تفسير من وحي القرآن - ج ١٦

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٦

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨٦

١
٢

٣
٤

سورة الحج

مدنية

وآياتها ثمان وسبعون

٥
٦

سبب التسمية

سمّيت هذه السورة بالحج لتضمنها دعوة الله إلى الحج في رسالة النبي إبراهيم عليه‌السلام ، وللإيحاء بالمعنى العبادي الذي يتمثل في تنوع العبادة في أفعالها وكلماتها وإيحاءاتها ، وفي النتائج العملية التي تلتقي بها مع كل العبادات الأخرى ، من صلاة في بعض مفرداتها ، ومما يشبه الصوم ، في بعضها الآخر ، كما في حال الإحرام ، وفي المنافع التي يحصل عليها الناس من خلال الاجتماع العالمي الذي يلتقي فيه المؤمنون من سائر أنحاء العالم ليتدارسوا مشاكلهم ، وليتبادلوا خبراتهم ، وليتعارفوا في مواقعهم وأوضاعهم ، وليزدادوا حركة في اتجاه التقدم ، ولتتطور حياتهم من خلال ذلك كله ، وليأخذوا بأسباب القوّة في تحديات الصراع. وهكذا كان الحديث عن بعض فروع الحج المتصلة بحركة العقيدة في حياة الإنسان ، حيث بدأت السورة بالدعوة إلى التقوى ، باعتبارها التجسيد الحيّ لإحساس الإنسان بعبوديته لله تعالى في مواقع الطاعة. ولذا فلقد تناولت السورة النماذج الإنسانية المنحرفة عن خط التقوى ، عقيدة ودعوة ، على مستوى العلاقات في أكثر من موقع. ثم تناولت الأجواء العقيدية التي يعيش فيها المؤمنون والكافرون ، لتثير من خلالها مسائل التوحيد في مواجهة الشرك والإيمان باليوم الآخر لدى المنكرين وما يترتب على ذلك من نتائج دنيوية وأخروية ، وذلك بالأسلوب القرآني الذي

٧

يجمع مفردات العقيدة من واقع حياة الإنسان والطبيعة ، ويضرب الأمثال لتوضيح الفكرة باعتبار أنّ حركة الحس تغذي الوجدان .. ثمّ إنّ الآيات تطوف بالفكر في تاريخ الأمم السابقة ، ليعتبر الناس بتجارب الآخرين في مواقفهم السلبية من عبادة الله وتوحيده ، ليستفيدوا من تلك الدروس التي يحوّلون فيها الواقع إلى تجربة إيجابية حاسمة في هذا الاتجاه.

وتختم السورة آياتها بالدعوة إلى السير على خط الإيمان في عبادة الله ، وفي فعل الخير والاعتصام بحبله ، وفي الجهاد في سبيله ، وفي الالتزام بالخط المستقيم الذي يكفل لهم شهادة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم باستقامة الطريق الذي يسيرون فيه ، ويكفل أن يكونوا الشهداء على الناس في وعيهم الإيماني لمسألة الرسالة والرسول ، وليؤكدوا إسلامهم أخيرا في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والاعتصام بالله الذي هو نعم المولى ونعم النصير.

* * *

٨

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الآيتان

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) (٢)

* * *

معاني المفردات

(زَلْزَلَةَ) ؛ الزلزلة والزلزال : شدة الحركة على الحال الهائلة.

(تَذْهَلُ) ؛ الذهول : الذهاب عن الشيء مع دهشة وحيرة.

(حَمْلٍ) ؛ الحمل بالفتح : الثقل المحمول في الباطن كالولد ، وبالكسر : الثقل المحمول في الظاهر.

* * *

٩

دعوة إلى التقوى

(يا أَيُّهَا النَّاسُ) إنها الدعوة الشاملة للناس الذين يعيشون الحياة من موقع إنسانيتهم الخالصة ، ليتخذوا الموقف السليم من الحياة على قاعدة الإحساس بخطورة اللاانتماء واللّامبالاة الفكرية والنفسية ، التي تحملهم على الهرب من كل سؤال يتحدى ما اعتادوا من عقائد وأفكار وعادات ..

إنها الدعوة المنفتحة على المسؤولية التي تطل على أعماق الناس ، من قاعدة الخوف من النتائج السلبية في الدار الآخرة ، لتدفعهم للتحرك على ضوء رسالات الله.

* * *

التقوى : مطابقة إرادة العبد لإرادة الله تعالى

(اتَّقُوا رَبَّكُمْ) الذي خلقكم ومنحكم نعمة الوجود بعد العدم ، وأفاض عليكم النعم المتنوعة التي تطال الحياة بأكملها منذ الولادة حتى الوفاة. فهو المهيمن على الأمر كله في الدنيا والآخرة ، وهو الذي يحدد مصير الإنسان يوم القيامة .. بما يوحيه له من مراقبة في كل قول وفعل ، ليتحول ذلك إلى حالة انضباط شاملة في كل مواقع حركته ، بحيث لا يفقده الله حيث يريد أن يجده ، ولا يجده حيث يريد أن يفقده ، لتصبح حياته مطابقة لإرادة الله في أوامره ونواهيه. فإن الإنسان كلما انفتح على عظمة الله ، كلما شعر بالمسؤولية أكثر وسائر على الخط المستقيم.

* * *

١٠

أهوال يوم القيامة

(إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) ففي ذلك اليوم زلزال عنيف تهز مشاهد الهول والرعب والعذاب فيه النفوس ، مما يجعلها تفقد ثبات مواقفها على الأرض التي فقدت صلابتها أمام اهتزاز الفكر والروح والشعور ، مما يجعل الموقف مشابها للزلزال الذي تتساقط فيه السقوف والجدران والصخور وتخسف به الأرض ، بكل ما يوحيه ذلك من خوف ورعب وذعر يتجاوز في أهواله كل حدّ. (يَوْمَ تَرَوْنَها) في نتائجها الفظيعة التي تقتلع الإنسان من أعمق مشاعره ، وأدقّ مناطق الإحساس لديه ، حيث (تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ) عند ما تكون في جوّ تنساب فيه مشاعر الأمومة في داخلها ، وتعيش فيه الاندماج الروحي مع دفقات الحليب الطاهر من ثديها في الفم الصغير الذي يمثل ابتهال الطفولة الجائعة إلى الأمومة الحانية ، طلبا للحب والعطف والحنان والغذاء والشراب ، إذ إن الأم هي سرّ الحياة منذ انطلاقتها في رحلة النموّ حتى تكاملها في مرحلة الوجود. ولكن على الرغم مما تشعر به الأم في موقف الرضاع من تفاعل بين روحها ونداء رضيعها ، بحيث تحس بأن روحها تتحرك في أحضانها ، فلا تغفل عن ابتسامته عند ما يبتسم ، وعن دمعته عند ما يبكي ، وما يصنعه ذلك الإحساس من تحول في قطرات الحليب ـ من حيث تدري أو لا تدري ـ إلى قطرات حبّ وحنان ، إلا أنها يوم القيامة أمام الرعب والخوف تذهل عنه وعن كل ما حولها ، وتستغرق في التفكير بمصيرها ، فهي تعجز في لحظات الحيرة والذهول عن التفكير إلا بنفسها ، لأن حدّة المعاناة لا تترك لها أيّ مجال للالتفات إلى أي شخص آخر.

(وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها) وتسقط الحامل ولدها من بطنها من شدة الذهول ، وتطرح كل ذات حمل ما يثقلها مما تحمله ، مهما كان عزيزا

١١

عليها ، لأنها لا تعي كل ما حولها ، ولا تملك المقدرة على الاهتمام بأي شيء سوى نفسها التي تخاف عليها السقوط تحت مؤثرات الرعب القاتل. (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى) لا يعقلون أيّ شيء ، تماما كما لو كانت عقولهم قد خولطت بالخمر ، (وَما هُمْ بِسُكارى) فلم يذوقوا قطرة منها ، ولكنهم خاضعون لسكرة الذهول التي أطبقت على أفكارهم ومشاعرهم ومكامن الرؤية فيهم. (وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) في ما يشاهدون ويتصورون ويتخيلون من هذه الأهوال العظام ، فيشتد الإحساس في داخلهم بالهول ، حتى ينفصلوا عن العالم كله وعن كل ما فيه من مخلوقات وأحداث.

هل فكرتم كيف تواجهون هذا الجوّ وهذا المصير ، وكيف تتخفّفون من أثقاله؟

إن الله لا يريد لكم أن تسقطوا أمام الخوف والهول ، وأن تتجمدوا عنده وتواجهوا الموقف بطريقة لا واعية ، وأن يأتي الإيمان ردّ فعل على الخوف ، بل يريد أن يكون الخوف أساسا حافزا للاهتمام الجدّي ، كمقدمة للتفكير والتأمّل ، وصولا إلى الإيمان والتقوى الشاملة في خط الله.

* * *

١٢

الآيتان

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (٣) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) (٤)

* * *

معاني المفردات

(مَرِيدٍ) : المريد : الخبيث ، وقيل : المتجرد للفساد والمعرّى من الخير.

(تَوَلَّاهُ) : اتخذه وليا.

* * *

١٣

نموذج ضالّ

هذا نموذج من الناس الذين يرفضون خط التقوى في حياتهم ، ويمتنعون عن المواجهة الجادّة للمسألة العقيديّة بالفكر العميق والروح التقيّة ، ويتحركون من خلال الأهواء في العلاقات والانتماءات ، لا يركنون إلى قاعدة من علم ، أو إلى انطلاقة للفكر ، لأنهم لا يواجهون الحياة بالمسؤولية الفكرية التي تعتمد على العلم في تحديد النتائج وتكوين القناعات ، بل كل ما هناك ، أنهم ينتهزون الفرصة السانحة للحصول على المطامع والرغبات ، من أيّة جهة كانت ، وفي أيّ موقع.

* * *

الجدال الشخصي والجدال الفكري

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) فيدخل مع الآخرين في جدل حول صفات الله وأفعاله ، وحول مسألة التوحيد والشرك ، ولكنه لا يملك المعطيات العلمية التي تتيح له فرصة الدخول في الجدل المنتج الذي يقنع فيه المتجادلون بعضهم بعضا بالحجة والبرهان ، حيث يكون الموقف موقف فكر يصارع فكرا ، لا موقف شخص ينازع شخصا آخر ، لأن الجدال الشخصي لا يؤدي إلا إلى المهاترات ، بينما يؤدي الجدال الفكري إلى تكوين القناعات.

وهذه هي مشكلة الكثيرين ممن يتخذون المواقف دون فكر ، ويدخلون في الجدل دون امتلاك أدواته العلمية ، فتكون النتيجة هي إثارة الضوضاء والصخب واستثارة الانفعالات لا أكثر. ويتمثل هؤلاء بالببّغائيين الذين يقلّدون

١٤

الآخرين في مواقفهم وأفكارهم دون أن يفهموا طبيعتها وخلفياتها ونتائجها الإيجابية والسلبية ، ويدافعون عن تلك المواقف والأفكار بحماس يفوق حماس أصحابها ، فيستخدمون الوسائل الانفعالية الاستعراضية التي قد تؤدي إلى التقاتل والتنازع ، ويثيرون المشاكل ويعيقون الثورة على الواقع الفاسد والإصلاحات الفكرية والاجتماعية والسياسية ، بفعل تيار الجهل والفوضى الذي يخلقونه في الحياة العامة.

* * *

القيادات الشيطانية

(وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ) وتلك مشكلة من يتبعون القيادات المنحرفة التي تعمل على إثارة الفساد ، وإبعاد الناس عن خط الخير ، فيجمّدون عقول هؤلاء الناس ليتّبعوا عقولهم دون وعي أو تفكير ، ليتحركوا عندها لتحقيق مخططات الشرّ والظلم والضلال.

(كُتِبَ عَلَيْهِ) في ما قدّره الله في الحياة من علاقة المسببات بأسبابها ، في مسألة الهدى والضلال ، مما لا يتنافى مع مسألة حرية الإرادة وعنصر الاختيار ، (أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ) واتّخذه مرشدا وقائدا ورأى فيه القدوة في كل شيء (فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ) كنتيجة طبيعية يصل إليها من يغمض عينيه ، ويغلق سمعه ، ويجمّد عقله ، ويخضع حركته في الحياة لإيحاءات مثل هذا الشيطان ، ويقلّده في أقواله وأفعاله ، فإن ضلال هذا الشيطان المتّبع سيكون سببا في إضلال التابع وانحرافه ، لأن النتائج السلبية لا بد من أن تأتي من المقدّمات السلبيّة.

(وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) وهو نهاية خط الضلال والانحراف

١٥

المنطق مع آفاق الشياطين ، لأنه يبعد الإنسان عن الله ، فيبتعد بذلك عن الجنة ويقترب من النار.

* * *

بالعلم واتباع القيادة المؤمنة نتفادى هذا النموذج

عند قراءة كيفية تقديم القرآن الكريم لهذا النموذج المنحرف ، نلاحظ أن هذا النموذج يتميز بصفتين ، الأولى : افتقاده إلى العلم الذي يفتح أمامه أبواب الحق. والثانية : اتباعه الشيطان الخبيث الذي يريد للحياة أن تتحرك في طريق الشرّ وأن تبتعد عن طريق الخير. وفي ضوء ذلك ، نفهم أن العلم قيمة أساسية في شخصية الإنسان ، وفي حركة الواقع الفكري والعملي ، والتأكيد عليه يمكن أن يؤدّي إلى إطلاق الخلاف العقيدي والسياسي والاجتماعي ، من موقع التنوّع في الاجتهاد القائم على الدليل الذي قد تختلف الأنظار في فهمه ، وبذلك يمكن أن يؤدي الحوار إلى اللقاء على أكثر من قضية من قضايا الخلاف ، وإلى الانفتاح على الحق من أقرب طريق.

من هنا ، يجب التأكيد على ضرورة انطلاق القاعدة من مواقع الاقتناع الفكري بالقيادة ، لا من مواقع التقليد الأعمى لها ، لا سيّما في المسائل التي يمكن للقاعدة أن تأخذ فيها بأسباب المعرفة ، أو من قاعدة الأساس الشرعي الذي يعطي الإنسان الحق في اتباع قيادة مؤهّلة تملك مواصفات معينة يأمن معها من الوقوع في قبضة الضلال ، لما تملكه من العصمة أو العلم أو التقوى أو الإيمان ، مما يجعله ـ أي الإنسان ـ بمأمن من الوقوع في قبضة الضلال ، بحيث يتحول المجتمع إلى ساحة متحركة بالعلم والوعي مع القيادات المؤمنة الواعية التي تنفتح على الله وعلى المسؤولية من خلاله.

* * *

١٦

الآيات

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (٧)

* * *

معاني المفردات

(عَلَقَةٍ) ؛ العلقة : الدم الجامد.

(مُضْغَةٍ) ؛ المضغة : القطعة من اللحم الممضوغة.

١٧

(مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) ؛ تامة الخلقة وغير تامتها ، وقال ابن الأعرابي : مخلقة : قد بدا خلقها ، وغير مخلقة : لم تصوّر.

(أَرْذَلِ الْعُمُرِ) : أحقره وأهونه.

(هامِدَةً) : الأرض التي لا نبات فيها إلا اليابس المتحطّم. وهمود الأرض : أن لا يكون فيها حياة ولا نبت ولا عود ولم يصبها مطر.

(وَرَبَتْ) : زادت وعلت.

* * *

حياة الإنسان والطبيعة دليل على البعث

تحدثت الآية السابقة عن الجدال بغير علم ، ومنشأه فقدان الوعي بالدار الآخرة وعدم التركيز على الجانب الفكري في العقيدة ، لذا جاءت هذه الآيات لتؤكد على الدار الآخرة كحقيقة إيمانية ، وعلى الأسلوب العلمي في الاستدلال عليها ، ليصبح الجدال من موقع العلم ، منفتحا على المسؤولية يوم القيامة.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ) لأنه ليس شيئا منظورا حتى يثبت حسيّا لكم ، وبالتالي فإن وجوده قد يثير الشك لدى من لا يحركون أفكارهم أمام الأشياء غير المألوفة ، في مثل هذه القضية التي يستبعدها الاحتمال ولا يوافق عليها الفكر. ولكن تقريب المسألة إلى الحسّ الإنساني وذلك عند ما نقارب أمثالها من الظواهر المحسوسة في الواقع ، بحيث تصبح إرادة خلق الحياة من التراب الميّت ، وتشكّل إنسان حيّ منه ينمو ويكبر ويتحرّك ، أمرا معقولا إذا ما نظر الإنسان إلى بداية خلقه ، فيصل الفكر بذلك إلى اليقين من مواقع الشك الإيجابي الباحث عن الحق. (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) ميّت تحوّل

١٨

إلى نبات حيّ ، فغذاء يتفاعل مع أجهزة الجسم ، ثم تحول إلى دم (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ) وهي القطعة من اللحم في الطور القابل للمضغ بحسب حجمه ، (مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) أي : تامة الخلق من حيث اكتمال الصورة في الجنين ونفخ الروح فيه ، أو غير تامة من حيث عدم اكتمال الحياة فيه ، (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) أن البعث ليس أمرا بعيدا عن الوقوع ، ففي حياة كل واحد منكم حالة بعث من التراب إلى الحياة ، ولكن الفرق أن البعث فيكم يتحرك بطريقة تدريجية ، بينما البعث في الآخرة يأتي بشكل كامل ودون مقدّمات.

(وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) فتنمو المضغة حتى تتحول إلى كائن حيّ ينمو بواسطة ما نرزقه إياه في الرحم من غذاء يتكامل نموّه (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) أي نخرجكم من بطون أمهاتكم وأنتم أطفال ، وقد ذكرت بصيغة المفرد لأنه مصدر كما قيل ، (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) وهو السنّ الذي تشتد فيها الأعضاء وتتكامل فيها القوّة (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى) وهو في سنّ الشباب ، أو في سن الكهولة التي لا يفقد فيها الإنسان وعيه وقوّته ، (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) وهو أحقره وأهونه ، وهو سنّ الهرم التي يفقد فيها الإنسان قواه ، وربما يفقد وعيه وذاكرته ، (لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) فلا يبقى له من العلم ما يستطيع به إدارة حياته أو تدبير أمره.

(وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً) وهذه صورة أخرى من صور الحياة التي تنطلق من صلب الموت ، حيث يتحوّل التراب الميت إلى قوّة خضراء تزهو بالحياة ، وهي صورة الأرض اليابسة الخالية خلوّا تاما من علائم الحياة والنموّ ، والتي يمر عليها الإنسان عادة دون وجود شيء يستدعي انتباهه فيها ، (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ) الذي ينفذ إلى أعماقها ويسقي البذور المنثورة فيها (اهْتَزَّتْ) وتحرّكت بالنبات الذي يبدأ عملية النمو (وَرَبَتْ) وأخذت تعلو ويزيد ارتفاعها (وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) من أنواع النبات التي تزهو في نضارتها

١٩

فتبهج القلوب والأبصار. وهكذا تخرج الحياة من قلب التراب الميّت.

(ذلِكَ) أي أطوار خلق الإنسان ، وخلق النبات ، وتدبير أمرهما في الحدوث والبقاء ، يوحي بالدليل القاطع (بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) الذي يعطي الحق معناه ، في ما يخلقه من موجودات وأوضاع وأنظمة للكون وللحياة التي لا يقترب إليها الخلل في تكوينها من قريب أو من بعيد ، وذلك من خلال هذا التدبير الدقيق الشامل في كل شيء ، (وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى) وهو ما نستوحيه من صيرورة التراب الميت إنسانا حيّاء ، ومن صيرورة الأرض الميتة بنزول الماء نباتا حيّا. (وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لأن ذلك كله جزء من نظام الوجود الذي يكشف عن شمول القدرة لكلّ شيء.

* * *

بين فكرة البعث وترسيخ الإيمان

(وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها) لا من حيث إمكانها في ذاتها ، لأن القدرة على ما يماثلها دليل على القدرة عليها ، ولا من حيث وقوعها ، لأن الله هو الحق الذي يؤكد الحق في الواقع ، كما يؤكده في وحيه الذي يبلّغه لرسله ، (وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) ليحاسبهم على أعمالهم ؛ إن خيرا فخير ، وإن شرّا فشرّ ، فذلك ما يدفع فكرة عبثية وجود الإنسان ، ويعطي للحياة معنى الحق في ما يمثله من حركة المسؤولية التي تربط النهاية بالبداية ، وتثير المسألة على أساس العناصر الثابتة التي توحي بأنها هي سرّ الوجود في التكليف وفي الجزاء. وهذا ما ينبغي للإنسان أن يستحضره في وعيه لمسألة وجوده ، فلا يرى فيه مجرّد فرصة للهو والعبث ، بل يرى فيه تمثلا لحركة القيم الروحية

٢٠