تفسير من وحي القرآن - ج ٢١

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ٢١

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٦٠

الآيات

(فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (٢٩) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (٣١) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٣٢) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٣٤) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (٣٥) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (٣٦) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (٣٩) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٠) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤١) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٣) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ) (٤٤)

* * *

٢٤١

معاني المفردات

(بِكاهِنٍ) ؛ الكاهن : الذي يذكر أنه يخبر عن الحق على طريق العزائم.

(نَتَرَبَّصُ) ؛ التربص : الانتظار.

(رَيْبَ الْمَنُونِ) : قلق الموت.

(أَحْلامُهُمْ) ؛ الأحلام : جمع حلم ، وهو الإمهال الذي يدعو إليه العقل والحكمة.

(تَقَوَّلَهُ) ؛ التقوّل : تكلّف القول ، ولا يقال إلا في الكذب.

(الْمُصَيْطِرُونَ) ؛ السيطرة : الغلبة والقهر.

(مَغْرَمٍ) : ما يلزم أداؤه من المال.

(مُثْقَلُونَ) ؛ المثقل : المحمول عليه ما يشق حمله ؛ وهو كناية عن المشقة.

(كَيْداً) ؛ الكيد : المكر.

(كِسْفاً) ؛ الكسف : القطعة من الغيم.

(مَرْكُومٌ) ؛ المركوم : المتراكم بعضه على بعض.

* * *

علام يستند المشركون بالله .. وماذا ينتظرون؟!

(فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ) فتابع سيرك في الدعوة إلى الله من أجل إخراج الناس من ظلام الغفلة الذي يطبق على عقولهم إلى إشراقة الذكرى التي تفتح لهم باب الإيمان بالله ، ليتحركوا في خط الرسالة ، ولا تلتفت إلى كل ما يثأر حولك من تهاويل ، وما يطلق عليك من أوصاف لا أساس واقعيّا لها ، فهم يلصقون بك الكهانة لإبطال قداسة الوحي في نفوس

٢٤٢

الناس ، والجنون لإسقاط حركة الوعي في رسالتك ، فلست ، بما أنعم الله عليك من وحي صاف صفاء القدس الإلهي ، ومن عقل واع يمنح العالم عقلا ، ويحرك عقول الناس في اتجاه الفكر العميق المتزن الممتد في رحاب الحياة كلها ، كما يقولون.

(أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) ليجعلوا القرآن ، وهو وحي الله ، شعرا ينسجه الخيال ، ويتحرك في آفاق الوهم مما لا يلتقي بالصدق إلا قليلا ولا ينفتح على الحق إلا بالصدفة ، ولا يملك من الفكر المتوازن أي أساس ، فلنترك لخياله الشاعري مجال التعبير ، فلن يستطيع أن يغير شيئا من أوضاعنا ويبعدنا عن أوثاننا المقدسة ، وسينتهي الأمر به إلى الهلاك ، فنرتاح من كل مشاكله المثيرة المزعجة. (قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) لأن الانتظار لن يوصلكم إلى ما تريدون ، ذلك أن الرسالة ستفرض نفسها على الواقع وستؤكد مفاهيمها في حركة الإنسان والحياة ، وستهزم الوثنية وكل خطط الشرك ، وقد يموت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكن الرسالة لن تموت ، لأنها وحي الله الذي يرعى رسالاته بما يرعى به الوجود كله ، وهذا هو الفرق بين انتظار الرسول وانتظار خصومه ، فهم ينتظرون موت الرسول لانتهاء الرسالة لأنهم يربطونها بحياته كشخص في تفكيرهم ، أمّا الرسول ، فينتظر انتصار رسالته ، ويترقب انفتاح قلوبهم على الحق من حيث يريدون أو لا يريدون ، كما ينتظر عذاب الله الذي يحل بهم في الدنيا والآخرة إذا أصرّوا على شركهم وانحرافهم.

ومن هنا كان الرسول هو الأقوى في التربص ، بينما كانوا في موقف الضعف ، (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا) المنطق العدواني المبني على الأوهام الضالة والأحلام ، أم هي عقولهم الساذجة التي لا تقودهم إلا إلى الضلال ، (أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) فهم يعرفون الحقيقة الرسولية في شخص الرسول ، ويملكون اليقين بالرسالة المنطلقة من وحي الله ، ولكنهم يتمردون عليها طغيانا وكفرا وعنادا بسبب شخصياتهم المعقدة التي تعيش الاستكبار بعنوان تميز الذات أو الطبقة ، (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ) في ما ينسبونه إليك من الكذب على الله ، ومن اختلاف الرسالة؟

٢٤٣

(بَلْ لا يُؤْمِنُونَ) فليست القضية عندهم قضية قناعة ذاتية بما يقولون عنك ، بل هي قضية رفض معقد للإيمان ، بعيدا عن حركة العقيدة الفكرية. فإنهم إذا كانوا جادّين في اعتبارهم القرآن كلام بشر يدّعيه الرسول وينسبه إلى الله ، (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) في دعواهم هذه ، لأن البشر يمكن أن يتحدى كلام بشر مثله ، ولكنه لا يستطيع أن يتحدى كلام الله.

* * *

أين قدرتكم لتتحدّوا ربّ العالمين؟!

(أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) وهذا هو بداية التساؤل الذي يطرح المسألة في نطاق قدرتهم ليطرح المسألة من جميع جوانبها ، فهؤلاء الذين يقفون موقف التحدي لله ورسوله ، وهم المخلوقون الذين كانوا عدما ، كيف وجدوا؟ هل كان وجودهم مجرد صدفة أنتجتها حركة الوجود؟ وكيف يمكن لموجود لا يملك في ذاته ما يحتّم وجوده ، أن يوجد بذاته؟ فكيف خلقوا من غير شيء؟ (أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) الذين خلقوا أنفسهم ، وكيف يخلق الإنسان نفسه من العدم ، وإذا تجاوز التساؤل وطال إلى السّماوات والأرض التي يقفون عليها ويستظلون بها (أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) حتى يقفوا هذا الموقف المتحدي الذي يوحي باستعراض القوّة أمام الله ، وكيف تعقل مثل هذه الفرضية التي يعرفون عدم صدقها في واقعهم الحياتي؟! (بَلْ لا يُوقِنُونَ) لأنهم لا يأخذون بأسباب اليقين لما يعيشونه من أجواء اللّامبالاة التي تمنعهم من تركيز أفكارهم في دائرة التوحيد ، وتدفعهم إلى اتخاذ مواقف غوغائية وإطلاق كلمات لا معنى لها ، كما أنهم لا يملكون قدرات أخرى تمكنهم من تأدية الدور الذي يريدون أن يلعبوه في حياة الناس ، وليؤكدوا قوتهم من خلاله.

(أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ) المادية والمعنوية ليمنعوا من يشاءون ، أو ليعطوا من يشاءون من النبوّة والمال والملك والقدرة ونحو ذلك ، (أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ)

٢٤٤

الذين يملكون السلطة القاهرة القادرة التي تستطيع سلب نعم الله عن العباد ، أو تستطيع عزلك عن النبوّة ، (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ) يصعدون عليه إلى السماء ليستمعوا إلى الوحي ليكون لهم العلم السماوي الذي يتفوقون به على الآخرين ويختصون به دونهم ، انسجاما مع تصوراتهم الخيالية التي يتوهمون من خلالها أن السماء مكان يمكن الصعود إليه بالوسائل التي يستعملونها في الوصول إلى الأماكن العالية في حياتهم الأرضية ، فإذا كانت هذه الأوهام معقولة لديهم (فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) في ما قد يدعيه من نزول الوحي عليه .. فأين الحجة على ذلك ، وأين البرهان؟

(أَمْ لَهُ الْبَناتُ) فقد كانوا يعتقدون أن الملائكة إناث ويعتبرونهم بنات الله ، في الوقت الذي كانوا يرفضون فيه ، نتيجة تقاليدهم ورغباتهم الذاتية ، أن يكون لهم البنات في ما يرزقونه من الذرية ، وهكذا كانوا يتوهمون أن لله بناتا ، (وَلَكُمُ الْبَنُونَ) الذين يمنحونهم ميزة على مستوى القيمة والمنفعة المادية. (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً) كما يسألهم الكثيرون ممن يقدمون الخدمات المعنوية والمادية دفع العوض عنها ، (فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) رازحون تحت الثقل المادي الذي يلقى عليهم ، فيهربون منك ليتخلصوا منه ، ولكنك لا تفعل ذلك لأنك لم تسألهم أجرا على تبليغ الرسالة؟!

(أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ) الذي يطلّ بهم على خفايا الأمور وتطلعات المستقبل ، (فَهُمْ يَكْتُبُونَ) ليثبتوه للناس ليتعلّقوا بهم على أساس هذه القدرة الغيبية الخفية التي يملكونها ، فتكون لهم السيطرة عليهم؟!

(أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً) يكيدون به للإيمان والمؤمنين بأساليب يلفّون فيها ويدورون ليهزموا مواقف الرسول وأتباعه ، بالحرب النفسية تارة ، وبالخطط العدوانية أخرى ، (فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ) الذين يبطل الله كيدهم ويردّه إلى نحورهم ، ويقودهم في نهاية المطاف إلى النار وبئس القرار؟!

(أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ) لينطلقوا معه في محاربة الله ورسله ، في ما يمكن أن

٢٤٥

يثيره التصور المنحرف الزائف ، (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) مما ينسبونه إليه من شركاء لا مكان لهم إلا في نفوسهم المريضة المنحرفة وعقولهم المتخلفة الغارقة في الأوهام.

(وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً) مما يمكن أن ينزل عليهم من العذاب السماوي ، فلا يتعظون به ، (يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ) أي متراكم ، فلا يرون فيه آية من العذاب.

* * *

٢٤٦

الآيات

(فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (٤٥) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٦) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٧) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (٤٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ) (٤٩)

* * *

معاني المفردات

(يُصْعَقُونَ) : يهلكون بوقوع الصاعقة عليهم.

* * *

يوم يصعق الكافرون

بعد هذه الجولة الطويلة مع تصورات المشركين وأوهامهم ومشاكلهم وأساليبهم العدوانية ، تنتهي السورة بنداء يطلقه الله إلى رسوله أن لا يتعقّد من

٢٤٧

ذلك ، ولا يتوقف أمام هذه التعقيدات الواقعية ، بل يتابع مسيرة رسالته ، لأن العاقبة له ، أمّا هؤلاء ، فإنهم سيواجهون اليوم الذي يصعقون فيه ، وسيتحطم كيدهم على صخرة الحقيقة الأخروية أمام الله.

(فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ) عند ما ينفخ في الصور ، فيصعق من في السماوات والأرض ، (يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) لأن مكر الدنيا لا يمكن أن يترك أيّ تأثير إيجابيّ لمصلحة الماكرين ، (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) لأنهم لا يملكون أيّة قوّة من أيّة جهة كانت ، فمن يمكن أن يحميهم من الله ، فهو يملك القوة جميعا.

(وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ) ويقال إنه عذاب القبر ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) لأنهم غارقون في ضلالهم وغيّهم وعنادهم ، (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) في ما قدّره الله من حركة الرسالة في مواجهة خصومها ، ومن المشاكل التي تواجه النبي في ساحة الدعوة والجهاد ، (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) التي ترعاك وتحميك وتحفظك وتراقب كل خطواتك وصبرك في مواقفك ، (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) فإن التسبيح الذي يختزن حمد الله في داخله ، هو الذي يملأ الروح والعقل والقلب اطمئنانا وصبرا وانفتاحا على الأمل الكبير في رحاب الله ، (حِينَ تَقُومُ) في صلاتك التي هي معراج روح المؤمن إلى الله ، (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) في صلاة الليل وفي ابتهالاته وخشوع الروح فيه ، عند ما تهدأ الأصوات ، ويسكن الجو ، وتصفو القلوب في هدوء السحر ، (وَإِدْبارَ النُّجُومِ) عند ما تختفي الكواكب مع ضوء الصبح ليبدأ يوم جديد تشرق فيه الحياة بقدرة الله لتنطلق خطوات الرسالة في درب المسؤولية المنفتحة عليه.

وهكذا تنطلق حركة الرسالة من انفتاح الرسول على الله بالدعاء والتسبيح والحمد ، ليكون ذلك خطا يتبعه الدعاة إلى الله والعاملون في سبيله ، وتكون الدعوة رسالة في وعي السائرين في دروبها ، ولا تتحول إلى مهنة في حياتهم وتجارة في سوق البيع والشراء.

* * *

٢٤٨

سورة النّجم

مكيَّة

وآياتها اثنتان وستّون

٢٤٩
٢٥٠

في أجواء السورة

هذه السورة من السور المكية التي تتحدث عن الوحدانية التي تطل على الكون كله من موقع الألوهية والربوبية والقدرة والعلم والحكمة ، مما يجعل الوثنية بكل مظاهرها ، حالةً خرافيةً في وعي هؤلاء المشركين الذين لم ينطلقوا من موقع الوعي ، بل انطلقوا من موقع التقليد الأعمى والتخلّف المعقّد ، كما تدعو الناس إلى التأمل والتفكير والإعراض عن هؤلاء الجاهلين.

وتعالج السورة الوحي كأساس من أسس الحقيقة الإيمانية التي لا مجال للريب فيها ، ولا تخلو من الإشارة إلى المعاد الذي يشكل عمق العقيدة ويوجّه الناس إلى المسؤولية في ما يفعلون أو يتركون ، ليواجهوا نتائجها عند ما يقفون غدا بين يدي الله. وفي هذا الجو كله نلتقي بالمبادئ الإسلامية التي تلتقي فيها العدالة بالمسؤولية الفردية ، حيث يتحمل الإنسان وحده نتائج عمله ، فلا يحمل أيُّ إنسان مسئولية عمل شخص آخر غيره.

* * *

٢٥١

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الآيات

(وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (١) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (٢) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (٤) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (٧) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (١١) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (١٢) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (١٤) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (١٥) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (١٦) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (١٧) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) (١٨)

* * *

معاني المفردات

(هَوى) : سقط.

(ضَلَ) ؛ الضلال : الخروج والانحراف عن الخط المستقيم.

(غَوى) : ضلَّ وفارق الهدى.

(مِرَّةٍ) : حصافة العقل والرأي ، أو هي الشدة والقوة.

٢٥٢

(بِالْأُفُقِ) ؛ الأفق : ناحية السماء.

(دَنا) : قرب.

(فَتَدَلَّى) ؛ التدلي : التعلق بالشيء ، ويكنى به عن شدة القرب.

(قابَ) : قدر.

(أَفَتُمارُونَهُ) : أفتجادلونه.

(زاغَ الْبَصَرُ) : مال.

(طَغى) : جاوز القصد والحد.

* * *

القرآن وحي لا هوى

(وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) والمراد به ـ على الظاهر ـ الكوكب السماوي الذي يضيء في السماء ثم يسقط نحو الغروب ، وهناك أقوال أخر في معناه ولكن من دون دليل على كونها مقصودة في الآية ، في حين يحدد المعنى المطلق للنجم ظاهر اللفظ ، الذي يتناسب مع الآيات التي أقسم الله فيها ببعض الأجرام السماوية كالشمس والقمر ونحوهما.

(ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) فليس في دعوته خروج عن الخط المستقيم إلى متاهات الانحراف التي يتحرك فيها الناس يمينا وشمالا بعيدا عن الهدى المشرق بالحق ، وليس في حديثه أيّة غواية فكرية أو شعورية مما قد يفرضه الجهل الذي يدفع الناس إلى الاعتقادات الفاسدة البعيدة عن الرشد المنفتح على الله ، بل هو خط مستقيم واضح في العقيدة والمنهج والشريعة يكفل للإنسان السعادة في الدنيا والنجاة في الآخرة ، ولكن ذلك يحتاج إلى الأخذ بأسباب الفكر العميق الذي يعيش فيه الإنسان الموضوعية والتجرد من الهوى ، حتى لا يغرق في أجواء الذاتيات الخاضعة للمؤثرات الحسية والعاطفية.

٢٥٣

(وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) لأن دراسة تاريخه وسمات شخصيته المبنية على العقل والاتزان ، تدل على أنه كان يزن كل كلمة يريد أن يتكلم بها لتكون كلمة عقل وحق ، مما جعله موضع احترام كل أفراد مجتمعة قبل النبوّة ، لأنه كان الصادق في قوله ، الأمين على مجتمعة. كما أن دراسة مفاهيم رسالته التي تتحرك في مواقع الغيب من جهة ، وفي مواقع الحسّ من جهة أخرى ، توحي بالحقيقة التي لا يقترب إليها الباطل من قريب أو من بعيد (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) أوحى به الله إليه في آياته ليبلّغها لعباده لتدلّهم على الصراط المستقيم.

(عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) فقد أعطاه علم القرآن ليعيه في صدره وليبلّغه بلسانه .. وربما كان المراد به جبرائيل عليه‌السلام الذي وصفه الله بالقوة في قوله تعالى : (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) [التكوير : ٢٠].

وربما كان المراد به الله سبحانه الذي علّم نبيه ذلك بواسطة ملائكته ، أو بالطريقة المباشرة في قصة المعراج ، كما وردت بذلك بعض الروايات.

(ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى) أي صاحب عقل ورأي ، أو شدّة ـ كما جاء في تفسير كلمة المرّة ـ ويقال : إن المقصود به جبرائيل عليه‌السلام الذي يملك هذه الصفة التي تتيح له أن يبلِّغ الرسالة بقوّة وكفاءة ، فاستقام في خط المهمّة التي أوكلت إليه ، أو سيطر عليها بقوّة ووعي ، وقيل : إن المراد بذلك الصورة الملائكية الحقيقة لجبرائيل الذي كان ينزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصورة بشر ، فأحب أن يراه بصورته التي جبل عليها ، (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) من السماء حيث ملأ الأفق بهيئته ، (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى) بحيث قرب من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) أي مقدار قوسين أو أقل من ذلك ، وهو تعبير كنائي عن منتهى القرب.

* * *

الرسول يعاين الوحي حسيا

(فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ) أي عبد الله ، وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، (ما أَوْحى) من القرآن

٢٥٤

بالمستوى الذي لا مجال فيه لأيّ شكّ أو شبهة ، لأن هذا المستوى من القرب لا يمكن أن يخدع العين ، أو يثير الريب في النفس (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) لأن الرّؤيا القلبية تتعمَّق كلما دنت الرؤية البصرية من الشيء ، فلا وجه لمجادلته في هذه التجربة الحسية وإيحاءاتها الروحية ، فإذا كان صادقا في ما يخبركم عن الحس ، فلا بدّ من أن يكون صادقا في ما يستوحيه من ذلك.

(أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى) فتدخلون معه في جدل يثير الشك في ما لا مجال للشك فيه وهو الرؤية المباشرة؟! (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) أي مرّة ثانية عند ما نزل عليه جبرائيل بهذه الصورة في موقع آخر ، (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) وذلك ليلة المعراج ، كما قيل ، ووقع الخلاف في المراد بهذه السدرة ، هل هي شجرة في السماء أو غير ذلك؟ إنه أمر لم يشرحه الله لنا ، فلنكتف بمعرفته المبهمة على الطريقة القرآنية في ذلك في ما لا مجال للدخول في تفاصيله.

(عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) التي يأوي إليها المؤمنون (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) مما لا يمكن أن يحيط به الفكر ، أو يقترب إليه الخيال ، فليترك علمه إلى الله الذي أراد أن يجعل الإنسان يحلّق في هذه الأجواء السماوية ، بما يفيض عليه من روحانية العظمة المنفتحة على غيبه ، في ما يتصاغر به الإنسان أمامه ـ تعالى ـ ، من خلال التصاغر أمام خلقه ..

* * *

آيات الله تزيد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقينا

(ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) بل كانت الرؤية واضحة دقيقة ، لا مجال فيها لزغللة العين ، بحيث تتجاوز الرؤية الحد الحقيقي والواقعي للأشياء ، فالبصر هنا يلتزم رؤية الأمور والأشياء كما هي في عالم الواقع والحقيقة من غير أي زيادة أو نقصان ، (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) التي زادته معرفة ويقينا ، فاتصلت

٢٥٥

روحه بالحقيقة الإلهية من خلال ذلك ، وهكذا كان الوحي الذي يخبر عنه لاتصاله بمصدر الوحي الملائكي أو الإلهام الإلهي ، حقيقة فكرية لا يرقى إليها الشك ، وهي تجربة تقتصر على الأنبياء ، ولا يصلّى إليها غيرهم إلّا من خلال الشخصية النبوية في صدقها وحكمتها واتّزانها واستقامتها في الرؤية والتفكير.

* * *

وهناك اختلاف في تفسير مرجع الضمائر ، وهو يستدعي الدخول في تفاصيل لا نجد مجالا للحديث عنها هنا ، ولكن الظاهر أنّ القضية تعيش في الجو الذي تحدثنا عنه ؛ والله العالم.

* * *

٢٥٦

الآيات

(أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (٢٠) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى(٢١) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (٢٢) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (٢٣) أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (٢٤) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (٢٥) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (٢٦) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (٢٧) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (٢٨) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (٢٩) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى) (٣٠)

* * *

معاني المفردات

(ضِيزى) : جائرة غير عادلة.

* * *

٢٥٧

ظنون المشركين

لقد كان للرسالة في وعي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وضوح التقت فيه الرؤية البصرية والرؤيا القلبية بحيث لم تدع مجالا للشك بكونها حقيقة ، ولكن ماذا عن هؤلاء المشركين ، وما هو الأساس الذي يرتكز عليه اعتقادهم بهذه الأوثان وعبادتهم لها؟ هل هناك وضوح في الرؤية وصفاء في التفكير ، وهل لديهم حجة على خط العقيدة وخط السير ، أم أن القضية ترتكز على مجرد أوهام وظنون وتخيلات؟

(أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى* وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) وهي الأصنام التي كان العرب يعبدونها ، فاللات كانت لثقيف بالطائف ، والعزى كانت لغطفان ، ومناة لهذيل وخزاعة ، وقيل : إنها تماثيل للملائكة التي يعتبرها العرب من الإناث ، أو أنهم كانوا يعطون هذه التماثيل صفة الأنثى ، ويجعلونها من الشفعاء عند الله.

(أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى) ففي تقاليدهم الجاهلية كانوا يميزون الذكور على الإناث ، ويرون في الإناث عارا عليهم ، لأن واقعهم مبنيّ على الغزو والاسترقاق ، فكيف ينسبون الإناث إلى الله ويحتفظون لأنفسهم بالذكور؟ (تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) أي جائرة لا تخضع للعدل في ميزان التقييم بالقياس إلى المفهوم السائد عندهم ، أمّا عند الله ، فلا فرق بين الذكر والأنثى ، فكل واحد منهما مخلوق له ، ولا علاقة له بأحدهما دون الآخر ، فالجميع متساوون أمامه في العبودية ، كما أن هذه الأصنام لا تملك أية قدسية في ذاتها ، وليس لها أيّ دور في القرب من الله ، لا في الفضل ولا في الشفاعة ، بل هي مجرد أشياء جامدة ليس لها من المعنى إلا الاسم ، (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها) في ما أطلقتم عليها من صفة الألوهية ، تماما كما هي الكلمات التي يخترعها الناس لبعض ما يتخيلون ، (أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) الذين درجتم على تتبع ما ساروا عليه دون وعي أو مناقشة أو تأمّل ، تقليدا لهم ، ولكن (ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) لذا فلا حجة لكم على ما أسبغتموه عليها من صفات ، وما تخيلتموه لها من دور ،

٢٥٨

فليس لكم إلا الوهم الآتي من التقليد الموروث المنطلق من مواقع التخلف ، (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ) وهو مبنيٌّ على التخيل والرغبة الذاتية والأفكار الطائرة التي لا تستقر على قاعدة ولا تتحرك في آفاق النور. (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) بكل حججه القاطعة التي تقنع الفكر والوجدان ، وتدفع هؤلاء إلى هدى الله.

(أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى) «أم» منقطعة في معرض الاستفهام الإنكاري الذي يرادف النفي ، فكأن المسألة هي أن الإنسان لا يحصل على ما يتمناه لمجرد التمني ، بل لا بد من أن يكون ذلك منسجما مع طبيعة الأشياء ، فإذا كان هؤلاء يؤلّهون هذه الأصنام عمليا ويعبدونها من دون الله ، لتشفع لهم ولتقرّبهم إلى الله زلفى ، فليس معنى ذلك أن هذا سيحصل في الواقع ، لأن هذه الأصنام لا تمثل ، لجهة الأسرار الروحية الخفية ودرجة القرب من الله ، أيّ معنى ، لأنها ليست شيئا (فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى) فهو الذي يملك الأمر كله ، وليس لأحد معه أيّ شيء أو أيّ امتياز ذاتي من كل الموجودات الحية وغير الحية.

* * *

الشفاعة لمن يشاء الله ويرضى

(وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) فالملائكة الذين يتخذهم الجاهليون شفعاء ، ويرمزون إليهم بالأصنام التي يعبدونها ليحصلوا بذلك على شفاعتهم ، لا يملكون شيئا ، لأنهم عباد الله لا يسبقونه بالقول ، وهم يقفون دائما في انتظار أوامره ، وقفة العبيد الخاشعين الخاضعين ، وبذلك ، فإنهم لا يستطيعون الشفاعة من مواقعهم الذاتية ، إلا بعد الحصول على إذن من الله ، فهو قد يأذن لبعض عباده من الأنبياء والأولياء بالشفاعة لبعض الخاطئين الذين يريد أن يغفر لهم من موقع الكرامة لأنبيائه أو أوليائه.

* * *

٢٥٩

الإعراض عن المتولّين عن ذكر الله

(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) فلا ينطلقون في كلامهم من قاعدة الإحساس بالمسؤولية عنه أمام الله ، بحيث يحسبون لنتائج الكلمات حسابا دقيقا على مستوى الموقف أمامه ، إنّ عدم إيمان هؤلاء بالآخرة يفسح لهم مجال الكذب في موقع الصدق ، وتصديق الخرافة في دائرة الحقيقة (لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى) دون أساس لذلك ، لأنهم لا يملكون أيّة معرفة بحقيقة الملائكة كونهم من عالم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله ، ومن عرّفهم منه بعض الأمور ، (وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ) لأن للعلم وسائله التي لا يملكون قاعدتها ، كما أشرنا آنفا ، (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) المحكوم للاحتمالات المبنية على التمنيات من جهة ، وعلى الخيالات والمؤثرات الذاتية من جهة أخرى ، مع عدم وصولها إلى مستوى القناعة ، بل تظل في دائرة الحدس والتخمين ، (وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) لأن الحق ينطلق من موقع النور الذي يطل على القضية والفكرة والواقع بوضوح لا يترك مجالا لمواجهته.

(فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا) فلم ينفتح على الفكر العميق في مضمونه تعصّبا للجهل والتقاليد ، (وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا) في ما يتطلبه من شهواتها ، التي تحكم علاقاته والتزاماته وأوضاعه ، باعتبارها القاعدة التي تحرِّك حياته كلها ، لأنّ (ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) فهم يتحركون في هذه الدائرة الضيقة دون أية إطلالة على الآفاق الرحبة للإيمان بالله والسير في خط هداه ، و (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) من هؤلاء ، في ما يعلمه من خفايا أمره ومواقع حركته في المستقبل ، (وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى) في التزامه بالخط المستقيم في حركة الإيمان بالله ، لذلك فليس دورك هو ملاحقة خلفيات هؤلاء وتطلعاتهم المستقبلية ، بل القيام بمهمّة الدعوة إلى الله بكل الوسائل ، حتى إذا ما واجهت إعراضا معقَّدا متعنِّتا منهم ، ابتعد عنهم لتواجه تجربة جديدة في مواقع أخرى ولتنتظر تطورات جديدة من أحداث أخرى.

* * *

٢٦٠