تفسير من وحي القرآن - ج ٢٣

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ٢٣

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣١٢

١
٢

٣
٤

سورة الملك

مكيّة

وآياتها ثلاثون

٥
٦

في أجواء السورة

وهذه من السور المكية التي تتحرك في اتجاه تربية العقيدة التوحيدية في العقل والروح والشعور ، وذلك من خلال توجيه الفكر إلى التأمل في رحاب الكون الممتد أمامه في الأفق الواسع ، في ما يشتمل عليه من ظواهر ومشاهد وأوضاع كونية ليتمثلها الإنسان في وعيه التأمّلي ، من أجل أن يصل من خلالها إلى الإيمان بعظمة الله في قدرته في خلقه ، وفي تدبيره في نظام الكون ، وتوجيه الروح في أجوائها الواسعة بما تستوحيه من إيحاءات ، وفي ما تستلهمه من مشاعر ، لتحتوي المعاني الروحية الإيمانية التي تلامس منطقة الشعور في الإنسان ، فتثير في داخلها الإخلاص لله والخشوع السابح في بحار الروحانية التي يتفايض في عمقها وامتدادها الإحساس بعبودية الإنسان لله ، أمام الألوهية المهيمنة على الحياة كلها ، في أجواء الخلق والتدبير ، وليصل الإنسان من خلال ذلك إلى التحرّك العملي نحو المعرفة والطاعة ، وليعي بفكره ووجدانه أن الوقوف في مواقف الجهل واللّامبالاة ، التي تمنع الإنسان أن يسمع أو يفكر ، سوف يؤدي به إلى عذاب السعير ، لأنها تبعده عن القرب من الله ، وتدفع به إلى التمرد عليه.

٧

وهكذا تتنوع مواضيع السورة ، لينطلق البصر في السماء وفي الأرض ، بما يشتملان عليه من العجائب في خلق الكواكب ، وفي موارد الحياة في الأرض ، وفي حركة الطير في الفضاء ، وليثار أمام الكفر مشاعر الخوف من كل شيء فوقهم وحولهم ، ليعرف الناس أن الله وحده هو الذي يمنحهم الأمن من خلال سيطرته على كل شيء في الكون ، ولا يستطيع كل هؤلاء الذين يعبدونهم من دون الله أن يمنحوهم أيّ قدر محدود من الأمن الكوني ، لأنهم لا يملكون منه شيئا لأنفسهم ، فكيف يملكونه لغيرهم.

ويبقى الفكر في جولته الإيمانية ، يحدّق في نشأة الإنسان نفسه ، وما خلق الله له من السمع والأبصار والأفئدة ، وما مكّن الناس من الأرض وجعلهم فيها يتحركون في أرجائها ليحصلوا على الرزق الذي قدّره لهم ، وليفكروا بأن نهاية المطاف ستكون عنده ـ سبحانه ـ إذ يتولى حسابهم على أعمالهم ، لأنه الذي يملك أمر الآخرة ، كما يملك أمر الدنيا ، في نطاق قدرته وحكمته وتدبيره ، وإذا عرف الإنسان ذلك كله ، عرف ربّه وسلّم إليه أمره ، وتوكل عليه وتطلع إلى رحمته ، وميّز بين من يمشي مكبّا على وجهه ، وهم الكافرون الذين هم في ضلال مبين ، وبين من يمشي على صراط مستقيم ، وهم المؤمنون.

إنها السورة التي تدفع السمع والبصر والفؤاد ، للانطلاق من أجل أن تكون المعرفة الإيمانية منفتحة على الجانب الحسيّ والعقلي في مختلف المواقع ، ليكون الإيمان عميقا من خلال العقل والفطرة ، ممتدّا من خلال الحس المتصل بكل رحاب الكون.

* * *

٨

اسم السورة

أمّا اسم السورة ، فقد لوحظ في الآية الأولى التي حملت عنوان الخضوع لله ، وسيطرته على الملك كله ، فهو وحده الذي (بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

* * *

٩

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الآيات

(تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (٢) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (٣) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (٤) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (٥) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(٦) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (٧) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (٨) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (٩) وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (١٠) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (١١) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١٢) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٣) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (١٤)

* * *

١٠

معاني المفردات

(تَبارَكَ) : تبارك الشيء : كثرة صدور الخيرات والبركات منه.

(بِيَدِهِ الْمُلْكُ) : استعارة ، كناية عن كمال تسلطه عليه.

(لِيَبْلُوَكُمْ) : ليمتحنكم.

(طِباقاً) : أي مطابقة بعضها فوق بعض.

(تَفاوُتٍ) : خلل أو نقص.

(فُطُورٍ) : اختلال.

(كَرَّتَيْنِ) : رجعة بعد رجعة.

(شَهِيقاً) : الشهيق : صوت تقطيع النفس.

(تَفُورُ) : يرتفع غليانها.

(تَمَيَّزُ) : التميّز : التقطّع والتفرق.

(الْغَيْظِ) : شدة الغضب.

(فَوْجٌ) : الجماعة المارّة المسرعة.

(خَزَنَتُها) : جمع خازن ، وهو الحافظ على الشيء. والمراد بهم :

الملائكة الموكلون بالنار.

(أَصْحابِ السَّعِيرِ) : أهل النار المخلّدون فيها.

* * *

١١

تبارك الذي بيده الملك

(تَبارَكَ) قيل : إن معنى تبارك الشيء هو كثرة صدور الخيرات والبركات منه ، وربما كانت الكلمة متضمنة لأكثر من معنى إيحائي يلتقي بالتعظيم لذاته تعالى ، من خلال امتداد الخير منه لكل الموجودات ، كما أنها تلتقي بالفقرة التالية.

(الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) باعتبار أن هذه الكثرة المطلقة في الخيرات الصادرة منه ، لا بد أن تكون ممن بيده الملك ، لأنه هو الذي يبدعه ويخلقه وينمّيه ويحركه ، مما يجعل الأمر غير محدود بحدّ معيّن ، لأنه لا مجال لنفاده. وهكذا توحي هذه الفقرة بالمعنى الكنائي في السيطرة المطلقة على كل ملك ، لأن ذلك هو معنى كونه بيده ، ليتصرف فيه كما يتصرف ذو اليد بما تحت يده ، فيحركه كيف يشاء ، فهو المالك لكل ملك ، والمالك لكل مالك ، لأنه هو الذي يعطي الخلق ما يملكونه ، كما أعطاهم نعمة الوجود ذاته.

(وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فلا حدّ لقدرته ، وكل شيء خاضع له ، فلا مجال للتوقف عند أيّة فرضية وجودية ، في ما يفعل في المستقبل ، في عالم الغيب الذي لا يحيط به الإنسان ليستبعد وجودها ، بعد أن كانت داخلة في دائرة القدرة الإلهية المطلقة.

* * *

خلق الموت والحياة لاختبار الناس

(الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) وقدّرهما ليكونا القانون الطبيعيّ للموجودات الحيّة ، لا سيّما الإنسان الذي يمثل وجوده حركة المسؤولية في ذاته. والموت

١٢

يحيط بالإنسان من جانبين ، فهناك الموت الذي يسبق الحياة ، وهناك الموت الذي يتعقبها ، وإذا كان الموت عدما ، فكيف يتعلق به الخلق الذي لا بد من أن يكون متعلقه محلّا للوجود ، وقيل : «إن الموت ـ على ما يظهر من تعاليم القرآن ـ انتقال من نشأة من نشآت الحياة إلى نشأة أخرى» (١). ولكن الملحوظ : أن النشأة الأخرى ليست دخيلة في معنى الموت ، بل هي حياة تحدث بعده. وربما كان الوجه في هذا التعبير ، هو ملاحظة أسباب الموت المخلوقة في تكوين الذات الحيّة التي تؤدي إليه ، حتى كأنّه في ما يمثله من سكون الجسد وجمود الحياة فيه ، شيء عارض عليه ، على نحو التخييل الإيحائي ... أمّا المعنى الحقيقي لخلق الموت ، فهو التقدير ، كما عبّر عن ذلك في قوله تعالى : (نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) [الواقعة : ٦٠].

(لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) فقد جعل الحياة ساحة ابتلاء واختبار ليتسابق الناس إلى التحرك في نطاق المسؤولية ، ليقوموا بما كلفهم الله من الأعمال التي تبني لهم حياتهم على هدى الله ، في دائرة أوامره ونواهيه ، لتظهر بذلك النتائج النهائية التي تحدد الإنسان الأفضل ، من خلال العمل الأحسن. وفي الآية إيحاء داخليّ بأن على الناس أن تنطلق طموحاتهم العملية في حركة وجودهم المسؤول أمام الله ، ليكونوا أحسن عملا ، لينالوا بذلك القرب من الله ، لأن أكرمهم عنده أتقاهم له ، في ما تمثله الأفضلية في التقوى من الأحسنيّة في العمل.

وقد جاء عن أبي قتادة ـ حسب ما جاء في مجمع البيان ـ «قال : سألت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن قوله تعالى : (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) ما عنى به؟ فقال : يقول : أيّكم أحسن عقلا ، ثم قال : أتمّكم عقلا وأشدّكم لله خوفا وأحسنكم في ما أمر الله به

__________________

(١) الطباطبائي ، محمد حسين ، الميزان في تفسير القرآن ، مؤسسة الأعلمي ، بيروت ، لبنان ، ط : ١ ، ١٤١١ ه‍ ، ١٩٩١ م ، ج : ١٩ ، ص : ٣٦٥.

١٣

ونهى عنه نظرا ، وإن كان أقلكم تطوّعا» (١).

وجاء في الكافي ـ بإسناده عن سفيان بن عيينة ـ عن أبي عبد الله جعفر الصادقعليه‌السلام في قول الله عزوجل : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) قال : ليس يعني أكثر عملا ولكن أصوبكم عملا ، وإنما الإصابة خشية الله والنية الصادقة والحسنة.

ثم قال : الإبقاء على العمل حتى يخلص أشد من العمل ، والعمل الخالص الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلا الله عزوجل ، والنية أفضل من العمل ، ألا وإن النية هي العمل ، ثم تلا قوله عزوجل : (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) [الإسراء : ٨٤] يعنى على نيته»(٢).

ونستوحي من ذلك أن العنصر الذي يمنح العمل قيمته ومعناه ، هو وعي العمل في العمق الفكري الذي يقود إليه ، وفي المعنى الروحي الذي يختزنه ويحتويه بما يتمثل في ذلك من سرّ الإخلاص وحقيقة العبودية لله في شخصية العامل ، وفي النتائج المترتبة عليه في الدنيا والآخرة. ولهذا وردت الأحاديث التي فضّلت الكمية الضئيلة في عبادة العالم الواعي لعبادته على الكمية الكثيرة في عبادة العابد الذي لا ينفتح على الآفاق الواسعة لعبادته ، كما وردت الأحاديث التي تؤكد على أن الله يثيب العامل من عباده على مقدار عقله ، الأمر الذي يجعلنا نرى أن العمل في الإسلام ينطلق في مستوى وعي العامل له ، وفي نطاق الدرجة التي يبلغها في امتداد المعاني الروحية في شخصيته ، ليتصاعد العمل في درجته من خلال نموّ الإنسان في وعيه وعقله وانفتاحه على أسرار العقيدة ، في حركة الإيمان والحياة.

__________________

(١) الطبرسي ، أبو علي ، الفضل بن الحسن ، مجمع البيان في تفسير القرآن ، دار المعرفة ، بيروت ـ لبنان ، ط ١ ، ١٤٠٦ ه‍ ـ ١٩٨٦ م ، ج : ١٠ ، ص : ٤٨٤.

(٢) الكليني ، الكافي ، دار الكتب الإسلامية ـ طهران ، ج : ٢ ، ص : ١٦ ، رواية : ٤.

١٤

(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) لأنه الذي يملك الملك كله والقدرة كلها ، ولأنه الذي يعفو عن عباده في الدنيا والآخرة ، ويغفر سيئاتهم ؛ وعليهم أن يراقبوه لموقع عزته ، وأن يطمعوا في عفوه لموقع مغفرته.

* * *

انظر في خلق السماوات

(الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) ربما أريد بكلمة الطباق ، التطابق فيما بينها بحيث يكون بعضها مطابقا فوق بعض ، وربما أريد به التشابه بحيث يشبه بعضها بعضا في الهيكل والشكل.

(ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) فقد خلق الله الخلق كله جامعا لجميع الخصائص التي تؤدّي به إلى غايته ، من دون أيّ خلل في تكوينه ، أو نقص في طبيعته ، بالرغم من اختلافه في الشكل والعمق والغاية ، ولعلّ في إضافة كلمة الخلق إلى الرحمن بعض الإيحاء بأن المعنى العام للخلق في كل مفرداته يتحرك في مواقع الرحمة الإلهية العامة للناس.

(فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) فليس هذا التناسق الدقيق الذي لا يخفي أيّة ثغرة في داخله نتيجة انطباع كوّنته نظرة عابرة سطحية لا تحدّق إلا بالظاهر بشكل سريع ، بل هي النظرة الدقيقة التي تتكرر لتلاحظ وتدقق بالصورة بجميع جوانبها بدقّة وإمعان ، بحيث إذا فاتها شيء في النظرة الأولى فلا بد من أن يبدو في النظرة الثانية ، ثم لن ترى هناك أيّ اختلال في ما تراه.

(ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) أي رجعة بعد رجعة وتابع النظر بشكل دقيق لتكتشف بعض الخلل هنا وبعض الثغرات هناك ، (يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) أي يرتد البصر إلى صاحبه منقبضا مهينا لا يملك أيّ شيء جديد في

١٥

ما أراد أن يكتشفه من الخلل ، وهو حاسر ، لأن الحقيقة الإلهية التي تحيط الخلق بالكمال من جميع الجهات تفرض نفسها عليه.

(وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) يستوحيها النظر وهي تتلألأ في الفضاء ، كما تتلألأ المصابيح المعلقة في إنارتها للجو الممتدّ في آفاقها. (وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) أي يرجم بها من استرق السمع من الشياطين ، وهو ما أشار الله إليه في أكثر من آية ، والظاهر أن المراد بها انفصال الشهب عن الكواكب لتكون رجوما للشياطين ، لأن الكواكب تمثل عوالم مستقلة لا تنفصل عن مواقعها.

* * *

بئس مصير الكافرين

(وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ) وذلك من خلال الجرائم التي يرتكبها هؤلاء الشياطين من أشرار الجن ، بسبب إضلالهم الآخرين ، أو بسبب ما يعيشونه من خطوات الضلال.

(وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) وهم الذين رفضوا الإيمان بالله ، أو أشركوا به غيره ... وربما ألحق البعض بهؤلاء المثبتين للربوبية المفرّقين بينها وبين رسله ، كاليهود والنصارى حيث آمنوا ببعض رسله وكفروا ببعض ، ولكن الظاهر أن هؤلاء لا يصدق عليهم الكفر بالله من خلال المصطلح القرآني ، وإن كان يصدق عليهم كلمة الكافرين بلحاظ كفرهم بالرسول.

(إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ) ولعل المعنى أن الكفار إذا طرحوا في نار جهنم اجتذبتهم إلى داخلها كما يجذب الهواء بالشهيق إلى داخل الصدر ، وهي تغلي بهم فترفعهم وتخفضهم ، وربما كان المقصود بالصفتين الحديث عن حالة الهيجان والحركة السريعة والغليان الشديد التي تتمثل بها النار فتثير

١٦

الرعب في النفوس ، بما توحى به من عناصر الخوف ، (تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) فكأنها تتوجه إلى هؤلاء الذين تمردوا على الله وهم يقبلون عليها كما يتوجه الغاضب المتوتر الذي يكاد يتمزق ويتقطع قطعا من شدّة غيظه.

(كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ) من الكافرين الداخلين إليها عند ما يلقون فيها جماعات جماعات (سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها) توبيخا أو إقامة للحجة ، أو إيحاء بأنهم يستحقون ذلك ، لأن الله لم يظلمهم بعذابهم بالنار ، (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ) يعرّفكم أوامر الله ونواهيه ، ويدعوكم إلى الطريق المستقيم الذي يؤدي بكم إلى الجنة ، ويحذركم من الكفر والشرك الذي يؤدّي بكم إلى النار.

(قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ) تمثل برسل الله وبالدعاة إليه من بعدهم ، ولكننا رفضناهم وواجهناهم بطريقة اللامبالاة ، فامتنعنا عن الاستماع إليهم والتفكير بدعواتهم والدخول في الحوار معهم ، (فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) من دون أية حجة على النفي ، وتابعنا الحملة عليهم بطريقة السباب وقلنا لهم : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) فاتّهمناهم بما نحن متصفون به ، لأننا كنا نعيش الضياع بسبب الجهل الذي تخبطنا فيه.

* * *

المعرضون عن دعوات الرسل في أصحاب السعير

ثم رجعوا إلى أنفسهم وهم في حالة إحباط وسقوط وشعور بالحسرة والندامة والخزي والعار ، ليواجهوا الحقيقة المرّة التي لم يدركوها إلا بعد فوات الأوان ، وهي أن المشكلة كل المشكلة لدى الكفار ، تتمحور حول عدم توجيه أسماعهم إلى دعوات الرسل ، ليعرفوا ما تحتويه من أفكار الهدى ، ولم

١٧

يطلقوا عقولهم للتفكير بالقضايا المتصلة بالله والكون والحياة والإنسان ليهتدوا بهدى العقل ، بما تستقل به عقولهم في إدراك الأمور ، أو ليهتدوا بهدى الوحي الذي يسمعونه من الرسول ، وقد أدى هذا الوضع إلى وجودهم في هذا المكان الذي يمثل المصير الأسود ، (وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) وقيل : إن تقديم السمع على العقل لأن استعماله من شأن عامة الناس ، وهم الأكثرون ، والعقل شأن الخاصة وهم آحاد قليلون. وربما كان الأساس في ذلك هو أن السؤال الموجه إليهم كان عن النذير الذي أتاهم فكذبوه من دون أن يسمعوا له أو يحركوا عقولهم في التفكير بأمره وبدعوته ، مما يجعل القضية تعيش في نطاق السمع في البداية.

(فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ) وهم يعيشون في أجواء الندامة القاتلة بعد أن استعادوا تلك المرحلة من تاريخهم في الحياة الدنيا ، وكيف استسلموا للعناد والمكابرة ضد الحق ، استكبارا وعتوّا (فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) الذين يواجهون العذاب من موقع الاستحقاق فلا يستحقون رحمة من الله لهم ، ولا يتعلقون بأيّ حبل من حبال المغفرة ، لأنهم كفروا بالله ، وكذّبوا الرسل ووقفوا بين الناس وبين الإيمان فأساءوا إلى الناس وإلى الحياة كلها ، حيث ابتعدوا بهم وبها عن الصراط المستقيم.

ولهذا كانت كلمة السحق التي تمثل ذروة العنف المنبثق عن الغضب ، هي الكلمة التي يستحقونها هناك.

* * *

المغفرة والأجر للذين يخشون الله

(إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) وهذا هو النموذج الآخر للذين يستمعون إلى الرسالة والرسول ، فيواجهون الموقف بمسؤولية

١٨

عند ما يحركون عقولهم لتفكر ، وأسماعهم لتستوعب ، وخطواتهم لتتوازن وتستقيم ، فينفتحون على عظمة الله ، من خلال ما يسمعونه أو يعقلونه فيبعث ذلك في نفوسهم الخشية من الله ، وإن لم يشاهدوه بالحسّ لأنهم يرونه من خلال الغيب الذي يؤمنون به ، في إشراقة المعرفة في قلوبهم ، وفي صفاء إحساسهم بالحقيقة الإلهية في وجدانهم ، وهؤلاء هم الذين ينالهم الله بمغفرته ، ويجزيهم أجرهم الكبير جزاء بما كانوا يؤمنون وبما كانوا يعملون.

* * *

يعلم سركم وجهركم

ثم أراد الله أن يثبّت الإحساس بالله وبرقابته في عمق الإيمان ، بإحاطته الشاملة لكل خفايا الناس سواء ما أسرّوه في صدروهم أو غير ذلك مما لم يطّلع عليه أحد غيرهم ، لأنه المطّلع على ذلك كله ، فلا يحجبه عن خلقه شيء ، لأن طريقة إحاطته بالأشياء تختلف عن طريقة خلقه ، فهم يعرفونها من خلال الوسائل الحسية أو العقلية التي يملكونها ، وينفذون بواسطتها إلى الأشياء ، فيختلف السرّ عندهم عن العلانية ، كما يختلف الإخفات عن الجهر. ولكن الله يعرف الأشياء من خلال خلقه لها ، فهي موجودة في علمه قبل وجودها ، ومكشوفة له بوجودها لإحاطته بكل تفاصيلها الخفية والظاهرة ، حيث يبصر من فوق عرشه ما تحت سبع أرضين ، ويسمع وساوس الصدور ، (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ) فلن تستطيعوا إخفاء شيء عن الله ، (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) بكل دقائقها الصغيرة والكبيرة ، وبكل خفاياها الخاصة والعامة ، الأمر الذي يفرض عليكم وعي المعرفة الدقيقة بالعلم الإلهي.

(أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) من خلقه الذي أبدع كل أسراره ، بكل عناصره الدقيقة

١٩

مما يجعل كل شيء مكشوفا لديه ، فهو السبب الأعمق في كل ما يفعله الإنسان ، مما كان سببه بيد الله ، إذا كانت المباشرة بيد الإنسان ، (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) الذي ينفذ إلى أعماق الموجودات فيطلع على كل جزئياتها وأسرارها فلا يحجبه عنها شيء ، وهو الخبير الذي يحيط بكل أوضاعها من جهة علمه الذي لا يعزب عنه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء.

* * *

٢٠