تفسير من وحي القرآن - ج ٢١

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ٢١

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٦٠

مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) بعوامل التغيير ، لأنه غير خاضع للفساد في نفسه ، (وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) أي لذيذ لهم ، دون أن يكون فيها ما يسيء إلى توازن الإنسان في عقله وفي حسّه ، (وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) خالص من كل الشوائب التي قد يحتويها العسل عادة من الشمع والرغوة والقذى ونحو ذلك ، (وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) التي يشتهونها ويستلذونها من جميع الأصناف ، (وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) بما توحيه من رحمة ومحبة ورضوان ، مما يجعل أهل الجنة في جوّ من المتعة الحسيّة والروحية. فهل ترى أن هؤلاء الذين يعيشون في نعيم الجنة ورضوان الله ، (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ) من أولئك الذين كفروا بالله فأنزل عليهم عذابه (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) لشدة حرارته التي تقطّع الأمعاء وتلهب الجسد؟!

* * *

٦١

الآيات

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٦) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (١٧) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (١٨) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ) (١٩)

* * *

معاني المفردات

(آنِفاً) : مأخوذ من الأنف بمعنى الجارحة ، ومعناه الساعة التي قبيل ساعتك ، وقيل : معناه هذه الساعة.

(أَهْواءَهُمْ) ؛ الأهواء : جمع هوى ، وهو شهوة النفس.

(بَغْتَةً) : فجأة.

(أَشْراطُها) ؛ الأشراط : العلامات.

* * *

٦٢

المنافقون على المحك

وهذا حديث عن المنافقين ، وهم الفئة المستورة من الكافرين ، لأنهم يبطنون الكفر ويظهرون الإيمان ، في سبيل التأثير السلبي على حركة الإسلام في الدعوة والحياة ، عبر استعمال قدراتهم الذاتية في إرباك الواقع الإسلامي من الداخل ، أو عبر تحالفاتهم العدوانية مع المشركين واليهود الذين يشكلون المجتمع المعادي لعقيدة الإسلام ومجتمعة ، الأمر الذي جعل منهم مشكلة صعبة في عهد النبوّة المدنيّ الذي كان يعمل النبي فيه على تمتين قواعد المجتمع على مستوى المنهج والعلاقات ، وعلى تركيز الثبات في مواجهة التحديات ، وفي تحريك المواقع ، فقد كان المنافقون يعملون على إيجاد عوامل الاهتزاز الروحي الذي يفقد المسلمين ثقتهم بأنفسهم ، ويخلق لديهم التوتُّر الشعوري الذي يؤدّي بهم إلى الارتباك والبعد عن التوازن والتركيز الفكري والعملي. وكانوا ـ أي المنافقين ـ يواجهون المواقف بطريقة تختزن في داخلها الحقد والتآمر والعدوان ، وتظهر المحبة والغيرة والصداقة ، فيجتذبون بعض البسطاء إليهم ، ويثيرون الشبهات في حركة الرسالة والرسول ، ويستغلّون مواقعهم العائلية والاجتماعية للوصول إلى أهدافهم المشبوهة.

وقد خاض الإسلام معركته مع النفاق ، فكريا وعمليا ، كما خاضها مع الكفر ، ولذلك جاءت الآيات القرآنية المتكررة التي تحدّثت عن ملامحهم وأوضاعهم وخططهم ، لتصنع وعيا إسلاميا داخليا يطوّقهم ويحاصرهم ويفسد مخططاتهم ويمنعهم من الوصول إلى أهدافهم ضد الإسلام والمسلمين ، ولكنّه لم يدخل معهم في معركة عسكرية ، لأن الظروف التي كانت تحيط بالواقع الإسلامي لم تسمح بذلك ، لا سيّما في أجواء التحديات الصعبة التي كان يتعرض لها من قبل المشركين واليهود في حربه معهم ، مما كان يفرض البعد عن الصراع الداخلي وتحصين الموقف بما يحميه من السقوط.

* * *

٦٣

المنافقون وموقفهم من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) في اهتمام ظاهريّ يوحي بالرغبة في المعرفة والحاجة إلى الاستفادة ، كغيرهم من المسلمين الذين يجتمعون إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ما كان يتلو القرآن أو يعظ أصحابه ، لأنهم كانوا يعملون على إظهار الاندماج في المجتمع المسلم ، كي يكسبوا الثقة الاجتماعية التي تتيح لهم الدخول في مشاريعه والتدخل في أموره ، (حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً) في لهجة من يريد الاستعلام عن بعض المفاهيم التي لم تتضح له طبيعتها ، ولكنها تحمل إيجاء بأن كلام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير مفهوم لأنه لا يعبّر بوضوح عن فكره ، مما يجعل السامعين لا يفهمون ما يريد ، فيبادرون إلى الاستفهام ممن يملكون العلم ، ليروا هل أن المسألة هي مسألة قصور فهم لدى السامعين ، أو مسألة قصور تعبير لديه؟! وربّما كان حديث القرآن عن تساؤلهم ذاك واردا مورد الإيجاء بأن استماعهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن ناشئا عن وعي لكلامه ، بل كانت قلوبهم لاهية عنه ، مشغولة بأفكار أخرى كانوا يفكرون بها أثناء حديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهم في واد والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في واد آخر ، ولهذا كانوا يبادرون إلى سؤال أهل العلم الذين كانوا يستوعبون كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليحدثوهم عنه ، كي ينقلوا الكلام إلى الناس عند ما يبادرونهم إلى السؤال عما سمعوه ، لئلا يقعوا في الإحراج إذا ما امتنعوا عن الجواب لعدم فهمهم أو وعيهم له ، وربما كان سؤالهم واردا مورد السخرية من المؤمنين ليجعلوهم يرددون الكلام عدّة مرات ، سخرية بهم. وهكذا كان جوهم النفسي السائد هو التعقيد الذي ينمّ عن الخبث والبعد عن الله ورسوله.

(أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) فأغلقها عن الانفتاح على الحق ، بعد ما أغلقوها بكفرهم ونفاقهم ، مما يجعل من نسبة الفعل إلى الله نسبة قائمة بقانون السببيّة الذي جعله الله أساسا للترابط الذاتي بين الأشياء ، مما يجعل الفعل الصادر من الشخص يحتّم نتائجه على هذا الأساس ، فالفعل هو فعل

٦٤

الإنسان من خلال مباشرته للمقدّمات ، وهو فعل الله من خلال سببية المقدمات للنتائج.

(وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) لأن الإنسان الذي يغيب عنصر العقل في تفكيره ، ويفقد روحية الإيمان ، لا بد من أن يتحوّل إلى إنسان مزاجيّ تحكمه شهواته ، وتديره أهواؤه وتلعب به كما لو أنها رياح داخلية تحركها الغرائز والنوازع والمشاعر الملتهبة التي تحرق كل عناصر التعقل والاتزان في الإنسان.

* * *

المهتدون يزيدهم الله هدى وتقوى

(وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا) بهدى الله ، وساروا في النور المنطلق من أفق الإيمان ، وعملوا على تنمية غرس الهدى في عقولهم ومشاعرهم ، بالفكر والبحث والتخطيط (زادَهُمْ هُدىً) لأن الممارسة الواعية لكل مفردات الهدى الحيّة ، وإدارة الفكر فيها ، تمنح المضمون حيويّة وامتدادا وزيادة في النموّ. وهكذا يزيدهم الله هدى بذلك ، وبما يرزقهم من ألطافه الخفية ، لأن الله يرزق عباده المؤمنين ألطافه ، كما يرزقهم من عطاياه المادية ، جزاء لهم على ما عملوه وما فكروا فيه.

(وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) لأن الهدى كلما امتد في الحياة من خلال وضوح الرؤية للفكرة وللخط وللطريق ، كلما تحوّل إلى حالة في القلب والروح والضمير ، تتعمق في الشخصية لتحتوي كل أوضاعها وقضاياها ، بحيث ينطلق الانضباط على الخط في الممارسة من الانضباط في الفكر والعقيدة ، لتكون هناك تقوى في الفكر وفي العمل.

* * *

٦٥

المنافقون يواجهون أشراط الساعة

وإذا كان أولئك المنافقون يتحركون بهذه الطريقة اللاهية العابثة الساخرة التي توحي بأن الغفلة مطبقة على عقولهم ، فقد يحتاجون إلى مواجهة المسألة في اتجاه جديد.

(فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) هل ينتظرون إلّا المفاجأة الحاسمة التي يقفون أمامها واجمين ذاهلين ، ذهول الرعب من النتائج القادمة كنتيجة طبيعية لذهولهم عن سماع آيات الله والإيمان بها ، الذي يشغل الإنسان عن مسئوليته في طاعة الله ، وعن وعيه لليوم الآخر؟! (فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها) وبدأت علاماتها تفرض نفسها على الواقع الذي يحيط بهم ، وتتجلى تلك العلامات في طبيعة الحياة التي ينتظرون فيها الموت في كل لحظة ، حيث يلاقون بعدها الساعة في عالم الآخرة ، فيواجهون حساب المسؤولية ، أو في الرسالة التي جاء بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باعتبارها الرسالة الأخيرة للحياة ، لأن النبي هو خاتم الأنبياء ، وقد ورد الحديث عنه : «بعثت أنا والساعة كهاتين» (١) ، وأشار بأصبعيه السبابة والتي تليها .. فليس بعد رسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلا الساعة التي قد تمتد طويلا في حساب أيامنا ، ولكنها لا تمثل شيئا في أيام الله.

(فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ) فكيف يتذكرون في ذلك الوقت ، وما فائدة الذكرى في حساب المصير الذي يواجهونه آنذاك؟ فقيمة الذكرى بعد الغفلة أنها تفتح للإنسان باب تصحيح الأخطاء التي حدثت في حياته ، وتغيير واقعه إلى واقع أكثر استقامة وأفضل عملا ، وهذا ما لا مجال له عند قيام الساعة التي يغلق فيها باب العمل ، وتفتح فيها نافذة المسؤولية على نتائج المصير ، ولهذا فلا بد لهم من مواجهة القضية في الدنيا ، لتكون الذكرى حركة في الخط المستقيم الذي يؤدي بهم إلى الله.

* * *

__________________

(١) المجلسي ، محمد باقر ، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ـ لبنان ، ط : ١ ، ١٤١٢ ه‍ ـ ١٩٩٢ م ، م : ٦ ، ج : ١٦ ، ـ

٦٦

لا إله إلا الله غافر الذنب

(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) فهذه هي الحقيقة التي لا بد من أن ينتهي العلم إليها ، ويقف عندها وقفة وعي ، ويحدد على أساسها الأوضاع والمواقف والمواقع والعلاقات العامة والخاصة في الحياة ، وهذا ما ينبغي للإنسان أن يستلهمه من كل مصادر المعرفة لديه في آفاق الكون ، وفي مواقع الفكر.

(وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) وتوجّه إلى الله مبتهلا مستغفرا في خشوع العبودية الخاضعة للألوهية الخالقة. وقد يتساءل البعض عن معنى استغفار النبي لذنبه ، وهو المعصوم عن كل جوانب شخصيته الرسالية؟!

ونلاحظ ـ في الجواب ـ أن الاستغفار ليس مردّه ذنبا فعليا ارتكبه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سلوكه العملي ، ولكن مردّه البشرية التي تختزن نقاط الضعف وتوحي بالذنب ، مما يجعل الوقوع في الذنب فرضية طبيعية ، ويدفع الإنسان إلى طلب الوقاية منه بالتعبير الروحي العباديّ عن الخضوع لله وطلب رحمته ، اعترافا بنقاط ضعفه التي قد توقعه في الذنب فعليا. وربما كانت الكلمة تعبيرا كنائيا عن طلب الرضوان الذي هو هبة إلهية لعباده في ما يختزنه الاستغفار من معنى ذلك على مستوى النتيجة العملية ؛ والله العالم.

(وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) ما يمكن أن يكونوا قد وقعوا فيه من ذنوب ، أو ما يمكن أن يقعوا فيه منها مما يبعد عنهم رحمة الله ورضوانه ، فيكون الاستغفار لونا من ألوان الاستعطاف العبادي الذي يجتذب الرحمة الإلهيّة ، ويستنزل الرضوان ، (وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ) يعلم ما تتقلبون به من أمور الحياة التي تتبدل فيها الأوضاع والأحوال ، وما تسكنون وتستقرون فيه من مواقعكم ، فهو المحيط بكم من كل الجهات ، وفي جميع الأحوال ، فانفتحوا عليه ، والتزموا كل مفاهيمه وتعاليمه ، وأوامره ونواهيه ، وراقبوه في سرّكم وعلانيتكم ، في كل أفعالكم وأقوالكم ، واستشعروا في قلوبكم الخوف منه والرغبة في رضاه.

* * *

__________________

ـ باب : ٩ ، ص : ٤٣٨ ، رواية : ٣٦.

٦٧

الآيات

(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (٢٠) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (٢١) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (٢٢) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (٢٣) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) (٢٤)

* * *

معاني المفردات

(مُحْكَمَةٌ) : مبيّنة لا تشابه فيها.

(عَزَمَ الْأَمْرُ) : جدّ ولزم.

* * *

٦٨

تثاقل مرضى القلوب في مواجهة أمر القتال

ويتابع القرآن حديثه عن المنافقين الذين يعملون على إظهار أنفسهم كما لو كانوا جزءا من المجتمع الإسلامي ، ليحصلوا على مكاسب الانتماء إلى المسلمين دون أن يتحملوا تبعات ذاك الانتماء ، ولكنهم يواجهون في بعض الحالات موقفا صعبا يضعهم أمام الخطر الداهم وجها لوجه ، عند ما تنزل آيات الجهاد لتدعو المسلمين إلى القتال.

(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ) لأنهم يريدون ، دائما ، أن يستمعوا إلى وحي الله ، شوقا إلى كلماته ، ليزدادوا بها إيمانا ومعرفة وروحانيّة تربطهم بآفاق رحمة الله ، أو لحلّ بعض المشاكل المعقّدة التي اختلفوا حولها ، أو في ما أشكل عليهم أمره من الوحي الإلهي ، لا سيّما في مواقع التحديات القاسية التي تفرض عليهم الدخول في معركة مع المشركين ، أو مع غيرهم ، فيتطلعون إلى سور تحدّد لهم ملامح المرحلة الحاضرة أو المقبلة ، وتبيّن لهم مسئوليتهم الشرعية.

(فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ) حاسمة في أحكامها ، واضحة في مضمونها ، فاصلة في الموقف ، (وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ) كواجب شرعي يدعو المؤمنين إلى الانطلاق نحوه في ساحة المعركة التي تفرضها سلامة الإسلام أمام الأخطار الداهمة من قبل الأعداء ، تلقّاها المؤمنون بالرضى والقبول ، لأنهم جاهزون في كل وقت لإطاعة أوامر الله ونواهيه. ولكنّ للمنافقين شأنا آخر ، فهم لم يدخلوا في الإسلام ليقاتلوا الكفر أو ليواجهوا الخطر ، بل دخلوا فيه ، ليكيدوا له لمصلحة الكفر ، وليهربوا من مواقع الخطر ويحصلوا على السلامة ، مما يجعل الأمر بالقتال بالنسبة لهم مأزقا صعبا يحاصرهم من كل جانب ، فإذا حدث مثل هذا الأمر (رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) من هؤلاء المنافقين الذين عاشوا حالة النفاق المرضيّة من موقع العقدة الذاتية ، (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) في موقعك القيادي الذي يصدر إليهم الأوامر بالانخراط في صفوف الجيش الإسلامي لمواجهة

٦٩

العدوّ (نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) يواجهون الموقف وكأنهم في شبه غشية ، وهي الحالة التي تعرض للإنسان عند ما يموت ، فيشخص ببصره دون أن تطرف عينه أو يهتزّ جفناه أو يتحرك جسمه ، وذلك بسبب الخوف الضاغط على قلوبهم ، حتى كأنهم يموتون قبل أن يموتوا ، (فَأَوْلى لَهُمْ) أي من الحري والطبيعي أن يكونوا في نظرتهم الخائفة إليك كما لو كانوا في حالة الاحتضار التي تسبق الموت ، وعن الأصمعي أن كلمة «أولى لك» كلمة تهديد معناه «أولى لك وليّك وقارنك ما تكره» (١).

(طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) فطبيعة الالتزام الذي التزموه أمامنا ـ أي أمام الله ـ بإعلانهم كلمة الإيمان ، هو طاعة تحدّد الموقف الحاسم ، وقول معروف يؤكد الالتزام ، لأن الإيمان عهد بين الله وبين عباده أن يطيعوه ولا يعصوه ، ويلتزموا كلمته دون أن ينحرفوا عنها ، (فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ) واشتد وتحوّل إلى حالة جدّية لا تحتمل الجدل ولا الهزل ، فلا بد من أن يصدقوا الله عهده ، لأن ذلك مفروض من المؤمنين الذين يحترمون كلمتهم. ولكنهم لم يفعلوا ، مما جعلهم في موقع بعيد عن الحق والحكمة ، (فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) لأنه يقرّبهم إليه ، ويحقق لهم النتائج الكبيرة على مستوى المصير.

ولكنهم لم يصدقوا ولم يلتزموا ، بل ضعفوا وسقطوا في امتحان الإيمان ، مما يوحي بأنهم لن يكونوا في مستوى المسؤولية الإيمانية المنفتحة على الخير المتحرك بالصدق في حياة الناس.

(فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ) وتحمّلتم الموقع المميز في حياة الأمة الذي يمكّنكم من السيطرة على الناس (أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) في ما تأخذون به من الخطوط المنحرفة ، من الخيانة للعهد ، والابتعاد عن الصدق ، والانفتاح على الشر ، (وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) لأن العلاقة بالأرحام ، كما الإصلاح في الأرض ، هي مسألة صدق في الكلمة والعلاقة والموقف ، فإذا لم تعيشوا ذلك من ناحية

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٩ ، ص : ١٣٣.

٧٠

المبدأ ، فكيف يمكن أن لا تكونوا من المفسدين ، القاطعين للأرحام؟ وكيف لا يتوقع منكم ذلك ، لأن التوقعات تتبع العنوان البارز للشخصية الأخلاقية سلبا وإيجابا؟!

وقيل : إن المراد بالتولّي في قوله : (إِنْ تَوَلَّيْتُمْ) الإعراض عن كتاب الله والعمل بما فيه ، ومنه الجهاد في سبيل الله ، أي هل يتوقع من إعراضكم إلا الإفساد في الأرض ، والقطيعة للأرحام ، وذلك بسفك الدماء ونهب الأموال ، وهتك الأعراض ، تكالبا على جيفة الدنيا؟

وربما كان الأظهر هو الوجه الأول ، للتطابق بين معنى الولاية وبين الإفساد في الأرض بحسب المتبادر من الكلمة ؛ والله العالم.

(أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ) فأبعدهم عن مواقع رضاه بابتعادهم عن الالتزام بها ، (فَأَصَمَّهُمْ) عند ما رفضوا الانفتاح عن الاستماع إليه ، (وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) عند ما وضعوا على أعينهم غشاوة من الغفلة ، وغطاء من النفاق. والظاهر أن الصمّ والعمى واردان على سبيل الكناية لانحرافهم عن الأسس التي ينفتحون بها على الإيمان بالله.

(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) ليتعمقوا في مفاهيمه ، وينفتحوا على أحكامه ، ويتعرفوا من خلاله على الخطوط الفاصلة بين الحق والباطل ، وبين الكفر والإيمان ، ليلتزموا الخط القرآني في قضايا العقيدة والحياة؟! وما المانع أن يتدبروه وهم يملكون معرفة اللّغة التي نزل بها ، والقدرة على الفهم؟ (أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) فلا تنفتح على الحق من خلال القرآن ، ولا تلتقي بالخير في آياته ، كما لو كان على قلوبهم قفل يغلقها عن الوعي والفهم والانفتاح.

والظاهر ـ كما قال في مجمع البيان ـ أن هذه الآية دالة : «على بطلان قول من قال : لا يجوز تفسير شيء من ظاهر القرآن إلا بخبر وسمع» (١). فإن الله يدعو إلى فهم القرآن وتدبّره حتى يكتشف الناس فكره وشريعته ونهجه في

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٩ ، ص : ١٣٥.

٧١

الحياة ، وليست هذه الأقوال التي تعزل القرآن عن الفهم العام للناس ، إلا لونا من ألوان تجميد القرآن في الثقافة العامة ، وإبعاد الناس عن اكتشاف الزيف الذي يحشده البعض في المضمون التفسيري له.

* * *

٧٢

الآيات

(إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (٢٥) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (٢٦) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (٢٧) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٢٨) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ (٢٩) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (٣٠) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (٣١) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ) (٣٢)

* * *

٧٣

معاني المفردات

(ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ) : بمعنى رجعوا عن الحق والإيمان.

(سَوَّلَ) : زيّن.

(وَأَمْلى لَهُمْ) : طوّل أملهم.

(أَضْغانَهُمْ) ؛ الأضغان : جمع الضغن ، وهو الحقد الشديد.

(بِسِيماهُمْ) ؛ السيماء : العلامة.

(لَحْنِ) ؛ اللحن : إزالة الكلام عن جهته.

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) ؛ البلاء : الابتلاء ، وهو الامتحان والاختبار.

(وَشَاقُّوا) : عاندوا.

* * *

الشّيطان يسوّل للمنافقين

(إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ) وتراجعوا عن الخط المستقيم (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى) في وضوح مفاهيمه ، وصفاء شريعته ، واستقامة مناهجه ، وهؤلاء هم المنافقون الذين عاشوا في داخل المجتمع الإسلامي وشاهدوا التجربة الإسلامية الواعية في صفائها ونقائها ، لا سيّما في أخلاقية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وروحانيته ، واستقامة سيرته التي هي المثل الأعلى للكمال الإنساني ، فليست المشكلة في مواقفهم السلبية مشكلة عدم الوضوح في الرسالة ، أو ضياع الخطوط التي تحدد فواصل القضايا ، أو اختفاء النموذج الحيّ الذي يعبّر عن طبيعة الواقع السليم ، بل هي ما ذكره الله : (الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ) في ما زينه لهم من أعمالهم السيّئة فرأوها حسنة ، أو ما أثاره في داخلهم من مطامع الأنانية الذاتية في ما يكيدون به للإسلام والمسلمين ، (وَأَمْلى لَهُمْ) بما أوحى به إليهم

٧٤

من تطويل الأمل الذي يثير فيهم أحلام البقاء والامتداد في الحياة ، حتى ينسيهم الموت ، ويبعدهم عن الآخرة ، (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ) من المشركين أو اليهود الذين كانوا يبحثون عن ثغرة في المجتمع الإسلامي لينفذوا من خلالها إليه ، فوجدوها في المنافقين الذين كانوا يفتشون عن قوّة يستندون إليها ، وهذا هو ما جعلهم يقولون للكافرين من المشركين واليهود (سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ) مما ترسمونه من مخططات التآمر على الإسلام ، في ما تحتاجون فيه إلينا ، وقد يفرض علينا الموقف أن لا نطيعكم في البعض الآخر حتى لا ينكشف اتفاقنا معكم ، فتفسد الخطة المرسومة ، ولكن هذا الحوار الدائر بين المشركين والمنافقين لم يخف على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، نتيجة ما عرَّفه الله منه ، (وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ) في ما أسرّوه لهم من كلمات التآمر.

* * *

المنافقون وكرههم رضوان الله

(فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) هل يستطيعون الانتصار لأنفسهم ، أو يجدون من ينصرهم على الملائكة من الكافرين؟ (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ) بالتحالف مع الكافرين ، للإضرار بالمسلمين (وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ) والتكامل مع المؤمنين في خط الإيمان ، والعمل بطاعة الله ، والسير على منهجه ، وقتال أعدائه ، (فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) وأبطلها وحوّلها إلى هباء ، فلم يحصلوا من جهدهم على شيء.

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) من المنافقين (أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ) التي يخفونها في صدورهم ، في ما تشتمل عليه من الحقد الشديد ضد الإسلام وأهله ، مما يكشف أمرهم للناس ، فلا تنطلي حيلتهم عليهم؟! (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ) التي تحدد ملامحهم وصفاتهم بالطريقة التي لا يبقى معها ريبة ، (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) لأن كل جماعة لها أسلوب خاص في الكلام

٧٥

يعبّر عن طريقتها في التفكير والتحرك ؛ فللمؤمنين طريقتهم التي تعبّر عن وضوح الفكرة التوحيدية واستقامة الطريق في هذا الخط ، وللكافرين طريقتهم الوثنية التي تعبر عن المستوى المتخلف في عبادتهم للأصنام ، وللمنافقين طريقتهم المتلوّنة المتحركة القلقة الخائفة المذعورة التي لا تستقر على موقف ولا تثبت على قاعدة ، (وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) في كل مواقعها وخلفياتها ، في سرّها وعلانيتها ، فلا يخفى عليه شيء منها من قريب أو من بعيد.

* * *

بين البلاء واختبار المؤمنين

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) لأن الإيمان يفرض على المؤمن الكثير من المسؤوليات لتحدّي الأعداء في المواقف الجهادية ، ويدفعه إلى مواجهة الكثير من الأخطار في ساحات الصراع التي تختلف فيها الأوضاع ، وتتباين فيها المواقف ، ويشتد فيها البلاء ، مما يظهر فيها جهاد المجاهدين ، وصبر الصابرين ، في ما يتميزون به عن المنهزمين والخائفين والجازعين ، وبذلك يختبر الله أخبارهم بما تفصح عنه من طبيعة الأعمال والمواقف والأوضاع التي يتضح الإيمان الثابت بها ويمتاز عن الإيمان المهتز.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) بالتآمر والضغط وممارسة التعسف ضد المؤمنين (وَشَاقُّوا الرَّسُولَ) بإعلان الحرب عليه ، والابتعاد عن دينه ، ومخالفتهم له في العقيدة والشريعة ، والاستهزاء به ، والسخرية من أتباعه (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى) بإقامة الحجة عليهم في كل مفرداته الفكرية والعملية (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) لأنهم لا يستطيعون الوقوف أمام إرادة الله ، التي تقضي بنصرة رسوله وإقامة دينه ، مهما فعلوا من أفاعيل ، ومهما مارسوا عليه من ضغوط ، أو تحركوا به من مشاريع ، لأن الله بالغ أمره في كل شيء ، (وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ) فتنتهي إلى الخيبة والسقوط ، فلا يبقى لهم أيّة قوّة أو سلطة.

* * *

٧٦

الآيات

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (٣٣) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ (٣٤) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (٣٥) إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (٣٦) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (٣٧) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) (٣٨)

* * *

معاني المفردات

(تَهِنُوا) : من الوهن ، بمعنى الضعف والفتور.

(يَتِرَكُمْ) ؛ يقال : وتره يتره وترا : إذا نقصه.

٧٧

(فَيُحْفِكُمْ) ؛ الإحفاء : الإلحاح في السؤال.

* * *

(لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) فذلك هو معنى الإيمان الذي يحرّك المسؤولية في نفس المؤمن ، في ما يوحي إليه ، بأن من المفروض عليه أن يعبّر عن إيمانه بالله بطاعته في ما أمره به أو نهاه عنه ، لأن ذلك هو مظهر العبودية الحقّة الذي يجسده الشعور بحضور الله الدائم في كل حياته ، والخضوع له في كل شيء ، أمّا طاعة الرسول ، فهي المعنى العميق لطاعة الله ، لأن الرسول لا يأمر من حالة ذاتية ، بل من موقعه الرسالي.

(وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) بالكفر والنفاق والصدّ عن سبيل الله ، والاتجاه إلى طاعة غيره مما يبتعد بكم عنه ، ويجعل أعمالكم هباء ، لأن العمل الذي لا ينطلق من روحيّة الإيمان بالله ، ومن الالتزام بنهجه ، ومن الإخلاص له ، لا يرتبط بالله ، مما يجعله غير ذي معنّى في مضمون الطاعة ، الأمر الذي يؤدي إلى بطلانه. فكأن الآية توحي بأن عمل المؤمن كي يكون صحيحا ، لا بد من أن يأتي طاعة للرسول بالانفتاح على الشرع والقرآن ، لأن ذلك هو مقياس صحة الأعمال. وقد جاء في بعض الأحاديث المأثورة ، أن المقصود بها هو عدم الإتيان ببعض الأعمال التي تسقط الأعمال السابقة وتبطلها باعتبار تأثيرها السلبي عليها ، وقد روي عن أبي العالية قال : «كان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يرون أنه لا يضر مع الإيمان ذنب ، كما لا ينفع مع الشرك عمل ، حتى نزلت (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) ، فكانوا يخافون الكبائر على أعمالهم ، وعن حذيفة : فخافوا أن تحبط الكبائر أعمالهم» (١).

__________________

(١) الزمخشري ، أبو القاسم ، محمود بن عمر ، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ، دار الفكر ، بيروت ـ لبنان ، ج : ٣ ، ص : ٥٣٨ ـ ٥٣٩

٧٨

وعن ابن عمر قال : «كنا نرى أنه ليس شيء من حسناتنا إلا مقبولا ، حتى نزل : (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) ، فقلنا : ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقال : الكبائر الموجبات والفواحش ، حتى نزل : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨] ، فكففنا عن القول في ذلك ، فكنّا نخاف على من أصاب الكبائر ، ونرجو لمن لم يصبها» (١).

فإذا صحّت أمثال هذه الروايات ، فإنها تدل على أنّ المسلمين الأوائل من الصحابة كانوا يفهمون المسألة بهذه الطريقة. وقد نستفيد من بعض الروايات ، أنّ هذا الفهم لم يكن بعيدا عما ورد عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ على تقدير صحته ـ فقد جاء عن الصادق عليه‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من قال : سبحان الله ، غرس الله له بها شجرة في الجنة ، ومن قال : الحمد لله ، غرس الله له بها شجرة في الجنة ، ومن قال : لا إله إلا الله ، غرس الله له بها شجرة في الجنة ، ومن قال : الله أكبر ، غرس الله له بها شجرة في الجنة.

فقال رجل من قريش : يا رسول الله ، إن شجرنا في الجنة كثير! قال : نعم ، ولكن إياكم أن ترسلوا عليها نيرانا فتحرقوها ، وذلك أن الله عزوجل يقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ)» (٢).

وقد استدل بها الفقهاء على حرمة إبطال الأعمال بعد الشروع فيها ، وفرّعوا عليه حرمة إبطال الصلاة بعد الشروع فيها.

وذكر بعضهم أن الأعمال لا تبطل بالإتيان بالمعاصي بعدها ، لعدم ارتباط الأعمال ببعضها البعض في مجال الطاعة أو القبول ، لأن لكل أمر طاعته وعصيانه ، وبطلانه وصحته في دائرته الخاصة ، ولذلك أنكر هذا البعض

__________________

(١) تفسير الكشاف ، ج : ٣ ، ص : ٥٣٩.

(٢) البحار ، م : ٣ ، ج : ٨ ، باب : ٢٣ ، ص : ٥٤٥ ، رواية : ١٥٤.

٧٩

الإحباط في العمل في الدائرة الإيمانية ، وأبقاه في دائرة الكفر الذي يعقب الإيمان ، لأن الكفر يلغي العمل كله.

وهناك أقوال أخر تتحدث عن مفردات الأعمال الخاصة التي تؤثر بالبطلان. وجاء في تفسير الميزان ، أن «المراد بحسب المورد ، من طاعة الله ، طاعته في ما شرّع وأنزل من حكم القتال ، ومن طاعة الرسول ، طاعته في ما بلَّغ منه وفي ما أمر به منه ومن مقدماته بما له من الولاية فيه ، وبإبطال الأعمال ، التخلف عن حكم القتال ، كما تخلف المنافقون وأهل الردة» (١).

ولكننا نلاحظ أن الظاهر من الآية ورودها في مقام بيان القاعدة الكلية للمسألة ، ليترتب عليها الفروع الصغيرة ، في ما يبتلى به المسلمون من ذلك ، ولعلّ ما ذكرناه في تفسيرها هو الأقرب إلى جوّ الاية التي تريد أن تجعل الأعمال التي يقوم بها المسلمون في دائرة الأقرب إلى طاعة الله وطاعة الرسول ، حتى لا يكون جهدهم ضائعا وعملهم باطلا ؛ والله العالم.

* * *

(فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ)

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) ، لأن المغفرة لا تكون إلا للذين يموتون على الإيمان ، سواء منهم المؤمنون أو الذين آمنوا بعد الكفر ثم استمروا عليه حتى ماتوا ، أما المرتدّون الذين يتحولون إلى الكفر بعد الإيمان ، فحالهم حال الكفار الأصليين في عاقبة أمرهم.

(فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ) انطلاقا من ضعف الإرادة واهتزاز الموقف والخوف من الموت ، لتقفوا أمام دعوة الرسول للجهاد موقف الخائف المتخاذل المهزوم نفسيا ، الذي يعيش روحية الهزيمة وينهزم قبل دخول المعركة ، لتدعوا

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٨ ، ص : ٢٥١.

٨٠