تفسير من وحي القرآن - ج ٢١

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ٢١

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٦٠

يمكن أن يؤثر تأثيرا سلبيا على صورة الموضوع الحقيقية من جهة ، وعلى حركة واقع المعنيّ بالنبإ أو من حوله من جهة أخرى ، (فَتَبَيَّنُوا) الحقيقة بطريقتكم الخاصة التي تؤدي إلى الوضوح في الرؤية وتبعد كل عناصر الشك ، لأن فسق هذا المخبر قد يدفعه إلى الكذب في أصل الموضوع أو في تفاصيله ، الأمر الذي يفرض العمل على اكتشاف الصدق أو الكذب في كلامه بشكل حاسم ، لئلا يؤدي تصديقه إلى ما لا تحمد عقباه من ظلم الأبرياء والتصرف معهم بغير حق ، (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ) أي لئلا تصيبوا بعض الناس من دون تثبيت أو من دون أساس ، وتكتشفوا بعد ذلك طبيعة الموضوع ، (فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) على ما فعلتموه.

وهذا خطّ أصيل يحكم مسألة قبول الأخبار المنقولة عن الناس ، فلا يجوز قبول الخبر الذي لا يكون محل ثقة بسبب طبيعة المصدر الذي نقله لوجود خلل في استقامته الدينية أو عدم إمكانية الثقة بكلامه ، وبذلك نستطيع أن نعتبر القضية دائرة مدار الوثاقة في النقل لا مدار الالتزام بشكل عام وعدمه ، بعيدا عن مسألة الوثاقة وعدمها ، بحيث يكون الأساس هو فسق الناقل في ما يشتمل مسألة الكذب ، لا في ما يبتعد عنه ، كما في الناس الذين لا يلتزمون الحكم الشرعي في حياتهم العامة والخاصة ، ولكنهم يلتزمون الصدق بشكل عام ..

وقد تحدث الأصوليون في علم أصول الفقه حول دلالة هذه الآية ، بطريق الدلالة المفهومية ، على حجية خبر العدل ، على أساس أن المنطوق قد علّق وجوب التبين على مجيء الفاسق بالنبإ ، ليكون المفهوم عدم وجوب التبين إذا لم يجيء به الفاسق بأن جاء به العدل ، وقد أثير حول ذلك إشكالات كثيرة ، لا مجال للحديث عنها الآن.

* * *

١٤١

الآيتان

(وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَإِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٨)

* * *

معاني المفردات

(لَعَنِتُّمْ) : لوقعتم في العنت ، والعنت : المشقة.

* * *

لو يطيعكم رسول الله في كثير من الأمر لعنتّم

(وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ) الذي جعل الله له النبوّة في ما يبلِّغكم به عن الله ، والقيادة في ما أوكل إليه من إدارة أموركم وترتيب أوضاعكم لمعرفته بالعمق الخفي من مصالحكم ، لأنه ينظر إلى آفاق المستقبل ، بينما تستغرقون أنتم في اللحظة الحاضرة السريعة ، وينفتح على عواقب الأمور بينما ترتبطون ببداياتها ...

١٤٢

لذا عليكم أن تسلّموا إليه كل أموركم ، ولا تكلّفوه إطاعتكم في ما تحبون ، لأن كثيرا مما تحبونه أو تطلبونه لا يرتبط بمصلحتكم الحقيقية في الحياة. وهو (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ) أي لوقعتم في جهد ومشقة بسبب المشاكل التي تثيرها رغباتكم ، تماما كما حدث في مسألة إخبار الوليد بارتداد بني المصطلق وامتناعهم عن أداء الصدقة ، ورغبتكم في إعلان الحرب عليهم على أساس ذلك ، فلو أن النبيّ أطاعكم في ذلك ، لوصل الأمر بكم وبالمسلمين إلى ما لا تحمد عقباه ، بينما كان الموقف الذي اتخذه النبي سببا في منع حدوث المشكلة.

(وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) من خلال الفكر الذي انفتحتم فيه على الله ، وعرفتم فيه مواقع الخير في حركة القيادة في خط الرسالة ، وانطلقتم معه إلى الآفاق الرحبة المفتوحة على مواضع رضى الله ولطفه ورحمته ، وعشتم الطمأنينة الهادئة المستقرة في أعماق قلوبكم ، ورأيتم في ذلك كيف يمكن أن تكون طاعة الرسول هي سبيل الهدى والرشاد والنجاة ، وبذلك كان حب الإيمان واتخاذه موضع الزينة في قلوبكم ، حركة في الحق وانطلاقة في الخير.

(وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ) بما أودعه في وعيكم الروحي والعقلي من معرفة نتائج الأعمال السلبية ، التي تفتح لكم أبواب النيران ، وتغلق عنكم أبواب الجنان ، وبما أثار فيكم من وعي الحقيقة المرتبطة بالله التي يطل عليها الإيمان ، في مواجهة الباطل الذي يطل عليه الكفر والفسوق والعصيان ، الذي يسيء إلى الحياة والإنسان ويرميكم في بحار المشاكل الروحية والمادية التي لا عدّ لها ولا حصر ، وهذا جعلكم ممن انفتحوا على رشد الإيمان ، (أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) الذين انطلقوا من الفطرة التي تلتقي بالحقيقة كلها من خلال ينابيع الصفاء والوجدان.

(فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً) لا يدانيه فضل ، ولا تقترب منه نعمة ، لأنه طريق الخلاص في الدنيا والآخرة ، (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) فهو الذي يعلم بمواقع الخير في فضله ونعمه ويعمّق الحكمة في كل عطاياه.

* * *

١٤٣

الآيتان

(وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (١٠)

* * *

معاني المفردات

(بَغَتْ) ؛ البغي : الظلم والتعدي بغير حق.

(تَفِيءَ) : ترجع.

(وَأَقْسِطُوا) : اعدلوا.

* * *

واجب الإصلاح بين المؤمنين

للمجتمع الإسلامي أخلاقيات تحكم علاقات الناس فيه ، هدفها المحافظة

١٤٤

على وحدته وسلامته ، ومنها الإصلاح في ما يتنازع فيه الناس ويتقاتلون عليه ، والوقوف ضد الباغي عند ما يتمرد البعض فيه على الآخرين ، والحكم بينهم بالعدل في مجال الصلح والحسم ، واعتبار الأخوّة علاقة أساسية بين المؤمنين ، بحيث يتحملون مسئولية الإصلاح على خط التقوى الذي يشمل كل أوضاعهم وعلاقاتهم.

(وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) كما يفعل الناس عادة جرّاء خلافهم حول القضايا الخاصة أو قضايا المال أو الرأي أو العرض أو العصبية أو نحو ذلك ، عند ما يدخل الشيطان بينهم ويثير العداوة والبغضاء ويؤدّي بهم ذلك إلى حمل السلاح ضد بعضهم البعض ، (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) بالوسائل التي تملكون تحريكها في جمع الشمل ولمّ الشعث وتأليف القلوب وتقريب المواقف أو توحيدها ، وقد وضع الإسلام الإصلاح بين المؤمنين في مرتبة عليا تتقدم على المستحب من الصلاة والصيام ، وقد بلغ الاهتمام به حدا كبيرا بحيث أجاز للمصلحين الكذب إذا توقف الإصلاح عليه.

(فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى) وامتدّت بالعدوان ، فلم تقبل بالصلح ولم ترجع إلى ما تملكه من مواقع الحق (فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) من الوقوف عند الحق أو القبول بالصلح ، لأن إبقاء الأمور معلّقة في المجتمع ، وعدم اللجوء إلى ما يلغي الخلافات من موقف حاسم تتخذه القوّة الاجتماعية على مستوى القيادة أو القاعدة ، قد يهدِّم قواعد المجتمع ، ويدفع به إلى الانهيار ، ويجعل الإسلام في موقع الخطر. وهذا ما جعل الأمر بالقتال موجها إلى أفراد المجتمع كله على نحو الوجوب الكفائي الذي إذا قام به البعض سقط عن الكل ، وإذا تركوه أثموا جميعا.

(فَإِنْ فاءَتْ) ورجعت الطائفة المعتدية إلى أمر الله ، (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ) وذلك بالرجوع إلى الأحكام الشرعية المجعولة في موارد الخلاف (وَأَقْسِطُوا) بينهما ليأخذ كل فريق منهما ما يملكه من حق ، أو ما يفرضه الصلح في ما يتراضيان به ، (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) الذين يعملون على أساس تحقيق

١٤٥

التوازن بين أفراد المجتمع ، وإرجاع القضايا إلى نصابها الطبيعي ، وإعطاء كل شخص ما يستحقه ، لأن ذلك هو ما يجعل الناس خاضعين لأوامر الله ونواهيه ، وهو ما يمنحهم محبته ورضوانه ويقربهم إليه.

* * *

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) فقد جعل الله الإيمان من أسس الأخوّة ، تدخل في إطاره الحقوق التي فرضها للأخ على أخيه ، فإن الإيمان لحمة كلحمة النسب ، وقد كثرت الأحاديث التي تؤكد على أن «المؤمن أخو المؤمن عينه ودليله ، لا يخونه ولا يظلمه ولا يغشه ولا يعده عدة فيخلفه» (١) ، وأن «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يغشه ولا يخذله ولا يغتابه ولا يخونه ولا يحرمه» (٢).

والمراد بالمؤمن في كل موارد القرآن ، المسلم الذي عاش الإيمان عقيدة في قلبه والتزم بالإسلام في حياته ، مما يجعل الوحدة بين المسلمين تترسخ عبر الأخوة الإسلامية الإيمانية التي جعلها الله قاعدة للعلاقة فيما بينهم.

وإذا كان المؤمنون إخوة ، فإن النداء الإلهي يتوجه إليهم جميعا ليصلحوا (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) باعتبار أن الإصلاح من حقوق المؤمنين على بعضهم البعض ، ومسئوليتهم في الحياة الاجتماعية الإسلامية ، التي يعتبر الجميع معنيين بتوازنها وتماسكها واستقامتها في خط الصلاح والإصلاح والوحدة ، (وَاتَّقُوا اللهَ) في كل أموركم وعلى مستوى العلاقات كي لا تختلفوا بالباطل ، وفي خلافاتكم لتحلّوها على قاعدة التقوى المرتكزة على شريعة الله في ما جعله الله من الحقوق في الحياة العامة والخاصة للناس ، (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) لأن الله جعل

__________________

(١) الكليني ، أبو جعفر ، محمد بن يعقوب ، الكافي ، دار الكتب الإسلامية ، طهران ، ج : ٢ ، ص : ١٦٦ ، رواية : ٣.

(٢) (م. ن) ، ج : ٢ ، ص : ١٦٧ ، رواية : ٩.

١٤٦

رحمته للمتقين والملتزمين بالسير على خط رضاه ، ولمن يلتزمون شريعته في أوضاعهم الفردية والاجتماعية ، لأن ذلك سبيل الوصول إلى النتائج الإيجابية على مستوى السلامة العامة للحياة ، الأمر الذي يربط الناس بالإسلام من خلال الرحمة الإلهية في شريعته ، واللطف الإلهي في رحمته ورضوانه.

* * *

١٤٧

الآية

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (١١)

* * *

معاني المفردات

(تَلْمِزُوا) ؛ اللمز : التنبيه إلى المعايب.

(تَنابَزُوا) ؛ النبز : القذف باللقب.

* * *

(لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ)

لكلّ إنسان في المجتمع المسلم احترامه ، فليس لإنسان أن يسيء إلى حرمة إنسان آخر فيه بقول كلمات تسيء إلى كرامته أو تؤذي مشاعره ، سواء كان

١٤٨

ذلك من خلال مضمونها ، أو من خلال طريقة قولها ، أو استخدام الإشارة بأسلوب يوحي بالإذلال والانتقاص. وعلى ضوء ذلك ، حرّم الإسلام السخرية التي يمارسها بعض الناس ضد بعضهم الآخر لشعورهم بالتفوّق عليهم في بعض الصفات ، أو في بعض الأفعال ، أو في بعض المواقع العامة والخاصة ، مما يتفاضل به الناس في درجاتهم وأوضاعهم ، الأمر الذي يوحي إلى صاحب الصفة الجيّدة بالعلوّ على فاقدها ، ويدفعه إلى احتقاره باعتباره الأقلّ درجة منه ، ويؤدّي به إلى السخرية والهزء به ، وهذا ما تعالجه هذه الآية.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) والتزموا الإيمان قاعدة للسلوك في الحياة والعلاقات العامة (لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ) في مجتمع الرجال الذين يشعرون بالفضل على غيرهم ، فيدفعهم ذلك إلى احتقار الآخرين والنظر إليهم من فوق ، وذكر صفات توحي بتحقيرهم ، سواء بقول أو إشارة أو فعل تقليد ، بحيث يحمل الآخرين على الضحك مثلا ، (عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ) لأن الساخر إذا كان يفضل على الآخر بصفة ، فقد يكون أقلّ منه درجة بلحاظ صفة أخرى يفقدها هو ، مما يتصف به الشخص الذي يسخر منه مما يمكن أن يرفع شأنه في الدنيا والآخرة ، ويكون مقرّبا من الله على أساسها ، فيكون قد سخر ممن هو خير منه. لذا فلا بدّ للنظرة من أن تكون شاملة لجميع الجوانب العامة والخاصة للناس ، حتى يستطيع الإنسان دراسة القيمة التي يخضع لها تفضيل شخص على آخر ، أو جماعة على أخرى.

(وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ) في المجتمع النسائي (عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَ) فإذا سخرت المرأة الجميلة من امرأة قبيحة ، لشعورها بالتفوّق الجمالي عليها ، فقد تكون تلك المرأة خيرا منها لجهة ما تملكه من قوة الذكاء أو الشخصية أو المعرفة العلمية ، ونحو ذلك ...

* * *

١٤٩

لا تلمزوا ولا تنابزوا

(وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) بالتحدث عن معايبكم ، فكأن الإنسان يذكر نفسه بالسوء عند ما يذكر أخاه بالسوء انطلاقا من وحدة المجتمع وتكامله على تنوّع أفراده ، (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) بأن يذكر أحدكم الآخر بلقب يوحي بذمه مما ينكره الناس ، أو يذكره بما يكرهه من ألقاب لاصقة به بطريقة أو بأخرى ، لأن ذلك يؤذي الناس ويسيء إليهم ويضغط على مشاعرهم وكرامتهم في المجتمع ، (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) فإن السخرية بالناس وذكرهم بما يسيء إليهم ، يوجب اتّصاف الذاكر لهم بذلك والساخر منهم بصفة الفسق التي لا تتناسب مع صفة الإيمان التي يتمثلها في نفسه ، فكيف يستبدل الإنسان بهذه الصفة الشريفة صفة مخالفة لها؟!

وقيل : إن المعنى : بئس الذكر ذكر الناس ـ بعد إيمانهم ـ بالفسوق ، فإن الحريّ بالمؤمن بما أنه مؤمن ، أن يذكر بالخير ولا يطعن فيه بما يسوؤه ، نحو : يا من أبوه كذا ، ويا من أمه كانت كذا ، والمعنى الأول أقرب ، لأن الظاهر أنها واردة في مجال التحذير من ذلك بلحاظ ما يترتب عليها من نتائج سلبية.

(وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) الذين ظلموا أنفسهم بالمعصية وظلموا غيرهم بالسخرية والإساءة ، مما يجعلهم في موقع الظالمين في العقوبة والدرجة السفلى عند الله سبحانه.

وهذه بعض الضوابط التي تحفظ توازن السلوك الإنساني في العلاقات الاجتماعية ، التي يراد بها إيجاد حالة من الاستقرار النفسي والعملي الذي يفتح للمجتمع باب السلام ، ويحقق له الثبات على قاعدة العدل واحترام إنسانيته.

* * *

١٥٠

الآية

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) (١٢)

* * *

معاني المفردات

(يَغْتَبْ) ؛ الغيبة : ذكر عيب إنسان بظهر الغيب ، بالطريقة التي تسقط مكانته ، وتسيء إلى كرامته.

* * *

اجتناب الظن

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِ) الذي يمثل حالة وجدانية منفعلة برؤية خالية من الوضوح ، متعلقة بحدث أو بشخص في ما تثيره من انطباعات فكرية في مجال التقييم ، أو من أحكام عملية في مجال السلوك الواقعي ، أو في ساحة المسؤولية ، دون أن يكون هناك أساس يقينيٌّ يقطع الشك ويبتعد عن

١٥١

الريب ، (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) لأن كثيرا من الخواطر التي تخطر بالبال ، أو التي تبدو على سطح الأحداث ، أو تتحرك بها بعض المعطيات غير الدقيقة أو غير الموثوقة ، لا تتناسب مع طبيعة واقع الحدث أو الشخص ، لأن أيّة حالة غير يقينية ، لا بد من أن تحمل الكثير من الأخطاء والأوهام التي لا ترجع إلى قاعدة صواب ، مما يجعل الاعتماد عليها اعتمادا على الباطل ، وهو خطيئة في طبيعته أو في آثاره ، الأمر الذي يستلزم اجتناب كثير من الظنون التي لا يعرف فيها وجه الحق ، في ما يتميز به الحق عن الباطل ، حتى لا يقع الناس في الظنون الباطلة ، ويبقى أن يلاحق الفكر الظنّ بالبحث والاستقصاء للوصول إلى النتيجة الحاسمة التي تطلّ على الحقيقة.

وهذه القاعدة تضمن للمجتمع استقراره النفسي ، عند ما يعيش أفراده الشعور بأنهم لا يواجهون الأحكام أو الانطباعات السلبية البعيدة عن الدقّة من قبل الآخرين ، وعند ما يتوخى المؤمنون الدقّة في دراسة الحيثيات الموثوقة ، في ما يحكمون به على الناس أو ما يحملونه من انطباعات عنهم.

وقد جاء في الأحاديث المأثورة التأكيد على حمل المؤمن على الأحسن أمام ظنّ السوء ، وذلك للإيحاء بالجانب الإيجابي من شخصيته ، بدلا من الاستغراق في الجانب السلبي الذي يوحي بالاتهام أو الحكم بالسوء. ولعلنا نحتاج إلى التوضيح بأن ذلك لا يعني الحكم على أساس الجانب الإيجابي الذي لا يقين فيه ، بل المقصود توجيه النظر إلى الجانب الإيجابيّ كاحتمال معقول يمنع عن الحكم المرتكز على الظن ، كما ورد في الحديث المروي عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام في ما رواه عن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام قال : «لا تظنَّنَّ بكلمة خرجت من أحد سوءا ، وأنت تجد لها في الخير محتملا» (١) ، مما يوحي بأن الاحتمال الواحد في المائة لا بد من أن

__________________

(١) نهج البلاغة ، ضبط نصّه : د. صبحي الصّالح ، دار الكتاب اللّبناني ، بيروت ـ لبنان ، ١٩٨٢ م ، قصار الحكم : ٣٦٠ ، ص : ٥٣٨.

١٥٢

يوقف المؤمن عن الحكم بنسبة التسعة والتسعين بالمائة ، فلعل الحق في الواحد ، ولكن ليس معنى ذلك أن يكون المؤمن ساذجا لا يحذر من الاحتمالات المضادة. وورد في نهج البلاغة عن الإمام علي عليه‌السلام : «إذا استولى الصلاح على الزمان وأهله ، ثم أساء رجل الظَّنَّ برجل لم تظهر منه حوبة ، فقد ظلم! وإذا استولى الفساد على الزمان وأهله ، فأحسن رجل الظَّنَّ برجل ، فقد غرَّر» (١).

* * *

حرمة التجسس

(وَلا تَجَسَّسُوا) بالبحث عن أسرار الآخرين الخفية ، مما لا يريدون اطلاع الناس عليه من قضاياهم الذاتية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو العسكرية وغير ذلك ، لأن الله أعطى الحياة الخاصة حرمة شرعية لم يجز للغير اقتحامها ، وجعل للإنسان الحق في منع غيره من الاعتداء أو التلصّص عليها بأيّة وسيلة من وسائل المعرفة الظاهرة أو الخفية.

وقد يكون من الضرورة التنبيه على أن هذا المبدأ الاجتماعي لا يشمل الحالات التي تمس فيها المصلحة العليا للإسلام والمسلمين والتي قد تستدعي الاطلاع على بعض الأوضاع الخفية للأشخاص والمواقع والأحداث المتعلقة بالآخرين ، مما يخاف ضرره ، أو يراد نفعه ، أو يركز قاعدته ، فيجوز لوليّ أمر المسلمين اللجوء إلى هذا الأسلوب في نطاق الضرورة الأمنية والسياسية والاقتصادية ، انطلاقا من قاعدة التزاحم بين المهمّ والأهمّ ، لتغليب المصلحة التي تقف في مستوى الأهمية القصوى على المفسدة الناشئة من التجسس ، فإن حرمة المسلمين تتقدم على حرمة الشخص أو الأشخاص في ذلك كله.

* * *

__________________

(١) نهج البلاغة ، قصار الحكم : ١١٤ ، ص : ٤٨٩.

١٥٣

حرمة الغيبة

(وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً).

وهذه هي إحدى الحرمات الاجتماعية العامة التي يراد من خلالها تقييد حرية الإنسان في التحدث عما يعرفه من عيوب الآخرين الخفية ، لأن الله جعل للمؤمن الحق في حماية نفسه من ذلك ، مما يجعل المعرفة في هذا المجال أمانة شرعية لا يجوز له أن يحرّكها في الدائرة الإعلامية إلّا بإذن من صاحب العيب نفسه ، أو من الله سبحانه باعتبار أنه وليّ الأمر كله.

وقد يكون أساس تحريم الغيبة خاضعا لنقاط ثلاث :

الأولى : التأثير السلبي على كرامة الإنسان المؤمن والانتقاص منه بإظهار عيوبه الخفيّة التي لا يعرفها الناس ، في الوقت الذي لا يملك الدفاع فيه عن نفسه ، أو تفسيره بالطريقة التي قد تعطيه عذرا فيه ، أو تخرجه من دائرة العيب بسبب بعض الخصوصيات التي لا يعرفها الناس في طبيعة الموضوع ، مما يجعل من الغيبة لونا من ألوان الحكم على الأشخاص دون إعطائهم حق الدفاع عن أنفسهم ، وبذلك يفقد هؤلاء الشعور بالاستقرار النفسي والعملي في حياتهم الخاصة ، فيبتعد المجتمع عن الحياة المتوازنة التي تتيح لأفراده الشعور بالثقة والحماية من اعتداء الآخرين على حرياتهم وحرماتهم الخاصة ، فقد يكون إفشاء أسرار العيوب أكثر خطورة من الاعتداء على المال أو نحو ذلك.

الثانية : الأثر الاجتماعي السلبي الذي يشيع العيوب في المجتمع بمستوى يخيَّل فيه للأفراد أن الجوّ مشحون بالسلبيات ، مما يترك تأثيرا على الذهنية العامة بما تخلقه من انطباع عام بأن الخير قليل في الحياة الإنسانية ، وأن الشر يشمل الجوّ كله ، الأمر الذي يثير في النفس الإحساس بأن الخير أمر غير واقعي في مقابل واقعية الشرّ وقوّته.

الثالثة : الأثر العدواني الذي يثيره في نفس ضحيّة الغيبة ، بسبب ما تتركه

١٥٤

من أثر سلبي على سمعته ومركزه بين الناس ، مما يؤدّي إلى تعقيد علاقاته بمن اغتابه وإلى تعقيد العلاقات في مجتمع هذا وذاك ، وينتهي ، بالتالي ، إلى العداوة والبغضاء والتقاتل والتناحر.

وقد صوّر الأسلوب القرآني رفض هذا السلوك بطريقة تصوير تخييلية فظيعة تثير النفور في النفس بصورة عفوية ، باعتبارها تجسيدا حيّا لوحشية هذا التصرف الذي يرفضه الوجدان الإنساني على مستوى الفرد والجماعة ، لإثارة النفور في الوجدان العام من ذاك السلوك. (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ) ونبذتموه وأخرجتموه من المجتمع لئلا تنتقل منه العدوى إلى أفراده ، ولأن درجة وحشيته لا تترك مجالا للاعتراف بإنسانيته لفظاعة الصورة ، وأيّة صورة أفظع من صورة الإنسان الذي يموت أخوه أمامه ، ثم يأتي بالسكين ليقطع من لحمه ، ويلتهمه قطعة قطعة ، في حالة سرور وفرح؟!

وقد لا تكون هذه الصورة هي ما يواجهه الناس في مسألة الغيبة بالحسّ ، ولكنها تحمل المواصفات نفسها بالإيحاء ، فإن الغائب كالميت في عجزه عن الدفاع عن نفسه ، كما أن أخوّة الإيمان كأخوّة النسب في المفهوم القرآني ، وكرامة الإنسان كلحمه ، مما يجعل الأكل من كرامته والاعتداء عليها ، كالأكل من لحمه ، بل قد يكون أكثر تأثيرا في الواقع من ذلك ، فإذا كنتم تكرهون الصورة الأولى لوحشيتها الحسيّة ، فاعملوا على أن تكرهوا الصورة الثانية في وحشيتها المعنوية.

(وَاتَّقُوا اللهَ) في ما تريدون أن تمارسوه منها في المستقبل ، كما أن عليكم أن تتقوا الله في ما مارستموه في الماضي ، لتتوبوا إليه توبة تغلق ملف الماضي ، وتفتح ملف التغيير في المستقبل ، (إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) في ما جعله على نفسه من قبول التوبة من مواقع رحمته ، ومن محبته للتوّابين من خلال الروحية المخلصة لله في ذلك.

* * *

١٥٥

مستثنيات حرمة الغيبة

وإذا كان الله قد حرّم الغيبة للأضرار الناجمة عنها على مستوى الفرد والمجتمع ، فقد ذكر الفقهاء بعض الاستثناءات في الموارد التي قد تكون المصلحة فيها في جانب الغيبة أكثر من المفسدة التي تختزنها ، وبذلك تتدرج المسألة في هذه الموارد في دائرة الفكرة التي تثيرها الآية الكريمة الواردة في الخمر والميسر ، وهي قول الله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) [البقرة : ٢١٩] ، مما يوحي بأن كل شيء كانت مفسدته أكثر من منفعته كان حراما ، وبأن كل شيء كانت منفعته أكثر من مفسدته كان حلالا.

ويذكر الفقهاء نماذج من ذلك ، منها : النصيحة للناس ، فقد يحتاج كثير من الأفراد والجماعات إلى النصيحة في القضايا المتصلة بالعلاقات العامة والخاصة في مسائل الزواج والمشاركة والمسؤولية ، ما قد يفرض الحاجة إلى التعرف على مواصفات الأشخاص المعنيين بالموضوع في عيوبهم الشخصية ونقاط ضعفهم العامة ، لتفادي الوقوع في المشاكل المستقبلية إذا قدّر للعلاقة أن تنشأ معهم ، ليكتشفوا العيوب بعد ذلك ، فتكون الغيبة في هذه الدائرة أسلوبا وقائيا يمنع المشاكل قبل حدوثها ، ويجنّب المجتمع من الوقوع في المهالك المرتقبة.

ومنها حالة الظلم التي يحتاج فيها المظلوم إلى الحديث عن ظالمة بعيوبه الخفية المتصلة بمسألة الظلم ، على رأي بعض ، ليرفع الظلم عن نفسه بذلك ، أو في مطلق عيوبه ، على رأي بعض آخر ، ليملك فرصة الدفاع عن نفسه بالهجوم على ظالمة والضغط على سمعته في نقاط ضعفه ، ليتراجع عن ظلمه ، أو ليضغط الآخرون في ذلك ، وهذا ما نستوحيه من قوله تعالى : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) [النساء : ١٤٨] في ما استثناه من كلام المظلوم بالسوء ضد ظالمة.

ومنها : الحالات التي قد يكون فيها التستر على عيب الشخص مصدر

١٥٦

خطر على المجتمع ، لأن العيب قد يؤثر تأثيرا سلبيا على سلامته ، كما إذا كان هذا الشخص جاسوسا خفيا للأعداء الذين يكيدون للأمة أو للشخص البريء ، مما يجعل من إخفاء صفته خطرا محققا على سلامة الفرد أو المجتمع ، أو لأن إخفاء العيب يؤثر على نفس صاحبه ، باعتبار أن ظهوره قد يدفعه إلى إصلاحه ، وإلى تغيير موقفه أو شخصيته ، فتكون الغيبة مصدر خير له ، كما تكون مصدر سلامة وخير للفرد والمجتمع في الفرضية الأولى.

وهناك نماذج أخرى مماثلة لهذه النماذج ، مذكورة في كتب الفقه ، كما أن هناك خطا عاما في ما ذكرناه قد يفتح القضية على أكثر من نموذج في حركة الواقع على صعيد ما يكشفه المستقبل من قضايا. ولكن هذه الاستثناءات لا تلغي القاعدة ـ وهي حرمة الغيبة ـ بشكل عام ، بالمستوى الذي جاءت به الأحاديث بأنها من الكبائر التي يستحق عليها المذنب دخول النار (١) ، مما يفرض على الإنسان أن يتقي الله في سلوكه من هذه الناحية لتقوده التقوى إلى الابتعاد عنها.

* * *

من هم الذين تحرم غيبتهم؟

تحدّث الفقهاء عن الأشخاص الذين تحرم عيبتهم ؛ هل هم كل المؤمنين بالله الملتزمين بخط الإسلام ، أم جماعة معينة منهم فقط؟ ولكننا نلاحظ أن

__________________

(١) جاء في الدر المنثور أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «الغيبة أشد من الزنى ، قالوا : يا رسول الله ، وكيف الغيبة أشد من الزنى؟ قال : إن الرجل ليزني فيتوب ، فيتوب الله عليه ، وإن صاحب الغيبة لا يغفر له حتّى يغفرها له صاحبه». [الدر المنثور ، ج : ٧ ، ص : ٥٧٦]. وجاء في حديث الإمام الصّادق عليه‌السلام أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «الغيبة أسرع في دين الرجل المسلم من الآكلة في جوفه». [الكافي ، ج : ٢ ، ص : ٣٥٦ ، رواية : ١].

١٥٧

القرآن أعطى القاعدة العامة في ثبوت الحرمة الشرعية لكل المؤمنين ، وهم كل من دخلوا في الإسلام عن قناعة ، بعيدا عن الجانب المذهبي الخاص في ما يتعلق بتفاصيل العقيدة.

وإذا كانت الآية مختصة بالمسلمين المؤمنين ، فقد نستوحي أنها مسألة تتصل بالأخلاق الاجتماعية العامة ، كقيمة إنسانية شاملة ، باعتبارها من القضايا التي تتصل بالسلامة العامة للمجتمع ، ولا يقتصر الأمر فيها على مجموعة معينة ، بل تشمل الجميع ، كغيرها من الأخلاق الإنسانية التي لا تختص بموقع دون موقع. ولكن بعض الفقهاء يرى أن مسألة حرمة الغيبة تتصل بالاحترام الذي يكتسبه الشخص من موقع الإيمان ، مما يجعلها مرتبطة بالعنصر الإيماني ، لا بالعنصر الإنساني ، فلا حرمة لغير المؤمن ، وبذلك ، فإنها لا تشمل الكافرين.

وهذا ما ينبغي التدقيق فيه وفي غيره من قواعد السلوك الاجتماعي في الإسلام ، لنعرف جيدا ، هل أن القضية تمثل الشمول في المعنى الإنساني أم أنها تمثل حالة من حالات القيمة المحدودة في موقع خاص؟!

ونلاحظ في هذا التسلسل في الآية ؛ من الظنّ ، إلى التجسس ، إلى الغيبة ، أن القضية خاضعة للناحية الواقعية للمسألة ، فإن الإنسان يظن بالآخرين السوء ، فيدفعه ذلك إلى التجسس الذي يطّلع من خلاله على عيوبهم ، فيقوده ذلك إلى الغيبة ، على أساس الروحية المعقّدة القلقلة التي توحي بذلك كله.

* * *

١٥٨

الآية

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (١٣)

* * *

(وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا)

وهذه قاعدة إسلامية في النظرة العامة إلى الناس على اختلاف ألوانهم وقومياتهم وخصوصياتهم العائلية والجغرافية ، فهي ، في الوقت الذي تؤكد فيه على جانب التنوّع في الخصوصيات العرقية واللغوية والنسبية والجغرافية ونحوها بما يستتبعه من اختلافات على مستوى الواقع ، فإنها لا تمنح أي نوع قيمة خاصة ترسم الفواصل بين الإنسان والآخرين ، وتقوده إلى استعدائهم أو محاولة السيطرة عليهم بأي عنوان عرقي أو قومي ، بل إن تنوّع الخصوصيات وسيلة من وسائل التعارف باعتبار حاجة كل فريق إلى ما يملكه الفريق الآخر من خصوصيات فكرية وعملية ، ليتكامل الاثنان في صيغة إنسانية متنوّعة ، بحيث يكون التعارف غاية التنوع ، بدلا من التحاقد والتناحر والتنازع ، ثم تكون القيمة في التقوى التي تعبِّر عن مضمون الشخصية المؤمنة العاملة في خط الصلاح ، في ساحة رضوان الله ، في ما يلتزمه الإنسان من تقوى الله.

١٥٩

(يا أَيُّهَا النَّاسُ) الذين تختلفون في ألوانكم وقومياتكم وخصائصكم الأخرى التي تتنوع فيها ملامحكم وأشكالكم ، (إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) يلتقيان في كونهما نفسا إنسانية واحدة ، ويختلفان في خصائص كل منهما الذاتية التي تتكامل وتتّحد وتتفاعل لتكوّن الإنسان الواحد الذي هو ثمرة الوحدة في التنوّع ، مما يجعل الإنسانية تمتدّ من موقع الوحدة والتمايز الذي لا يلغي الخصوصية ولكنه يوحّدها.

(وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ) في ما يختلف فيه الناس من خصائصهم اللونية أو العرقية أو اللغوية ، أو خصائصهم النسبية من اختلاف الآباء والأجداد ، (لِتَعارَفُوا) ، فذلك هو الهدف الذي يجب السعي إلى اللقاء عنده والتطلع نحوه ، كغاية من غايات الوجود الإنساني المتنوّع ، مما يعني البعد عن تأكيد الذاتية وما يفصل الناس عن بعضهم البعض ، والانفتاح على الطبيعة الواحدة التي تحتضن تنوع البشر أجناسا وشعوبا وقبائل ، فالتعارف أمر إنساني غايته إغناء التجربة الإنسانية بالمعرفة والتجربة المتنوعة للوصول إلى التكامل الإنساني.

ولكن اختلاف أي جنس عن جنس آخر ، لا يعطيه ، ولأي سبب ، قيمة روحية تقرّبه إلى الله ، لأن الله هو خالق جميع الناس بكل خصوصياتهم ، فلا معنى لأن يقرّب إليه بعضهم لخصوصية معينة لم يصلوا إليها بجهدهم ، بل وهبهم إياها لتحقيق ما قضى به من تمايز بين البشر ، فالقيمة الروحية التي يتقرب بها الإنسان إلى ربه ، هي التجسيد العملي للتقوى الفكرية والسلوكية ، لذلك ف (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) لأن التقوى هي حالة انفتاح روحي دائم على الله ، وإرادة التزام جديدة بأوامره ونواهيه ، وعملية تجسيد حيّ لعبودية الإنسان لربّه ، مما يجعل حركة الإنسان في وجوده سائرة في اتجاه رضوان الله ، ويوحي بالقرب الروحي منه بحيث يتطلع إلى الحصول على الكرامة الإلهية في مغفرة الله ورحمته ورضاه.

والتقوى بهذا المعنى ، هي الخط الذي يحقق للإنسان الإحساس الدائم بالحضور الإلهي في كل أعماله وأقواله ، بحيث يكون مشدودا إلى الله في كل

١٦٠