تفسير من وحي القرآن - ج ١١

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١١

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٨

١
٢

٣
٤

سورة التّوبة

مدنيّة

وآياتها مائة وتسع وعشرون

٥
٦

وقفة مع بعض خصوصيات السورة

سبب تسميتها التوبة

لقد انطلقت الأسماء القرآنية للسور ، من خلال الحديث في بعض آياتها عن موضوع معيّن ، قد تكون له أهميته في حركة الفكرة في السورة ، أو في شخصية بارزة ذات تأثير في تاريخ الدعوة ، أو في تاريخ الحياة ، أو في غير ذلك من الأمور التي يراد إثارة الاهتمام بها ، لتحقيق هدف معيّن ، أو حالة معيّنة.

وفي هذه السورة ، كانت التوبة هدفا قرآنيا في كل ما أثير فيها من مواضيع تتعلق بالموقف الحاسم من المشركين وأهل الكتاب والمنافقين والمنحرفين عن بعض خطوط المسيرة ، لأنها تؤكد في ذلك كله على موقف الرفض لكل هذه الفئات ، على أساس الرفض للخطوط المضادة أو المنحرفة أو القلقة التي يمثلها خط السير لديها ، مما يوحي لها بضرورة التراجع عن ذلك ، إلى خط الإيمان والإسلام ، خط الاستقامة والاتّزان ، وبذلك كانت آيات السورة دعوة إلى التوبة ، بشكل غير مباشر

وقد ذكرت فيها التوبة في أكثر من آية ، في ما تحدث الله به عن التائبين

٧

العابدين الحامدين السائحين الراكعين الساجدين الآمرين بالمعروف والنّاهين عن المنكر الحافظين لحدود الله ، كنموذج للمؤمنين الذين يتحرك الإيمان في داخلهم رفضا لكل الاتجاهات المضادّة ، وانسجاما مع كل حركة الخط المستقيم في الحياة الذي يلتقي بالسلبيّة في جانب ، وبالإيجابية في جانب آخر.

كما تحدّث الله عن الثلاثة الذين خلّفوا ورجعوا إلى الله بالتوبة ، فتاب عليهم ، وعن توبة الله على النبي والمهاجرين والأنصار من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ، كما تحدث عن الذين لا يعيشون روح التوبة من المنافقين الذين في قلوبهم مرض وماتوا وهم كافرون ، وعن الذين لا يريدون أن يستغفروا أو يستغفر لهم رسول الله تمرّدا وتعنّتا واستكبارا ، فلا يغفر الله لهم.

وهكذا كان ختام السورة توبة خالصة لله في مواجهة كل حالات الإعراض التي يعيشها الكافرون والمنافقون ، ليعلن النبيّ من خلال ذلك بأنّ الله حسبه ، لا إله إلا هو ، عليه التوكل ، وهو رب العرش العظيم.

* * *

سبب تسميتها براءة

وقد أطلق عليها اسم براءة ، وذلك من خلال افتتاحيتها التي تمثلت بهذا الحدث البارز الذي واجه به الله ورسوله المشركين ، بالبراءة منهم ومقاطعتهم والإعلان لهم بتحريم الحج عليهم وإخراجهم من دار الإسلام ، وذلك للإيحاء بأن السورة تتضمن الدعوة إلى هذه البراءة ، لا من هذه الجماعة من المشركين فحسب ، بل من كل النماذج من الكافرين والمنافقين الذين يواجهون الإسلام

٨

بطريقة مباشرة ، أو بأسلوب الخداع والتضليل واللف والدوران ، وذلك هو الموقف الحاسم الذي يمثّله الخط الإيمانيّ المتحرك في حياة الإنسان ، الذي يرفض في الفكر والموقف كل ما هو غير إسلامي ، وذلك للتأكيد على الخطوط الفاصلة التي تميّز المسلم عن غيره في فكر الحياة وحركتها.

* * *

هل هي سورة مستقلة؟

قال بعضهم إنها امتداد لسورة الأنفال ، وبذلك علّل عدم ذكر البسملة في أولها كما هو نهج بقية السور ، ولكن الظاهر أنها سورة مستقلة ، لأن التنظيم القرآني للسور الذي تلقّاه المسلمون يدا بيد ، اعتبرها سورة واحدة ، وليست جزءا من سورة ، كما أن دراسة النظم القرآني للسورتين يوحي بذلك ، أما إهمال البسملة فيها ، فله حديث آخر وتفسير آخر.

* * *

لماذا تركت البسملة في بدايتها؟

لم يرد للبسملة ذكر في بداية السورة ، وربما كان السبب في ذلك ، أنها كانت إعلانا للبراءة والقطيعة والحرب في بعض المجالات ، ولعل من الطبيعي أن البسملة في معناها الذي يوحي بالرحمة ، لا تتناسب مع ذلك كله ، فكان المناسب إهمالها ، والله العالم.

* * *

٩

أغراض السورة

وقد انطلقت هذه السورة لتحدّد للمسلمين المسار العملي الذي يتحركون فيه ، في علاقاتهم مع المشركين وأهل الكتاب ، ولتحسم الوضع كله مع المشركين ، فتلغي معاهداتهم وتمنعهم من الحج ، وتؤكد إنهاء الصلة بينهم وبين المسلمين ، فلا علاقة ولا ولاية ، لأن القضية ليست قضية فكر يواجه فكرا ، فيلتقيان في جانب ، ويفترقان في جانب آخر ، بل هي قضية خرافات وأوهام تحكم المجتمع كله ، لتهدم روحيته وتضيّق أفقه وتبعده عن الأفق المشرق للحياة. ولذلك حاول الإسلام أن يبعد الشرك عن الساحة ، فيخيّر المشركين بين الاستسلام للإسلام وبين الخروج من أرض المسلمين ، وتحت طائلة المسؤولية بإعلان القتال عليهم ، فيما لو خالفوا ذلك. أمّا أهل الكتاب ، فقد نظّمت العلاقة بينهم وبين المسلمين بالطريقة التي تحمي إنسانيتهم وتفتح لهم آفاق الفكر والحوار مع المسلمين ، لتكون العلاقة قائمة على أساس ثابت من العلم والإيمان ، فإذا رفضوا الإسلام ولم يذعنوا له ولم يقتنعوا به ، فإن الإسلام لا يعرض لهم بسوء ، ولكنه يريد لهم أن يعيشوا مع المسلمين ضمن أوضاع محددة يعلنون من خلالها خضوعهم لسلطة الإسلام في أرضه ومجتمعة ، في مقابل أن يحميهم من كل اعتداء عليهم ، وكانت الجزية رمزا لذلك.

ثم أثارت السورة الوضع الداخلي الذي كان يعيشه المسلمون ، فيما كان يواجه البعض منهم دعوة النبي إليهم للخروج معه للحرب في غزوة تبوك ، وكيف كانوا يتساقطون أمام هذه التجربة ، فيترددون أو يرفضون ، ويتثاقلون ، ويتخلفون عن الخروج معه ، تحت تأثير تبريرات لا تثبت أمام النقد ، ولا ترتكز

١٠

على أساس ، كما تحدثت عن المنافقين في أساليبهم الملتوية في التخطيط لإرباك المجتمع الإسلامي ، وتعقيد مسيرته ، وتضليل أفراده ، مما كان يريد القرآن أن يثيره أمام المسلمين في تلك المرحلة ، وفي جميع المراحل ، من أجل أن ينتبهوا إلى طبيعة اللعبة الخبيثة التي يلعبها مجتمع النفاق في إبعاد المسلمين عن دينهم الحق ، وتحويلهم إلى فرق متناثرة متناحرة بعيدة عن الله وعن الرسول.

وهكذا انطلقت السورة لتبرز ملامح ذلك الجوّ ، ثم تحرّكت في هذه الزاوية أو تلك ، لتعالج قضية جانبية هنا ، ومفهوما أساسيا هناك ، ولتشير إلى بعض اللمحات الروحية والنفسية ، في محاولة لتجميع العناصر الحيّة لتكامل المجتمع في إيجابياته ، في ما تتحرك به علاقات الناس مع بعضهم البعض في الداخل والخارج ، لتوجيههم إلى ما يقوّى أواصر المودة بينهم ، ولإبعادهم عما يثير الخلاف في داخلهم ، ولمحاولة دفعهم إلى الانطلاق في مراقبة كل عوامل الخوف واليأس والقلق والحيرة ، وفي مواجهة كل التحديات المثيرة للضعف وللذل والهوان ، وفي تحريك الساحة نحو خط الجهاد الذي يمثل القوّة الحقيقية التي تحوّل المسلمين إلى طاقة حيّة متحركة متحدّية ، في وعي كبير للساحة ، وفي ارتباط وثيق بالهدف ، وفي تعميق للفكر السليم وللتجربة الهادفة.

وبهذا كانت هذه السورة ، في مقاصدها وموضوعاتها ولمحاتها وإيحاءاتها ، سورة حركية ، يشعر فيها القارية بالحركة المتنوعة في أكثر من صعيد ، لما تثيره من أفكار ومشاعر ، وما تؤكده أو تدعو إليه من مواقف ، وفي ما تقدمه من نماذج الواقع الذي عاشه مجتمع الرسالة الأوّل ، من أجل أن تواجهه المجتمعات الإسلامية اللاحقة بالدراسة والتأمل ، حتى تتعرف الى سلبياته وإيجابياته ، فتتجنب ما ينبغي تجنّبه منه ، وتأخذ ما ينبغي أخذه.

١١

وتلك هي قصة القرآن في جميع سوره وآياته ، التي تهدف إلى صنع الإنسان الجديد على صورة الإسلام في فكره وعقيدته وشريعته ومفاهيمه ومجتمعة ، لتحقّق للإسلام أهدافه في الحياة ، من خلال التجربة الإنسانية الواعية التي تعمّق للحياة وعيها لله وتجعل كل طاقاتها في خدمته.

* * *

١٢

الآيتان

(بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ) (٢)

معاني المفردات

(بَراءَةٌ) : إعذار وإنذار.

(فَسِيحُوا) : السيح : السير على مهل.

(مُعْجِزِي اللهِ) : جعل الله عاجزا غير قادر.

(مُخْزِي) : خزي الرجل ، لحقه انكسار إما من نفسه وإما من غيره. وهنا الخزي من الله.

* * *

القران يعلن البراءة من المشركين

لقد عاش المشركون في أجواء السلم مع المسلمين مدّة من الزمن ، بعد

١٣

حروب طويلة بينهم ، على أساس العهد الذي عقدوه مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن لا يعرض لهم بسوء ، ولا يعرضوا له وللمسلمين بسوء ، وأن يأخذوا حريتهم في حج بيت الله ، وفي كل المجالات العامّة والخاصّة التي تفرضها طبيعة حياتهم وأوضاعهم ، في ما يتعلق بعبادتهم ومعاملاتهم وارتباطاتهم بالأحلاف والمواثيق مع الآخرين ، تماما ، كما لو لم يكن الشرك مشكلة للفكر وللحياة.

ومرّت الأيّام ، وانطلق الإسلام يفرض نفسه على الجزيرة العربيّة في انطلاقته الروحية والفكرية والعملية ، في دعوته إلى عبادة الله الواحد ، وفي انطلاقته في تنظيم الحياة في قضاياها الكبيرة والصغيرة ، في ما يتصل بالحياة الفرديّة والاجتماعية ، وبدأ الناس يدخلون في دين الله أفواجا ، من خلال الوعي والقناعة والإيمان ، ولم يرتح المشركون لهذا الواقع ، ولكنّهم لم يواجهوه مواجهة مباشرة ، لأنهم لا يملكون القدرة على ذلك ، فكانت الدسائس التي تكيد للإسلام والمسلمين ، من خلال ما كان يظهر من خيانة أو من مشاريع مستقبليّة للخيانة ، وكانوا يخفون بعضا من ذلك ، يتهامسون به ويتناجون ، وكانوا يظهرون بغضهم عند أوّل بادرة ضعف يلمحونها هنا وهناك في حركة الإسلام والمسلمين ، وكان النبي يراقب ذلك من قريب أو من بعيد ، وكان المسلمون يرصدون ذلك ويلاحظونه ، وكانوا يتألمون من ذلك ويبصرون ويتحرّجون من مواجهتهم بالعنف ، لأنهم لا يزالون في عهد معهم ، والله لا يريد للمؤمنين أن ينقضوا عهودهم.

وربّما كانت الفكرة التي أوحت بتلك العهود التي أعطاها المسلمون لهم مما أوجب الله عليهم الوفاء به ، هي أن الله أراد لهم أن ينفتحوا على الإسلام من خلال أجواء الحرية التي يأوون إلى كنفها ، ويستريحون إلى ظلّها في دعة واطمئنان ، بعيدا عن أيّ ضغط نفسيّ أو أمني ، ليفكروا في قضية الإيمان من موقع الحريّة الفكريّة إذا أرادوا أن يحصلوا على القناعة من خلال الفكر ، وكان الإسلام واثقا من النتيجة الحاسمة في حركة الإيمان في الداخل من خلال

١٤

ذلك ، لأن بيّناته واضحة ، وحججه ثابتة ، كل ذلك قائم على أساس العقل ، وما تقود إليه الفطرة ، ولكنهم لم يزدادوا إلا طغيانا وتمرّدا وكيدا للإسلام والمسلمين ، لأن الشرك لم ينطلق لديهم من حالة فكرية عقلانية ، يخضعون فيها لشبهة في العقيدة أو مشكلة في الفكر ، بل كان منطلقا من عقدة جهل ، وحالة تخلّف ، ونزعة كبرياء ، توحي لهم بالامتداد في الكفر والغيّ والضلال. وبذلك لم تكن القضية مرتبطة بمسألة الحرية في الإيمان أو الكفر ، بل بالعقدة المرضيّة التي يرفضون من خلالها الحوار والتفكير ، ويمتنعون عن تحريك أدوات المعرفة التي منحهم الله إيّاها ، في طريق الوصول إلى حقيقة المعرفة.

وهكذا أراد الله لهذا الجوّ الهادىء الذي ينعمون به ، ولتلك الحرية التي ينطلقون معها ، ولهذا الاسترخاء الأمني الذي يعيشون فيه ، أن ينتهي بإنهاء العهود التي تحقق لهم ذلك كله ، ليبدأ هناك عهد جديد للإسلام ، الذي انطلقت عقيدته من قاعدة التوحيد ، فلا يبقى معها للشرك موضع في أيّ مكان يتحرك فيه الإسلام ، ولا مجال بعد ذلك إلا له ، وإلّا فالمواجهة الحاسمة في ساحة القتال ، فكانت هذه البراءة ، التي توحي بالانفصال التام ، فلا مجال لأيّ لقاء أو رعاية أو عناية أو عهد ، ولا موقع لأيّة مسالمة ، بل هو البعد الفاصل الذي يطردهم عن ساحة أمن الله ورسوله ، ويدفعهم إلى الوقوف وجها لوجه في ساحة الخطر ، فكما لا مكان للّقاء بين التوحيد كمبدإ والشرك كعقيدة ، لأنهما متضادان يطرد أحدهما الآخر ، فلا مكان للسّلم بين المؤمنين والمشركين ، لأن مواقفهما مختلفة في التوجهات والأهداف.

* * *

براءة من الله ورسوله

(بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) لأنهما الأساس في التشريع والحكم والولاية ، في

١٥

ما يتحرك به الناس ، أو يقفون عنده ، فالله هو الذي يوحي ويشرّع ، والنبيّ هو الذي يخطّط من خلال ذلك سياسته ودعوته وينفذ ، فكان لا بد للمسلمين في براءتهم من المشركين ومن عهودهم ، من أساس ينطلقون منه ، فكانت هذه البراءة الصادرة من الله ورسوله الموجهة إلى المسلمين ، في ما تشتمل عليه من الإنذار الحاسم (إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) بإنهاء العهود المعقودة بينهم وبين المسلمين. ولكن الله أعطاهم مهلة للتفكير في الأمر في ما يريدون أن يختاروه من الإيمان بالإسلام والسير على هداه الذي يكفل لهم الأمن في الدنيا والآخرة ، أو البقاء على الشرك الذي يقودهم إلى الهلاك في الدارين معا ، فلم يأمر بمعاجلتهم بالمواجهة ، بل أبقى لهم الأمن وحريّة الحركة في أيّ مكان يذهبون إليه ، ليعرّفهم بأن ذلك لم ينطلق من عقدة تبحث عن التنفيس ، بل من خطة تتحرك في اتجاه العدل (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) وكلمة السياحة تمثل حرّية التحرك في الانطلاق بعيدا عن مواقع الخطر بالسفر إلى بلاد لا سلطة للإسلام فيها ، أو البقاء في أماكنهم ليتدبروا أمرهم في ما يقررونه من قرار ، أو يتخذونه من موقف (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) فإن الله لا يعجزه أحد في ملكه ، فلا تفكروا بأن الفرار من مواقع الخطر ، يمكن أن يحقق لكم الأمن من عذاب الله ويبعدكم عن ساحة قدرته ، فإن الله قادر على أن يسلّط عباده المؤمنين عليكم في الدنيا ، وأن يذيقكم عذاب الخزي في الآخرة إذا أصررتم على الشرك (وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ) في الدنيا والآخرة.

وقد اختلفت كلمات المفسرين في هذه الأربعة أشهر من أين تبدأ ، هل هي من يوم الحج الأكبر أو هي من يوم العشرين من ذي القعدة ، أو من أول شوّال ، لأن الآيات نزلت فيها؟ والأقرب إلى جوّ الآية ، هو القول الأوّل ، لأنّ يوم الحج الأكبر هو يوم الإبلاغ والإيذان ، فكان من الأنسب أن تبدأ المهلة منه لتتناسب مع التوسعة وإتمام الحجة ، ومن المعروف أن يوم النحر هو يوم الحج

١٦

الأكبر ، مما يجعل بدايتها من العاشر من ذي الحجة ونهايتها في العاشر من ربيع الثاني ، والله العالم.

* * *

١٧

الآيات

(وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣) إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٥)

* * *

معاني المفردات

(وَأَذانٌ) : الاعلام. وقيل إن أصله من النداء الذي يسمع بالأذن ومعناه أوقعه في أذنه.

(تَوَلَّيْتُمْ) : أعرضتم.

(وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ) : ولم يتعاونوا عليكم.

(مُدَّتِهِمْ) : المدة والزمان والحين نظائر. وأصله من مددت الشيء مدا ،

١٨

فكأنه زمان طويل الفسحة.

(انْسَلَخَ) : الانسلاخ خروج الشيء مما لابسه. وهنا أي انتهاء الأشهر الحرم.

(وَاحْصُرُوهُمْ) : الحصر : المنع من الخروج من محيط. والحصر والحبس والأسر نظائر.

(مَرْصَدٍ) : المرصد : الطريق.

* * *

الإعلان يتحدث عن التفاصيل

وأراد الله لرسوله أن يعلن هذه البراءة بصوت عال في الموسم الأكبر ، ليسمعه الناس كلهم ، فيكون حجّة عليهم ، في ما أراد الله دعوتهم إليه ، أو ما كلفهم بالقيام به ، ليكون ذلك هو الحدّ الفاصل بين مرحلتين : مرحلة الصراع بين التوحيد والشرك ، في حروب مختلفة في نتائجها بين النصر لهذا والهزيمة لذاك ، والتكافؤ في بعض الحالات ، ومرحلة هيمنة التوحيد على الساحة كلها ، فلا يرتفع إلّا صوته ، ولا تتحرك إلا مسيرته وسراياه ، ولا تحكم الناس إلا شريعته ، ليفهم الجميع أنّ عهدا جديدا قد بدأ ، وأن النتيجة الحاسمة بانتصار الإسلام قد فرضت نفسها على الجوّ كله ، وأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّ بن أبي طالب ، ليبلغ عنه هذا النداء ، ولأنّ المهمة تحتاج إلى رجل توحي شخصيته بالحسم والقوة ، ليتناسب ذلك مع طبيعة القضية ، وقرأها لهم وأعلن ـ في ما أعلن ـ أنّه لا يطوف بالبيت عريان ، ولا يحج بعد العام مشرك ، ولا يدخل الجنة إلا مؤمن.

* * *

١٩

يوم الحج الأكبر

(وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ) جميعا من المشركين والمسلمين ، ليقوم المشركون بتحديد موقفهم النهائي من نداء الله إليهم ، وليستعد المسلمون لتنفيذ حكم الله (يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) وقد اختلف فيه ، فقيل إنه يوم عرفة ، وقيل إنه مجموع أيام الحج ، وقيل إنه اليوم الثاني من أيام النحر ، وقيل إنه يوم النحر ، ولعله الأقرب بلحاظ الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت وغيرهم ، ولأنه اليوم الذي اجتمع فيه المسلمون والمشركون عامة بمنى. وربما كانت سيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في إبلاغ الناس وصاياه ، في أيام الحج ، أن يقوم فيهم خطيبا في هذا اليوم ، كما نلاحظ ذلك في خطبته في حجة الوداع ، مما يوحي بأنه يوم التبليغ الأخير في أيام الحج ؛ والله العالم.

* * *

القطيعة الكاملة مع المشركين

(أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) فليس لهم عهد عنده ، في ما يوصي به رسوله والمسلمون من الوفاء لهم بالعهد ، لأنه لا يريد للشرك أن يعيش مع الإيمان على صعيد واحد ، بل يريد له أن يزول من حياة الناس ، ولذلك كانت هذه البراءة التشريعيّة تأكيدا للبراءة الحقيقيّة في مقت الله للشرك والمشركين ، (وَرَسُولِهِ) بريء منهم ، فقد صبر عليهم طويلا وحاورهم وقاتلهم ، وسلك جميع السّبل التي يمكن أن تردعهم عن ضلالهم وغيّهم ، فلم يترك لهم حجة

٢٠