تفسير من وحي القرآن - ج ٢١

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ٢١

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٦٠

أوقاته ، ويبني له ضميره الواعي ، وشخصيته الإسلامية الملتزمة ، ويؤكد على أن القيمة الإنسانية التي تمثل أساسا للتكريم ، هي العمل في الخط المستقيم المنفتح على الله وعلى الحياة وعلى الإنسان من موقع المسؤولية ، ليكون العمل هو القيمة ، لا خصوصيات شخصية الإنسان.

(إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) في ما تلتزمون به من الحدود الشرعية في خطوط الحلال والحرام ، بحيث لا تتجاوزونها إلى غيرها مما تفرضه عصبياتكم القومية والعرقية والجغرافية ونحوها.

* * *

هل الإسلام يلغي الخصوصيات الإنسانية؟

لكن هل يعني ذلك رفض الخصوصيات الإنسانية؟ هنا يبرز سؤال يبحث عن إجابة: ما هي نظرة الإسلام إلى الخصوصيات على المستوى القومي والعرقي أو الجغرافي ، هل يقف موقف الرفض لكل صفة إنسانية خاصة غير التقوى أم يتجاوب معها في حدود معقولة؟

الجواب عن ذلك ، هو أنَّ إلغاء الخصوصيات لا يمثل أمرا واقعيا ، لأن الإلغاء لا يغيّر شيئا من طبيعة المسألة الذاتية ، أو من تأثيراتها الموضوعية ، باعتبار أن تلك الخصوصيات تدخل في تكوين الذات في العمق ولا تمثل حالة هامشية ، مما يجعل وجود الخصوصيات مشكلة غير قابلة للحل ، كما أن العمل على إلغائها يضاعفها عمليا ونفسيا.

وعلى ضوء ذلك ، فإن الإسلام يشجع على تحريك الخصوصيات في دائرتها الداخلية بجانبها الإيجابي الذي يدفع الإنسان إلى التفاعل عاطفيا وعمليا مع من يشاركونه تلك الخصوصيات والقضايا المتعلقة بها ، ولكن بشرط أن لا تتحول تلك المشاركة إلى عقدة عصبية تأخذ بعدا عدوانيا تجاه الآخرين ، بحيث تبتعد عن الخط الذي وضعه الإسلام في تشريعه للقاعدة التي تقوم عليها

١٦١

العلاقات وتتحرك على أساسه مشاريعها العامة والخاصة ، بحيث تصبح الخصوصيات فاصلا يفصل كل فئة عن الناس الذين لا يشاركونها فيها.

إن الخصوصيات الإنسانية تمثل حالة ذاتية ككل حالات الإنسان الذاتية الأخرى التي يتعامل معها من منطق الاعتراف بها كحقيقة موضوعية في وجوده ، ولكنها لا تمثل ميزانا للتقييم تخضع له حركة الإنسان في علاقاته ومعاملاته وأوضاعه العامة ، فميزان التقييم الحقيقي هو العمل الذي يمثل خط حياة الإنسان في كل شؤونه. وهكذا ، فإنّ الخصوصيات تمثل إطار الشخصية ، ولكن الصورة التي توضع داخل الإطار هي مقياس القيمة ، ولعلّ أبلغ تعبير عن هذه الفكرة ، ما ورد في الحديث عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام حول العصبية قال إن «العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيرا من خيار قوم آخرين ، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه ، ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم» (١).

وإذا كانت الآية تعتبر التعارف عنوانا لتأكيد التنوع في خصوصياته ، فإن معناها هو أن الخصوصيات تفرض نفسها على ساحة العلاقات في الواقع ، ليعيش الجميع بعد ذلك ، أو من خلال ذلك ، في دائرة التقوى التي تتجاوز الخصوصية في واقعيتها إلى القيمة في حركتها الإيمانية.

* * *

__________________

(١) الكافي ، ج : ٢ ، ص : ٣٠٨ ، رواية : ٧.

١٦٢

الآيات

(قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٦) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٧) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (١٨)

* * *

معاني المفردات

(يَلِتْكُمْ) : ينقصكم.

* * *

١٦٣

الفرق بين الإيمان والإسلام

هل هناك فرق بين الإسلام والإيمان ، أم أنهما كلمتان مترادفتان ، فكل مسلم مؤمن ، وكل مؤمن مسلم؟

إنّ هذه الآيات تعطي الجواب عن هذا السؤال وتؤكد أن الإسلام يمثل في مفهومه الانقياد العملي ، والتسليم الطوعي ، والانسجام الشكلي مع أوامر الله ونواهيه ، بحيث يصبح الشخص جزءا من المجتمع المسلم بما يفرض عليه من حقوق وواجبات ، سواء جاء إسلامه نتيجة ظروف خارجية ضاغطة ، كحال من يدخل في الإسلام رهبة من نتائج وقوفه في الجانب المضاد ، أو جاء رغبة وطمعا في الأرباح والمكاسب التي يمكن أن يحصل عليها من إسلامه ذاك ، إلى غير ذلك من الدوافع التي قد تشكل سببا لدخول الناس في الإسلام.

فالله لم يجعل الإيمان شرطا للدخول في الإسلام ، بل ارتضى لهم أن ينسجموا مع الجو الإسلامي العام ، وأن يدخلوا في مجتمع المسلمين ، ويخرجوا من مجتمع الكافرين ، لأن هدفه أن يجمع الناس حوله ، ليضعف قوّة الكفر أو الشرك بشكل عملي ، وليبدأ عملية التوعية والتربية الروحية والفكرية والتوجيه العملي من داخل الأجواء الإسلامية ، ليبني قناعة الناس بالإسلام ، أو ليبعدهم ـ على الأقل ـ عن مجتمع الكفر ، مع دعوته الدائمة للحذر منهم ، ليكون المسلمون المؤمنون على حذر دائم ويقظة مستمرة.

أمّا الإيمان ، فإنه قناعة فكرية وروحية يجسدها السلوك الخارجي عملا ، ليكون قناعة في الفكر ، وشهادة باللسان ، وحركة في العمل ، كما روي عن الإمام علي عليه‌السلام في ما رواه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الإيمان هو الإقرار باللسان وعقد في القلب وعمل بالأركان» (١).

__________________

(١) الكافي ، ج : ٢ ، ص : ٢٧ ، رواية : ١.

١٦٤

وهكذا ، فمن خلال المساحة الفاصلة بين الإسلام والإيمان ، قد يعيش الواقع الإسلامي مشاكل كثيرة يثيرها وجود منافقين ، يشكلون ، بعنوان كونهم مسلمين ، نوافذ يطل منها الكفر على الواقع الإسلامي ويمنحه فرصة الاطلاع على ما لا يملك الاطلاع عليه من الخارج ، وتنفيذ خطط تآمرية ضده تثير الخلل والاهتزاز والقلق والخلاف فيه ، ونحو ذلك ، مما يضعف المسيرة الإسلامية على مستوى القيادة والقاعدة ..

وفي مقابل هؤلاء المنافقين ، هناك وجود للمسلمين المؤمنين الذين يتحركون من قاعدة الالتزام الواعي الصلب الذي يعمل على تأكيد الخط الإسلامي المستقيم في مواجهة الخطوط المنحرفة التي يحركها الكفر هنا وهناك ، ليخلط وجه الحق بالباطل ، فتضيع الرؤية ، وترتبك المواقف ، وليحوّل الموقف الإسلامي في ساحة الصراع إلى جهاد مرير ومعاناة قاسية ، قد يسقط فيها الشهداء ، وتكثر فيها الجراحات ، وتشتد فيها الضغوط ، وتتعقد فيها المشاكل من قريب أو من بعيد.

(قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا) والظاهر أن المراد بالأعراب هم سكان البادية الذين لم يتفقهوا في الدين ، ولم يعيشوا الوعي العميق للمضمون الفكري والروحي للإسلام ، لذا كانوا يعملون على إعلان الإيمان صفة لشخصيتهم الجديدة التي يتحركون باسمها.

ولكن الله أراد لرسوله أن يفضح واقع هؤلاء الداخلي الذي يختفي وراء مظهرهم الشكلي ، ويعرّفهم الحدود التي يقفون عندها في واقعهم ، (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا) لأن الإيمان يعبّر عن عمق الإحساس بالعقيدة كقناعة في جانب الفكر والشعور ، مما يتمثل في وجودكم الذهني والروحي والشعوري ، (وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) ، فقد أسلمتم أمركم لله ورسوله بالكلمة والطاعة ، وأوقفتم الحرب ضد الدعوة والرسالة ، وانتقلتم من مجتمع الكفر إلى مجتمع الإسلام ، وبدأتم عملية الاندماج فيه ، والمشاركة في حركته في خط المواجهة ، دون أن تستوعبوا المسألة العقيدية في قناعاتكم (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) ، فقد تحتاجون إلى

١٦٥

الوقت الطويل الذي تتخلصون فيه من رواسب الشرك في خيالاته وعاداته وتقاليده ، وتنفتحون فيه على أفكار الإيمان في حقائقه وشرائعه ومناهجه ، وتختزنون ، من خلال ذلك ، الروحية الإيمانية الصافية المنطلقة مع إشراقة النور الإلهي في عقولكم وقلوبكم.

(وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) في المعنى الحقيقي الذي يأخذ الدين كله فكرا وعملا ، لتبتعدوا عن الازدواجية بين ما هو الواقع الداخلي في قناعاتكم وانفعالاتكم وما هو الواقع الخارجي في سلوككم وأوضاعكم ، لتتوحّد الشخصية بالإيمان الفكر ، والإيمان الموقف (لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً) أي لا ينقصكم شيئا منها ، لأن الطاعة الحقيقية الكاملة تستوعب النتائج كلها على مستوى رضوان الله وثوابه ، (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فهو الذي يغفر الذنب برحمته ، فلا يبقى للذنب أيّ أثر في ما يمكن أن يتركه من سلبيات على مصير الإنسان عند الله.

* * *

صفات صادقي الإيمان

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا) فهم على وضوح شامل بكل قضايا العقيدة في التوحيد والنبوّة واليوم الآخر ، فلم يقفوا أمام علامات الاستفهام موقف حيرة وضياع ، بل موقف تأمل وحوار يتابع الأمور من موقع العمق الفكري ، بحيث لا تبقى شبهه تهز الإيمان أو تسقطه ، وهكذا واجهوا الموقف بامتداد القناعة من خلال امتداد الوضوح ، ولم يقف الأمر بهم عند هذا الحدّ ، بل تابعوا القضية في مستوى الموقف ، (وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) فلم يبخلوا بأموالهم على الرسالة عند حاجتها إليها ، ولم يبتعدوا بأنفسهم عن مواقع الخطر في ساحة التحدي والجهاد الذي لا يتوقف عند حدِّ ، بل يعطي كل شيء في مواقع الحاجة وفي دائرة المسؤولية.

١٦٦

(أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) الذين يجسدون في موقفهم ومعاناتهم صدق التزامهم الفكري والقولي ، من خلال عطائهم الشامل الذي يمتد حتى يطال حياتهم نفسها ، لتكون هي التضحية التي يقدمها المؤمن للإسلام.

(قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ) في ما تحاولون إعلانه من مواقف لتأكيد صدق إيمانكم ، والحصول على ثقة المجتمع الإسلامي التي يمنحها للمؤمنين الصادقين ، فإذا كنتم تسعون لخداع الناس عبر مظهركم ، فهل تستطيعون خداع الله في الواقع؟ (وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) في ما يخفى على الناس أو ما يظهر لهم ، فلا يغيب عنه شيء من ذلك كله ، فهو ينفذ إلى أعماق الفكر والشعور ، كما ينفذ إلى أعماق البحار وظلام الكهوف ، (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) لأن علمه مطلق لا حدّ له في المكان والزمان.

* * *

المنافقون يمنّون على الرسول بالإسلام

(يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا) في محاولة للإيحاء بأن الرسالة شأن خاص متعلق بذات الرسول ، مما يجعل من الانتماء إلى الإسلام ، انتماء إليه ، وتقوية له ، الأمر الذي يجعل المنتمي يمنّ على الرسول باعتبار أن ذلك يمثل خدمة شخصية له ، كما هي حال الذهنية القبليّة التي ترى في الارتباط برئيس القبيلة معروفا يقدّم إليه ، ويطلب العوض منه على أساسه.

ولكن الله يرد على هذا المنطق ليعرِّفهم بأن الرسالة ليست مسألة خاصة بالرسول ، لأن دوره فيها هو دور التبليغ في ساحته الرسولية ، بل هي أن الإسلام دين الله الذي أنزله على عباده ليصلح أمرهم ، وليدفعهم إلى الإيمان كحاجة حيويّة لتحريك وجودهم نحو الخط المستقيم الذي يرفع مستواهم ، ويعمِّق إحساسهم بإنسانيتهم ، وينقذهم من نقاط ضعفهم ، ويعطيهم القوّة ، ويخرجهم من الظلمات إلى النور ، ويبعدهم عن الزوايا الضيقة التي تحبسهم في

١٦٧

نطاق أنانياتهم الذاتية أو العائلية ، لينطلق بهم في ساحات الإنسانية الواسعة ، ليكونوا جزءا من الأمّة الحاملة للرسالة التي تتسع للحياة كلها وللإنسان كله ، فيتسع دورهم وتمتد ساحاتهم ، ليعيشوا الطمأنينة والسكينة في ظلال الرسالة المنفتحة على الله ، فلا يبقى هناك مجال للحيرة والقلق والضياع والشعور بالعبثية الوجودية الذي يثيره حديث البعض عن تفاهة الحياة وعلاقتها باللّامعقول ، لأن الإنسان المؤمن يرى الحياة حركة مسئولة في سياق دوره الإنساني المرتكز على خلافته لله سبحانه ، الأمر الذي يفتح له آفاقا واسعة سعة نظرته إلى الحياة ، ويمد بأحلامه لتتصل بالأفق الواسع السابح في بحار النور ، الذي يطل على رضوان الله ، المتجلي بالجنة التي أعدّها الله للمؤمنين الصادقين.

وهكذا تكون المنّة لله عليهم في هداهم للإيمان في مواقع الرسالة بدلا من أن تكون لهم المنّة على الرسول في ذلك ، وهذا هو قول الله سبحانه : (قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في إعلانكم بالتزام الإيمان كخطِّ عمليِّ في الحياة.

(إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ويحيط بالكون كله بكل ما فيه من مخلوقات ، مما يجعل الناس مكشوفين أمامه بكل أسرارهم في الإيمان وعدمه ، وفي كل الأمور التي تتصل بحياتهم الداخلية في عمقها وامتدادها ، (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) ، فلا يخفى عليه شيء من أعمالكم ، في طبيعتها ودوافعها ونتائجها السلبية والإيجابية.

* * *

١٦٨

سورة ق

مكيّة

وآياتها خمس وأربعون

١٦٩
١٧٠

في أجواء السورة

هذه السورة من سور الدعوة التي تطل على مجتمعها الوثني الذي وقف بوجهها معلناً تعجّبه من مجيء النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنبوّة ، وهو جزء من هذا المجتمع الذي لا يرى نفسه جديرا بأن يكون أحد أفراده رسولا لله ، كما أنه يثير استغرابهم من مقولة المعاد التي يرونها شيئا غير معقول ، لرفضهم إعادة الحياة بعد الموت ، ولكنهم يغفلون في ذلك عن قدرة الله التي لا تقف عند حدّ ، أفلا ينظرون إلى السماء من فوقهم وإلى الأرض من تحتهم وإلى إحياء الأرض الميتة بالمطر النازل من السماء؟ فكيف يستغربون عودة الحياة إلى الإنسان الميت بقدرة الله؟

وهكذا ينطلق الحديث عن بداية خلق الإنسان من موقع القدرة ، وعن إحاطة الله بكل وسوسات نفسه ، فهو أقرب إليه من حبل الوريد ، وهناك ملكان يحيطان به من اليمين والشمال ، ويحصيان عليه كل أقواله وأفعاله ، وسيقف غدا في يوم الحساب لتأتي كل نفس ومعها سائق وشهيد ، وسيرتفع عنه غطاء الغفلة الذي كان يغطي روحه وقلبه ، فلا يدع الوعي ينفذ إليهما لينفتح على آفاق المسؤولية في اليوم الآخر.

ويقف الجميع أمام المصير المحتوم ، فيلقى في جهنم كل كفّار عنيد مناع

١٧١

للخير معتد مريب مشرك بالله ، وتقرَّب الجنة لكل أوّاب حفيظ ممن خشي الله بالغيب.

ويلتفت ، من ثم ، الله سبحانه وتعالى إلى النبي ، ليدعوه إلى الصبر وإلى الثقة به وبانتصار الرسالة إن عاجلا أو آجلا ، فقد أهلك الله جبابرة العصور السالفة ، فهل يعجزه إهلاك هؤلاء؟! فلينتظر يوم القيامة ، يوم ينادي المنادي من مكان قريب ليوم الخروج ، كما يدعوه إلى مواصلة دعوته القرآنية ليذكّر من يفتحون قلوبهم خوفا من يوم الوعيد ، فتلك هي مهمته الرسالية التي تفتح العقول على الله ، وليس هو الجبار المسيطر بالقوّة التي تقهر الآخرين بالتعسف والقسوة والشدّة غير العقلانية.

وفي ضوء ذلك ، فإن هذه السورة تطرق بدقائقها المتواصلة ، وبأسلوبها المثير ، وبإيقاعها المتوازن الهادر القلوب والأرواح ، وتثير المشاعر ، ليتذكر من خلالها من يتذكر ، وليتحرك فيها الرساليون.

* * *

١٧٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الآيات

(ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (٤) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (٥) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (١١) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (١٢) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (١٣) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ) (١٤)

* * *

معاني المفردات

(رَجْعٌ) : رجوع.

(مَرِيجٍ) ؛ المرج : الاختلاط والالتباس.

١٧٣

(فُرُوجٍ) : جمع فرجة ؛ الشقوق والفتوق.

(رَواسِيَ) : جبال رواسخ.

(بَهِيجٍ) : من البهجة ، وهي الحسن الذي له روعة عند الرؤية.

(مُنِيبٍ) : راجع إلى الله.

(الْحَصِيدِ) : ما حصد من الزرع.

(باسِقاتٍ) : جمع باسقة وهي الطويلة العالية.

(طَلْعٌ) : أول ما يطلع من ثمر النخل.

(نَضِيدٌ) : مضموم بعضه إلى بعض.

* * *

إثباتات البعث وتكذيب الناس له

(ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) أي أقسم بالقرآن ، أن ما توحي به الآيات من حديث عن البعث والحساب الذي يقف فيه المؤمنون وجها لوجه أمام المسؤولية بين يدي الله ، هو حقّ لا ريب فيه ، لأنه يمثل صفاء الحقيقة الواضحة التي تفرض نفسها على العقول والقلوب.

(بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) ولكن هؤلاء القوم يعجبون ويظهرون الدهشة والاستغراب من مجيء رسول منذر من بينهم ، في وقت يتصورون فيه أن الرسول لا يمكن أن يكون بشرا ، بل لا بد من أن يكون من الملائكة ، (فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ) فلم يكفه أن جاء بالرسالة ، فقد جاء بدعوة مثيرة للعجب ، في غرابتها وابتعادها عن الوجدان المتّزن الذي يقيس الأمور بمقياس العقل ، (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) أي رجوع يستبعده العقل ، فكيف يتحدث بذلك من يدّعي سلامة العقل ويوحي بأنه قد جاءنا ليرفع من شأن العقل لدينا ، ويطوّر وعينا الفكري؟!

١٧٤

ولكن الله يردّ عليهم كل ذلك بمنطق عقلي يضعهم وجها لوجه أمام المعادلة العقلية التي تقيس الأشياء بأمثالها ، ليقف الجميع على القاعدة التي تحكم كل هذه الأمور : (قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ) فسيموتون وتتلاشى أبدانهم وتتحول إلى تراب تتشابه أجزاؤه ، فلا يتمايز جزء منها عن جزء بالنسبة للناظر العادي الذي يتأمل عناصرها الذاتية ، ولكن الله يعرف كل دقائق تلك الأبدان ومواقعها ، بحيث لا يعجزه تركيبها من جديد ، دون أن يختلط شيء منها ، (وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) يحفظ دقائق الأشياء ، فلا يسقط منه أيّ شيء يحتاج إلى حفظه ، وهو اللوح المحفوظ ، كما قيل ، أو أنه كناية عن علمه الذي لا يغيب عنه شيء.

(بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) فليست مشكلتهم أنهم لا يجدون أساسا لمعرفة الحق ، بل المشكلة أنهم يبادرون إلى تكذيب الدعوة دون أن يتوقفوا أمامها ليكفروا ويحاوروا ويتعرفوا وجه الحق فيها ، (فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) محتارون ، هل يقبلون الدعوة التي تفرض نفسها عليهم بالحجة والبرهان ، أم يرفضونها لخروجها عما ألفوه في دائرة الحسّ لعدم وجود نموذج قريب من الدعوة في هذه الدائرة الحسية؟!

* * *

السماء والأرض وإمكانية البعث

(أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها) وأقمناها بغير عمد ، (وَزَيَّنَّاها) بالكواكب المتلألئة في إشراقتها الهادئة التي تشير إلى معنى النور في داخل الظلام ، (وَما لَها مِنْ (١) فُرُوجٍ) وثغرات وشقوق مما قد يحدثه ضغط امتداد الأفق على هذا السقف الكوني؟ أفلا يكون هذا كله دليلا على القدرة التي تصغر أمامها عودة الحياة إلى الميت؟

(وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) وبسطناها بالطريقة التي يتمكن الإنسان أن يعيش عليها ويتحرك فيها ، (وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) وهي الجبال التي تمثل قوّة الثبات في

١٧٥

سطحها وشموخ القدرة في علوّها ، (وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) في ما يتنوع به النبات من الخضرة والفاكهة وغيرهما مما يخضع لقانون الزوجية في خلق الله ، وينفتح على الكثير مما تستلذه النفس وتشتهيه الحواس وتتنوع فيه الخصائص ، وتتمثل فيه روعة الخلق وحسن المنظر وتناسق الألوان ، ونحو ذلك مما يدل على عظمة القدرة الإلهية التي تطل على آفاق القدرة في غيرها ، وذلك (تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) أي راجع إلى الله ، فإن الرجوع إليه يبعد الإنسان عن العصبية التي تربطه بالباطل ، وعن التعقيد الذي يمنعه من الانفتاح على الحق ، فيتبصر بكل المواقع التي تفتح النوافذ على النور ، ويتذكر كل الكلمات والمشاهد والتأملات التي تحرك تفكيره نحو الله.

(وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ) متنوعة الخضرة والثمار والأشجار ، (وَحَبَّ الْحَصِيدِ) الذي يزرعه الناس فيتحوّل إلى سنابل يحصدونها ويجدون فيه الغذاء الذي يبني أجسادهم ، (وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ) أي عاليات (لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ) وهو أول ما يطلع من ثمر النخل بطريقة منضودة تربط بعضه ببعض ، (رِزْقاً لِلْعِبادِ) في ما يأكلونه ويقيمون به حياتهم ، (وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ) في يوم البعث ، عند ما تتحرك قدرة الله ، لتمنح الحياة للتراب الذي تحولت إليه أجزاء الجسد الإنساني ، أو للعظام التي يكسوها الله لحما ويبعث فيها الحياة ، تماما كما يمنح الحياة للأرض الميتة من خلال الماء الذي ينزله عليها ، فيتفاعل مع البذور المتناثرة فيها.

لكن القوم يستمرون بتكذيب الرسول ، ويصرون على الشرك ، ولكنهم ليسوا أوّل الكافرين ، وليسوا أوّل المكذبين (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ* وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ* وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ) وقد تقدم الحديث عنهم في السور السابقة ، (كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ) أي ثبت الوعيد الإلهي ، فاستحقوا العذاب كنتيجة طبيعية للترابط بين التكذيب ودخول النار في ما توعد الله عباده الكافرين.

* * *

١٧٦

الآيات

(أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (١٥) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (١٧) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨) وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (٢٠) وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (٢٢)

* * *

معاني المفردات

(أَفَعَيِينا) : أفعجزنا.

(لَبْسٍ) : شكّ.

(تُوَسْوِسُ) ؛ الوسوسة : حديث النفس بشرّ.

(حَبْلِ الْوَرِيدِ) : عرق متفرق في البدن يخالط الإنسان في جميع أعضائه.

١٧٧

(الْمُتَلَقِّيانِ) : الملكان.

(قَعِيدٌ) : المقصود هنا : ملازم لا يبرح.

(رَقِيبٌ) : حافظ.

(عَتِيدٌ) : المعد المهيّأ للزوم الأمر.

(تَحِيدُ) : تعدل وتميل.

(سائِقٌ) ؛ السَّوق : الحثّ على السير.

(حَدِيدٌ) : حادّ.

* * *

الله أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد

(أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ) في بداية خلق الإنسان ، وخلق الكون كله في نظام متقن وتدبير حكيم ، فهل هناك عجز في حركة القدرة لإعادته من جديد؟ ولكن مشكلة هؤلاء أنهم لا يفكرون بالأمر تفكير وعي وانفتاح يزن الأمور بميزان العلم الذي يربط بين الأشياء على أساس القاعدة التي ترتكز عليها مظاهرها ، (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) إذ دفعتهم الغفلة إلى التخبط في أوهامهم وأفكارهم المعقدة ضد فكرة المعاد والخلق الجديد الذي يعقب الخلق الأول ، هذه الفكرة التي من شأنها ، فيما لو تحكمت في قلب الإنسان ووعيه ، أن تحرك نشاطه في الاتجاه المستقيم في الدنيا ، وتدفعه إلى مواجهة النتائج في الآخرة ، وبالتالي من شأنها أن تعمق من شعوره بالمسؤولية اتجاه نفسه واتجاه محيطه الإنساني وغير الإنساني. إلا أنّ هؤلاء السادرون في غياهب الشدة واللبس ، يتحركون كما لو أن الأمر ملتبس عليهم في الدوائر التي لا تسمح بأي التباس من أي نوع كان ، لأن عقلانية المنطق في المسألة ، لا توحي إلّا بالوضوح لمصلحة الفكرة الرسالية ، (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) وهذه هي

١٧٨

الحقيقة الإيمانية التي تؤكدها الآية ، فالإنسان مخلوق لله وحده ، فهو لم يخلق نفسه ، ولم يخلقه أحد من المخلوقات الأخرى ، وإذا كان الله هو الخالق له ، فمن الطبيعي أن يكون مطّلعا على كل شيء في داخله ، حتى الهمسات الروحية ، والوسوسات الفكرية ، والنبضات الشعورية ، والخطورات الخيالية ، فهو مكشوف لله بكل ما يتحرك في الفكر والشعور والخيال ، فلا يملك الإنسان أن يحمي نفسه من علم الله بما في نفسه ، وبالتالي فإنه لا يستطيع الدفاع عن انحرافه بما قد يتعلل به من عدم القناعة في القضايا المثارة أمامه.

(وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) وهو عرق متفرّق في البدن فيه مجاري الدم ، كما قيل ، أو هو العرق الذي في الحلق ، كما قيل ، وهو تعبير كنائي عن القرب الإلهي من الإنسان بالمستوى الذي لا يدنو فيه إليه أقرب أعضائه الممتزج بمجاري دمه ، مما يجعل معرفة الله بالإنسان في داخله الفكري والشعوري ، أمرا في الدرجة العليا من الوضوح.

وربما كانت المسألة تطل في الإيحاء التعبيري على الآية التي تتحدث عن (أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) [الأنفال : ٢٤] ، وهو نوع من التخييل الغني الذي يثير في الوعي الإنساني الشعور بالهيمنة الإلهية على مجاري فكره ، كما هي الهيمنة التي تنفذ إلى ما هو أقرب إليه من مجاري دمه.

* * *

الملكان الحافظان لأعمال الإنسان

(إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ) وهما الملكان اللذان يحفظان أعمال الإنسان وأقواله ويتلقيانها من خلال ما يملكانه من وسائل ، (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) أي هناك ملك قاعد عن يمينه وملك قاعد عن شماله ، كناية عن الاستقرار والإحاطة. وهكذا يخضع الإنسان إلى رقابة ملائكية من قبل الله بالإضافة إلى الرقابة الإلهية المباشرة ، ويقال : إن اليمين والشمال كناية عن جانبي الخير والشر اللذين

١٧٩

تنتسب إليهما الحسنة والسيّئة. (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) أي حاضر مستعدّ لتلقِّي كل أمر.

(وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِ) لتنقلك إلى عالم آخر ، يختلف عن العالم الذي أنت فيه ، فتفارق كل مواقع شغلك ، وكل ملاعب لهوك وفرحك ، (ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) فتهرب من ذكره ، وتبتعد عن مواقعه وإيحاءاته ، وتعمل على الهاء نفسك عنه بأيّ شيء ، مما يجلب الغفلة إلى وعيك وشعورك ، لأنك كنت مشدودا إلى الدنيا بكل غرائزك وشهواتك وعلاقاتك ، وبكل ما ألفته من أوضاع وأشياء وأعمال ... وها أنت تواجه الحق في القضاء الإلهي ، فتنشغل به في ما يشبه السكرة عن كل من حولك من الناس ، وما حولك من الأمور.

* * *

يوم الوعيد

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ). وتعبير النفخ هنا وارد على سبيل الحقيقة ، باعتبار أنه يحصل فعلا بوسائل لا نملك أمر معرفتها بالتحديد ، أو أنه وارد على سبيل الكناية باعتبار أنه صوت يوقظ النائمين بدويّه ، ليوحي بما يوقظ الموتى بقوّته ، وهو علامة على دخول عالم الخلود ، (ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ) الذي توعّد الله به عباده من الكافرين والمجرمين.

(وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) تماما كما يأتي أي مجرم يقوده شخص ما إلى ساحة المحكمة ليواجه الحكم العادل ، وهناك شاهد يشهد له أو عليه في ما اكتسبه من أعمال تجاه الله ، ويمكن أن يكون التعبير بذلك واردا مورد الإيحاء بعدالة المحاكمة التي يتلقاها الإنسان يوم القيامة من خلال تصوير الطابع الذي تأخذه.

(لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا) باستغراقك في لهو الدنيا وعبثها وشهواتها ولذائذها ، وكانت هناك أكثر من غشاوة على بصرك القلبي ، فلم ينفتح قلبك

١٨٠