تفسير من وحي القرآن - ج ٢١

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ٢١

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٦٠

وهذا ما نريد أن يستوحيه المسلم في كل واقعه الحركي ، وهو الحصول على الأمن الذي يطرد عنه الخوف والحزن في يوم القيامة ، فيلتزم بالإسلام كله في عقيدته وفي شريعته ، ويبتعد عن كل العناوين والأضاليل والأساليب والوسائل التي لا تقترب من الخط الأصيل للإسلام ، بحيث يراعي الدقة في حكمه على الخطوط الملتوية أو المنحرفة أو الضائعة التي تتحرك من حوله ، ليعيش صفاء الإسلام ، ونقاء الإيمان ، واستقامة التصوّر والمنهج والحركة ، ليكون من هذه الصفوة المؤمنة الطاهرة القريبة من رحاب الله في رضوانه.

وأولئك (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) لأنهم أخذوا بأسباب الأمن ، وانفتحوا على مواقع السرور في ما أعدّوه لذلك من مواقف الدنيا وأوضاعها ووسائلها ، و (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) من الطاعات في نطاق الأعمال الصالحة التي يرضاها الله.

* * *

٢١

الآيتان

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) (١٦)

* * *

معاني المفردات

(كُرْهاً) : أي بكره ومشقة.

(وَفِصالُهُ) ؛ الفصال : التفريق بين الصبي وبين الرضاع.

(بَلَغَ أَشُدَّهُ) : بلغ زمانا تشتد فيه قواه.

(أَوْزِعْنِي) : ألهمني.

* * *

٢٢

توصية الإنسان بوالديه

تتناول هاتان الآيتان ، ومن خلال نماذج بشرية محددة ، كيفية تعاطي المحسنين والظالمين مع الوالدين ، كشكل من أشكال العلاقات التي يبنيها الإنسان في حياته ، فهناك من ينفتح على الله وعلى أجواء الصلاح في علاقته بهما ، ليبقى معهما في خط الصلاح في شبابه ، كما كان كذلك في طفولته ، وهناك من ينغلق عن الله ويصم أذنيه عن سماع ندائهما الذي يدعوه إليه.

ونقف مع النموذج الأوّل الذي تحدثت عنه هذه الآيات وهو نموذج البرّ بالوالدين ، وعن الواقع الذي يتحرك في دائرته.

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً) أن يحسن إليهما ، وأن يتطلع ، بعمق وانفتاح وإنسانيّة ، إلى الجهد الذي بذلاه في تربيته ، بما لا يبذله أحد معه ، ولا يقدّمه إليه إنسان ، لا سيّما الأمّ التي تتحمل الجهد الجسدي الشاق في حمله وولادته ورضاعه ، (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً) فكان حملها له مشقة ومعاناة ثقيلة تواجه فيها حالة صحيّة صعبة ، حيث يتغير مزاجها ويضطرب وضعها الجسدي بكل أجهزته ، وكانت ولادته حركة آلام قاسية في مكابدة الجهد والخطر على الحياة ، ولكنها بالرغم من حالة الكره الطبيعي للإحساس الجسدي بالثقل والألم والمعاناة ، تتقبل ذلك كله ، بالرضى والحنان والعاطفة ، فتحتضن ولدها بالعاطفة الدافقة الطاهرة ، وتستمر في رعايته في حمله ورضاعه ، (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ) أي فطامه عن الثدي بانتهاء حاجته إلى الرضاع بعد عامين ، يعقبان أقل مدة الحمل ، وهي ستة أشهر ، التي قد تزيد إلى مرحلة التكامل الطبيعي في تسعة أشهر ، ومجموع ذلك (ثَلاثُونَ شَهْراً) من الرعاية الكاملة المميّزة بالانفتاح الروحي العاطفي ، وبالجهد الجسدي.

وتستمر الرعاية مدّة طويلة (حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ) عند ما تشتد قواه (وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) وهي المدة التي يقوى فيها جسده ، ويكمل عقله ، وتهدأ فيها شهواته ، وتتوازن فيها انفعالاته ، وبدأ يتطلع إلى نعمة الله عليه في حركة

٢٣

وجوده ، بكل تفاصيلها الصغيرة والكبيرة ، (قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَ) أي اجعلني أعيش وعي النعمة ، إلهاما روحيا ، يلزمني بمسؤولية الشكر لك قولا وفعلا يلتزمان سبل ومواقع وغايات رضاك ، وبما يحولها إلى طاقة حيّة منفتحة على مواقع القرب منك والحب والصدق لك ، (وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ) ، فالإيمان بالله والاعتراف بنعمته يفرض عمليا على الإنسان الذي يتطلع للحصول على رضاه ، أن يؤدي في حياته العمل الصالح ، وأن يربي أولاده من بعده على الإيمان والعمل الصالح.

(وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) ووفِّقهم إلى العمل الصالح ، وإلى الروحية التي تجعل الصلاح حالة عميقة داخل نفوسهم وخط سير وممارسة ، ونهجا في الفكر والعلاقات ، ليشكّلوا الوجود الفاعل داخل المجتمع الصالح ، والتمرد على المجتمع الفاسد. هذا هو الطموح الإيمانيّ الذي يعيشه المؤمن كأب في نظرته إلى الذرية ، من حيث كونها امتدادا للوجود في المستقبل ، فليست مجرد حاجة ذاتية يزهو بها الإنسان ، بل هي شعور بالمسؤولية في امتداد الصلاح في أولاده ، من خلال مسئوليته عن خط الصلاح في حياته. وبذلك تمتزج نزعة الإنسان الغريزية في حبّ الأولاد كحاجة ذاتية ، بالنظرة الرسالية للدور الذي يريد لهم القيام به في الحياة من بعده.

(إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ) من كل المعاصي التي عملتها ، ومن كل خطوط الانحراف التي سرت فيها ، توبة العقل من كل ما لا يرضيك من فكر ، وتوبة القلب من كل ما يسخطك من عاطفة ، وتوبة الموقف من كل ما يبعدني عن خطّك المستقيم ، ومن كل تخطيط لا تريده للمستقبل ، (وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) الذين أسلموا كل حياتهم لك ، فعاشوا الانتماء إليك وحدك ، ورفضوا كل انتماء إلى الآخرين إلّا من خلالك ، فليس الإسلام عندهم مجرد صفة يحملونها ، ولكنها حياة يتجسدها الفكر والقلب والموقف والعلاقات ، والإسلام بهذا المعنى هو الذي يطبع شخصية المسلم ، ويفصل بينه وبين الانتماءات الأخرى ،

٢٤

ويميز شخصيته عن الشخصيات الأخرى ، بحيث يحميها من الضياع في ضباب الطروحات الأخرى.

* * *

أولئك نتقبل منهم أعمالهم

(أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) لأن الله يتقبل من عباده المؤمنين أعمالهم التي يجب قيامهم بها بعنوان الإلزام أو الاستحباب مما يتقربون به إليه ، فهو أحسن ما عملوه من أعمالهم الأخرى ، مما يدخل في باب المباحات أو نحوها ، (وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ) لأن الحسنات يذهبن السيّئات ، وإن الله إذا اطلع على إخلاص المؤمن له ، ورغبته في السير على خط طاعته ، وإن عاش بعض التجارب القلقة التي أبعدته عن الطاعة ، وأوقعته في المعصية ، فلا بد من أن يغفر له ، على أساس التوبة الكامنة في داخله ، المتجددة في روحيّة الإيمان ، وحركية الخير في حياته.

(فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ) أي نتجاوز عن سيئاتهم في جملة من نتجاوز عن سيئاتهم من أصحاب الجنة ، فهو في موقع الحال من ضمير «عنهم».

(وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) مما وعدهم به الله في كتبه المنزلة ، التي توحي لهم بالعيش في الحياة على أحلام النعيم الإلهي في جنة الرضوان ، عبر تجسيد الطاعة في الواقع بالتزام الأمر الإلهي واجتناب النهي الشرعي.

* * *

٢٥

الآيات

(وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٧) أُولئِكَالَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (١٨) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (١٩)

* * *

معاني المفردات

(أُفٍ) : كلمة تبرّم يقصد بها إظهار السخط.

(خَلَتِ) : مضت.

(يَسْتَغِيثانِ) : يطلبان الغوث.

* * *

٢٦

(وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما)

وهذا هو النموذج الثاني الذي يعيش بين أبوين مؤمنين ، يتعهّدانه بالرعاية والحب والحنان ، ويبذلان كل ما لديهما من جهد في سبيل تنميته وتربيته ، حتى إذا بلغ مبلغ الرجال ، انفصل عن هذا الجوّ الإيماني ليندمج بالأجواء الاهية العابثة التي تمنعه عن الجدّية في الحياة ، وعن المسؤولية في عالم الفكر والعمل ، وتدفعه إلى مواجهة المواقف الفكرية العقيدية بطريقة اللّامبالاة التي ترفض بشكل سطحي ، وتقبل بشكل ارتجالي ، فيكفر لأنه لم يلتق الإيمان في مواقع التأمّل أو الحوار ، وينحرف لأنه ابتعد مع شهواته ولذاته عن خط الاستقامة.

ويبدأ صراعه مع والديه اللذين بلغا سنّ الكهولة أو الشيخوخة ، حول مسألة الإيمان والفكر ، فهما ، نتيجة امتزاج عاطفتهما بالابن ، يعيشان القلق الشديد على مصير ابنهما ومستقبله في الآخرة ، ويخشيان أشد الخشية أن يواجه عذاب الله في النار ، ولكن ابنهما يعيش الغرور الكافر ، والكبرياء الطاغي ، ويقف منهما موقف التعنيف والتأنيب والتأفف من هذه الشيوخة التي تريد أن تقف أمام شهواته ولذاته في معصية الله.

(وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما) في احتقار واستهانة وتأفّف ، كما لو كانا عبئا ثقيلا عليه ، لأنهما يفرضان نفسيهما عليه ، ويتدخلان في حياته ، في الوقت الذي يرى نفسه في موقع لا يجوز معه لأحد أن يعترض على سلوكه ، لا سيّما ممن لا يملك الدرجة العليا من الفكر والتقدم في نظره. (أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ) بعد الموت الذي أتحوَّل فيه إلى تراب ، بفعل السنين الطويلة التي تفني كل نبضة للحياة التي تتحدثان عنها؟ (وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي) فلم يعد أحد من الأمم التي عاشت في القرون السالفة إلى الحياة ليكون نموذجا حيّا للفكرة التي تطرحانها ، فلو كان هناك بعث ، لرأينا بعضا من هؤلاء ، ولكننا لم نر شيئا من ذلك ، مما يوحي بأن فكرة البعث أسطورة لا تمتّ إلى الحقيقة بصلة.

٢٧

لكن أبويه لا ييأسان. وتستيقظ العاطفة لتركض وراء هذا الولد الذي يخافان عليه من النار ، في ما يشبه الاستغاثة (وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ) فيطلبان منه أن يغيثهما ويهدي ولدهما إلى الإيمان ، ويلتفتان إليه (وَيْلَكَ آمِنْ) بالله وبرسوله وبرسالته وباليوم الآخر ، (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) في ما توعّد به الكافرين من النار وما وعد به المؤمنين من الجنة ، فتذكّر وعد الله ، واعمل على السير في خط النجاة والابتعاد عن خط الهلاك. ولكنه لا يأبه (فَيَقُولُ ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) لأنه يرتكز على الحسّ المادي الذي ترتبط به كل قضايا الإيمان في نظره.

* * *

أولئك حقّ عليهم القول .. ولكلّ درجات

(أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) من أمثال هذا الإنسان (فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) ممن تمرّدوا على الرسل ، وكفروا بالله ، وأنكروا اليوم الآخر ، (إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) لأنهم خسروا أنفسهم في الدار الآخرة ، في محرقة نار جهنم ..

(وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) من المؤمنين الصالحين ، أو الكافرين الظالمين ، في ثواب الله وعقابه ، في درجات الرضوان في الجنة ، وفي دركات العذاب في النار ، (وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) لأن الله يمنح كل عامل بحسب طبيعة عمله ، من موقع العدالة الإلهية التي لا تفرّق بين الناس إلا بالعمل القائم على الإيمان والتقوى.

* * *

٢٨

الآية

(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) (٢٠)

* * *

معاني المفردات

(الْهُونِ) : الذلّ والهوان.

(تَفْسُقُونَ) : تخرجون عن طريق الحق والصواب.

* * *

عرض الذين كفروا على النار

(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ) فالنار تتطلب مزيدا من الوقود البشري ممن عاشوا في ذهنية حطبية ، فلم تكن لهم إرادة مستقلة تنفتح على الله في

٢٩

وعي إيماني ، بل كانوا مجرد أتباع هامشيين للمستكبرين وللمضلّلين ، الذين يدعونهم إلى الكفر بالله ، والإشراك به ، والسير على خط الانحراف في العقيدة والسلوك ، مما جعلهم طعما للنار (الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) [البقرة : ٢٤].

وقد ذكر بعض المفسرين ، أن الواقع يفرض أن تعرض النار على الكفار ، لأن الذي يملك العقل والإحساس هو الذي تعرض عليه الأشياء الجامدة غير الحيّة لينفعل بها ، ولكننا نلاحظ على ذلك أن التعبير هنا كنائي وليس واقعيا ، إذ يصوّر النار مخلوقا حيّا يجوع ويشبع ، ويتطلّب الغذاء الذي يحتاجه ، كما ورد في قوله تعالى : (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) [ق : ٣٠] ، وهو أسلوب هدفه التحقير من شأن هؤلاء المستكبرين الذين كان الناس في الدنيا يعرضون عليهم ليذلّوهم أو ليسجنوهم أو ليقتلوهم ، في موقف الاستضعاف الطاغي لإنسانيتهم.

* * *

النار مأوى العابثين المستكبرين

وهكذا يقف هؤلاء أمام النار ، قبل أن يأتي الأمر الإلهي بإدخالهم إليها ، ليروي الملائكة لهم تاريخهم اللَّاهي العابث المستهتر المستكبر على الله والناس ، الذي تحوّل إلى هذا المستقبل الحقير المهين ، وليتعرّف الناس ، من خلال هذه الصورة المرعبة ، كيفية تفادي الدخول في ما يؤدي إلى ذلك المصير.

(أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا) واستفدتموها بعد أن أسرفتم فيها ، في معصية الله ، (وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها) فقد كان يخيّل إليكم أن الأخذ بمتاع الحياة الدنيا هو المحدد لقيمة الإنسان ، فالمرحوم منها لا يملك مستوى الإنسانية في مفهومكم ، والآخذ بها هو شخص ذو قيمة في مجتمعكم. (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ

٣٠

الْهُونِ) الذي تعيشون فيه عذاب الإحساس بالمهانة والحقارة والسقوط ، كما تعيشون فيه عذاب النار التي تحرق أجسادكم (بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) بكل ما يمثله الاستكبار من إذلال للناس المستضعفين ، وبغي عليهم ، ومصادرة لحقوقهم وأموالهم ، واستغلال لطاقاتهم دون حق ، وانحراف بهم نحو الباطل في العقيدة والسلوك ، مما لا تملكون الحق فيه من أيّة جهة كانت ، لأنكم لا تختزنون في داخلكم القوّة الذاتية الكبيرة ، التي تمنحكم الكبرياء الأصيلة ، كما أن الله لم يجعل لكم ذلك ، فلم يسلّطكم على عباده ، ولم يرفع طبقتكم على الناس الآخرين ، بل لم يسلطكم على أنفسكم ، وما تملكون من متاع الحياة الدنيا إلا بحدود ما حدّده لكم في أحكام شريعته.

(وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) في أوضاعكم المعربدة المستهترة ، وفي تصرفاتكم الظالمة الباغية ، وفي علاقاتكم المفتوحة على مواقع الخلاعة والمجون ، فهذا هو الجزاء العادل لما عشتموه من استكبار وفسق في الحياة ، حيث تنعكس صورة الأشياء في الآخرة ، وتعيشون واقع المهانة والحقارة بكل ألوان الألم والإذلال.

* * *

٣١

الآيات

(وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٢١) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٢) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٣) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (٢٥) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٢٦) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٧) فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ) (٢٨)

* * *

٣٢

معاني المفردات

(النُّذُرُ) : جمع نذير ، والمراد به الرسول.

(لِتَأْفِكَنا) : لتصرفنا افتراء.

(عارِضاً) : العارض هو السحاب.

(تُدَمِّرُ) : بمعنى تهلك.

(مَكَّنَّاهُمْ) : أعطيناهم القدرة والاستطاعة على التصرف.

(وَحاقَ) : حلّ.

(قُرْباناً) : ما يتقرب به إلى الله تعالى.

(إِفْكُهُمْ) : كذبهم.

* * *

العذاب ينزل على قوم هود

وهذا نموذج إنساني من التاريخ القديم ، يتمثل بهود الذي بعثه الله بالدعوة إلى عاد ، ليدعوهم إلى توحيد الله في العقيدة والعبادة والسلوك ، فلا يتطلعون إلى غيره ، ولا يرتبطون بأحد سواه ، وكانوا يملكون القوّة والشدّة التي تدفعهم إلى اتخاذ موقف الاستكبار على الحق وعلى دعاته ، فكذّبوه وواجهوه بالجحود ، فعجّل الله لهم العذاب في الدنيا قبل الآخرة ، جزاء بما كانوا يستكبرون في الأرض بغير الحق ، وبما كانوا يفسقون.

(وَاذْكُرْ أَخا عادٍ) وهو النبي هود عليه‌السلام الذي كان من هؤلاء القوم في نسبه ، (إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ) وهي المنطقة التي كان يسكنها قومه في جنوب الجزيرة العربية ، (وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) فقد جاء على فترة من الرسل ، فلم يكن زمانه قريبا من زمانهم ، ولم يكن في زمانه أحد منهم ،

٣٣

وكان أساس دعوته التوحيد الذي يختصر منهج العقيدة الفكري ، ومنهج الممارسة العملي.

(أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) وقد نلاحظ أن الدعوة إلى توحيد الله في العبادة ، تحمل إيحاء عميقا بأن العقيدة ليست حالة تجريدية في الفكر ، بل هي حالة حركية في العقل وفي الحياة ، (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أعدّه الله للجاحدين به ، والمشركين بعبادته ، في الدنيا والآخرة ، لأنكم لا تملكون حجة على عبادتكم لهذه الأصنام التي اتخذتموها آلهة تعبدونها من دون الله جهلا.

(قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا) أي لتصرفنا عن عبادة آلهتنا كذبا وافتراء ، بحديثك عن الله الواحد الذي لا ربّ غيره ، ولا عبادة لغيره ، كما تتخيل وتتوهم ، (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) لأننا لا نرى في كلامك إلا التهويل الذي تسعى من خلاله إلى التأثير علينا بالضغط النفسي ، دون أن يكون هناك أيّ أساس لما تتوعد به ، لأنك لا تملك قوة ذاتية ، ولا نرى لك أية قوّة غيبيّة. (قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ) فلا أملك تفاصيل علم الغيب الذي أحدثكم عنه ، لأنه ليس علما ذاتيا ، أملكه ، بل هو علم يأتيني من ذي علم ، (وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ) من الله العليم الحكيم القادر الذي أمرني أن أبلغكم رسالة التوحيد ، وأنذركم عذاب يوم عظيم ، (وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) لأنكم لا تواجهون الأمور المطروحة عليكم بجدّية ومسئولية كما يفرض العقل ، فالإنسان لا بدّ من أن يفكر في أية فكرة يسمعها ويدخل في حوار حولها مع من يثيرونها ، لا سيّما إذا كانت متصلة بقضايا المصير ، فكيف تقفون هذا الموقف المعاند دون أيّ أساس للعناد ، وكيف تستهينون بالإنذار ، وأنتم لا تعرفون خطورته على حياتكم؟

ونزل العذاب ، (فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ) فقد جاء إليهم في صورة سحاب يعرض في الأفق ثم يمتد في الفضاء المطلّ عليهم ، ليستقبل الوديان التي كانت تنتظر المطر الذي يملأ الينابيع ويروي الأرض ، ف (قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) فاستقبلوه باستبشار ، كما يستقبل الناس العطشى المطر القادم إليهم

٣٤

عبر السحاب ، ولكن المسألة ليست كذلك (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ* تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها) فقد استعجلتم العذاب ظنّا منكم أنه لن يجيء ، وها هو أمامكم ، فكيف تواجهونه؟ وكيف تثبتون أمام التحدي؟ (فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ) فقد هلك كل شيء فيها من الناس والدوابّ والأموال ، (كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) الذين يحركهم في الحياة منطق الجريمة في مواجهة الرسالة ، بالاستسلام لرخاء الحياة من حولهم ، وللأمن في المستقبل في حركتهم ، تماما كما لو كانوا يملكون القوّة المطلقة في كل شيء.

* * *

عبرة لكفّار مكة

والعبرة من هذه القصة موجهة إلى كفار مكة الذين كانوا يقفون ضد الرسول والرسالة ، انطلاقا من القوّة المالية والاجتماعية التي يستعملونها في تأكيد سيطرتهم. (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ) وأعطيناهم من القوّة البدنية (فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) أي ما لم نمكّنكم فيه ، فليست لكم القوة التي كانت لديهم ، (وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً) يهتدون بها إلى حقائق الأشياء ، ولكنهم عطّلوا أسماعهم ، بصمّ آذانهم عن نداء الحق ، وجمّدوا أبصارهم ، بغضّها عن رؤية آيات الله في الكون وفي أنفسهم ، وأغلقوا أفئدتهم عن الحق ، وابتعدوا بعقولهم عن التفكير في دعوة الرسل لهم إلى عبادة الله الواحد ، (فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ) وكان وجود هذه الحواس كعدمها ، لأنهم لم يستعملوها في اكتشاف عظمة الله للوصول إلى الإيمان بوحدانيته ، (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) من عذاب الله في الدنيا ، في ما استعجلوه منه.

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى) التي أنذرناها ودعوناها إلى التوحيد (وَصَرَّفْنَا الْآياتِ) وحرَّكناها في أساليب مختلفة ، في ما يفتح عقولهم على

٣٥

الرجاء بالله ، وما يواجه مشاعرهم من الخوف من عذابه ، (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) عن الانحراف الذي يعيشون فيه ، ويستقيمون في خط الحق الذي يربطهم بالله.

(فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً) هؤلاء الأوثان التي كانوا يعبدونها ، أو أولئك الأشخاص الذين كانوا يتبعونهم في كفرهم وعنادهم ، فهل نصرهم هؤلاء وأولئك ومنعوا عنهم العذاب ، إذا كانوا في مستوى الآلهة أو بديلا عن الله؟ إنهم لم ينصروهم لأنهم لا يملكون شيئا من القدرة على ذلك ، ولا يمثّلون أيّ ثقل في ميزان القوة ، (بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ) وابتعدوا ، وانقطعت الرابطة التي تصلهم بهم ، وبطلت مزاعمهم ، (وَذلِكَ إِفْكُهُمْ) وكذبهم في ما يزعمونه من عقائد وأفكار ، (وَما كانُوا يَفْتَرُونَ) ويضلّلون به المستضعفين في قضايا العقيدة والحياة.

* * *

٣٦

الآيات

(وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٠) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٣١) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٢) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) (٣٥)

* * *

٣٧

معاني المفردات

(نَفَراً) ؛ النفر : اسم جمع يطلق على ما فوق الثلاثة من الرجال والنساء.

(وَلَّوْا) : انصرفوا.

(وَيُجِرْكُمْ) : يخلّصكم.

(أَوْلِياءُ) : أنصار.

(يَعْيَ) ؛ العي : العجز والتعب.

* * *

مناسبة النزول

تنقل كتب التفاسير أكثر من قصة عن ذلك كسبب من أسباب النزول ، نختار منها

ما نقله صاحب الميزان عن تفسير علي بن إبراهيم القمي ، كنموذج لذلك ، قال : كان سبب نزول هذه الآيات أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج من مكة إلى سوق عكاظ ، ومعه زيد بن حارثة ، يدعو الناس إلى الإسلام ، فلم يجبه أحد ولم يجد أحدا يقبله ، ثم رجع إلى مكة ، فلما بلغ موضعا يقال له : وادي مجنّة (١) ، تهجّد بالقرآن في جوف الليل ، فمرّ به نفر من الجن ، فلما سمعوا قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استمعوا له ، فلما سمعوا قرآنه ، قال بعضهم لبعض : (أَنْصِتُوا) ، يعني اسكتوا ، (فَلَمَّا قُضِيَ) أي فرغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من القرآن ، (وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ* قالُوا يا قَوْمَنا) إلى آخر الآيات.

فجاءوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأسلموا وآمنوا ، وعلّمهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شرائع الإسلام ، فأنزل الله عزوجل على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ) [الجن : ١] السورة كلها ، فحكى الله قولهم وولّى عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم ، وكانوا يعودون إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كل وقت (٢).

* * *

__________________

(١) المجنّة : محلّ الجنّ.

(٢) تفسير الميزان ، ج : ١٨ ، ص : ٢٢٣.

٣٨

الجن يستمعون القرآن ويتحولون إلى دعاة

هذا ويتحدث كتاب الله عن الجن بشكل متنوّع ، ويضع لوجودهم وطبيعتهم خطوطا عامّة ، لا تسمح للخرافة التي حلفت بها قصص الجن في التراث العربي أن تقترب منها ، فهم مخلوقات عاقلة ، لا تظهر عيانا للناس بشكل مباشر ، وفيهم شياطين يوسوسون للناس بطريقتهم الخاصة ، كما يوسوس شياطين الإنس للناس ، وفيهم مؤمنون يعبدون الله ويخافونه ويدعون إليه ، كما يذكر القرآن أنهم كانوا يقعدون مقاعد ليسمعوا أخبار السماء ، فمنعهم الله من ذلك ، مما يوحي بقدرتهم الذاتية على الانطلاق في الفضاء.

وهذا حديث عن نفر من الجنّ الذين استمعوا إلى القرآن ، فآمنوا به ، وتحوّلوا إلى دعاة للإيمان وللإسلام في قومهم ، بطريقة روحية رائعة.

(وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) أي وجّهناهم إليك بإثارة انتباههم وتفكيرهم نحوك ، حتى بدأوا يفكرون بموقعك الرسالي الذي يفتح للعقل آفاقا جديدة من التفكير ، ويضع الحياة خططا جديدة من التشريع ، مما جعلهم ينطلقون في ملاحقة الموضوع من موقع المسؤولية ، (فَلَمَّا حَضَرُوهُ) في الموقع الذي يمكّنهم من الاستماع إليه ، (قالُوا أَنْصِتُوا) حتى نعي مضمون الكلمة بدقة ووعي وإيمان. (فَلَمَّا قُضِيَ) وانتهى الرسول من التلاوة ، واستوعبوا ما سمعوه بشكل كامل ، وآمنوا بأنه الحق الذي يجب أن يلتزمه الناس فكرا وعملا ، (وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) لأن الإيمان ، في معناه الحركي ، يفرض الدعوة إليه ، فهو ليس حالة خاصة بحيث يختزنه الناس في ذواتهم ، بل هو رسالة عامة تدفع الناس إلى دعوة الآخرين إليه ، ليؤمنوا به ، بحيث يتوسع امتداده في الحياة.

(قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) من الكتب السماوية ، أو من التوراة ، باعتبار أنهم كانوا مؤمنين بها ، عاملين عليها ـ

٣٩

كما يبدو ـ (يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) في العقيدة (وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) في حركة الإنسان في الحياة ، حيث يبدأ الإنسان فيه من الله وينتهي إليه.

هذه هي الدعوة الكاملة ، فهي تنطلق من الكتاب باعتباره الوثيقة الإلهية الصادقة الناطقة بالحقيقة الناصعة ، فهو كتاب (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) [فصّلت : ٤٢] ، وهو ما ينبغي التركيز على في ما نريد تأكيده من عقائد ومفاهيم وشرائع ، وما نريد محاكمته من اختلاف في الآراء حول قضايا العقيدة والحياة ، باعتبار القرآن هو الأساس والمرجع.

* * *

(أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ)

(يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ) الذي يدعوكم إلى ما يحييكم ، باسم الله الذي خلقكم ورزقكم ، فهو يملك حياتكم ومماتكم ، ولن يدعوكم إلا إلى كل خير ، (وَآمِنُوا بِهِ) فالاستماع الواعي ، والتفكير المنفتح ، والحوار المتّزن ، يؤدي إلى الإيمان بالحق ، (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) فقد أخذ الله على نفسه غفران ذنوب المؤمنين الخاطئين المخلصين له ، (وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) لأن غفران الله هو الذي ينقل الإنسان من جوّ العذاب إلى جوّ الرحمة والرضوان. (وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ) ، فإن الله لن يفوته أحد من خلقه ، فهو المهيمن على الكون كله ، (وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ) ينصرونه من الله ، إذا أراد الله أن يعذبه على كفره وعناده بعد إقامة الحجة عليه ، (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) لأنهم ابتعدوا عن الصراط المستقيم ، ووقعوا في متاهات أوهامهم وشهواتهم.

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَ) لأنه فوق حالة الإعياء والتعب التي تصيب المخلوقين من مواقع ضعفهم الذاتي ، (بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) على أساس المعادلة العقلية التي تؤكد أن القدرة على الإيجاد تساوي القدرة على الإعادة ، لأن المسألة هي القدرة على إبداع الحياة في

٤٠