (أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها) ؛ فدلّ بشيئين على جميع ما أخرجه من الأرض قوتا ومتاعا للناس ، من العشب والشجر والحطب واللباس والنّار والملح والماء ؛ لأنّ النار من العيدان ، والملح من الماء ، والشاهد على أنّه أراد ذلك كلّه قوله تعالى : (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ).

وقوله تعالى : (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) ، فانظر هل يمكن أحدا من أصناف المتكلمين إيراد هذه المعانى فى مثل هذا القدر من الألفاظ.

وقوله عزوجل : (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) جمع الأشياء كلها حتى لا يشذّ منها شيء على وجه.

وقوله تعالى : (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) جمع فيه من نعم الجنة ما لا تحصره الأفهام ، ولا تبلغه الأوهام.

__________________

(١) الوتغ ، بالتحريك : الهلاك ، والإثم ، وفساد الدين.

(١٢ ـ الصناعتين)

١٧٧

وقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إياكم وخضراء الدّمن» (١). وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حبّك الشىء يعمى ويصم». وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ من البيان لسحرا». وقوله عليه الصلاة والسلام : «مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلمّ» (٢). وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الصحة والفراغ نعمتان». وقوله عليه الصلاة والسلام : «نيّة المؤمن خير من عمله». وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ترك الشرّ صدقة». وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الحمى فى أصول النخل».

فمعانى هذا الكلام أكثر من الفاظه ، وإذا أردت أن تعرف صحّة ذلك فحلها وابنها بناء آخر ؛ فإنّك تجدها تجيء فى أضعاف هذه الألفاظ.

قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا أعطاك الله خيرا فليبن عليك ، وابدأ بمن تعول ، وارتضخ من الفضل ، ولا تلم على الكفاف ، ولا تعجز عن نفسك».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فليبن عليك» أى فليظهر أثره عليك بالصدقة والمعروف ، ودلّ على ذلك بقوله : «وابدأ بمن تعول ، وارتضخ من الفضل» ، أى اكسر من مالك وأعط ، واسم الشىء الرضيخة. «ولا تعجز عن نفسك» أى لا تجمع لغيرك وتبخل عن نفسك ، فلا تقدّم خيرا.

وقول أعرابى : اللهم هب لى حقك ، وأرض عنى خلقك.

__________________

(١) الدمن : جمع دمنة والأصل فيه ما تدمنه الإبل والغنم من أبعارها وأبوالها ، أى تلبده فى مرابضها ، فربما نبت فيها الكلأ يرى له غضارة وهو وبيء المرعى منتن الأصل ، شبه به المرأة الحسناء فى المنبت السوء ؛ لأن تمام الحديث : قيل : وما ذاك؟ قال : المرأة الحسناء فى المنبت السوء.

(٢) والحبط : أن تأكل الماشية فتكثر حتى تنتفخ لذلك بطونها ولا تخرج عنها ما فيها. والحديث جاء فى اللسان فى مادة حبط. وفيه : إن قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا. مثل الحريص والمفرط فى الجمع والمنع. وذلك أن الربيع ينبت أحرار العشب التى تحلوليها الماشية فتستكثر منها حتى تنتفخ بطونها وتهلك ، كذلك الذى يجمع الدنيا ويحرص عليها ويشح على ما جمع حتى يمنع ذا الحق حقه منها ، يهلك فى الآخرة بدخول النار واستيجاب العذاب. وارجع إلى مادة حبط فى اللسان ففيها بحث حول هذا الحديث مستفيض.

١٧٨

وقال آخر : أولئك قوم جعلوا أموالهم مناديل لأعراضهم ؛ فالخير بهم زائد ، والمعروف لهم شاهد ؛ أى يقون أعراضهم بأموالهم.

وقيل لأعرابى يسوق مالا كثيرا : لمن هذا المال؟ فقال : لله فى يدى.

وقال أعرابى لرجل يمدحه : إنه ليعطى عطاء من يعلم أنّ الله مادته.

وقول آخر : أما بعد فعظ الناس بفعلك ، ولا تعظهم بقولك ، واستحى من الله بقدر قربه منك ، وخفه بقدر قدرته عليك.

وقال آخر : إن شككت فاسأل قلبك عن قلبى.

المساواة

ومما يدخل فى هذا الباب المساواة ، وهو أن تكون المعانى بقدر الألفاظ ، والألفاظ بقدر المعانى لا يزيد بعضها على بعض ، وهو المذهب المتوسط بين الإيجاز والإطناب ؛ وإليه أشار القائل بقوله : كأنّ ألفاظه قوالب لمعانيه ؛ أى لا يزيد بعضها على بعض.

فما فى القرآن من ذلك قوله عزوجل : (حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ)(١). وقوله تعالى : (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ)(٢). ومثله كثير.

ومن كلام النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تزال أمتى بخير ما لم تر الأمانة مغنما والزكاة مغرما». وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إياك والمشارّة فإنها تميت الغرّة وتحيى العرّة» (٣).

ومن ألفاظ هذه الفصول ما كانت معانيه أكثر من ألفاظه ، وإنما يكره تميزها كراهة الإطالة.

ومن نثر الكتّاب قول بعضهم : سألت عن خبرى وأنا فى عافية لا عيب فيها إلا فقدك ، ونعمة لا مزيد فيها إلا بك.

__________________

(١) مقصورات : أى محبوسات على أزواجهن.

(٢) قال فى اللسان عن الفراء (ودوا لو تدهن فيدهنون) بمعنى ودوا لو تكفر فيكفرون. وقيل : ودوا لو تصانعهم فى الدين فيصانعونك.

(٣) المشارة : المفاعلة من الشر أى لا تفعل به شرا فتحوجه إلى أن يفعل بك مثله. والغرة : الحسن والعمل الصالح. والعرة : القذر واستعير للمساويء والمثالب.

١٧٩

وقوله : علمتنى نبوتك سلوتك ، وأسلمنى يأسى منك إلى الصّبر عنك. وقوله : فحفظ الله النعمة عليك وفيك ، وتولّى إصلاحك والإصلاح لك ، وأجزل من الخير حظّك والحظّ منك ، ومنّ عليك وعلينا بك.

وقال آخر : يئست من صلاحك بى ، وأخاف فسادى بك ، وقد أطنب فى ذم الحمار من شبّهك به.

ومن المنظوم قول طرفة (١) :

ستبدى لك الأيام ما كنت جاهلا

ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

وقول الآخر :

تهدى الأمور بأهل الرّأى ما صلحت

فإن تأبّت فبالأشرار تنقاد

وقول الآخر :

فأمّا الّذى يحصيهم فمكثّر

وأمّا الّذى يطريهم فمقلّل

وقول الآخر (٢) :

أهابك إجلالا وما بك قدرة

علىّ ولكن ملء عين حبيبها

وما هجرتك النّفس أنك عندها

قليل ، ولكن قلّ منك نصيبها

وقول الآخر :

أصدّ بأيدى العيس عن قصد أهلها

وقلبى إليها بالمودّة قاصد

وقول الآخر :

يقول أناس لا يضيرك فقدها

بلى كل ما شفّ النفوس يضيرها (٣)

وقال الآخر :

يطول اليوم لا ألقاك فيه

وحول نلتقى فيه قصير

__________________

(١) جمهرة شعراء العرب : ١٤٧. الشعر والشعراء : ١٤٥.

(٢) ديوان الحماسة : ٣ ـ ٣٠٤.

(٣) يضير : يضر.

١٨٠