تفسير من وحي القرآن - ج ٢١

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ٢١

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٦٠

الآيتان

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (٣١) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) (٣٢)

* * *

معاني المفردات

(كَبائِرَ الْإِثْمِ) : عظائم الذنوب.

(وَالْفَواحِشَ) : الذنوب الشنيعة الفظيعة.

(أَنْشَأَكُمْ) ؛ النشء والنشأة : إحداث الشيء وتربيته.

(أَجِنَّةٌ) : جمع جنين.

* * *

٢٦١

الله أعلم بمن اتّقى

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فهو الذي يملك كل شؤون خلقه في ما يجب أن يتصرفوا به أو يتحركوا فيه ، وهو الذي يملك الثواب والعقاب عند ما يجمعهم لديه ، فيثيب المهتدي ، ويعاقب المضلّ ، (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا) تطبيقا للعدالة في ما أمر الله به أو نهى عنه ، (وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) وهؤلاء هم (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) والمراد بكبائر الإثم ، المعاصي الكبيرة التي توعّد الله عليها بالنار ، كما جاء في بعض الأحاديث عن أئمة أهل البيت عليه‌السلام ، أمّا الفواحش ، فهي الذنوب الشنيعة التي تتعلق بالجانب الجنسي كالزِّنى واللواط ونحوهما. أمَّا المراد باللمم ، فقد قيل : إن معناه هو الصغيرة من المعاصي ، فيكون الاستثناء منقطعا ، وقيل : هو أن يلم بالمعصية ويقصدها ولا يفعل ، وقيل : هي المعصية حينا بعد حين من غير عادة ، أي المعصية الاتفاقية من دون فرق بين الصغيرة والكبيرة ، وهذا هو ما روي عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام.

(إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ) لمن تعلّق برحمته ، وطرق أبواب مغفرته بالتوبة. (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ) بما تخفون من سرائركم ، وما تخضعون له من نقاط الضعف التي تدفعكم إلى المعصية والانحراف عن خط الاستقامة ، وفي ما تلتفتون إليه من التراجع عن ذلك ، والتوبة إلى الله منه ، فهو الذي خلقكم ، (إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) التي أنتم جزء منها (وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) في موضع رعايته وتدبيره ، ينمِّي أجسادكم وعقولكم ويتعهّدكم بكل مواقع لطفه وعنايته ، (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) لتستعرضوا كل الأوضاع التي تحسّن صورتكم وتزكّي مواقفكم ، ف (هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) لما يعلمه من خفايا سريرته ، وحقيقة عمله ، ويطلع من أموركم على ما لا تلتفتون إليه منها.

* * *

٢٦٢

الآيات

(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (٣٤) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (٣٥) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (٣٦) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧) أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (٣٨) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (٣٩) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (٤٠) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) (٤١)

* * *

معاني المفردات

(تَوَلَّى) : أعرض.

(وَأَكْدى) ؛ الإكداء : قطع العطاء.

(وَفَّى) : تمّم وأكمل.

(تَزِرُ) : تحمل.

(وِزْرَ) : حمل.

* * *

٢٦٣

مناسبة النزول

جاء في الكشاف : «روي أن عثمان رضي الله عنه كان يعطي ماله في الخير ، فقال له عبد الله بن سعد بن أبي سرح ـ وهو أخوه من الرضاعة ـ : يوشك أن لا يبقى لك شيء ، فقال عثمان : إن لي ذنوبا وخطايا ، وإني أطلب بما أصنع رضى الله تعالى وأرجو عفوه ، فقال عبد الله : أعطني ناقتك برحلها ، وأنا أتحمَّل عنك ذنوبك كلها ، فأعطاه وأشهد عليه. وأمسك عن العطاء فنزلت» (١).

قد تكون هذه الرواية صحيحة وقد لا تكون ، كما يشير إلى ذلك بعض المفسرين تحفّظا على نسبتها أو لأنها رواية مرسلة لا تثبت أمام موازين صحة الرواية ، ولكن أجواءها توحي إلينا بالفكرة التي جسّدها نموذج حيّ في الواقع زمن نزول الآية ، ويمكن أن تتجسد في كل وقت ، كحالة فرضية متحركة.

فهذا إنسان كان يعيش حركة العطاء في حياته ، ولكنه امتنع عن ذلك وأمسك ، بسبب حديث مع أحدهم ادعى أنه سيتحمّل عنه ذنوبه أمام الله في مقابل المال.

وربما كان موضوع الآيات مرتبطا بشخص كافر أو مشرك ، أعرض الله عن ذكره ، وتحرّك في العطاء بشكل طارئ بحيث كان يعطي تارة ثم يمتنع ، لأنه لم يعش روحيّة العطاء ، ولم يحسب حساب المسؤولية المنطلقة من مواقع الإيمان ، حيث لا يملك الإنسان في الآخرة إلا سعيه ، ولا يتحمل أحد عنه وزره ، مهما كان قريبا إليه ، أو لصيقا به.

* * *

__________________

(١) تفسير الكشاف ، ج : ٤ ، ص : ٣٣.

٢٦٤

لا تزر وازرة وزر أخرى

(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى* وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى) أي قطع عطيته وأمسك (أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى) في ما يتطلع إليه من الغيب في عمل نفسه أو ما يخبر به في ما يتعلق بغيره مع ابتعاد عن خط الإيمان بالله ، (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى) التي تمثل في مجموعها التوراة ، (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) وصدق عهده مع الله في رسالته وفي دعوته وفي خطواته العملية في ساحة رضوانه من موقع الإسلام المطلق له.

(أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) فلا تحمل نفس مسئولية نفس أخرى ، (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) فله عمله الذي قام به بجهده ، (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) أمام الله يوم القيامة ، (ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) الكامل ، لأن الله لا يضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى.

وذلك هو خط العدل الذي تؤكده كل الرسالات في علاقات الناس ببعضهم البعض ، وتحصر نتائج العمل على أنه يحكم السلبية أو الإيجابية في دائرة خاصة ، وهي الشخص الذي قام به ، ليواجه الناس جميعا مواقف الحياة على هذا الأساس في الدنيا والآخرة.

* * *

حصول الإنسان على ثواب ما لم يقم به بعد مماته!

تناولت بعض الأحاديث المأثورة الثواب الذي يحصل عليه الإنسان بعد مماته ، على ما لم يقم به بنفسه بشكل مباشر ، وذلك كما ورد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : علم

٢٦٥

ينتفع به أو صدقة تجري له أو ولد صالح يدعو له» (١). وفي ما رواه الصدوق في الخصال عن أبي عبد الله جعفر الصادق عليه‌السلام قال : ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر إلا ثلاث خصال : صدقة أجراها في حياته فهي تجري بعد موته ، وصدقة مبتولة لا تورث ، وسنة هدى يعمل بها بعده ، أو ولد صالح يدعو له (٢).

والظاهر أن هذه الأمور لا تمثل استثناء من الآية ، بل هي نوع من السعي الممتد بامتداد أثره ، باعتبار أن البداية كانت من الإنسان بالطريقة التي تكفل له الاستمرار في العطاء.

وقد وقع الخلاف بين العلماء في غير ذلك من الأعمال التي يقوم بها الأحياء عن الأموات ، إمّا بطريق النيابة ، وإمّا بطريق إهداء الثواب ، فذهب الشافعي إلى عدم وصول الثواب إلى الميت استنباطا من هذه الآية ، لأنه ليس من عمله ولا من كسبه ، ولهذا لم يندب إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمته ولا حثّهم عليه ، ولا أرشدهم إليه بنص ولا إيماء ، ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة.

ولكن هناك روايات متفرقة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ما روي عنه من طريق أهل البيت عليه‌السلام ، دلّت على مشروعية ذلك ووصول الثواب إليهم مما لا يتسع المجال لبحثه هنا ، بل يترك إلى الأبحاث الفقهية التي تبيح تخصيص العام بما ثبت صحته عن رسول الله ، وقد قيل في القاعدة الأصولية : «ما من عام إلا وقد خص» ، مما يجعل البحث يتجه إلى الحديث عن مدى صحة السند.

* * *

__________________

(١) البحار ، م : ١ ، ج : ٢ ، باب : ٨ ، ص : ٣٥٠ ، رواية : ٧٠.

(٢) الكافي ، ج : ٧ ، ص : ٥٦ ، رواية : ٢.

٢٦٦

الآيات

(وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (٤٢) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (٤٣) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (٤٤) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (٤٦) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (٤٧) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (٤٨) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (٤٩) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (٥٠) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (٥١) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (٥٢) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (٥٣) فَغَشَّاها ما غَشَّى (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (٥٥) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (٥٦) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ (٥٨) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (٦١) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) (٦٢)

* * *

معاني المفردات

(تُمْنى) : أي تراق في الرحم.

(وَأَقْنى) : من القنية : وهي أصل المال وما يقتنى.

٢٦٧

(وَالْمُؤْتَفِكَةَ) ؛ الائتفاك : الانقلاب.

(آلاءِ) ؛ الآلاء : جمع إلى بمعنى النعمة.

(تَتَمارى) : تشكك.

(أَزِفَتِ) : اقتربت.

(الْآزِفَةُ) : القيامة.

(سامِدُونَ) : لاهون.

* * *

من مظاهر قدرة الله في خلقه

(وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) فهو سبب كل شيء ، وأساسه ومدبّره ومحرّكه ، فليس هناك في الوجود شيء إلَّا وينتهي أمره إليه في كل جوانبه ، سواء كان ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر. وقد يكون المراد بالآية أن الخلق يرجعون إلى الله يوم القيامة ، ولعل المعنى الأول أوفق بسياق الآيات الأخرى ، (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى) فهو الذي أودع في الإنسان قابلية الضحك والبكاء حسيا ونفسيا ، وهو الذي أوجد العوامل التي تحوِّل هذه القابلية إلى حركة فعلية في أوضاعه وممارساته ، وذلك من خلال الأسباب التي أودعها لذلك ، وهي أسباب لا تلغي اختيار الإنسان بحيث ينسب الفعل إليه ، تماما كما هي كل الأمور التي ترتبط في العمق بالله ، وبالإنسان بشكل مباشر ، (وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا) فهو الذي خلق الموت والحياة من خلال أسبابهما المباشرة وغير المباشرة.

(وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى) أي تراق في الرحم فيبدع الخلق من خلالها بأشكاله المتنوّعة وطبيعته المختلفة ، وهكذا تحفظ الزوجية الامتداد للوجود في كل خصائصه الذاتية ، مما يدفع المتأمل إلى التفكير

٢٦٨

بهذه النطفة وكيفية تحوّلها إلى حياة كاملة تنمو وتبدع في كل مرحلة من مراحل النموّ شيئا جديدا يتكامل بعد ذلك فيكون الإنسان السويّ.

(وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى) التي يخلق فيها الناس خلقا جديدا ليجمعهم إليه ويحاسبهم على ما عملوه من خير أو شر ، (وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى) فمنه العطاء في ما وهبه للإنسان من أنواع المال والمعاش ، الذي يحقق له الغنى في كل حاجاته ، ويؤمّن له اقتناء ما يحلو له مما ينتفع به من حيوان وبستان ودار ونحوها.

(وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى) الذي كان بعض العرب يعبدونه ، وهو نجم أثقل من الشمس بعشرين مرّة ، ونوره خمسون ضعف نور الشمس ، وهو أبعد من الشمس بمليون ضعف بعد الشمس عنَّا ، كما يقال.

إنها مظاهر قدرته في خلقه ، في أسرار إبداعه ، فما هي مظاهر قوته في مصارع الأقوياء من الطغاة الذين واجهوا الأنبياء بالتكذيب والجحود والتعسف؟

(وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى * وَثَمُودَ فَما أَبْقى * وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى * وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى) وهي قرى قوم لوط ، فقد أهواها أي ألقاها في الهاوية ، (فَغَشَّاها ما غَشَّى) من العذاب والدمار والخسف والتنكيل ، بما لا يعرف الناس مداه. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى) أي تشكك وترتاب ، في عظمة خلقه ، وفي قوّة عقابه؟!

إن الوجه المقابل لما تقدم يؤكد مصيرية الحقيقة الحاسمة التي تنفتح على عظمة الله لتعبده في وحدانيته كما تشكره في نعمه ، وتلتزم بأوامره ونواهيه.

* * *

السجود حقيقة عبادية عملية

(هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى) التي تطل على أجواء القيامة لتثير في النفس الشعور بالهول أمام حقيقة الآخرة.

٢٦٩

(أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) أي اقتربت القيامة القريبة التي يراها الناس بعيدة ، (لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ) فهو ـ وحده ـ الذي يملك كشف أهوالها ومخاوفها ، لأنه الذي يهيمن على أمر الدنيا والآخرة.

(أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ) وتستنكرون حقائقه ، (وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ* وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) فتسخرون من الرسول والرسالة والدار الآخرة ، ويثير فيكم ذلك الضحك استخفافا بما تسمعون ، بدلا من أن يحثكم على الالتجاء إلى الله ، والرجوع إليه ، والخضوع لعظمته والانفتاح على مواقع القرب منه في عبادته ، عند ما تعرفون أنه ـ وحده ـ الإله المعبود.

(فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) فهذه هي الحقيقة العبادية التي تلتقي بالحقيقة الإيمانية الإلهية ، لتكون الحياة كلها سجودا لله في الفكر والعمل ، وعبادة له في كل جوانب الحياة.

* * *

٢٧٠

سورة القمر

مكية

وآياتها خمس وخمسون

٢٧١
٢٧٢

في أجواء السورة

هذه السورة ـ على الأرجح ـ مكيّة ، وهي من السور التي أريد لها أن تهز الروح والقلب والشعور ، وتحرّك العقل والوجدان في اتجاه الإحساس بما يمكن أن يواجه الإنسان في الدار الآخرة من مصير مرعب للمكذبين بالرسل والرسالات ، المشركين بالله في العقيدة والعبادة ، أو من مصير مفرح في نعيم الله ورضوانه ولطفه ورحمته للمؤمنين المتقين المجاهدين في سبيله.

* * *

٢٧٣

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الآيات

(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (٣) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (٥) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (٧) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) (٨)

* * *

معاني المفردات

(مُزْدَجَرٌ) ؛ الازدجار : الاتعاظ.

(حِكْمَةٌ) : كلمة حق ينتفع بها.

(فَتَوَلَ) : أعرض.

(نُكُرٍ) : منكر ، غير معتاد أو غير معروف.

٢٧٤

(خُشَّعاً) ؛ الخشوع : نوع من الذلة.

(الْأَجْداثِ) : جمع الجدث ، وهو القبر.

(مُهْطِعِينَ) : مقبلين.

* * *

المشركون يعرضون عن آيات الله

(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ). هل الحديث عن اقتراب الساعة هو حديث يطال مرحلة نزول القرآن ، ليكون المقصود منه توجيه القلب إلى مراقبة الزمن وتأمل أفول الدنيا واقتراب يوم القيامة في كل يوم يذهب ، وفي كل مرحلة تنقضي ، ليستعد الإنسان لمواجهة يوم القيامة بالموقف المسؤول في الدنيا الذي ينفتح على الآخرة؟

أو هو حديث عن المرحلة التي تسبق نهاية الدنيا ، ليكون الحديث عن المستقبل بصيغة الماضي ، على أساس أنَّ تحقّق الحديث في المستقبل يجعله بمنزلة الحقيقة الحادثة؟

كلا الاحتمالين وارد ، وهو في كل منهما جزء من الأسلوب القرآني الذي يجعل يوم القيامة عنوانا متحركا في الفكر والحس والوجدان ، ليكون الغاية التي يتطلع الناس إلى الوصول إليها في أمان وسلام.

(وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) فقد قرروا مواجهة النبيّ بكلمات تشوّه صورته الرسالية ، بإسباغ صفة الساحر عليه ، الذي يتلاعب بمدارك الناس من خلال ما يثيره من تخيلات مثيرة تسرق منهم التفكير المتوازن ، والنظرة الواعية للأشياء. وهكذا يواجهون الآيات التي يمكن أن يوصلهم تأملها إلى قناعة يقينية ، بأنها أسلوب سحر يستطيع أن يحول بين الإنسان ونفسه ، أو بين الناس وأولادهم وإخوانهم ، ونحو ذلك. وقد نستطيع

٢٧٥

أن نفهم من الآية ، أنها لا تتحدث عن آية فعليّة رأوها بشكل خاص مما يجعل اتهامه بالسحر ردّ فعل عليها ، بل إنها تتحدث عن طبيعة الموقف الذي يقفونه من الآية إذا رأوها أمامهم ، لأنهم ليسوا في موقع إرادة الإيمان ، مما يجعلهم يهربون من الحقائق بتوجيهها إلى وجهة أخرى.

* * *

كيف نفهم انشقاق القمر من الآية؟

أمَّا انشقاق القمر ، فقد جاءت الروايات لتؤكد أنه آية كونية ، ومعجزة اقترح المشركون على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إجراءها لإثبات نبوّته ، وقيل : إن أهل الحديث والمفسرين اتفقوا على قبولها ، ولم يخالف فيه منهم إلا الحسن وعطاء والبلخي ، حيث قالوا : إن معنى قوله : (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) : سينشق القمر عند قيام الساعة ، وإنما عبّر بلفظ الماضي لتحقق الوقوع.

أمّا تعليقنا على ذلك ، فهو أن المسألة لا بدّ من أن تناقش من زاويتين :

الأولى : زاوية الاستغراق في مضمون النصوص ذاتها من حيث إمكانها ومعقوليتها ، وفي سند النصوص من حيث وثاقتها وصحتها.

الثانية : زاوية المقارنة بين هذه النصوص المفسرة للقرآن وبين المفاهيم القرآنية العامة ، في مسألة المعجزة الحسيّة الكونية وغير الكونية ، الخارقة للعادة ، سواء كانت مقترحة أو غير مقترحة ، على أساس القاعدة التي تقول بوجوب عرض الأحاديث على ما جاء في القرآن من حقائق بمقتضى الظهور الواضح ، لأن ما خالف كتاب الله فهو باطل أو زخرف.

أمّا النقطة الأولى ، فقد تحتاج إلى عرض بعض هذه الروايات كنموذج ، ففي رواية أنس بن مالك ، «أن الكفار سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آية فانشقّ القمر مرتين» (١).

__________________

(١) تفسير الكشاف ، ج : ٤ ، ص : ٣٥.

٢٧٦

وفي رواية جبير بن مطعم ، قال : «انشق القمر على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حتى صار فرقتين ، على هذا الجبل ، وعلى هذا الجبل ، فقال ناس : سحرنا محمد ، فقال رجل : إن كان سحركم فلم يسحر الناس كلهم» (١).

وقد جاء عن الرضا ، عن آبائه ، عن علي عليه‌السلام قال : انشق القمر بمكة فلقتين ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اشهدوا اشهدوا (٢). وقد ذكر في الميزان أن علماء الشيعة ومحدثيهم تسلموا الخبر بانشقاق القمر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من غير توقف (٣).

ونقل في روح المعاني عن السيد الشريف في شرح المواقف وعن ابن السبكي في شرح المختصر أن الحديث متواتر لا يمترى في تواتره.

ولكننا لا نستطيع إحراز التواتر من خلال هذه الأخبار التي لم يكن رواة بعضها موجودين في زمن الانشقاق المفروض ليكونوا شهودا عليه ، مما يعني أنهم نقلوه عن أشخاص آخرين لا نعرف وثاقتهم ، الأمر الذي قد يجعل منها أخبار آحاد لا تثبت بها مثل هذه الأمور ، كما قرر في علم الأصول ، وقد يكون التسالم على قبولها ناشئا من الاجتهاد التفسيري في معنى الآية على أساس أن الآية الثانية تفسر ذلك ، فيكون الاعتماد على القرآن في توثيق المضمون الخبري ، لا على طبيعة الخبر.

فإذا تجاوزنا ذلك إلى موضع الإمكان ، فلا بد من أن نسلّم بأنه من الأمور الممكنة في ذاتها ، وقد حدثنا القرآن عن انشقاق السماء ونحو ذلك من الحوادث التي تتصل بتبدل الظواهر الكونية وتغيرها عما هي عليه ، فإذا صح الخبر فيها ثبت وقوعها. أما النقطة الثانية ، فقد أثير حولها الإشكال من جهة الآيات الكثيرة التي تنفي صدور الآيات المعجزة ، لا سيما المقترحة من قبل

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٩ ، ص : ٢٣٧.

(٢) البحار ، م : ٦ ، ج : ١٧ ، باب : ٣ ، ص : ٧٨٠ ، رواية : ٣.

(٣) انظر : تفسير الميزان ، ج : ١٩ ، ص : ٦١.

٢٧٧

الناس ، كما في قوله تعالى : (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً) [الإسراء : ٥٩] ، فإن مفاد الآية يوضح بأن الإرسال بالآيات لا يحقق أية نتيجة على مستوى الإيمان ، لأن السابقين الذين أرسلت الآيات إليهم لم يتجاوبوا معها ، ولم ينتفعوا بها ، بالرغم من كل ما تثيره في نتائجها من تهاويل الخوف ، باعتبار أن نزول الآية التي لا يعقبها الإيمان ، يؤدي إلى نزول العذاب. ويتأكد الإشكال في الآيات المقترحة التي أراد الله من رسوله أن يعرّفهم امتناع استجابته لطلبهم إيّاها ، وهو القادر على ذلك ، لأنه المهيمن على الكون كله ، في ما يريد أن يخلقه من ظواهر غير موجودة ، أو ما يريد أن يغيّره من حال إلى حال في الظواهر الموجودة ، فإن الأمر خاضع لحكمته لا لاقتراحهم ، أمّا النبي الذي تقدّم إليه تلك الطلبات ، فليس قادرا على ذلك ، لأن بشريته تمنعه من ذلك ، كما أن صفة الرسالة لا تعطيه دور تغيير الظواهر من حوله.

ولعل هذا الجوّ هو الذي يتمثل للإنسان القارئ للقرآن في ملاحقته لخطوات الرسالة أمام التحديات الموجّهة إليها من المشركين. وفي ضوء ذلك ، قد نلاحظ اختلاف هذا التفسير مع المفاهيم القرآنية العامة ، فيكون الحديث المتضمن لها حديثا مخالفا للظواهر القرآنية.

وقد أجاب هؤلاء المفسرون للآية بما ذكر ، بأنّ الآية التالية لها تؤكد بأن المقصود من انشقاق القمر ، هو ما حدث على يد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مكة في ما رواه المفسرون ، وذلك لأن الظاهر من قوله تعالى : (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) أنها آية واقعة قريبة من زمان النزول ، أعرض عنها المشركون كسائر الآيات التي أعرضوا عنها وقالوا : سحر مبين.

وقد يورد عليهم بأن الآية الثانية لا تدلّ على أنها من توابع الفكرة التي تثيرها الآية الأولى ، بل ربما كانت الأولى عنوانا للأجواء التي توحي بيوم القيامة ، في ما يراد إثارته من تذكير هؤلاء المشركين وغيرهم به ، لتنطلق الآيات بعدها لتتحدث عن سلوكهم المنحرف عن الرسالة الذي يعرّضهم للنتائج الصعبة

٢٧٨

على مستوى العذاب في نار جهنم ، وبذلك يكون الحديث عن ردّهم الآيات بأنها سحر مستمر ، مماثلا لكل الآيات التي تتحدث عن تهمة النبي بأنه ساحر من دون أن تكون مرتبطة بحادثة معينة. وقد نلاحظ ، في هذا المجال ، ضرورة التدقيق في كلمة (مُسْتَمِرٌّ) التي تعني انطلاق التهمة قبل الآية لتكون مستمرة بعدها ، مما قد ينافي انطلاق تهمة السحر من خلالها.

وقد أجاب بعض هؤلاء المفسرين عن استلزام نزول الآية للعذاب بعدها في حالة الكفر ، بأنَّ ذلك لا يشمل كل الناس الموجودين آنذاك ، بل الجماعات المقترحة لها المكذبة بنتائجها ، وقد أهلك الله هؤلاء وهم صناديد مكة وعظماؤهم المستهزئون بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذلك في يوم بدر.

ويردّ على هذا القول ، أن المراد بالعذاب المذكور في نطاق التكذيب بالآيات هو العذاب النازل عليهم مباشرة ، كالإغراق والخسف والإحراق ، لا الهلاك الناشئ من حالة عادية كحال القتال ، أو الموت العادي ، لا سيّما إذا عرفنا أن بعض هؤلاء لم يهلك في يوم بدر ، بل قد يكون مات ميتة طبيعية.

* * *

علامات استفهام حول معجزة انشقاق القمر

ويتساءل الرافضون لهذا التفسير ، أن القمر لو انشقّ ، كما يقال ، لرآه جميع الناس ، ولضبطه أهل الأرصاد في الشرق والغرب لكونه من أعجب الآيات السماوية ، ولم يعهد في ما بلغ إلينا من التاريخ والكتب الباحثة عن الأوضاع السماوية له نظير ، والدواعي متوفرة على استماعه ونقله.

وأجيب بما حاصله ، أن من الممكن ـ أوّلا ـ أن يغفل عنه ، فلا دليل على كون كل حادث أرضي أو سماويّ معلوما للناس ، محفوظا عندهم ، يرثه خلف عن سلف. وثانيا : إن الحجاز وما حولها من البلاد العربية وغيرها لم يكن بها مرصد للأوضاع الفلكية ، وإنما وجدت بعض المراصد بالهند وفي بلاد الروم واليونان

٢٧٩

وغيرهم. وفي مطلق الأحوال ، لم يثبت وجود مرصد وقت حدوث الآية ، وهو على ما في بعض الروايات أوّل الليلة الرابعة عشرة من ذي الحجة سنة خمس قبل الهجرة.

على أن بلاد العرب كانت تختلف بالأفق مع مكة ، مما يوجب فصلا زمانيا معتدا به ، وقد كان القمر ، على ما في بعض الروايات ، بدرا ، وانشق في حوالي غروب الشمس حين طلوعه ، ولم يبق على الانشقاق إلّا زمانا يسيرا ، ثم التأم فيقع طلوعه على بلاد العرب ، وهو ملتئم ثانيا.

وقد يجاب عن هذا بأن من الممكن التسليم بالفكرة التي يثيرها الجواب الثاني ، أما بالنسبة إلى الجواب الأول فليس هناك مجال للتسليم به ، لأن مسألة انشقاق القمر بالطريقة التي تثيرها الروايات ، تمثل حادثا خطيرا لم يعهده الناس في حياتهم ، مما يجعل إمكان غفلة البعض عنه لا تبرر غفلة الأكثر ، لا سيما في تلك المناطق التي يراقب فيها الناس القمر مراقبة دائمة باعتباره مصدر الضوء في لياليهم التي لا يملكون فيها إلا طرقا بدائية في الإنارة ، ولذلك فإن هذا الحدث لو كان ، لذاع وشاع وملأ الأسماع ، كما يقولون ، ولا ستمر الحديث عنه مدّة طويلة ، ولكان يوما تاريخيا يخلّده الناس في ما يؤقتون به الأمور على طريقتهم المعروفة في حساب التاريخ بالأيام التي تحمل حدثا كبيرا لا يختلف الناس فيه لضخامة الأثر الذي يتركه في حياتهم.

وفي ضوء ذلك كله ، فإننا نتحفّظ في المسألة ، لأننا لا نجد أساسا يقينيا للالتزام بهذه الروايات ، كما لا نجد ظهورا قرآنيا في تحديد الموضوع بزمان الرسالة.

* * *

مصير الذين يتّبعون أهواءهم

(وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) فلم ينطلقوا في ذلك من منطلقات التفكير العاقل ليناقشوا الدعوة من خلال عناصرها الفكرية والروحية ، بل انطلقوا من

٢٨٠