تفسير من وحي القرآن - ج ٢١

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ٢١

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٦٠

خصوصية لهؤلاء ، بل المسألة مسألة الكفر الذي يفقد الحجة على مضمونه الفكري ، كما يفقد الرّد على مضمون الرسالة وموقف الحق في شخصية الرسول ، فيعمد أهله إلى توزيع الاتهامات بطريقة غير مسئولة.

وهكذا تمتد رحلة الكفر التاريخي في مواجهة الإيمان تاريخيا في رسالات الله (ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) ليبطلوا تأثيره في النفوس ، معتمدين في ذلك على تفكير الجماهير السطحي الذي يجعل قناعاتهم محكومة للشائعات دون تعمق في مناقشة الأمور ودراسة نقاط ضعفها وقوّتها ، مما يسهل على الفئات المضادة الوصول إلى ما تريد دون أن تهتم بواقعية التهمة ومدى انسجامها مع حقيقة الشخص الذي توجّه إليه ، لأن المهم لديها هو إشغال الناس بأيّة وسيلة عن التفكير بالرسالة والرسول ، لإثارة الضوضاء التي تسلب الفكر الصفاء الذي يطل به على الحقيقة المشرقة.

(أَتَواصَوْا بِهِ) على ترداد مقولة واحدة التقى بها الأولون بالآخرين ، مما جعل كل جيل يوصي الجيل الآخر بالوقوف ضد الرسالات والرسل في كل عصر ومصر ، (بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) فليست المسألة مسألة إرث الوصية ، بل هي طبيعة الطغيان التي تملي على كل طاغية في زمانه استخدام هذا المنطق الذي يعبّر عن رفض الحقيقة ، والهروب منها ، باللجوء إلى أسلوب الاتهام غير المسؤول الذي يراد به إشغال الناس عن الرسالة. ولكن منطقهم ذاك لن يصل إلى أيّة نتيجة عملية ، فلن يتراجع النبي عن موقفه في إبلاغ الرسالة ، وعن إصراره عليها وثبات موقفه منها ، كما لم يتراجع الأنبياء من قبله. هذا ما يريد الله أن يبلّغه للنبي ليتخذ الموقف الصامد الذي لا يخضع لنقاط الضعف ، ولا يهتز أمام تهاويل الخوف (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) وأعرض عن كل أوضاعهم وأساليبهم ومواقفهم ومواقعهم.

(فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) في ما واجهوك به من تكذيب ، وما أعلنوه من رفض للتوحيد وللإيمان ، لأن دورك هو الإبلاغ والتذكير والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.

٢٢١

(وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) الذين يتعمق إيمانهم ويزيد وينمو ، كلما سمعوا وحيا جديدا وآية جديدة ، لأن قلوبهم مفتوحة على المعرفة ، يتأملون في كل ما يسمعونه من آيات الله ، مما يجعلهم ينتفعون بها ، في الوقت الذي يمتنع الآخرون عن الانفتاح عليها والانتفاع بها.

* * *

من وحي الآيات

وقد نستوحي من ذلك ، أن على الدعاة إلى الله ، أن يثبتوا في مواقفهم وأن يستمروا في الخط الرسالي ، دون اتخاذ ردود فعل سلبية أو إيجابية من حولهم ، وعليهم متابعة الرسالة في خط الدعوة ، لأن هناك قلوبا مستعدة للانفتاح عليها ، وساحات جاهزة للحركة فيها ، ففرص وصول الدعوة موزعة في أكثر من مكان ، فإن المؤمنين في الحاضر يحتاجون إلى استمرار الدعوة لتنمية إيمانهم وتقويته ، وتحريك التفاصيل ، كما أن المستقبل يختزن في داخله آفاقا جديدة قد تصلها الدعوة عبر الطلائع الفتية في الجيل الجديد التي لا تعيش ما يعيشه أصحاب المطامع والمصالح الذاتية من عقد نفسية تجاهها.

* * *

٢٢٢

الآيات

(وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (٥٦) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧) إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥٨) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (٥٩) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) (٦٠)

* * *

معاني المفردات

(الْمَتِينُ) : الشديد القوة.

(ذَنُوباً) ؛ أصل الذَّنوب : الدلو الممتلئ ماء ، وهنا بمعنى النصيب من العذاب.

(فَوَيْلٌ) : كلمة تقولها العرب لكل من وقع في الهلكة.

* * *

٢٢٣

(وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)

ما هو المضمون الروحي لوجود المخلوقات الحية العاقلة من جنّ وإنس في الأرض؟

وما هي غاية الخلق ودور تلك الغاية العملي في حياة المخلوقات؟

وما هو المدلول الفلسفي للغاية من الوجود انطلاقا من مضمون التوحيد المرتبط بالله؟

هذه هي الأسئلة التي يتناولها مضمون الحديث في هذه الآيات ، فالآية الأولى تحدد المضمون الروحي بالعبادة لله ، فقد خلق الله الجن والإنس ليعبدوه ، كما أن الآية الثانية تنفي حاجة الله إلى مخلوقاته ، سواء في الرزق أو في الطعام ، باعتبارهما الرمز المادي للحاجة ، أما الآية الثالثة ، فتؤكد حاجة العباد إليه كونه مصدر الرزق الوحيد والقوّة القاهرة.

(وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) فالعبادة هي الغاية من الخلق ، ولكن كيف نتصور مدلول تلك الغاية؟ بادئ ذي بدء ، قد يبدو لنا أن في ذات الخالق حاجة تحكم عملية الخلق ، فإذا كان الأمر كذلك ، فكيف نتصور حاجة كهذه في الله سبحانه الغني عن عباده وعن كل مخلوقاته ، لا سيّما وأن مسألة العبادة لا معنى لها سوى إرضاء نزعة الكبرياء في النفس التي ترتاح لخضوع الآخرين لها ، وهذا ما لا معنى له في الذات الإلهية التي لا تحتاج إلى وجود العابدين ، فكيف تحتاج إلى عبادتهم ، لأنهم لا يمثلون شيئا في مسألة الوجود ، كما أنه أمر مستحيل فيما هو الكمال الذاتي والغنى المطلق في ذات الباري عزوجل؟!

ولعلّ الجواب الأوفق بالخطّ التوحيدي والكمال المطلق لله الذي يوحي بالغنى المطلق في ذاته ، أن يقال : إنّ الغاية هنا ، ليست معنى قائما في ذات الخالق ، بل هي أمر متصل بالدور الذي يراد للمخلوق القيام به ، بالمستوى الذي ترتفع به حياته عن العبثية ، فلم يخلق الله الجن والإنس ليعيشوا اللهو

٢٢٤

الذي يجعل الحياة فرصة للعبث ، بل لعبادته ، وتأكيد إحساسهم بالعبودية المطلقة أمام الألوهية المطلقة التي تعطي لكل مسئوليات الحياة معنى يتحرك في وجودهم ، وبذلك تكون الغاية فكرة في تقدير الخالق ، وليست حاجة لديه ، فإن الحاجة إلى خضوع الناس وإلى ما يقومون به من فروض العبادة تجاهه كإله ، تمثل حاجة إلى إكمال نقص يحس به المعبود ويجد في العبادة لونا من ألوان التعويض ، وهذا مما لا يتصور في الله سبحانه الذي تعالى عن أيّ نقص وأيّة حاجة مهما كان نوعها. هذا الجواب هو الذي يوفّق بين معنى الغاية وبين الخط التوحيدي ، لتكون قضية العبادة قضية دور الإنسان في حركة النشاط العام.

* * *

مفهوم العبادة في القرآن

نتساءل بعد ذلك : ما هو مفهوم العبادة في القرآن؟

فهل هي الشعائر الخاصة التي اصطلح الناس على تسميتها بالعبادة كالصلاة والصوم والحج والدعاء ونحوها؟ أم هي مفهوم واسع يتسع لكل النشاطات التي يرضاها الله ويحبها ، ويأتي بها العبد من موقع إحساسه بحضور الله الدائم في كل مفردات حياته الخاصة والعامة ، بحيث يشعر بالذوبان في وجود الله والحاجة الدائمة إليه والارتباط به؟

الظاهر أن المراد بالعبادة المعنى الثاني الذي يتضمن المعنى الأول ، لأن العبادة كشعائر لا تستغرق وجود الإنسان كله ، بل تحتل مساحة صغيرة منه ، بينما تطال العبادة بالمعنى الثاني حركة الحياة العامة والخاصة ، وهذا ما جاء به الحديث المأثور الذي يؤكد أن العبادة تتجسد في العفاف وفي العمل طلبا لكسب عيش الإنسان وكل من يعوله ، وفي طلب العلم ، وفي التفكير ، وفي قضاء حوائج الناس ، وفي كل عمل يرفع مستواهم.

وبذلك كانت العبادة معنى في النفس يتفاعل مع العقيدة التوحيدية ، لتكون

٢٢٥

حالة تعمَّق في الوعي الشعور بعبودية الله في كل شيء ، وحركة في الواقع العملي تؤكد الالتزام الانقيادي الخاضع له في كل أوامره ونواهيه ، وما يحبه ويرضاه ، بحيث يعيش الإنسان الحياة كلها خاشعا أمام الله في الفكر والشعور والعاطفة ، محصّنا من الانفتاح على أية فئة أو أي شخص يدّعي لنفسه امتيازا ذاتيا في علاقة الناس به ، بعيدا عن الله.

وهكذا ، عند ما تحمل العبادة كل نشاط الإنسان وحركته في كل مواقع الأرض في الداخل والخارج ، يتحول الكون كله إلى عبد لله سبحانه.

* * *

غنى الله عن عباده

(ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) لأني الإله الذي خلق الرزق كله ، فليس لأحد من الخلق شيء منه إلا من خلال ما يرزقهم منه ، ولا معنى للطعام في معنى الله ، ولا معنى لأن يطعمه أحد من خلقه. وإذا كانوا يعتبرون الأمر الإلهي بالإنفاق على الآخرين يعني عطاء لله ، فعليهم أن يروا حقيقة ذلك ، كأمر يعود إليهم باعتباره تجسيدا لإنسانيتهم مما ترجع فائدته إليهم وإلى الحياة من حولهم.

(إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ) الذي يعطي كل مخلوق رزقه من خزائنه التي لا تحصى ولا تنفد ، ولا يحتاج إلى رزق منهم (ذُو الْقُوَّةِ) الذي يعطي القوّة لكل شخص يتحرك بالقوّة في حياته ، فلا يحتاج إلى أخذ القوّة من أحد غيره ، لأن الأقوياء لا يملكون القوّة الذاتية باستقلال ، بل يملكون منها ما ملّكهم الله إياه ، (الْمَتِينُ) الشديد القوّة التي لا ينفذ إليها الضعف من أيّ مكان.

* * *

٢٢٦

ويل للذين ظلموا وكفروا

(فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً) وهي الدلو الممتلئ ماء في ما قيل ، (مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ) وهو كناية عن الوعاء المعنوي الذي يشتمل على المعاصي التي تقودهم إلى نار جهنم ، فلا فرق بين الجيل القديم والجيل الجديد من الكافرين والمشركين ، مما يجعلهم متساوين في النتائج السلبية الحاصلة من ذلك ، (فَلا يَسْتَعْجِلُونِ) لأن نصيبهم من العذاب حاصل لديهم إن عاجلا أم آجلا.

(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) وهو يوم القيامة الذي ينتظر الكافرين ليقودهم إلى النار ، فهل يشعر هؤلاء بالويل الهائل الذي يواجههم في ذلك اليوم العظيم؟!

* * *

٢٢٧
٢٢٨

سورة الطّور

مكيَّة

وآياتها تسع وأربعون

٢٢٩
٢٣٠

في أجواء السورة

وهذه سورة من السور المكية التي تضج بحركة الجوّ النفسي الذي يحيط بالصراع بين الإيمان والشرك ، لتواجه المكذّبين بالتوحيد والرسول واليوم الآخر ، بالمصير القاسي الذي يتعرضون له يوم القيامة الذي يكذبون به ، مقارنة بمصير من يؤمنون بالرسالة. ثم تثير علامات استفهام استنكارية حول ما يطرحه أولئك المكذبون من أفكار في مواجهة الرسالة ، بأسلوب يوحي بالإجابة ويبرز الحقيقة الصارخة التي تتناسب مضمونا مع طروحات الرسالة.

وتتحدث السورة عن الرسول لتؤكد صموده وصبره في مواجهة الجدل المتعسف ، فهو يتحرك بعين الله التي ترعاه في كل مواقفه ، ليبقى في أجواء التسبيح التي تشمل اليوم كله ، والليل كله ، لينفتح على رحاب الله وآفاق عظمته ، فيزداد بذلك إيمانا وقوّة وثباتا على الموقف الرسالي في مواقع الزلزال.

* * *

٢٣١

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الآيات

(وَالطُّورِ (١) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (٦) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (٧) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (٨) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (٩) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (١٠) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (١٣) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٤) أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (١٥) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٦)

* * *

معاني المفردات

(وَالطُّورِ) : جاء في مجمع البيان : قال المبرد : يقال لكل جبل طور ، فإذا دخلت الألف واللام للمعرفة فهو لشيء بعينه (١) ، والمقصود به هنا الجبل الذي كلم الله عليه موسىعليه‌السلام.

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٩ ، ص : ٢٠٨.

٢٣٢

(مَسْطُورٍ) : مكتوب.

(رَقٍ) ؛ الرق : جلد يكتب عليه.

(مَوْراً) ؛ المور : تردد الشيء بالذهاب والمجيء.

(خَوْضٍ) ؛ الخوض : الدخول في باطل القول.

(دَعًّا) ؛ الدعّ : الدفع الشديد.

* * *

إنّ عذاب الله لواقع

(وَالطُّورِ) وهو الجبل ، والمقصود به الجبل الذي سمع فيه موسى كلام الله وتلقَّى فيه التوراة ، وهو طور سينين ، وقد تعلق به القسم لكونه يرمز إلى الوحي الإلهي الذي نزل فيه على موسى عليه‌السلام ، الذي أكسب هذا المكان نوعا من القداسة ، وقيل : إن المراد به مطلق الجبل ، كونه من مواقع نعم الله.

(وَكِتابٍ مَسْطُورٍ* فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ). اختلف المفسرون حول المراد من الكتاب ؛ هل هو اللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه أحداث الكون كله مما أعده لثقافة ملائكته في المسألة الكونية ، أم هو صحائف الأعمال التي تحصي أعمال العباد ، أم هو القرآن المكتوب في اللوح المحفوظ ، أم هو التوراة التي كانت تكتب في الرقّ وتنشر للقراءة ، أم هو كل كتاب سماوي تداوله الناس في كل زمان وقرءوه ونشروه فيما بينهم؟!

(وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) هل هو الكعبة المشرّفة التي كانت أوّل بيت وضع للناس ، أم هو البيت المعمور في السماء الذي تزوره الملائكة ، (وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) وهو السماء التي شبهها القرآن بالسقف في ما تمثله في الصورة الشكلية ، وذلك قوله تعالى : (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً) [الأنبياء : ٣٢]. (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) الذي يفيض بالماء فيمتلئ به.

٢٣٣

(إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ) فهو الحقيقة الحاسمة التي لا مجال للريب فيها ، (ما لَهُ مِنْ دافِعٍ) لأنه منطلق من إرادة الله التي لا يمكن لأحد أن يقف أمامها ، مهما كانت قوته ، وذلك في يوم القيامة ، حيث يجتمع الناس في ظروف مثيرة ضاغطة لا يملكون أمامها التماسك ، (يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً) فتضطرب وتهتز ويختلّ التوازن في كواكبها ، (وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً) فتزول عن أماكنها ، وبذلك يقع الزلزال الذي تنتهي به الحياة الطبيعية على الأرض ، ليستعدّ الناس للوضع الجديد الذي ينطلقون فيه سراعا إلى يوم القيامة.

(فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) باليوم الآخر والرسالة والرسول ، لأنهم لم يقفوا من الرسالة ومضمونها الفكري بطريقة جدّية تتناسب مع حجم أهميتها على مستوى المصير ، بل وقفوا منها موقفا لاهيا ، (الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ) فهم يخوضون في الأحاديث المطروحة في ساحة الصراع بين الرسالة وخصومها ، تماما كما لو كانت حركة لاعبة لاهية ، في ما يخوض فيه الخائضون من إثارة الضجيج وتبادل الصراخ ، لينتهي كل شي بعد ذلك إلى الفراغ الذي لا يحمل معه الإنسان أيّ شيء. وتلك هي المشكلة التي يعانيها الرسل في مجتمعاتهم عند ما يعملون بكل الوسائل المتاحة لديهم على إخراجها من أجواء اللعب إلى أجواء الجدّية المسؤولة التي تتابع الواقع الجديد باهتمام وتفكير ليواجهوا الخوف الحقيقي من المصير الأخروي.

(يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) أي يدفعون إليها بعنف. وينطلق النداء ليؤكد لهم حقيقة العذاب (هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) عند ما كان الرسل يحذّرونكم منها ، فتسخرون وتعبثون ، وتتساءلون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ، فما ذا ترون الآن؟! وهل تتذكرون كلماتكم اللّامسؤولة التي واجهتم بها الرسول؟! (أَفَسِحْرٌ هذا) كما كنتم تتهمونه بالسحر في دعوته ، (أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ) هذه الحقيقة المتجسدة في هذا اللهب الذي يعلو في الفضاء ، وهذا الحريق الذي يتحرك في الأرض؟

(اصْلَوْها) وتحمّلوا المعاناة في حرارة النار التي تحرق أجسادكم ، فهذا

٢٣٤

هو الجزاء العادل ، (فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا) فلن يجديكم الصبر نفعا ، لأنه لن ينتهي إلى وضع آخر في تخفيف العذاب أو صرفه عنكم ، ولن ينفعكم الجزع لأنكم لن تموتوا وترتاحوا بالموت من ذلك ، (سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فلا مجال لأي تبديل أو تغيير في العذاب ، لأن الله أراده لكم ، ولا رادّ لإرادته.

* * *

٢٣٥

الآيات

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (١٨) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٢٠) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (٢١) وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (٢٣) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ(٢٤) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٥) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ(٢٦) فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (٢٧) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) (٢٨)

* * *

معاني المفردات

(جَنَّاتٍ) : جمع جنة ، وهي البستان تجنّه الأشجار وتستره.

٢٣٦

(فاكِهِينَ) : متنعمين.

(مُتَّكِئِينَ) ؛ الاتكاء : الاعتماد على الوسادة ونحوها.

(سُرُرٍ) : جمع سرير.

(مَصْفُوفَةٍ) : من الصف ، أي مصطفة موصول بعضها ببعض.

(أَلَتْناهُمْ) : أنقصناهم.

(رَهِينٌ) : مرتهن.

(يَتَنازَعُونَ) ؛ التنازع في الكأس : تعاطيها والاجتماع على تناولها.

(كَأْساً) ؛ الكأس : القدح ، ولا يطلق الكأس إلّا في ما كان فيها الشراب.

(مُشْفِقِينَ) ؛ الإشفاق : عناية مختلطة بخوف.

(السَّمُومِ) : الحرّ الذي يدخل في مسامّ البدن يتألم به.

* * *

صور من حياة أهل الجنة

هذه هي صورة الفريق الآخر ، فريق الإيمان والتقوى ، الذي انفتح على الرسالة والتزم بها ، وجاهد في سبيلها وتحمّل مسئولية الدعوة إليها ، وأقبل على الله بكل كيانه في إسلام العقل والقلب واليد واللسان ، ليكون كله لله ، فلا نصيب فيه للشيطان. لقد تعذبوا كثيرا ، وتعبوا طويلا وتحمّلوا قسوة الآلام وعذاب المشاكل ، وصبروا على ما لا يصبر عليه الناس ، وها هم يقفون بين يدي الله ليمنحهم رضوانه ومغفرته ورحمته ومحبته في نعيم خالد يقدّم إليهم في جنة الله ، حيث لا خوف ولا حزن في ساحة رضوانه.

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ) في هذه الخضرة الممتدة في جمالها وإبداعها ، وفي هذه الينابيع الصافية المتفجرة في كل مكان ، (فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ

٢٣٧

رَبُّهُمْ) فهم يتلذّذون ويستمتعون ويتفكهون بكل ما فيها من ثمار وفواكه ونعم ممتدّة أمامهم دون حدّ (وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) فهم بعيدون عن الجحيم ، لأن أعمالهم أبعدتهم عنه ، ولأن قربهم من الله أبعدهم عن مواقع عذابه.

وينطلق النداء الحنون بكل محبة ورضوان : (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فليست الجنة منحة دون مقابل ، بل جزاء على العمل الصالح المنطلق من قاعدة الإيمان بالله. وتلك هي النتائج الطبيعية التي يصل إليها العاملون المؤمنون الذين عاشوا التقوى فكرا وإيمانا وحركة ونهج حياة ، بناء على وعد الله الذي وعد به عباده المتقين. (مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ) في جوّ روحي يلقي بظلّه الوارف على الجميع ، وينشر المشاعر الحميمة في علاقة الناس ببعضهم البعض في الداخل ، بالمستوى الذي يربطهم بالله ، فلا مجال للتباعد فيما بينهم ، مما يجعل الأخ جالسا إلى جنب أخيه ، ليكون الشكل في معنى الصورة متناسبا مع عمق المضمون الذي يضم الجميع إلى رحمة الله.

(وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) لتتكامل لهم اللذة الحسية ، في ما يأكلون ويشربون ويستمتعون ، فتتمازج مع اللذة الروحية التي يعيشون فيها في رحاب الله.

* * *

الذرّية الصالحة تلحق بآبائها الصالحين

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ) فآمنت ذريتهم كما آمنوا ، من موقع التربية والقدوة الصالحة ، (أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) ليجتمع شمل المؤمنين العائلي ، الذين أسسوا علاقاتهم العائلية على قاعدة الإيمان بالله لا على قاعدة العصبية ، ممّا جعل الواحد منهم يدعو الآخر إلى الإسلام ويقوّي موقفه ، ويدعم موقعه. فالإيمان هو الذي يوحِّد بين الناس في الدنيا ، ويجمعهم في مواقع رحمة الله في الآخرة ، وقد ورد في حديث أئمة أهل البيت عليه‌السلام في ما رواه في الكافي بإسناده عن ابن بكير عن أبي عبد الله جعفر الصادق عليه‌السلام في قول الله عز

٢٣٨

وجل : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ) قال : فقال : قصرت الأبناء عن عمل الآباء فألحقوا الأبناء بالآباء لتقر بذلك أعينهم (١) .. وقد جاء في الدر المنثور عن ابن عباس رفعه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنّ الله يرفع ذرّية المؤمن إليه في درجته وإن كانوا دونه في العمل ، لتقرّبهم عينه ، ثم قرأ : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) قال : وما نقصنا الآباء مما أعطينا البنين» (٢).

وعلى ضوء ذلك ، فإن التركيز في هذا التفسير على كلمة الإلحاق هو بلحاظ تساوي الدرجة ، مع اختلاف العمل ووحدة المبدأ في الإيمان.

(وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) فلكلّ واحد منهم عمله ، لأن المسؤولية فردية يحددها ما يقوم به الفرد من عمل الخير وموقف الإيمان ، (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) ، فلا يتحمل إنسان مسئولية عمل إنسان آخر ، ولا يكسب أحد نتائج عمل الآخر ، فلكلِّ عقابه ولكلِّ ثوابه.

* * *

أفضال الله ونعمه على أصحاب الجنة

(وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) من الغذاء الذي يبني للجسد قوّته وحيويته (يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً) منعشا قد يكون الخمر أو ما يشبهه ، ومعنى التنازع هو تعاطيها والاجتماع على تناولها بحيث يقدمها أحدهم إلى الآخر ، (لا لَغْوٌ فِيها) في ما قد يصدر من القول اللغو لمن يشرب الخمر ، (وَلا تَأْثِيمٌ) وهو الإثم الذي يحدث له ، فخمر الآخرة خالية من ذلك كله ، فهي تعطي اللذة دون سلبيات أو مشاكل عقلية وعملية.

__________________

(١) الكافي ، ج : ٣ ، ص : ٢٤٩ ، رواية : ٥.

(٢) الدر المنثور ، ج : ٧ ، ص : ٦٣٢.

٢٣٩

(وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ) في صفاء الرونق الجميل في صورته ونقائه ، في خدمة دائمة متواصلة.

* * *

إنا كنا في أهلنا مشفقين .. فمن الله علينا

(وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) عن المرحلة الدنيوية التي عاشوا فيها الاستقامة على خط التوحيد ، ويتحدثون عن الأعمال التي أوصلتهم إلى هذه النهاية السعيدة : (قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ) في قلق الإنسان المؤمن وإشفاقه على نفسه ، وخوفه من التقصير في عمله أمام ربه ، (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا) بفضله وتوفيقه ورحمته ، بالثبات على خط طاعته ، (وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ) الذي يحرق الجلود ويذيبها من شدة الحرارة اللاهبة ، (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ) ونلجأ إليه في المهمّات ، ونبتهل إليه في الملمّات ، ونتضرع إليه عند الخطيئة ، ونخشع له عند الرهبة ، (إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) الذي يمنح عباده المؤمنين برّه ورحمته في الدنيا والآخرة.

وهكذا نجد في هذه الآيات صورة مثيرة للمجتمع المؤمن في الجنة ، حيث جلسات الاسترخاء اللذيذة التي يتناول فيها المؤمنون الكؤوس المنعشة ، ويتحدثون فيها عن حياتهم الماضية ، وينفتحون فيها على الله في برّه ورحمته.

* * *

٢٤٠