تفسير من وحي القرآن - ج ٢١

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ٢١

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٦٠

والثمار المتنوعة من الأشجار الكثيرة المختلفة في خصائصها ، (وَعُيُونٍ) تتفجر بالماء الصافي الزلال العذب ، (آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) من النعيم الذي أعده الله لعباده المتقين الذين أحسنوا العمل. (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ) إحسان الطاعة في القول والعمل وفي بناء العلاقات والمنهج المتبع. ولم تكن الطاعة لديهم حالة طارئة ، كما هي الحالات السريعة التي تأتي ثم تذهب ، بل كانت قضية روحية يتحرك بها العقل والشعور لاتصالهما في عمق الكيان بالله الواحد الرحمن الرحيم.

* * *

المتقون طلّقوا هجوع الليل

(كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) فهم في شغل عن النوم ، لاهتمامهم بعبادة الله في هذا الهدوء الساجي الممتد في قلب الظلام الذي تصفو فيه العبادة ، ويحلّق فيه الفكر ، ويرتاح فيه الشعور ، حيث يبحثون في الليل عن الصفاء الروحي يجلسون فيه إلى أنفسهم بين يدي ربَّهم ، ليكتشفوا ، في هذه اليقظة الصافية التي يخيّم عليها الهدوء ، نقاط الضعف والقوّة في داخلهم ، ليعملوا على تجاوز نقاط الضعف وتأكيد نقاط القوة. وبذلك ، فهم على استعداد دائم للتضحية بالراحة التي يجلبها النوم إلى أجسادهم لينفتحوا على آفاق روحية جديدة ، بالبعد عن الضجيج النهاري الذي يشغل الإنسان عن التأمل في نفسه كما يبعده عن معرفة عمق شعوره وفكره ووجوده.

وهم فوق ذلك (وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) ليتخففوا من الإحساس بعقدة الذنب أمام الله ، فيطلبون منه أن يغفر لهم خطاياهم التي لم يتعمّدوها أو التي تعمّدوها ، غفلةً منهم عن تأثيراتها السلبية المؤثرة على علاقتهم بالله ، وهم يشعرون بالحاجة إلى التراجع عن تلك الخطايا وتصحيحها في أوقات السحر ، حيث يشيع الصفاء والهدوء ، إحساسا بالخشوع يزحف إلى روح الإنسان المذنب ويوحي إليه أن المغفرة تطلّ عليه من أوسع آفاق الرحمة الإلهية.

٢٠١

وذلك هو شأن الاستغفار الذي ينطلق إلى الله في ابتهال الخاشع ، كما ينطلق إلى أعماق الذات في عملية تصفية روحية تدفع الإنسان إلى مواقع الصفاء.

* * *

في أموال المتقين حق للسائل والمحروم

(وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) فهم لا يعيشون أنانية الاستحواذ في ملكية المال ، ولا يعتبرون المال شأنا خاصا يملكون حرية التصرف فيه بطريقة مختنقة ضيقة بخيلة تتعقد من العطاء ولا ترى نفسها مسئولة عن مشاركة الآخرين فيه ، بل يعتبرون الملكية مسئولية إنسانية ، ويرون في المال أمانة إلهيّة تفرض عليهم إدارتها بالطريقة التي تحقق رضى الله الذي أعطى الإنسان المال ، ووضع لإنفاقه وتحصيله حدودا ، وأراد له مشاركة الآخرين فيه بطريقة أو بأخرى ، وأعطاهم وأعطى هؤلاء الآخرين حقّ الحصول على بعض منه ، ولا سيّما من كان منهم صاحب حاجة إلى سؤال الناس ، أو كان محروما من فرص العيش الكريم ، بحيث ينظرون إلى الملكية كوظيفة اجتماعية متداخلة مع الحالة الإيمانية ، وإلى المال كأمانة إلهيّة ، ويمارسون ذلك عمليا في الحياة ، وهذا ما يجعل الإنفاق من أعمال الخير الذي ينطلق من علاقة المؤمن بالله ليحدد علاقته بالإنسان.

* * *

٢٠٢

الآيات

(وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٢١) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (٢٢) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) (٢٣)

* * *

في الأرض والأنفس آيات للموقنين

(وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ) في ما أودع الله من أسرار الوجود مثل إبداعه مخلوقات حيّة متنوعة بأجهزتها وأدوارها وخصائصها وأشكالها ، في ما يسكن في سطحها ، أو يسبح في فضائها ، أو يمخر في مائها ، أو يختبئ في مغاورها وكهوفها ، أو يختفي في مساربها وأجوافها ، ولكلّ مخلوق من تلك المخلوقات غذاء يتناسب مع خصائصه ، وظروف تنسجم مع طبيعة حياته .. وإبداع مخلوقات نامية من النباتات تتغذى من العناصر المبثوثة في التراب ، أو السابحة في الأجواء ، وتتشكل بأشكال مختلفة ، وتشتمل على خصائص متنوعة تتناسب مع حاجة الأحياء والحياة ، ومخلوقات جامدة تتكشف عن أسرار الإبداع في طبيعة الخصائص الغريبة ... وقوانين طبيعية أودعها الله في عمق حركة الأرض الكونية السائرة ضمن نظام بديع متقن لا ينحرف عن مساره الطبيعي قيد شعرة.

٢٠٣

مع هذا التنوع في مشاهد الأرض وأوضاعها ، من وهاد وبطاح ، ووديان وجبال ، وبحار وبحيرات ، وأنهار وغدران ، وقطع متجاورات ، واختلاف طبائع هذه الأشياء في جمالها وأوضاعها ، وحاجة الحياة إليها في تكامل الوجود إلى خصائص الموجودات ، فإنها مهما اختلفت ، إلّا أن في داخل كلِّ منها سرا يوحي بوجود حكمة في مواقعها ، مما يؤكد لأصحاب الذهنية الواعية أن هناك خطّة مبدعة دقيقة ، متصلة الأجزاء ، موصولة الحلقات ، متعددة المواقع ، بحيث لا مجال للصدفة في كل ظواهرها ومظاهرها وأعماقها ، فلا بد من أن يكون هناك قوّة خالقة حكيمة بديعة وراء ذلك كله ، وهي قوة الله الذي أبدع كل شيء وأعطى كل موجود خلقه ، وأودع فيه سرّ الحكمة والتدبير ، الذي يستلهمه أهل اليقين في صفاء الفكر والروح والوجدان ، (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) كل هذا النظام العجائبي المتقن في هذا الجسد المحدود الذي يشتمل على أجهزة معقّدة يمثل كل واحد منها نظاما مستقلا يتكامل مع أنظمة أجهزة الجسد الأخرى ، سواء ما كان متعلقا بالجانب المادي منها أو بالجانب الروحي ؛ فكيف تتم عملية الهضم والامتصاص ، وعملية التنفس ، ودورة الدم في القلب والعروق ، والجهاز العصبي وتركيبه وإدارته للجسم ، والغدد وإفرازها وعلاقتها بنموّ الجسم ونشاطه وانتظامه ، وتناسق هذه الأجهزة وتعاونها ، وانسجامها الكامل الدقيق ، وعملية التفكير واختزان المعلومات وتحريكها وتنسيقها وإدارتها والخروج منها بنتيجة جديدة وبعلم جديد ، وانطباع الصور في الذاكرة ، وبروزها عند الحاجة ، والمساحة التي يأخذها كل هذا العالم الفكري الواسع ، المتنوع المفردات والأوضاع والأسرار من هذا الجسد؟؟

ثم عملية التناسل والتوالد وقانون توارث خصائص الآباء والأجداد ، ضمن خلية واحدة تحمل أسرار ذلك كله ، فكيف حدث هذا ، ومن الذي أبدع السرّ في داخله؟

ثم تنوّع خصائص البشر ألوانا وأشكالا وطاقات عقلية وجسدية ، واستقلال كل مخلوق منهم في خصائصه بحيث لا يلتقي فرد مع فرد آخر فيها ،

٢٠٤

كما نلاحظه في اختلاف الأصوات وفي بصمات الأصابع التي لا يماثل واحد منها إصبعا آخر في جميع العصور؟

وهكذا إذا ما غاص الإنسان في عالم نفسه المملوء بالأسرار ، وجد نفسه في متاهات من العوالم المتنوعة ، لا يخرج من عالم إلا ليدخل في عالم آخر مستقل عنه ، دون أن يصل إلى نهايته ، بل يبقى هناك مجال الوصول إلى اكتشاف جديد ومعرفة جديدة في كل العوارض والطوارئ التي تتصل بحركة الوجود في داخله وخارجه ، مما يدل دلالة واضحة بالرؤية العقلية والحسية على القدرة الخالقة الحكيمة التي تدبر ذلك كله ، وتخطط له.

* * *

الرزق في السماء

(وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) ما معنى وجود الرزق في السماء؟ قد يكون المراد به أسبابه كالمطر النازل من السماء ، فإن الماء المنهمر من السماء هو الذي يمنح الإنسان الرزق في ما يحيي به الأرض ، أو يروي به المخلوقات الحيّة ، وما يهيئ له من وسائل حياته من خلال ذلك كله من غذاء ولباس وانتفاعات عامّة.

وقد يكون المراد بالكلمة المعنى الإيحائي الذي يلتقي بالتقدير الإلهي لأرزاق العباد ، مما يجعلهم مشدودين إلى الله في كل تطلعاتهم وفي كل تمنياتهم وحاجاتهم ، باعتبار أنه المصدر الحقيقي للرزق ، ليعيش الإنسان الإيمان بالله والاعتراف بالحاجة إليه في كل أموره بالمستوى الذي يربط كل مفردات حاجاته اليومية به ، وهذا ما يمكن أن نستوحيه من قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) [الحجر : ٢١].

أمّا المراد بقوله : (وَما تُوعَدُونَ) ، فقد ذكر أنه الجنة التي وعد الله عباده بالغيب .. وقيل : إن المراد به أسباب الرزق وهو غير ظاهر. (فَوَ رَبِّ السَّماءِ

٢٠٥

وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) الظاهر أن الضمير راجع إلى الوعد الإلهي في ما يعد الله به عباده ، ليتأكدوا من ذلك ويستعدوا له ، وليؤمنوا به كحقيقة حاسمة ، تماما كما هو إيمانكم بالنطق الذي يصدر منكم وإحساسكم القوي به.

* * *

٢٠٦

الآيات

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (٢٤) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٢٥) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (٢٦) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ(٢٧) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٢٨) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (٢٩) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) (٣٠)

* * *

معاني المفردات

(فَراغَ) ؛ الروغ : الذهاب إلى الشيء في خفية.

(فَأَوْجَسَ) ؛ الإيجاس : الإحساس في الضمير.

(خِيفَةً) : خوفا.

(صَرَّةٍ) ؛ الصرة : شدة الصياح وهو من صرير الباب ، ويقال للجماعة :

صرة.

٢٠٧

(فَصَكَّتْ) : ضربت.

* * *

حديث ضيف إبراهيم

وهذه قصة عجيبة في إعجازها الإلهي ، حيث رزق الله إبراهيم غلاما بعد أن بلغت امرأته سنَّ اليأس ، وهي توحي للإنسان بأن عليه أن ينفتح في إيمانه على الله دون ارتباط بالأسباب العادية المألوفة ، فإن الله يرزقه من حيث لا يحتسب ، ويحرسه من حيث لا يحترس ، ويبدع له الأسباب الخفية من حيث لا يعلم ، مما يؤكد ثقته بربّه سبحانه.

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ) وهم الملائكة الذين دخلوا عليه (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً) في تحية الإسلام التي أراد الله أن تكون شعارا يخاطب المؤمنون به بعضهم بعضا ، للإيحاء بمضمون السلام الشعوري في علاقاتهم العامة والخاصة ، ف (قالَ سَلامٌ) ، في جواب ينفعل بمعنى السلام المطروح منهم.

ولكنه تساءل في قلق عن هويّتهم ، لأنه لا يتذكر أنه رآهم من قبل ، ولهذا بادرهم بالقول : أنتم (قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) لأني لا أعرفكم فيمن أعرفه من الناس ، ولكن ذلك لم يمنعه من الاستعداد لتدبير أمر ضيافتهم ، (فَراغَ إِلى أَهْلِهِ) أي ذهب إليهم دون أن يشعر ضيوفه بذلك ، (فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ) بعد أن ذبحه وشواه كما تدل عليه طبيعة المقام ، (فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ) وعرضه عليهم ، ولكنهم امتنعوا عن الأكل ، لأنهم لا يأكلون الطعام ، (قالَ أَلا تَأْكُلُونَ) في استنكار لامتناعهم عن الأكل متسائلا عن السبب ، ولكنهم لم يجيبوا عن الموضوع.

(فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) لأنهم بدوا له ، بسبب تصرفهم غير المعتاد ، أشخاصا غير طبيعيين كضيوف ، فبادروه بالإعلان عن صفتهم الملائكية وبأنهم يحملون إليه رسالة إلهية في موضوع خاص وآخر عام ، أمَّا الخاص ، فيتصل

٢٠٨

بحياته الشخصية حيث (قالُوا لا تَخَفْ) فلسنا بشرا لنأكل كما يأكل البشر ، بل نحن من الملائكة المرسلين إليك من قبل الله ، (وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) فزال خوفه منهم ، وتقبَّل البشارة بوعي رسوليّ إيمانيّ مؤمن بقدرة الله ، أما امرأته ، فقد هزتها المفاجأة بشدة ، لأنها لم تكن تنتظر هذا الحدث.

(فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ) كناية عن الضجيج الذي أثارته في مواجهة الموقف ، أو أنها جاءت في جماعة من الناس ، (فَصَكَّتْ وَجْهَها) أي لطمت وجهها بقوّة ، (وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ) أي كيف ألد وأنا عجوز غير قادرة على الإنجاب ، لأني بلغت سن اليأس؟! (قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ) في ما أرسلنا لإبلاغه من حدث قدّر وقوعه ، فليس هناك مجال للمفاجاة ، وليس هناك مبرّر للشك ، (إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) فهو الذي يدير الأمور بحكمته ، ويقدّرها بعلمه.

* * *

٢٠٩

الآيات

(قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٣١) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٣٢) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (٣٤) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ) (٣٧)

* * *

معاني المفردات

(خَطْبُكُمْ) ؛ الخطب : الأمر الخطير الهام.

(مُسَوَّمَةً) : ذات علامة.

(لِلْمُسْرِفِينَ) ؛ الإسراف : تجاوز الحدّ ، وهنا المتجاوزون الحدّ في المعاصي.

* * *

٢١٠

إهلاك قوم لوط

وتساءل إبراهيم ـ بعد ذلك ـ عن طبيعة المهمّة العامة التي جاءوا بها ، لأن البشارة بالولد لا تقتضي مجيء مثل هذا العدد منهم أو هذا القدر من الاهتمام.

(قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) أي ما هو الشأن الخطير الذي أرسلكم الله به؟ (قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) وهم قوم لوط الذين تأصّلت الجريمة فيهم وامتدت في حياتهم حتى شملت كل ساحتهم ، فحق عليهم عذاب الله (لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ* مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ) تحمل علامات قضاء الله المحتوم بهلاكهم ، فقد تجاوزوا الحدود التي فرضها الله لعباده ، (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) بإخراج لوط وأهله ما عدا امرأته التي حق عليها العذاب لاتّباعها قومها ، (فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) مما يوحي بأن تجربة لوط مع قومه لم تكن موقفة ، إذ إن أحدا منهم لم يتبعه ، لأن انحرافهم كان يتصل بالغريزة الجنسية ، وتحوّل الشذوذ والانحراف لديهم إلى عادة متأصلة يتطلب تركها والابتعاد عنها كثيرا من الجهد والعناء ، ومزيدا من الإيمان ، ليتمكّنوا من الوقوف بشدة ضد نزواتهم وتسليم أمرهم إلى الله في ذلك كله.

ونزل العذاب ، فأخذهم جميعا ، ولم يبق منهم أحد ، وبقيت العبرة لمن يأتي من بعدهم ، توحي لهم بما يمكن أن يحل على من يتمردون على رسالات الله من عذاب (وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ) ليتحرك فيهم الإحساس بالخوف ، ويقودهم إلى التراجع عن خط الكفر والانحراف.

* * *

٢١١

الآيات

(وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (٤٠) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (٤١) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (٤٢) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (٤٣) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٤٤) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (٤٥) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) (٤٦)

* * *

معاني المفردات

(بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) : بحجة ظاهرة.

(فَتَوَلَّى) : فأعرض.

(بِرُكْنِهِ) ؛ الركن : الجانب الذي يعتمد عليه ، وهنا : ركنه : جنده.

(فَنَبَذْناهُمْ) ؛ النبذ : طرح الشيء من غير أن يعتدّ به.

٢١٢

(الْيَمِ) : البحر.

(مُلِيمٌ) : آت بما يلام عليه.

(كَالرَّمِيمِ) : كالشيء البالي الهالك.

(فَعَتَوْا) ؛ العتوّ : النبوّ عن الطاعة ، وينطبق على التمرد.

* * *

آيات الله في قوم موسى عليه‌السلام

وتتوالى آيات الله التي تثير الخوف من غضبه ، وتدفع الناس إلى اتخاذ موقف مسئول من الواقع الذي يحيط بهم ، ليقودهم ذلك إلى التأمل والتفكير في قضية الرسالة ومفاهيمها وتشريعاتها ومناهجها في الحياة ، وفي قيادة الرسول للحياة وللإنسان من خلالها ، وتمر علينا في هذه الآيات قصة موسى عليه‌السلام مع قومه ، وقصة عاد مع نبيهم ، وقصة ثمود مع رسولهم ، وقصة قوم نوح عليه‌السلام ونهايتهم الساحقة ، ليعتبر بذلك الذين يقيمون على الكفر ، ليبتعدوا عن العناد وينفتحوا على الإيمان.

(وَفِي مُوسى) آية لمن أراد الاعتبار (إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ) الذي كان يحكم الناس بالطغيان والجبروت ، ويعلو عليهم بادعاء الربوبية ، ويتحكم في المستضعفين منهم بكل أساليب التعسف والبغي ، من قاعدة الاستكبار الذي يقوم على حماية مصالح المستكبرين على حساب حرية المستضعفين.

فجاء موسى عليه‌السلام ليقف في وجه ذلك كله ، من موقع الحجة والبرهان ، (بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) في ما مكّنه من المعجزة التي أذهلت فرعون وهزّت توازنه ، وجعلته يطلق الكلام دون وعي ، ليثير في وجه موسى كلمات الاتهام غير المسؤول ، والسباب غير الموزون ، (فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ) الذي يعتمد عليه ، وهو القوم الذين يستقوي ويحارب بهم ، وأعرض عن موسىعليه‌السلام ، وأخذ قومه

٢١٣

معه في هذه اللامبالاة التي توحي بالاستخفاف والغطرسة ، (وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) اتهمه بالسحر تارة ليسقط تأثير معجزته على من حوله ، كي لا يؤمنوا به من خلالها ، وبالجنون أخرى ، لإبطال تأثير دعوته إلى الإيمان بالله والتوحيد في عبادته ، والإخلاص في طاعته ، وإلى إنقاذ المستضعفين من سيطرة الحكم الاستكباري الطاغي المتمثل بحكمه.

وتختصر الآية الموقف الفرعوني كله ، لتصل إلى الأخذ الإلهي الحاسم الذي استأصل قوة هؤلاء وجعل الغلبة للحق في رسالة موسى عليه‌السلام. (فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِ) حيث غرقوا جميعا (وَهُوَ مُلِيمٌ) أي ملوم ، لا يملك عذرا لما قام به ، ولا حجّة لما عمله بقيادته جنوده إلى الهلاك ، فانظروا عاقبة الذين طغوا وبغوا في البلاد وتنكّروا لرسول الله.

* * *

وفي عاد وثمود ونوح

(وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ) التي لا تنفع الحياة شيئا ، خلافا لحال الرياح التي تنشئ السحاب ، وتلقح الشجر ، أو تذرو الطعام ، بل هي ريح تنتج الهلاك الذي يزهق الأرواح ، ويهدّم الدور ، ويقصف الأشجار.

(ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ) في محيطها الذي تتحرك فيه (إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) إلّا أهلكته وجعلته شيئا باليا .. وتلك آية لمن أراد الاعتبار ، فهل نفهم جبروتهم واستكبارهم وتمرّدهم على الله ورسوله؟!

(وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ) إذ أمهلهم نبيهم صالح لما عقروا الناقة ثلاثة أيام ليرجعوا عن كفرهم وعنادهم ، وذلك هو قول الله تعالى : (تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) [هود : ٦٥].

(فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) وتمردوا عليه واستخفّوا بوعيده ، واعتبروا عقر الناقة

٢١٤

انتصارا لهم على الرسول ، فلم يستفيدوا من المهلة التي أعطاهم إياها ، (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ) التي جاءت مفاجأة لهم ، وهي صيحة أسكتت فيهم كل نبضة للحياة ، (وَهُمْ يَنْظُرُونَ) إليها نظرة خائفة حائرة ، (فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ) في ما يقوم به الإنسان ليدافع عن نفسه ، (وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ) لو أرادوا الدفاع ، لأنهم لا يملكون وسيلة له ، أو أراد غيرهم الدفاع عنهم ، فلينظر الناس إلى هؤلاء ليأخذوا العبرة كيف يهلك الله الكافرين.

(وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) في شركهم بالله وتمردهم على أمره ونهيه ، وفي تكذيبهم رسالة نوح عليه‌السلام ، وسخريتهم منه ، واستهانتهم به ، فأخذهم الطوفان وهم لا يشعرون.

* * *

٢١٥

الآيات

(وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (٤٧) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (٤٨) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٤٩) فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) (٥١)

* * *

معاني المفردات

(بِأَيْدٍ) ؛ الأيد : القوة.

(فَرَشْناها) : بسطناها.

(الْماهِدُونَ) : الموطئون والمهيئون.

* * *

جولة في آيات الله في الكون

وتتابع السورة حديثها عن آيات الله في الكون ، ليستلهم الإنسان منها

٢١٦

عظمة الخالق ، فيرتبط به ، ويلتزم بهداه ، ويتحرك مع رسله في خط رسالاته على أساس الوعي ، في ما هي حركة الحسّ وتحليل الوجدان ، لأن الله لا يريد للإنسان أن يؤمن إيمانا أعمى ، كما لا يريد أن يكفر على أساس التقليد والهوى الذاتي.

(وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ) أي بقوّة تملك سر الإبداع ، ودقة الصنعة ، وقوة الإمكانات ، وروعة الصورة ، وتناسق المواقع ، (وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) قيل : إن كلمة «لموسعون» من الوسع وهو الطاقة ، ومعناها : لقادرون كما في تفسير الكشاف (١) ، وقد يكون معناها القدرة على الإنفاق من موقع السعة ، وربما كانت تعني اتساع الرزق بالمطر ، وقيل : إن المراد بها ، جعلنا بينها وبين الأرض سعة ، وهناك نظرية حديثة تقول بإمكانية اتساع السماء بطريقة ما.

ولعل الأقرب إلى الذهن ، هو أنها تتحدث عن قدرة الله المتحركة في ساحة نعمته ، مما يوحي بأن الله هو من يملك القدرة التي بنى بها السماء وأرادها مصدرا للنعمة على خلقه ، وربط بينها وبين الأرض ، في ما تحتاجه لاستمرار المخلوقات الحية والنامية والجامدة فيها من شمس ومطر وما إلى ذلك. فإذا كان الله قد أكد النعمة من ناحية المبدأ ، فإنه قادر على توسيعها من ناحية التفاصيل.

(وَالْأَرْضَ فَرَشْناها) أي مهّدناها وسهّلنا سبل الحياة فيها بمستوى يوفر لكل المخلوقات الحية ـ وفي طليعتها الإنسان ـ راحة العيش واطمئنانه ، لما أودعه الله فيها من عناصر تتوقف عليها الحياة في باطنها وظاهرها ، وفي جميع مفرداتها الحية وغير الحية ، مما يجعل كل شيء يتغذى ويستعين بشيء آخر ، وبذلك تكون كلمة التمهيد كناية عن تسهيل العيش براحة طبيعية ، (فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) نحن ، مما يفتح للإنسان نافذة للتفكير بعلاقة حياته بالله وارتباطها به ، بحيث

__________________

(١) انظر : تفسير الكشاف ، ج : ٤ ، ص : ٢٠.

٢١٧

يشعر بعمق الحاجة إليه في كل أموره وأوضاعه ، ليعيش حضور الله في كل مفردات الحياة في الأرض بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.

* * *

قانون الزوجية في الكون

(وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) مما تعلمونه ، ومما لا تعلمونه من المخلوقات الحية والنامية وحتى الجامدة ، فقد اكتشف الإنسان أن الذرة ، التي قيل إن بناء الكون يرجع إليها ، مؤلفة من زوج من الكهرباء موجب وسالب ، وربما تكشف الأبحاث العلمية عن أشياء أخرى في هذا المجال ، والقضية التي تفرض نفسها على التفكير في هذه المسألة ، هي أن الله ـ في شمول عبارة «كل شيء» ـ يؤكد على وحدة الأساس الذي يرتكز عليه النظام الكوني ، وهو قانون الزوجية الذي تتنوع مفرداته وأشكاله وأوضاعه وأساليب حركته ، مما يفتح أمام الإنسان باب السعي لاكتشاف التفاصيل ، ذلك أن الله أراد لكتابه أن يشير إلى العنوان ، ليبحث الناس في المعنون الذي يختفي وراءه تارة ، وأراد أن يشير إلى المنهج أخرى ، لينطلق الفكر لاكتشاف مفرداته. فالقرآن لا يدخل في تفاصيل النظرية ، بل يوحي بها ، كمنطلق للبحث وللتفكير.

(لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) في ما يعنيه التذكر من انفتاح الفكر على كل المواقع التي توسّع آفاقه ، وتبعد عنه الغفلة والغيبوبة في الضباب ، (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) وتخلّصوا من كل القيود التي تثقلكم وتمنعكم من الانطلاق في رحابه وساحة قدسه ومواقع رضاه ، ومن كل الأوضاع التي تحاصركم وتعطل حركتكم نحوه ، ومن كل الأشخاص الذين يريدون وضع الحواجز التي تحول بينكم وبين الوصول إليه في خط رسله ورسالاته مما يجعلكم بعيدين عن طاعته ، ويعرضكم لعقابه وللبعد عن رحمته ، (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) فليس الفرار إليه فرارا من مكان إلى

٢١٨

مكان ، بل هو حركة من موقف في خط المعصية أو الكفر أو الشرك ، إلى موقف آخر في خط الإيمان والعمل الصالح ، لأن الله أنذر الكافرين والمشركين والمتمردين بعقابه ، فاعملوا على اجتناب مواقع عذابه.

(وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) بالشرك في العقيدة ، أو في الطاعة والعبادة ، فإن التوحيد الفكري والعملي هو القاعدة التي تكفل النجاة في المصير ، (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) فلا قيمة لأيّ عمل صالح إذا لم يكن مرتبطا بالخط الإيماني من قريب أو من بعيد.

* * *

٢١٩

الآيات

(كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٥٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (٥٤) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) (٥٥)

* * *

معاني المفردات

(أَتَواصَوْا) ؛ التواصي : إيصاء القوم بعضهم بعضا بأمر.

* * *

سنّة تكذيب الرسل وصمود المرسلين

(كَذلِكَ) أي هذا الأسلوب الذي مارسه المشركون من قريش ومن غيرها في اتهام الرسول بالسحر أو الجنون ، لم يكن أسلوبا جديدا ، بل هو استمرار للأساليب السابقة التي استعملت في مواجهة الأنبياء من قبله ، فليست هناك

٢٢٠