تفسير من وحي القرآن - ج ٢١

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ٢١

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٦٠

إلى السلام دون امتلاك قاعدة للقوّة في شروطه ومواقعه وحركته ، مما لا بدّ من دراسته على أساس المصلحة الإسلامية العليا ، على مستوى الحاضر والمستقبل ، في ما يمكن أن يحقّق للمسلمين من القوّة في مواقعهم ، أو في مواقع الآخرين ، لأن مسألة الحرب والسلم ، ليست من المسائل التي يستغرق الإنسان فيها ليدخل في تفاصيلها المأساوية أو غير المأساوية ، بل هي من المسائل التي تحدد ميزان القوّة في الساحة العامة ، في تأثيراتها الإيجابية أو السلبية على الواقع كله ، مما يفرض على أصحاب القرار من القياديين ، أن يدرسوا الموقف من جميع جوانبه ، على أساس الظروف الموضوعية المحيطة به ، كما يفرض على الناس الذين هم في القاعدة ، أن يلتزموا بالقرار على هذا الأساس ، لئلا يربكوا خطط القيادة المتحركة نحو النصر.

وهذا ما استهدفته الآية من نهي المؤمنين عن الضعف الذي يسقط الإنسان معه أمام مظاهر المأساة ونوازع الذات ، ويجعله يدعو إلى السلم ، في الوقت الذي لا مصلحة فيه للإسلام والمسلمين ، لأنه يعني الهزيمة في تلك المرحلة أمام العوامل العاطفية والانفعالية التي تترك تأثيرها على الموقف. (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) في موقع القوّة على صعيد الخط وعلى صعيد الواقع ، (وَاللهُ مَعَكُمْ) فلستم وحدكم في الساحة ، بل تملكون نصرة الله الذي يملك القوّة كلها ، كما يملك أصحاب القوّة في حياتهم العامة ، ومن كان الله معه ، فلا يخاف أحدا ، فانطلقوا بهذه الروحية المؤمنة العالية دون خوف أو اهتزاز ، والتزموا بخط الله في كل شيء ، واعتمدوا عليه ، فسيحميكم من كل سوء ، (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ) أي لن ينقصها ، ولن يقطع منها شيئا ، بل يوفّي أجرها كاملا غير منقوص.

* * *

٨١

الحياة الدنيا لعب ولهو

(إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) فهذه هي طبيعتها الذاتية بالنسبة لمن يستغرقون فيها ليأخذوا من شهواتها ولذاتها ، ويستسلمون للاسترخاء الذاتي دون تفكير مسئول بالحاضر والمستقبل ، فلا معنى لهذه الحياة إذا لم ترتبط مفرداتها بغاية كبيرة كالحصول على رضى الله ، الذي يعطي كل عمل بعدا روحيا ورساليا ، ويجعل الإنسان في دائرة رحمة الله ، حتى أن اللعب واللهو يفقدان معناهما العبثي عند ما يرتبطان بالمعنى الشامل للحياة في خط الرسالة ، لأنهما يكونان عندها ، استغلالا للفراغ من أجل تجديد الحيويّة والنشاط للاستمرار في العمل.

إن الجانب المادي في الحياة لا يمثل اللذّة إلا في حجم اللحظة السريعة الزائلة ، دون أن يترك أي أثر على عمق الحياة بمعناها الإنساني ، ولكنه إذا امتزج بالروح التي تردّ الأشياء كلها إلى ساحة الله ، بحيث يكون الله هو محرّك حياة الإنسان ، كما خلق له حياته ، فإن اللذة فيها تأخذ بعدا روحيا واسعا في حجم الحياة كلها ، لأنها تنزل إلى أعماق الإنسان ، فتملأها بالصفاء والطهارة والفرح الكبير الذي لا يشكو من عقدة حزن ، وتمتد إلى المستقبل لتحدّثه عن مواقع رضى الله ، وآفاق رحمته في الدنيا والآخرة.

(وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا) وتجعلوا كل أعمالكم وأوضاعكم خاضعة لله وتسيروا على هداه في ذلك كله ، دون اهتزاز أو انحراف ، (يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ) التي جعلها لكم ثوابا لأعمالكم من دون نقصان ، (وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ) في مقابل ذلك ، لأن الله لا يحتاج إليها ، ولأن عطاء الله لا يقف عند حدّ ولا ينطلق من عملية تبادل ، فلا تخافوا على أموالكم من النقصان عند الالتزام بالرسالة ، فإن الله يمنحكم زيادة فيها من مواقع الحلال ، في ما يدلكم عليه من أسباب الزيادة.

(إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ) أي يجهدكم ويشق عليكم بذلك (تَبْخَلُوا) لأنكم تنظرون إلى المال نظرة العبادة كما لو كان إلها تعبدونه من دون الله ، عند ما تقومون بكل المعاصي والجرائم في سبيل الحصول عليه ، وتلتصقون به

٨٢

في إيحاءاته المنحرفة ، كما لو كان جزءا من ذواتكم ، مما يجعل من طلب المال منكم من قبل الله أو من قبل غيره ، مشكلة كبيرة تواجهونها بالجزع والرفض الكبير ، لحرصكم الشديد على بقائه في حوزتكم ، كمصدر للزهو الذاتي ، وكأساس للقيمة الاجتماعية ، وكسبيل من سبل الحصول على الأطماع والشهوات ، وهذا هو أساس البخل بالمال لدى البخلاء الذين قد تتقمصون شخصيتهم عند ما يطلب الله منكم أموالكم ، (وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ) في ما تتحرك به الأحقاد للخروج من الداخل ، لتعبر عن نفسها أمام عناصر الإثارة.

* * *

العطاء عبادة

(ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) من أموالكم التي أعطاكم الله إياها ، ولكنكم تبخلون عليه بها ، (فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ) لأنه لا يعيش القيمة الفكرية الإيمانية لمعنى المال والملكية ، فهو عطيّة الله لعباده ، لأن كل مصادره المتحركة أو الثابتة مخلوقة له ومتحركة بأمره وخاضعة لتدبيره ، أمّا الملكية ، فهي وظيفة شرعية يحرك الإنسان المال في دائرتها في ما أوكل الله إليه إنفاقه ، من شؤون النفس ، أو من شؤون الآخرين ، ووعده الأجر الكبير إذا قام بما يجب عليه أو يستحب له من ذلك ، مما فيه رضى الله ، مما يجعل من العطاء عبادة لله ، كبقية العبادات الأخرى التي جعل الله فيها الثواب من رحمته ، كما يجعل من الامتناع عنه نوعا من الخسارة التي يفقد فيها الإنسان عطاء الله في الدنيا والآخرة ، مما يحتاجه في مسألة المصير. (وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ) فيمنع الخير عنها ، بالامتناع عما يؤدّي إليه ، وإذا كان الله يطلب منكم الإنفاق في سبيله ، فليس لحاجة منه إليكم ، ولكن ليفتح حياتكم على معاني الخير في العطاء ، لتحصلوا على نتائج العطاء الخيّرة على كل صعيد.

(وَاللهُ الْغَنِيُ) عن كل مخلوقاته ، في كل شيء ، لأنه المالك لكل

٨٣

الوجود ، والمتصرف في كل مفرداته الصغيرة والكبيرة ، وكيف يحتاج لما خلقه ومن خلقه ، وهو القادر أن يغنيه ويبدع غيره كما أبدعه ، لأن القدرة لا تقف عند حدود معيّنة؟! (وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) إليه ، لأنكم تمثلون الفقر المطلق أمامه ، فلا يمكن لأيّ إنسان الاستغناء عنه في شيء ؛ في الهواء الذي يتنفسه ، وفي الماء الذي يشربه ، وفي الغذاء الذي يتغذى به ، وفي حركة الحياة في عروقه ، وفي كل شيء ، فأين الغنى في ذلك ، وأين الغنى في غيره؟! مما يعني أن مضمون كلمة الإنسان هو الفقر المطلق إلى الله في كل شيء.

وفي ضوء هذا ، لا بد لكم من الانفتاح على الله انفتاح الإنسان الذي يحتاج إليه في كل وجوده ، لأن انفتاحكم ذاك هو الضمانة لاستمرار دوركم في الحياة ، فإنكم لستم أوّل الناس الذين يكلِّفهم الله بتكاليفه ، ويوكل إليهم أمر القيام بإدارة شؤون الحياة في مواقع رضاه ، ولستم آخر الناس ، فإن سرتم على درب الله ، أبقاكم على دوركم في الحياة ، (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) من الشعوب الأخرى التي قد تقوم بالدور الإلهي في خطّ الإسلام بأفضل مما تقومون به ، أو بترك خط الانحراف الذي تمثّلونه الآن ، (ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) بل يؤمنون بالله ويتّقونه ويعطون كل ما لديهم في سبيله ، من موقع المحبة والإخلاص له.

وقد روى السيوطي في الدر المنثور ، قال : «أخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، والترمذي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والطبراني في الأوسط ، والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال : تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الآية : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) فقالوا : يا رسول الله ، من هؤلاء الّذين إن تولينا استبدلوا بنا ثم لا يكونوا أمثالنا؟ فضرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على منكب سلمان ثم قال : هذا وقومه ، والذي نفسي بيده ، لو كان الإيمان منوطا بالثريّا ، لتناوله رجال من فارس» (١).

* * *

__________________

(١) الدر المنثور ، ج : ٧ ، ص : ٥٠٦.

٨٤

سورة الفتح

مدنيّة

وآياتها تسع وعشرون

٨٥
٨٦

في أجواء السورة

هذه السورة من السور الحركية التي لاحقت صلح الحديبية بوصفه فتحا على مستوى الصراع بين قريش ومن معها من أهل مكة ، وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين معه ، حيث استطاع النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يفرض على قريش الصلح ، الذي يؤكد على وصول الصراع إلى مرحلة توازن القوى في الساحة ، بعد أن كانت كفّة الميزان تميل إلى جهة قريش التي كانت تعمل على إسقاط الإسلام كله ، بهزيمة المسلمين ، فإذا بها ترفض دخول النبي عنوة إلى مكة للطواف بالبيت ، لا لأنها ترفض ذلك بالذات ، بل خوفا من سقوط هيبتها عند العرب. وبدأت تفتش عن الحل الذي يحفظ هيبتها ، ويحقق للمسلمين ما أرادوه من إلغاء المنع المفروض عليهم من قبل قريش ، في قدومهم إلى مكة للحج والعمرة ، فكان الصلح على أساس أن يرجع المسلمون في عامهم هذا من حيث أتوا ، ويأتوا إلى مكة في العام القادم ، ليطوفوا بالبيت ثلاثة أيام ، على أن تخرج منها قريش في تلك الفترة ، مع بنود أخرى ، تتجمّد فيها الحرب عشر سنين ، الأمر الذي يوحي بأن ميزان القوّة بدأ يميل إلى جانب المسلمين ، لأن الصلح كان من تخطيط الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لفتح مكة ، من موقع القوّة ، لا من موقع الضعف العسكري الذي يريد أن يجنح إلى السلم خوفا من نتائج الحرب ..

وقد يكون من الخير أن ندخل في تفاصيل هذا الفتح المبين الذي لم

٨٧

يخض المسلمون فيه حربا ، بل كان عنوانه الصلح الفاتح ، لأن بعض تفاصيله تفسر لنا بعض مفردات هذه السورة.

* * *

صلح الحديبية : الصلح الفاتح

جاء في كتب السيرة ، أن رسول الله رأى في منامه ، أنه يدخل ، هو والمسلمون ، الكعبة ، محلّقين رؤوسهم ومقصّرين ، وكان المشركون قد منعوهم منذ الهجرة من دخول مكة حتى في الأشهر الحرم ، وصدّوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين معه طوال السنوات الست التي تلت الهجرة عن ذلك ، حتى كان العام السادس الذي أري فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تلك الرؤيا ، وحدّث بها أصحابه ، فاستبشروا بها وفرحوا.

قال ابن إسحاق ـ في ما رواه ابن هشام في سيرته ـ : ثم أقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمدينة شهر رمضان وشوّالا ، وخرج في ذي القعدة معتمرا لا يريد حربا ... واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي من الأعراب ليخرجوا معه ، وهو يخشى من قريش الذي صنعوا ، أن يعرضوا له بحرب ، أو يصدّوه عن البيت ، فأبطأ عليه كثير من الأعراب ، وخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمن معه من المهاجرين والأنصار ، ومن لحق به من العرب ، وساق معه الهدي ، وأحرم بالعمرة ، ليأمن الناس من حربه ، وليعلم الناس أنه خرج زائرا لهذا البيت ومعظّما له ...

قال الزهري : وخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حتى إذا كان بعسفان (١) ، لقيه بشر بن سفيان الكعبي ـ قال ابن هشام : ويقال له بسر ـ فقال : يا رسول الله ، هذه قريش قد سمعت بمسيرك ، فخرجوا معهم العوذ المطافيل (٢) ، وقد لبسوا

__________________

(١) عسفان : منهلة من مناهل الطريق بين الجحفة ومكة ، على مرحلتين من مكة.

(٢) العوذ : جمع عائذ : الإبل حديثة النتاج. والمطافيل : التي معها أولادها. ويراد بها هنا ـ

٨٨

جلود النمور ، وقد نزلوا بذي طوى ، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبدا ، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم ، قد قدموها إلى كراع الغميم (١) ، قال : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا ويح قريش! لقد أكلتهم الحرب ، ماذا عليهم لو خلّوا بيني وبين سائر العرب؟ فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا ، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين ، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوّة ، فما تظن قريش ، فو الله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله ، أو تنفرد هذه السالفة (٢) ، ثم قال : من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها؟

قال ابن إسحاق : فحدثني عبد الله بن أبي بكر أن رجلا من أسلم قال : أنا يا رسول الله ، قال : فسلك بهم طريقا وعرا أجرل (٣) بين شعاب ، فلما خرجوا منه وقد شقّ ذلك على المسلمين وأفضوا إلى أرض سهلة عند منقطع الوادي ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للناس : قولوا نستغفر الله ونتوب إليه ، فقالوا ذلك ، فقال : والله إنها للحطّة التي عرضت على بني إسرائيل ، فلم يقولوها (٤).

قال ابن شهاب : فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الناس فقال : اسلكوا ذات اليمين بين ظهري الحمض في طريق تخرجه على ثنيّة المرار ، مهبط الحديبية (٥) من أسفل مكة ، قال : فسلك الجيش ذلك الطريق ، فلما أرت خيل قريش قترة (٦) الجيش قد خالفوا عن طريقهم ، رجعوا راكضين إلى قريش ، وخرج

__________________

(١) كراع الغميم : موضع بين مكة والمدينة.

(٢) السالفة : صفحة عنق ، وكنِّي بها عن الموت.

(٣) الأجرل : الكثير الحجارة.

(٤) يشير صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الآية الكريمة : (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) (٥٩) [البقرة : ٥٨ ـ ٥٩].

(٥) قرية صغيرة بينها وبين مكة مرحلة ، وبينها وبين المدينة تسع مراحل.

(٦) قترة الجيش : غباره.

٨٩

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حتى إذا سلك في ثنيّة المرار بركت ناقته ، فقالت الناس : خلأت (١) الناقة ، قال : ما خلأت ، وما هو لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة ، لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها (٢) ، ثم قال للناس: انزلوا ، قيل له : يا رسول الله ، ما بالوادي ماء ننزل عليه ، فأخرج سهما من كنانته ، فأعطاه رجلا من أصحابه ، فنزل في قليب (٣) من تلك القلب ، فغرزه في جوفه ، فجاش بالرَّواء (٤) ...

فلما اطمأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أتاه بديل بن ورقاء الخزاعي ، في رجال من خزاعة ، فكلّموه ، وسألوه ما الذي جاء به ، فأخبرهم أنه لم يأت يريد حربا ، وإنما جاء زائرا للبيت ومعظّما لحرمته ، ثم قال لهم نحوا مما قال لبشر بن سفيان ، فرجعوا إلى قريش ، فقالوا : يا معشر قريش ، إنكم تعجلون على محمد ، إن محمدا لم يأت لقتال وإنما جاء زائرا هذا البيت ، فاتهموهم وجبهوهم ، وقالوا : وإن كان جاء ولا يريد قتالا ، فو الله لا يدخلها علينا عنوة أبدا ، ولا تحدّث بذلك عنا العرب.

قال الزهري : وكانت خزاعة عيبة نصح (٥) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسلمها ومشركها ، لا يخفون عنه شيئا كان بمكة» (٦). ثم إنّهم بعثوا إليه برجال يتلو أحدهم الآخر ليكلموه في الأمر فيرجعون إلى قريش بما قال لهم الرسول. وبعد ذكر أحوال هذه البعثات ، يتابع ابن هشام في سيرته فيقول :

__________________

(١) خلأت الناقة : بركت.

(٢) وفي رواية البخاري : والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله تعالى إلا أعطيتهم إيّاها.

(٣) القليب : البئر.

(٤) جاش : ارتفع. والرّواء : الكثير.

(٥) عيبة نصح الرسول : أي خاصته وأصحاب سرّه.

(٦) ابن هشام ، السيرة النبوية ، تحقيق : مصطفى السّقا ، وإبراهيم الأبياري ، وعبد الحفيظ شلبي ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ـ لبنان ، ١٤١٣ ه‍ ـ ١٩٩٣ م ، ج : ٣ ، ص : ٣٢١ ـ ٣٢٦.

٩٠

«قال ابن إسحاق : وحدثني بعض أهل العلم ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا خراش بن أمية الخزاعي ، فبعثه إلى قريش بمكة ، وحمله على بعير له يقال له الثعلب ، ليبلّغ أشرافهم عنه ما جاء له ، فعقروا به جمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأرادوا قتله ، فمنعته الأحابيش ، فخلوا سبيله حتى أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قال ابن إسحاق : وحدّثني بعض من لا أتهم ، عن عكرمة مولى ابن عباس ، عن ابن عباس : أن قريشا كانوا بعثوا أربعين رجلا منهم أو خمسين رجلا ، وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليصيبوا لهم من أصحابه أحدا ، فأخذوا أخذا ، فأتي بهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فعفا عنهم وخلّى سبيلهم ، وقد كانوا رموا في عسكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالحجارة والنبل.

ثم دعا عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة ، فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له ، فقال: يا رسول الله ، إني أخاف قريشا على نفسي ، وليس بمكة من بني عدي بن كعب أحد يمنعني ، وقد عرفت قريش عداوتي إياها ، وغلظتي عليها ، ولكني أدلّك على رجل أعزّ بها مني ؛ عثمان بن عفان. فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عثمان بن عفان ، فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش ، يخبرهم أنه لم يأت لحرب ، وأنه إنما جاء زائرا لهذا البيت ، ومعظّما لحرمته.

قال ابن إسحاق : فخرج عثمان إلى مكة ، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة ، أو قبل أن يدخلها ، فحمله بين يديه ، ثم أجاره حتى بلّغ رسالة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش ، فبلّغهم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما أرسله به ، فقالوا لعثمان حين فرغ من رسالة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليهم : إن شئت أن تطوف بالبيت فطف ، فقال : ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واحتبسته قريش عندها ، فبلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين أن عثمان بن عفان قد قتل.

قال ابن إسحاق : فحدّثني عبد الله بن أبي بكر : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال حين بلغه أن عثمان قد قتل : لا نبرح حتى نناجز القوم.

٩١

فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الناس إلى البيعة ، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة ، فكان الناس يقولون : بايعهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الموت ، وكان جابر بن عبد الله يقول : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يبايعنا على الموت ، بل بايعنا على أن لا نفرّ. فبايع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الناس ، ولم يتخلف عنه أحد من المسلمين حضرها ، إلا الجد بن قيس ، أخو بني سلمة ، فكان جابر بن عبد الله يقول : والله لكأني أنظر إليه لاصقا بإبط ناقته ، قد ضبأ إليها (١) يستتر بها من الناس. ثم أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن الذي ذكر من أمر عثمان باطل ...

... قال ابن إسحاق : قال الزهري : ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو ، أخا بني عامر بن لؤي ، إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقالوا له : ائت محمدا فصالحه ، ولا يكن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا ، فوالله لا تحدّث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبدا. فأتاه سهيل بن عمرو ، فلما رآه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مقبلا ، قال : قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل. فلما انتهى سهيل بن عمرو إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، تكلّم فأطال الكلام ، وتراجعا ، ثم جرى بينهما الصلح ...

... قال : ثم دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علي بن أبي طالب رضوان الله عليه ، فقال : اكتب : بسم الله الرحمن الرحيم ، قال : فقال سهيل : لا أعرف هذا ، ولكن اكتب : باسمك اللهم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اكتب : باسمك اللهم ، فكتبها ، ثم قال : اكتب : هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو ، قال : فقال سهيل : لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك ، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك ، قال : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اكتب : هذا ما صالح عليه محمد بن عبدالله سهيل بن عمرو ، اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين ، يأمن فيهن الناس ، ويكف بعضهم عن بعض ، على أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليّه ردّه عليه ، ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يردّوه عليه ، وإن

__________________

(١) ضبأ إليها : لصق بها واستتر.

٩٢

بيننا عيبة مكفوفة (١) ، وأنه لا إسلال ولا إغلال (٢) ، وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه ، ومن أحبّ أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه ...» (٣).

«قال الزهري في حديثه : ثم انصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من وجهه ذلك قافلا ، حتى إذا كان بين مكة والمدينة نزلت سورة الفتح» (٤).

وأورد السيوطي في الدر المنثور عن الإمام أحمد وابن داود وابن المنذر وغيرهم ـ بإسنادهم عن مجمع بن جارية الأنصاري ، وكان أحد القراء الذين قرءوا القرآن :

«قال : شهدنا الحديبية ، فلما انصرفنا عنها إلى كراع الغميم ، إذا الناس يوجفون الأباعر ، فقال الناس بعضهم لبعض : ما للناس؟ قالوا : أوحي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فخرجنا مع الناس نوجف ، فإذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على راحلته على كراع الغميم ، فاجتمع الناس عليه ، فقرأ عليهم : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) فقال رجل : يا رسول الله ، أو فتح هو؟ قال : والذي نفس محمد بيده ، إنه لفتح» (٥).

* * *

هذا هو الجوّ الذي نزلت فيه السورة لتبشِّر المؤمنين بالمغفرة ، ولتمنّ عليهم بالسكينة ، ولتتحدث عن بيعة رسول الله بوصفها بيعة لله ، كما تتحدث عن نقاط الضعف في المجتمع الإسلامي ، بالإشارة إلى المختلفين من الأعراب ، وإلى المعذّرين الذين يحاولون تبرير تخاذلهم بأعذار لا قيمة لها ، لأن للأعذار الشرعية موقعا أصيلا لا موقع لهم فيه.

__________________

(١) أي تكف عنّا ونكف عنك ، أي أن الصدور منطوية على ما فيها لا تبدي عداوة.

(٢) الإسلال : السرقة الخفية. والإغلال : الخيانة.

(٣) سيرة ابن هشام ، ج : ٣ ، ص : ٣٢٨ ـ ٣٣٠.

(٤) سيرة ابن هشام ، ج : ٣ ، ص : ٣٣٤.

(٥) الدر المنثور ، ج : ٧ ، ص : ٥٠٨.

٩٣

ثم تتحدث السورة عن مواقف المؤمنين ومشاعرهم الروحية ، فقد رضي الله عنهم إذ يبايعونه بيعة الرضوان تحت الشجرة ، فأفاض عليهم السكينة والطمأنينة ، بعد أن علم ما في قلوبهم ، وفتح لهم باب الفتح وأعطاهم مغانمه ومنع الناس عن الإساءة إليهم ، وهيّأ الأجواء للسلام الذي يتحوّل قوة للإسلام في المستقبل ، وانطلق الوعد بتحقيق الرؤيا الحق بدخول مكة ، فلم تكن الرؤيا قد حدّدت زمنها ، ولكن المسلمين هم الذين استوحوا استعجالها لشوقهم إلى مكة.

وتؤكد السورة انتصار الدين الإسلامي على الدين كله ، وتؤكد صفة الرسول وصحابته ، وتجعل منها النموذج الحيّ السائر في خط الإسلام ، فهم أشداء على الكفار ، ورحماء فيما بينهم ، وراكعون ساجدون لله سبحانه ، يعيشون الحياة في آفاق الحلم الكبير برضى الله ، وينفتحون على الحياة كلها من خلال ذلك ، في المقابل تتحدث عن غيظ الكفار من أي انتصار للإسلام والمسلمين.

* * *

٩٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الآيات

(إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢) وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً (٣) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً(٤) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً (٥) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (٦) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) (٧)

* * *

معاني المفردات

(فَتْحاً) : نصرا.

* * *

٩٥

(إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً)

(إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) وذلك من خلال هذه الثغرة التي فتحها الله في قلوب المشركين ، ليقبلوا بالدخول مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين في صلح متوازن يمنح المسلمين الراحة القتالية ليتفرّغوا للإعداد والتخطيط لفتح مكة ، عند ما تسنح الفرصة لذلك. وهكذا انفتح للإسلام درب كبير لصنع القوّة ، لأن وقوع أيّة معاهدة بين فريقين ، يمثل اعترافا بتعادل قوتهما ، وهذا ما عكسه صلح الحديبية ، الأمر الذي يدل على اعتراف قريش بقوّة الإسلام قوّة جديدة ، ما من شأنه أن يمثل الخطوة الأولى للنصر.

وهناك أقوال أخر في المقصود بالفتح :

منها ـ ما ذكره في مجمع البيان ـ أن المراد به فتح مكة ، وعده الله ذلك عام الحديبية عند انكفائه منها ، عن أنس وقتادة وجماعة من المفسرين. قال قتادة : نزلت هذه الآية عند مرجع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الحديبيّة بشّر في ذلك الوقت بفتح مكة (١) .. ويكون التعبير واردا مورد تنزيل الأمر المستقبلي منزلة الأمر المحقق لليقين بوقوعه .. وقد ورد ذلك في ما روي من حديث الإمام الرضا مع المأمون في علاقة الآية بفكرة العصمة (٢).

ومنها : أن الفتح : الظفر على الأعداء كلهم بالحجج والمعجزات الظاهرة وإعلاء كلمة الإسلام.

* * *

علاقة الفتح بغفران الذنب

(لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ). في هذه الفقرة سؤالان :

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٩ ، ص : ١٤١.

(٢) انظر : تفسير الميزان ، ج : ١٨ ، ص : ٢٧٥.

٩٦

الأول : ما هي علاقة الفتح بغفران الذنب ، ليكون الأول تعليلا للثاني بلحاظ ظهور «اللام» في التعليل؟

الثاني : ما معنى غفران ذنب النبي ، وهو المعصوم في أقواله وأفعاله ، ثم ، ما هو المعنى لغفران الذنب قبل حدوثه؟

وقد أجيب عن ذلك بأجوبة متعددة (١) ، منها : أن الذنب ليس ذنب النبي مع الله ، ولكنه ذنبه مع أهل مكة ، في ما يعتقدونه من أن انطلاقته في الدعوة التي أدت إلى الصراع العسكري وغير العسكري ، يمثّل الذنب الكبير ، باعتبارها الحركة التي قتلت الكثير من رجالهم ، ودمّرت الكثير من هيبتهم. وبذلك كان الفتح ، الذي بدأ بصلح الحديبية معنويا ، وانتهى بفتح مكة فعليا ، ووقف بعده النبي ليعفو عن المشركين بعد السيطرة عليهم ؛ أساسا لغفرانهم لما سلف ، ولما يأتي من ذنوبه بحقهم ، لأن عظمة عفو النبي عنهم في ظروفه الموضوعية ، تلغي كل مواقع الذنب في ماضيه ومستقبله ، وبذلك تكون كلمة الفتح منسجمة مع التعليل بالمغفرة.

أما نسبة المغفرة إلى الله ، فلأنه كان السبب في ذلك كله ، على نحو المجاز.

ومنها : أن المراد ذنب أمته باعتبار أنه يمثل قيادة الأمة التي تتحمل معنويا مسئولية أعمال أتباعها.

ومنها : أن المراد ذنب أبويه آدم وحواء ببركته.

ومنها : أن المسألة قائمة على الفرضية الطبيعية باعتبار أنه بشر يمكن أن يخطئ في المستقبل ، كما كان ذلك ممكنا في الماضي ، ولهذا فإن التعبير يعالج المسألة على أساس أنه لو كان الأمر كذلك لغفر الله له ، لأن مثل هذا الفتح المبين الذي قام به ، يمثّل العمل الأفضل الذي تسقط أمامه كل الذنوب ، بحيث يكون هو الحسنة التي لا تضرّ معها سيّئة.

__________________

(١) انظر : مجمع البيان ، ج : ٩ ، ص : ١٤٢ ـ ١٤٣.

٩٧

وهناك وجوه أخرى يرتكز بعضها على غفران ذنوب شيعة علي عليه‌السلام ما تقدم منها وما تأخّر.

ويروي القائلون بهذا روايات عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، ولكننا لا نعتقد صحة هذه الروايات ، لأنها لا تنسجم مع الأسس الفكرية الإسلامية ، فإنه لا معنى للقول بما جاء في بعض هذه الروايات : «ما كان له ذنب ، ولا همّ بذنب ، ولكنّ الله حمله ذنوب شيعته ثم غفرها له» (١) أو أن «الله ضمن له أن يغفر ذنوب شيعة علي عليه‌السلام ما تقدم من ذنبهم وما تأخر» (٢) ، لأنه لا معنى لتحميله تلك الذنوب ، كما لا معنى لاعتبار الفتح أساسا لذلك ، في الوقت الذي لم يكن فيه للشيعة أيّ وجود واقعي في المجتمع الإسلامي ، وكيف يمكن للقرآن أن يتحدث عن نتيجة للفتح لا تتصل به؟!

ولكن عند التدقيق في معالجة المسألة ودراسة التعبير الذي جاء في الآية ، نلاحظ أن كل هذه التفاسير كانت تحاول الهروب من المعنى الظاهر فيها ، يعني أن للنبي ذنبا متقدما ومتأخرا ، وأن الله جعل الفتح سببا في مغفرته ، لأن هذا المعنى لا يتناسب مع عصمة النبي ، أو كماله ، أو شخصيته النبوية التي تمثل النموذج القدوة ، فقد تكون بشريته محكومة لنقاط الضعف في طبيعتها ، ولكن رسالته ، التي انطلقت من الوحي ، لا بد من أن تمنح إنسانيته نقاط القوّة ، ولا بد من أن تكون قد درست مؤهلاته التي عاشها مدة أربعين سنة قبل الرسالة ، ليبني على أساسها شخصيته بالمستوى الذي لم يستطع الناس الذين عاشوا معه من أهله وأصحابه ، أن يسجّلوا عليه أيّة نقطة سوداء في ما يروونه عن ماضيه الشخصي ، ولهذا فإن مسألة الذنب تتنافي مع هذا الماضي الطاهر المشرق الذي زاده حاضر الرسالة حركيّة وقوّة وإشراقا وصفاء ...

وعلى ضوء ذلك ، فلا بد من تجاوز هذا المعنى إلى ما يختزنه من

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٩ ، ص : ١٤٣.

(٢) البحار ، م : ٦ ، ج : ١٧ ، باب : ١٥ ، ص : ٦٠١.

٩٨

إيحاءات تتناسب مع صفاء العمق الروحي للشخصية النبوية ، ولعل الأقرب إلى الجوّ أن نستوحي من المغفرة معنى الرضوان والمحبة والرحمة ، باعتبار أنها تمثل نتائج المغفرة ، ليكون المعنى ، هو أن الله يمنحك رضوانه ومحبته ، في ما يوحي به من معنى إيجابي يستلزم انتفاء المعنى السلبي ، باعتبار أن الفتح ، في ما يمثله ، هو الانطلاقة التي تفتح للإسلام باب الحياة الواسع الذي يدلّ الناس على الطريق إلى الله. وقد جاهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أقسى الجهاد حتى وصل إلى هذه النتيجة بتوفيق الله ورعايته ، ومن هنا كان ذلك سببا في محبة الله له التي تشمل أوّل الجهاد قبل الفتح وآخره بعد الفتح.

(وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) بوصول النبي إلى الأرض التي بدأت حياته فيها طفلا وشابا وانطلق بالدعوة فيها كهلا ، وخرج منها تحت تأثير القهر والاضطهاد ، فإذا به ، بعد تلك المعاناة ، يرجع إليها فاتحا بالرسالة المنفتحة على الواقع كله ، حيث يبدأ عهد جديد حافل بالازدهار ، ليكون الدين كله لله وحده ، وليكون نصره نهاية طبيعية لجهاده تتم به النعمة عليه ، (وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً) ، وهو الصراط الذي يبدأ بتوحيد الله ، ويمتد بشريعته التي تجعل الإنسان مسئولا في كل أقواله وأفعاله ، ولينتهي بين يدي الله في اليوم الآخر إبان موقف الحساب. وهذا هو الهدف الذي تحركت المسيرة إليه ، وهذا ما هدى الله النبي إليه في وحيه ليعيش الهداية في حركته مع الناس الذين جعلهم الله حركة مسئوليته ، (وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً) يؤكد القوّة التي تنحني أمامها كل مواقع التحدي الموجهة ضدك ، حيث يبسط الإسلام سلطته ليكون هو القوّة الوحيدة في الجزيرة ، التي تخضع لها القوة كلها هناك.

وهكذا كان الفتح المعنوي في الحديبية ، ثم الواقعي في مكة ، مفتاحا للرضوان وللنعمة التامة ، وللهداية الكاملة ، وللنصر العزيز الذي يمتد بالإسلام إلى الحياة كلها.

* * *

٩٩

أنزال السكينة في قلوب المؤمنين

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ) بما تعنيه كلمة السكينة من طمأنينة وصفاء روحي يدفع النفس إلى التأمّل العميق ، فإن النفس إذا عاشت الصفاء ، انطلقت في أجواء التأمّل بعيدا من دون تكلّف ولا تعقيد. وتلك هي ألطاف الله التي يفيض بها على عباده المؤمنين الذين أخلصوا له العقيدة ، وعاشوا الروحانية بين يديه ، وحرّكوا العمل الصالح في خط رضاه ، (لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) لأن الإيمان يتأتى عن وضوح الرؤية الذي يفتح للفكر آفاق الاعتقاد به ، وعن صفاء الروح الذي يملأ الوجدان بالمعاني الروحية. وبذلك كان ازدياد الوضوح في حركة التأمّل الفكري ، وامتداد الصفاء في آفاق الروح ، يزيدان في الإيمان ويعمّقانه ، عبر ما يحدثانه من تفاعل بين الفكر والشعور ، وهذا ما يدركه الوجدان ، في ما يحسّه الإنسان في نفسه من تنامي الإيمان ، بتنامي المعرفة والشعور الداخلي من جهة ، والمعاناة الداخلية في الممارسة من جهة ثانية.

(وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) سواء أتمثلوا في الأمور المعنوية من أسباب وقوانين طبيعية أودعها الله في الأرض والسماء ، وحرّكها من أجل إقامة نظام الحياة كلها ، أم بمخلوقات حيّة متحركة في السماوات والأرض ، التي جعلها الله خليفة عنه في مباشرة الأمور بأسبابها العادية ، وبذلك كان إنزال السكينة في قلوب المؤمنين متأتيا عن تحريك جنوده للموضع بشكل دقيق.

(وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) فهو القويّ في عزته ، الحكيم في تدبيره ، الذي يحتوي الكون من مواقع العزة والحكمة ، ليسير في خط الثبات والإحكام ، (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) لأن ذلك هو الغاية التي ينتهي إليها خط الإيمان في الجانب الفكري والروحي والعملي ، في حركة المؤمنين والمؤمنات ، لما يشتمل عليه من انفتاح على آفاق رضى الله ومواقع رحمته التي تطل على رحاب جنته ، (وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) بالغفران الذي

١٠٠