تفسير من وحي القرآن - ج ٢١

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ٢١

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٦٠

في أجواء السورة

«الرحمن» هو اسم السورة وعنوان المضمون التفصيلي للآيات المتنوعة فيها ، فقد أراد الله للإنسان أن يتصور رحمة الله في كل أموره الخاصة والعامة ، بما يتعلق منها به بشكل مباشر ، أو ما يتعلق بالظواهر الكونية وتنظيمها الدقيق من حوله ، أو بالنعم التي تتصل بحاجاته العامة والخاصة ، كما أراد له أن يتصور عظمة الله في سيطرته على الكون وعلى حركة الخلق والتدبير فيه ، ويتصور ـ إلى جانب ذلك ـ حجم الإنسان والجانّ أمام تلك العظمة.

وتطلّ السورة على رحمة الله في الدار الآخرة حيث الجنة التي يدخلها من خاف مقام ربه ، لتطوف بها في جولة رائعة تعرّف الإنسان والجانّ كل جمالاتها ولطائفها. ولكي يتعرّف هؤلاء عظمة النعمة ، نراهم يطلّون على جهنم التي يكذّب بها المجرمون فيعذّبون فيها ..

وهكذا تنطلق هذه السورة لتربّي جانب العقيدة في الإنسان من خلال هذه الصور المتحركة المتداخلة التي تنفتح فيها الأرض على السماء ، وتبرز فيها العظمة الإلهية التي تبقى وحدها بعد فناء الجميع.

* * *

٣٠١

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الآيات

(الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (٤) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (٥) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (٦) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (٧) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (٨) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (٩) وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (١٠) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (١١) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (١٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (١٣)

* * *

معاني المفردات

(الرَّحْمنُ) : صيغة مبالغة تدل على كثرة الرحمة.

(الْبَيانَ) : الأدلة الموصلة إلى العلم.

(بِحُسْبانٍ) ؛ الحسبان : مصدر بمعنى الحساب.

(بِالْقِسْطِ) : بالعدل.

(تُخْسِرُوا) : تنقصوا.

٣٠٢

(الْأَكْمامِ) : جمع : كم ، وعاء الثمر ، وهو الطلع.

(الْعَصْفِ) : قشر الحب ، أو ورق الزرع.

(وَالرَّيْحانُ) النّبات الطّيّب الرّائحة.

* * *

خلق الرحمن الإنسان وتعليمه البيان

(الرَّحْمنُ) هذه الصفة التي تنطلق لتثير معنى الرحمة في وعي الإنسان المؤمن ، بصيغة المبالغة التي توحي بالامتداد الذي يشمل الكون كله من خلال النعم التي يفيضها الله عليه من مواقع رحمته ، وقد أراد الله للإنسان أن يستحضره بهذه الصفة دائما ليبقى منفتحا عليه بالصورة التي يجده فيها في كل مفردات حياته ، وليتطلّع إليه في ما يستقبل منها.

(عَلَّمَ الْقُرْآنَ) الذي يفتح للإنسان آفاق السموّ والمعرفة والإيمان ، ويحرك حياته في خط السعادة الدّنيويّة والأخرويّة التي تهديد إلى اللقاء بالله في كل أوضاعه وعلاقاته وحركاته ، ليكون الله القوّة التي تربطه بالحياة كلها ، ولتكون الحياء ساحة مفتوحة ، تتكامل كل مواقعها في طاعة الله ، وفي تجسيد معنى المعبودية في ذات الإنسان ، التي تمثل سرّ حريته.

(خَلَقَ الْإِنْسانَ) فمنه انطلق وجوده ، وبإرادته تحركت حياته ، فهو مفتقر إلى الله في كل شيء ، متطلع إليه أبدا في مواقع لطفه ورحمته ، (عَلَّمَهُ الْبَيانَ) فأودع فيه سرّ النطق الذي يعبر به عما في عقله وقلبه وشعوره ، مما يفكر فيه ويحس به ، كما يستخدمه في تدبير شؤونه الخاصة والعامة وتلبية حاجاته ، ويحقق من خلاله التواصل مع أفراد مجتمعة في كل ما يحتاج فيه إليهم من قضاياه الخاصة ، أو في حاجته إلى التكامل معهم لم يريد إنجازه من قضايا عامة قد تختلف فيها المواقف ، وتضطرب فيها الآراء ، فيكون البيان ، الذي يركز

٣٠٣

قاعدة الفكرة ويوضح حركة المشكلة ويدير عملية الحوار ، هو الذي يحقق ذلك ..

وهكذا يشعر الإنسان بالرحمة الإلهية في ذلك كله ، لأن الله أعطاه وجودا منفتحا على حركة الواقع ، وعلى انطلاقة الهدى في عقله وروحه وموقفه ، مما يجعل كل تجربة بيانية داخلية في حالة الاستعداد له ، أو خارجية في حالة الفعلية ، مصدر إحساس بالرحمة الإلهية في كل لحظات الفكر والتواصل البياني مع الآخرين ، وهذا واقع الإنسان في وجوده الذاتي والحركي.

* * *

الشمس والقمر من مظاهر الرحمة في الكون

ثم تنتقل السورة لتتحدث عن مظاهر الرحمة في الكون التي تتصل بالإنسان (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) فقد خلقهما الله ضمن قوانين ثابتة محسوبة حسابا دقيقا يلحظ كل حركة ، وكل موقع ، وكل حجم ، وهما في الوقت نفسه يتصلان بعمق حياة الإنسان وكل المخلوقات الحية على الأرض ، مما يجعلها تتكامل معهما في النظام الكوني الدقيق الذي أبدعه الله بقدرته وحكمته ، وقد نحتاج إلى بعض الإطلالة على ذلك ـ في ما ذكره صاحب ظلال القرآن ـ في تفسير هذه الآية.

يقول : «إن الشمس تبعد عن الأرض باثنين وتسعين ونصف مليون من الأميال ، ولو كانت أقرب إلينا من هذا لاحترقت الأرض أو انصهرت أو استحالت بخارا يتصاعد في الفضاء ، ولو كانت أبعد منا ، لأصاب التجمّد والموت ما على الأرض من حياة ، والذي يصل إلينا من حرارة الشمس لا يتجاوز جزءا من مليوني جزء من حرارتها .. وهذا القدر الضئيل هو الذي يلائم حياتنا ، ولو كانت الشعرى بضخامتها وإشعاعها هي التي في مكان الشمس منا ، لتبخرت الكرة الأرضية وذهبت بددا.

٣٠٤

وكذلك القمر في حجمه وبعده عن الأرض ، فلو كان أكبر من هذا ، لكان المد الذي يحدثه في بحار الأرض كافيا لغمرها بطوفان يعمّ ، كل ما عليها ، وكذلك لو كان أقرب مما وضعه الله بحسابه الذي لا يخطئ مقدار شعرة.

وجاذبية الشمس وجاذبية القمر للأرض ، لهما حسابهما في وزن وضعها وضبط خطأها في هذا الفضاء الشاسع الرّهيب ، الذي تجري فيه مجموعتنا الشمسية كلها بسرعة عشرين ألف ميل في الساعة في اتجاه واحد نحو برج الجبار ، ومع هذا ، لا تلتقي بأيّ نجم في طريقها على ملايين السنين.

وفي هذا الفضاء الشاسع الرهيب ، لا يختل مدار نجم بمقدار شعرة ، ولا يختل حساب التوازن والتناسق في حجم ولا حركة» (١).

(وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) قيل : إن المراد بالنجم النبات الذي لا ساق له كالبقل لأن الله وضع الشجر في مقابله ، ليكون الحديث عما لا ساق له وما له ساق من النبات ، تماما كما وضع القمر في مقابل الشمس ، وقد أبقاه البعض على ظاهره وهو الكوكب الذي في السماء ، والمقصود بالسجود هو الخضوع المطلق لله في ساحة العبودية ، باعتبار أنهما يتحركان في نطاق القوانين التي أودعها الله فيهما وفي الأرض التي تحضنهما ، وهما بذلك ينفعلان تكوينيا بذلك ، انفعالا يشبه الخضوع الإرادي للمخلوق الحيّ في سجوده لله ، باعتبار أن السجود هو حركة شكلية تعبر عن الخضوع لله في العمق.

* * *

(السَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ)

(وَالسَّماءَ رَفَعَها) في هذه الأكوان الهائلة ، التي تتمثل لمن هم في الأرض ، كما لو كانت سقفا مرفوعا مرصَّعا بالمزينات الكواكبية ، ليحدّقوا فيها

__________________

(١) في ظلال القرآن ، م : ٧ ، ج : ٢٧ ، ص : ٦٧٥.

٣٠٥

ويتأمَّلوا كيف تتماسك في ذاتها ، وبالأجرام التي تصل إلى ملايين الملايين فيها ، فلا يصطدم أي منها بالآخر ، بل يدور كل واحد منها في فلكه الخاص ، في مجموعات متعدّدة قد يبلغ عدد المجموعة منها ألف مليون نجم ، كما يقال ، ثم ليتطلع الإنسان إلى العوالم الخفية في السماء المفتوحة على كثير من الأسرار الدقيقة التي تنقله بعقله وفكره إلى عالم الغيب ، ليجتمع له في تطلّعاته التأمّلية في السماء الكثير الكثير مما يفتح عقله على معرفة الله ، ويطلق عنان روحه لتمتد في آفاق عالم الغيب.

(وَوَضَعَ الْمِيزانَ) الذي يرسم للحياة وللناس حدود الأشياء وموازينها بطريقة دقيقة لا تنحرف بالتصوّر عن الاستقامة في الفكر والحكم والقيمة ، لأن الوحي الإلهي وضع قاعدة لتقدير القيم والقضايا والأفكار تضبط ذلك كله وتحدد خطوط السير في كل المواقع التي يريد الله للإنسان أن يتحرك فيها. وهكذا يمتد الضبط الإلهي إلى العلاقات الإنسانية أيضا التي جعل الله لها حدودا ، ووضع العدل ميزانا لها ، بحيث لا تخضع لهوى ، ولا يحركها انفعال ، بل تلتقي على قاعدة التوازن التي خلق الإنسان على أساسها في لقاء الجوانب المتعددة في شخصيته على أساس التكامل والتداخل. وقد تكون مسألة الوضع للميزان شاملة للضوابط الكونية التي أدخلها الله سبحانه في تكوين الأشياء ، وفي نظام المخلوقات ، بحيث راعى فيه التوازن بينها ، فلا يطغى جانب على جانب ، ولا موجود على موجود ، فيمكن للموجودات أن تتحرك في عناصرها وخصائصها في حركة بعضها البعض ، ولكنها تقف في حدود وجودها عند أساس معيّن.

(أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ) فلا بد لكم من التزامه في كل أموركم وعلاقاتكم ومعاملاتكم وأحكامكم ، سواء في دائرة الحياة الخاصة أو العامة ، لأن ذلك هو سبيل تحقيق التوازن في الحياة. والمراد بالطغيان : الانحراف عن الخطّ المستقيم ، وتجاوز الحدود المرسومة لحقوق الفرد والجماعة. (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ) في معاملاتكم التي تتبادلون فيها الأمور التي تحتاجون إليها في

٣٠٦

حياتكم المعاشية ، مما تعرف فيه مقادير الأشياء بالوزن وشبهه ، ليأخذ كل واحد حقّه كاملا غير منقوص ، (وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) بأن تنقصوا الناس أشياءهم ، ولا تسلّموهم حقوقهم كاملة كما أراد الله ، فالحق في المعاملات أساس يريد الله للناس أن يقيموا حياتهم عليه ، تماما كما هو الحق في الأفكار والمواقف ، الأمر الذي يجعل العدل طابع الحياة ، ويحقق للناس السلام في كل المواقع من الناحية الواقعية.

* * *

(وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ ...)

(وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) وأعدّها لهم في قوانينها المتنوعة التي تجمع لهم كل ما يحتاجونه لاستمرار حياتهم من طعام وشراب ووسائل راحة في ما يأكلونه أو يشربونه أو يلبسونه أو يرتاحون فيه وينعمون به ، وفي ما يتحركون به من أوضاع تقرّبهم إلى الله وتدخلهم في ساحة رحمته ورضوانه.

(فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ* وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ). هذه هي بعض نعم الله التي أنعم بها على عباده ليبلغوا ما يريد لهم بلوغه في الدنيا ، وهي دليل على التدبير الإلهي للكون في كل أوضاعه في ما توحي به من الحق الذي يبدأ منه وينتهي إليه ، ليرتبط الناس به من خلال ذلك ، (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) يا معشر الجنّ والإنس ، في ما يفرض نفسه عليكم من نداء الحقيقة ، ونداء الإيمان.

* * *

٣٠٧

الآيات

(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (١٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٦) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (١٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٨) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (١٩) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (٢٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢١) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (٢٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٣) وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٢٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٥) كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٦) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٢٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٨) يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (٢٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٣٠)

* * *

معاني المفردات

(صَلْصالٍ) ؛ الصلصال : الطين اليابس غير المطبوخ ، فإذا طبخ فهو الفخار.

٣٠٨

(مارِجٍ) : اللهب الخالص من النار ، أو المختلط بسواد.

(مَرَجَ) ؛ المرج : الحاجز بين الشيئين.

(الْجَوارِ) : أي السفن الجارية.

(الْمُنْشَآتُ) : المرفوعات.

(كَالْأَعْلامِ) : كالجبال.

* * *

بين خلق الإنسان من صلصال وخلق الجان من نار

(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ) والظاهر أن المراد به آدم أبو البشر الذي خلقه الله من الصلصال ـ كما قيل ـ وربما كان المراد من الإنسان نوعه ، ليكون المراد من خلقه من الصلصال انتهاء الخلق إليه. (وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ) وهو غيب من غيب الله الذي ابتدع وجودهما ، وهو العالم بما خلق في طبيعته وعناصر وجوده ، ووجودهما ذاك دليل على عظمة إبداع الله ، في تحويل الطين اليابس إلى وجود إنسانيِّ حيِّ فاعل مفكر متحرك بالإرادة ، وتحويل اللهب الناريّ إلى مخلوق حيِّ واع مفكر في وجوده الحافل بالأسرار ، وإذا كنا لا نعرف الكثير عن الجانّ ، فإننا نعرف عنه ـ من خلال القرآن ـ أنه خلق خفيٌّ مسئول في كل قضايا الإيمان والكفر والطاعة والمعصية ، (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) في ما تدركانه من خصوصية وجودكما في هذا السرِّ الإلهي العجيب الذي يفرض عليكما أن تصدّقا به ، لأنه يمثل حضور الحقيقة في حضور الوجود في الذات؟!

(رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) قد يكون المراد بذلك مشرقي الشمس والقمر ومغربيهما ، وربما كان المراد اختلاف مشرق الشمس ومغربها تبعا لاختلاف مواقع الكرة الأرضيّة ، وربما كان المراد مشرق الشمس في الصّيف ، ومشرقها

٣٠٩

في الشّتاء ، وكذلك مغرباها ، لاختلافها في ذلك ... (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) في ما توحي به هذه الظاهرة العجيبة من نعم تتنوّع فيها الحياة؟!

* * *

(مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ)

(مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ) والمراد بالبحر الماء الكثير عذبا كان أو غيره ، والظاهر أن المراد بالبحرين ، العذب الفرات والملح الأجاج ، وذلك كما جاء في تفسير قوله تعالى : (وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) [فاطر : ١٢].

وقيل : «إن المراد بالبحرين جنس البحر المالح الذي يغمر قريبا من ثلاثة أرباع الكرة الأرضية من البحار المحيطة وغير المحيطة ، والبحر العذب المدّخر في مخازن الأرض التي تنفجر الأرض عنها ، فتجري العيون والأنهار الكبيرة ، فتصبّ في البحر المالح ، ولا يزالان يلتقيان» (١). (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ) أي لا يطغى المالح على الحلو ليحوّله إلى مالح تبطل الحياة به ، ولا يطغى الحلو على المالح ، ليحوّله إلى حلو ، فتبطل بذلك مصلحة ملوحته ، بل يبقى لكل منهما حدوده وخصوصيته في نطاق الحاجز الخفيّ الخاضع لقدرة الله ، (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

(يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) أي من هذين البحرين المختلفين في العذوبة والملوحة ، وقد تحفَّظ البعض على وجود اللؤلؤ والمرجان في البحر العذب ، وأجاب البعض بأن هناك دلائل على وجودهما فيه ، وقد تقدم الكلام حول هذا الموضوع في تفسير الآية الثانية عشرة من سورة فاطر ، (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) مما يتعلّق بهذه الظاهرة العجيبة؟!

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٩ ، ص : ١٠٤.

٣١٠

وقد ذكر في طبيعة اللؤلؤ والمرجان بعض الخصائص التي قد نحتاج إلى معرفتها كدليل على عظمة خلق الله : «لعل اللؤلؤ أعجب ما في البحار ، فهو يهبط إلى الأعماق ، وهو داخل صدفة من المواد الجيرية لتقيه من الأخطار ، ويختلف هذا الحيوان عن الكائنات الحية في تركيبه وطريقة معيشته ، فله شبكة دقيقة كشبكة الصياد ، عجيبة النسج ، تكون كمصفاة تسمح بدخول الماء والهواء والغذاء إلى جوفه ، وتحول بين الرمال والحصى وغيرها. وتحت الشبكة أفواه الحيوان ، ولكل فم أربع شفاه ، فإذا دخلت ذرة رمل ، أو قطعة حصى أو حيوان ضار عنوة إلى الصدفة ، سارع الحيوان إلى إفراز مادة لزجة يغطيها بها ، ثم تتجمد مكوّنة لؤلؤة ، وعلى حسب حجم الذرة التي وصلت يختلف حجم اللؤلؤة ... والمرجان من عجائب مخلوقات الله ، يعيش في أبحار على أعماق تتراوح بين خمسة أمتار وثلاث مائة متر ، ويثبت نفسه بطرفه الأسفل بصخر أو عشب. وفتحة فمه التي في أعلى جسمه محاطة بعدد من الزوائد يستعملها في غذائه .. فإذا لمست فريسة هذه الزوائد ـ وكثيرا ما تكون من الأحياء الدقيقة كبراغيث الماء ـ أصيبت بالشلل في الحال ، والتصقت بها ، فتنكمش الزوائد وتنحني نحو الفم ، حيث تدخل الفريسة إلى الداخل بقناة ضيّقة تشبه مريء الإنسان.

ويتكاثر هذا الحيوان بخروج خلايا تناسلية منه ، يتم بها إخصاب البويضات ، حيث يتكوّن الجنين الذي يلجأ إلى صخرة أو عشب يلتصق به ، ويكوّن حياة منفردة ، شأنه في ذلك شأن الحيوان الأصلي. ومن دلائل قدرة الخالق ، أن حيوان المرجان يتكاثر بطريقة أخرى هي التزرّر. وتبقى الأزرار الناتجة متّحدة مع الأفراد التي تزرّت منها ، وهكذا تتكون شجرة المرجان التي تكون ذات ساق سميكة ، تأخذ في الدقة نحو الفروع التي تبلغ غاية الدقة في نهايتها. ويبلغ طول الشجرة المرجانية ثلاثين سنتيمترا. والجزر المرجانية الحيّة ذات ألوان مختلفة ، نراها في البحار صفراء برتقالية ، أو حمراء قرنفليّة ، أو زرقاء زمردية ، أو غبراء باهتة ، والمرجان الأحمر هو المحور الصلب المتبقي بعد فناء الأجزاء الحية من الحيوان وتكون الهياكل الحجرية مستعمرات هائلة.

٣١١

ومن هذه المستعمرات سلسلة الصخور المرجانية المعروفة باسم الحاجز المرجاني الكبير الموجود بالشمال الشرقي لاستراليا. ويبلغ طول السلسلة ألفا و ٣٥ ميلا وعرضها ٥٠ ميلا. وهي مكوّنة من هذه الكائنات الحية الدقيقة الحجم» (١).

* * *

(وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ)

(وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ) وهي السفن البارزة في البحر الذي يتساوى سطحه بحيث يبرز بوضوح كل شيء يتحرك فيه ، ولذلك تبدو هذه السفن للرائي من بعيد تماما (كَالْأَعْلامِ) وهي الجبال التي تتراءى للناظر عن بعد ، وربما كان التشبيه بلحاظ ارتفاعها وضخامتها ، كما في السفن الضخمة ، وإذا كانت السفن من صنع الإنسان صنعها ، وأودع في أجواء البحر القوانين التي تسهّل مهمّة جريانها ، أمَّا مكمن النعمة فيها ، ففي تيسيرها سبل الانتقال للناس من مكان إلى مكان.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) وإذا كانت المسألة في نعم الله بهذا الوضوح الذي يفرض نفسه على الحسّ والوجدان ، فلا بد لكما من الاستغراق في عظمة الله والانفتاح على مواقع طاعته وعبادته ...

* * *

(كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ)

(كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) فستموت كل هذه المخلوقات الحية التي تدب على

__________________

(١) راجع : في ظلال القرآن ، م : ٧ ، ج ٢٧ ، ص : ٦٨٢ ـ ٦٨٣.

٣١٢

الأرض وستنتقل إلى عالم آخر يواجه فيه الجن والإنس نتائج مسئولية ما اكتسباه على الأرض ، وهذا هو سرّ العظمة في قدرة الله ، الذي أبدع الخلق بقوّته ، ودبّره بحكمته ، ثم أماته بقدرته ، في نطاق خطة حكيمة جعلت للحياة وللموت حدودا (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) فهو الحقيقة الأزلية الخالدة التي لم تنطلق من موقع الحدوث والخلق ، ليمكن أن يعرض الفناء عليها ، وذكر وجه الله كناية عن ذاته المقدسة ، لأن وجه الشيء هو الذي يعبر عنه ، وقد يكون في التركيز على صفتي الجلال والإكرام إشارة إلى معنى العظمة التي تختزنها كلمة الجلال وما توحي به من هيبة ، وإلى معنى النعمة في روح العطاء التي تتضمنها كلمة الإكرام وما توحي به من رحمة.

(يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لأن وجودهم بكل تفاصيله الصغيرة والكبيرة مفتقر إليه ، وبذلك يكون السؤال من خلال التعبير الحسي تارة ، ومن خلال الحاجة الوجودية الطبيعية أخرى (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) فهو المهيمن على كل الأشياء ، وكل الشؤون ، لا يتجمَّد تصرفه في موقع ولا يقف عند حدِّ ، وهو يدير الكون كل يوم بطريقة تمليها شؤونه المتجددة ، مما يجعل أفعاله تتجدّد وعطاياه تتنوّع في صنع الوجود في ما يحتاج إلى الوجود ، وفي تدبير ما يحتاج إلى التدبير ، وقد جاء في رواية الصادق عليه‌السلام ، عن آبائه عليه‌السلام ، أنَّ النبي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «الله تعالى كل يوم هو في شأن ، فإن من شأنه أن يغفر ذنبا ، ويفرّج كربا ، ويرفع قوما ، ويضع آخرين» (١) ، وهو من باب الحديث عن المصاديق.

* * *

__________________

(١) البحار ، م : ٢ ، ج : ٤ ، باب : ١ ، ص : ٢٦٣ ، رواية : ١٧.

٣١٣

الآيات

(سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (٣١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٢) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (٣٣) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٤) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (٣٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٦) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (٣٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٨) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (٣٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٠) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (٤١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (٤٣) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (٤٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٥) وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (٤٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٧) ذَواتا أَفْنانٍ (٤٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٩) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (٥٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥١) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (٥٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٣) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٥) فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ

٣١٤

قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٥٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٧) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (٥٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٩) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (٦٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦١) وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (٦٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٣) مُدْهامَّتانِ (٦٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٥) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (٦٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٧) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (٦٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٩) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (٧٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧١) حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (٧٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٣) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٧٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٥) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (٧٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٧) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) (٧٨)

* * *

معاني المفردات

(الثَّقَلانِ) ؛ أصله من الثقل : ويطلق على الإنس والجن.

(تَنْفُذُوا) : تفرّوا.

(أَقْطارِ) : جمع قطر ، وهو الناحية.

(شُواظٌ) ؛ الشواظ : اللهب الذي لا دخان فيه ، أو اللهب الأخضر المنقطع من النار.

(بِالنَّواصِي) : جمع ناصية ، وهي شعر مقدم الرأس.

(آنٍ) ؛ الآني : الحاضر ، أو المتناهي في الحرارة.

٣١٥

(أَفْنانٍ) : جمع فنن ، وهو الغصن الغضّ الورق.

(مُتَّكِئِينَ) : مستندين.

(فُرُشٍ) : جمع فراش.

(بَطائِنُها) ؛ البطائن : جمع بطانة ، وهي داخل الشيء وجوفه ، مقابل :

ظهائر ، جمع ظهارة.

(إِسْتَبْرَقٍ) : نوع من المخمل الحرير السميك.

(وَجَنَى) : ثمر مجتنى.

(يَطْمِثْهُنَ) ؛ الطمث : الافتضاض.

(مُدْهامَّتانِ) : الإدهام : من الدهمة ، وهي اشتداد الخضرة بحيث تضرب إلى السواد.

(نَضَّاخَتانِ) : فوّارتان بالماء.

* * *

مواجهة الجنّ والإنس لمسؤولية أعمالهم

وهذه جولة مع الثقلين ، وهما الإنس والجنّ ، وما ينتظرهم من موقف المسؤولية الحاسم بين يدي الله عند ما يرجعون إليه ، وحديث عن أوصاف النار والجنة ، وما في ذلك من إيحاء بنعم الله وآلائه.

(سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) وستواجهون المسؤولية بشكل حاسم ، فستنتهي الدنيا كلها بكل ما كانت تشغلكم به من قضايا عامة وخاصة ، ولن يبقى فيها أحد ، فلا يبقى لنا هناك أيّة إرادة في تدبيرها أو تدبيركم من خلالها ، وبذلك تكون مسألة الفراغ واردة على سبيل الكناية ، لأن الله لا يشغله شيء عن شيء حتى يحتاج إلى الفراغ من أمر الدنيا ليتفرغ للآخرة ، ولكنَّه إيحاء تعبيريٌّ يتحدى

٣١٦

غفلة الإنسان الذي قد يتصور أن الله مشغول عن حسابه بشؤون الدنيا ومن فيها ، مما يجعله في أمن منه ...

من هنا جاءت الآية للإيحاء بجوّ الخطورة والهول الشديد ليخاطب الله الثقلين بأنه سيتفرغ لهما ، وهو القادر القاهر فوق عباده ، ليشعروا بالخطر الداهم الذي يواجههم في الدار الآخرة ، ليستعدوا له بالإيمان والعمل الصالح. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) عند ما تواجهون هذا الجوّ المفتوح على كل عوالم الغيب في آفاق المسؤولية ، لتتعرفوا عظمة الله في ذلك كله؟!

(يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لتنطلقوا إلى خارج ملكه ، بعيدا عن سلطته وتدبيره ، وعن مواقع قوّته ، في ما قد يخيل إليكم من امتلاك قوّة مستقلة عن الله ، ولكن الكون كله ملكه ، فلا تملكون النفاذ منه إلى أيِّ مكان خارج ملكه ، فإذا خيِّل إليكم ـ في حالة الغفلة وغيبوبتها ـ أنكم قادرون على النفاذ إلى خارج السموات والأرض ، بعيدا عن ملك الله وقدرته ، فجربوا ذلك بما لديكم من وسائل القدرة ، (فَانْفُذُوا) فما ذا تجدون أمامكم؟ إنها حقيقة الضعف المطلق الذي يمثله وجودكم ، وحقيقة الشمول المطلق لسيطرة الله على الكون كله ، (لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ). فما هو هذا السلطان ، فيما هي القدرة ، وفيما هي طبيعة الوجود؟!

حاول البعض تفسير كلمة السلطان بالعلم عند صعود الإنسان إلى القمر ، على أساس أن هذا الحدث أثبت إمكانية نفاذ الإنسان إلى خارج نطاق الأرض ، وأن الآية لا تنفي إمكان ذلك ، بل تربطه بالسلطان الذي يمثل القوّة التي تفتح كل المواقع العصية المستعصية .. وبذلك يكون هذا الاختراق الإنساني للأرض منطلقا من إمساك الإنسان بزمام قوّة العلم.

ولكن هذا التوهُّم ناشئ من عدم التدقيق في فهم جوّ الآية التي تريد أن تؤكد شمولية ملك الله للسموات والأرض ، وعدم قدرة الإنسان على النفاذ منهما إلى أفق آخر خارج ملكه وقدرته ، أمَّا استثناء السلطان ، فإن الظاهر أن سياقه سياق التحدي في عدم وجود قدرة على ذلك ، مع ملاحظة أن الحديث

٣١٧

هو عن النفاذ من أقطار السموات والأرض ، مضافا إلى أنّ الآيات التي تتحدث عن استراق الشياطين ، الذين هم من الجن ، للسمع على حدود السماء ، تعني اختراق الجن للأرض ؛ والله العالم.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) في ما ترونه من قدرته الشاملة ، وعجزكم المطلق أمامه؟! (يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ) ربما كان في الآية إيحاء بأهوال الساعة وآلامها التي تثير مثل هذه الأجواء اللاهبة التي تنتظر المجرمين ، فلا يستطيع أحد الانتصار لنفسه ، (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) في ما تواجهونه من هذه الأهوال التي يرسلها الله في جوّ القيامة؟

(فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ) بحيث سارت نحو الذوبان بما يذوب فيها من كواكب كما يذوب الدهن على النار ويصبح لون هذا السائل أحمر كالورد ، وهذا الوصف وارد على سبيل الكناية في خراب الكون ودماره. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) عند ما تواجهان هذا التغيير الهائل الذي تتشقق فيه السماء حتى تتحوَّل إلى حالة من الذوبان السائل ، بما يوحيه ذلك من عظمة القدرة؟

(فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) لأن المسألة لا تحمل أيّ غموض في ما قام به هؤلاء في مواقع المسؤولية من كفر وجريمة وانحراف عن الخط المستقيم ، فهناك وضوح كامل لسوء العمل من خلال الوجوه السوداء التي تأخذ من الأعمال السوداء لونها الأسود ، فلا مجال للإنكار ولا للتكذيب ، ولا ضرورة للسؤال ، (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

أمَّا الموقف الحاسم ف (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ) في ما تتركه الجريمة من سمة مميّزة لا تترك مجالا لأي ريب ، (فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) حيث تجمع الأقدام إلى الجباه ، في حالة من الإذلال النفسيّ الذي يتعرّضون له جزاء حالة الاستكبار والغرور التي كانت تدفعهم إلى الكفر والتمرد وتكذيب رسل الله في الدنيا ، (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) في ما يتمثل فيها من قدرة الله على السيطرة على المجرمين في الدار الآخرة؟!

٣١٨

(هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ) عند ما كان الأنبياء يدعونهم إلى الحذر منها ، وإلى الانفتاح على الأفكار التي تثيرها في النفوس من خلال الحديث عنها ، (يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) أي متناه في الحرارة كأنه الطعام الناضج على النار ، وهم يترددون بينها وبين هذا السائل الآني ، الذي بلغ الغاية والنهاية من الحرارة حتى كأنهم يشربونه وهو على النار ، (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) في هذه الحقيقة الإيمانية التي تواجهكما في الموقف الصعب؟!

(وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) وقد ورد عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام قال : «من علم أن الله يراه ، ويسمع ما يقول ، ويعلم ما يعمله من خير أو شر ، فيحجزه ذلك عن القبيح من الأعمال ، فذلك الذي خاف مقام ربه» (١) .. أمّا الجنتان ، فقد يكون حديثا عن موقعين في الجنة ، مميزين في نطاق الجنة الكبيرة ، (ذَواتا أَفْنانٍ) والأفنان هي الأغصان النديّة النضرة ، فهما نديّتان نضرتان في ما يوحي ذلك من العطاء الجني ، والجمال الأخضر ، (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أمام هذه النعمة النديّة النضرة؟! (فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ) فتسقيان الجنّتين ، ليهتزّ العشب ، ويتنامى الثمر (فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ) في ما يمثله ذلك من تنوّع وكثرة ، (مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) ، مما يوحي بأن ظواهرها أكثر جمالا من ذلك ، لأن الظاهر ـ عادة ـ أكثر اجتذابا للنظر من الباطن ، في ما يراد له من روعة وافتتان ، (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ) أي أن الثمر قريب من متناول أيديهم فلا يحتاجون إلى جهد للحصول عليه.

(فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ) من الحور العين اللاتي لا يمتد طرفهن بعيدا إلى غير أزواجهنّ ، في ما يوحي به ذلك من العفة الأخلاقية ، (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) أي عذارى أبكار لم يمسسهنّ جنّ ولا إنس قبل ذلك (كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ) في النضرة واللمعان والبهاء والصّفاء ... وتلك هي الهبة

__________________

(١) الكافي ، ج : ٢ ، ص : ٧٠ ، رواية : ١٠.

٣١٩

الإلهية التي يقدمها الله جزاء لهؤلاء الذين خافوا مقام ربهم وأطاعوه وعاشوا من أجل الوصول إلى مواقع رضوانه في رحاب جنانه.

* * *

الإحسان الإلهي تفضّل أم استحقاق؟

(هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) فإذا أحسن العباد إلى ربهم بطاعتهم إياه ، فإن الله يجزيهم بالإحسان إحسانا من خلال لطفه بهم وعطفه عليهم.

وقد أفاض علماء الكلام في الحديث عن الإحسان الإلهي لعباده المؤمنين المتقين ، أهو تفضّل أم استحقاق؟ ولكن هذا البحث غير دقيق ، لأن الذي يقول بالاستحقاق ، يقصد به الاستحقاق من خلال تفضل الله عليهم بوعده لهم بالمثوبة والإحسان. وقد جاء عن الإمام علي عليه‌السلام : «لو كان لأحد أن يجري له ولا يجري عليه ، لكان ذلك خالصا لله سبحانه دون خلقه ، لقدرته على عباده ، ولعدله في كل ما جرت عليه صروف قضائه ، ولكنه سبحانه جعل حقه على العباد أن يطيعوه ، وجعل جزاءهم عليه مضاعفة الثّواب تفضّلا منه ، وتوسّعا بما هو من المزيد أهله» (١).

* * *

تفاوت الدرجات في الجنة

(وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ) غير الجنتين الأخريين ، بمعنى أن أوصافهما أدنى من أوصاف تينك الجنتين ، مما يعني أن هناك درجات متفاوتة في الجنة من حيث الخصائص التي توحي بالنعيم المتنوع ، تبعا لتفاوت العباد في درجاتهم في

__________________

(١) نهج البلاغة ، خطبة : ٢١٦ ، ص : ٣٣٣.

٣٢٠