تفسير من وحي القرآن - ج ٢١

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ٢١

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٦٠

أعمالهم ، (مُدْهامَّتانِ) أي مخضرّتان خضرة تميل إلى السواد ، لما فيهما من أعشاب ، (فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ) تنضحان بالماء ، كمثل النبع الذي يتفجر من الأرض من دون جريان ، كما أن (فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) وذلك من باب عطف الخاص على العام ، فيكون العطف طبيعيا (فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ) من النساء اللاتي أعدّهنّ الله للمتّقين من عباده ، (حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ) قال صاحب مجمع البيان : أي محبوسات في الحجال(١). وهي قباب تضرب على النساء الملازمات للبيوت ، وقال غيره : إن المراد بالخيام معناها الطبيعي ، لإضفاء جوِّ من الجمال والروعة البدوية الذي قد لا يوجد في البيوت ، (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) تماما كما هنّ الحور في الجنتين السابقتين ، عذارى ، أبكار.

(مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ) وهي الأبسطة الخضراء (وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ) أي من صنع عبقر الذي كان العرب ينسبون إليه كل جميل وعجيب ، (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) في ما يوحي به كل هذا الجو المليء بالروعة والنعمة والعظمة واللطف الإلهي العميم؟!

وتنتهي السورة بذكر صفات الله لتعمّق في نفس الإنسان والجانّ الإحساس بالنعمة والعظمة الإلهية : (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) الذي يوحي بالتسبيح في مواقع الجلال الذي ينطلق من وحي العظمة ، وفي مواقع الإكرام الذي ينطلق من وحي العطاء والرحمة.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٩ ، ص : ٢٦٨.

٣٢١
٣٢٢

سورة الواقعة

مكيَّة

وآياتها ستّ وتسعون

٣٢٣
٣٢٤

في أجواء السورة

وهذه سورة مكية أخرى ، ونزلت لتعالج مسألة الإيمان بالآخرة ، في أسلوب يوحي بالهول الكبير الذي ينذر به وقوع الواقعة الكبرى التي تفرض نفسها على الوعي كله ، لأنها تؤكد وجودها كحقيقة تواجه الوجود الإنساني المتحرك في ساحة المسؤولية في الدنيا ، فترفع قوما وتخفض آخرين ، وينقسم الناس فيها إلى أزواج ثلاثة ، منهم السابقون المقربون ، ومنهم أصحاب اليمين ، ومنهم أصحاب الشمال ، ولكل فريق خصائصه في الحياة العملية ، ومواقعه في الساحة الأخروية. ثم تطوف السورة بعد ذلك في جولة على مواقع النعمة في حياة الإنسان التي توحي بقدرة الله ورحمته ، لتثير في وعيه الإحساس بقدرته ـ تعالى ـ في فكرة الآخرة ، ليؤمنوا بها عقليا ، ويتحملوا المسؤولية من مواقع الوحي ، ويختاروا بين أن يكونوا من السابقين المقربين ، أو من أصحاب اليمين ، أو من أصحاب الشمال ، مما لا يوحي إلا بالتسبيح للربّ العظيم.

* * *

٣٢٥

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الآيات

(إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (٢) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (٣) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (٤) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (٥) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (٦) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (٧) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (٨) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (٩) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (١٢) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (١٤) عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (١٥) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (١٦) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (١٧) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (١٨) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (١٩) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (٢٠) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢١) وَحُورٌ عِينٌ (٢٢) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (٢٣) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (٢٥) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً) (٢٦)

* * *

معاني المفردات

(الْواقِعَةُ) : القيامة.

٣٢٦

(رُجَّتِ) ؛ الرّجّ : تحريك الشيء تحريكا شديدا.

(وَبُسَّتِ) : البسّ : الفتّ ، وقيل : التسيير.

(هَباءً) : غبارا.

(مُنْبَثًّا) : متفرّقا.

(ثَلاثَةً) : جماعة كثيرة.

(مَوْضُونَةٍ) ؛ الوضن : النسج ، وموضونة : محكمة النسيج.

(مَعِينٍ) : الخمر المعين ، وهو الظاهر للبصر ، الجاري.

(يُصَدَّعُونَ عَنْها) : أي لا يأخذهم من شربها صداع ، أو لا يتفرقون عنها.

(لَغْواً) ؛ اللغو من القول : ما لا فائدة فيه.

(تَأْثِيماً) : نسبة إلى الإثم.

(قِيلاً) ؛ القيل : مصدر كالقول.

* * *

(إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ)

(إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) إنها الواقعة ، الحقيقة الثابتة الصارخة التي تؤكد حقيقتها الإرادة الإلهية ، فقد أراد الله للكون أن ينتقل من حال إلى حال ، ليجتمع الناس إلى ربهم في حشرهم في يوم القيامة ، وبذلك يمثّل هذا الوصف تأكيدا لوقوعها قبل وقوعها ، ليؤمن بها الكافرون الذين يثيرون الشك فيها بأساليبهم التضليلية. فإذا وقعت الواقعة ، نظر الجميع إليها نظرتهم إلى الحق الذي لا مجال للريب فيه ، (لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) في ما يظهر من دلائلها التي تتحرك في كل مواقع الصدق ، (خافِضَةٌ رافِعَةٌ) فقد تخفض قدر قوم كانت لهم درجات عليا في الدنيا لأعمالهم السيّئة ، التي يراها بعض من يلتزمون قيم الباطل باسم الحقّ حسنة ، وقد ترفع قدر قوم كانوا في الدرجة السفلى من السلّم

٣٢٧

الاجتماعي في عالم يعتمد الطبقية الاجتماعية ، لسلوكهم الخطّ المستقيم وطاعتهم لله ، مما يرفع درجتهم عنده ويقرّبهم منه عند ما تقع الواقعة.

(إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا) في ما يمثله الزلزال الذي تتحرك به الأرض ، فتهتز بشدّة اهتزازا لا يعرف مداه إلا الله (وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا* فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا) أي بدأت الجبال بالتفتت أو أخذت تتحرك عند ما تفقد موقع الصلابة في وجودها ، وتتحول بتفتت صخورها وحجارتها إلى ما يشبه الغبار الذي تذروه الرياح وتبثه في كل مكان ، فلا يثبت في أيّ موقع.

* * *

أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة

(وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً) حيث يتصنف البشر في ذلك اليوم إلى ثلاثة أنواع :

(فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) وهم الذين يحملون كتابهم بيمينهم ، لينطلقوا في أجواء اليمن والسعادة من خلال أعمالهم الصالحة التي تقربهم إلى الله .. (وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) وهم الذين يحملون كتابهم بشمالهم ، ليواجهوا الشؤم والشقاء في مصيرهم المشؤوم بسبب أعمالهم السيّئة التي تبعدهم عن الله. وفي استخدام الاستفهام عن كلا الجماعتين بهذه الطريقة المبهمة ، نوع من الإيحاء بخطورة مواقعهم.

(وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) الذين لم يكتفوا بالتزام أوامر الله ونواهيه بطريقة عادية ، بل تطلعوا إلى الحصول على رضاه ، وعملوا على السبق إلى طاعته حتى في ما لم يلزمهم به ، مما عرفوا فيه عمق محبته له لقيمته الروحية الكبيرة التي يريد للحياة أن تلتزمها كخطِّ للسلوك الإنساني في حركة الإيمان .. وهكذا كانوا يعيشون روحية العمل من خلال روحية الإخلاص لله ، وحركة الطاعة في ساحات السبق إلى الحصول على رضاه سبحانه ، فلا يريدون لأحد أن يسبقهم في ذلك ، ولا ينتظرون الإلزام ليعملوا ، بل يبادرون إلى القيام بما يعرفون أن فيه

٣٢٨

رضى الله ، انطلاقا من محبتهم له وإخلاصهم لربوبيته ، وبذلك وصلوا إلى مواقع القرب منه.

(أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) الذين قربهم الله إليه لقرب أرواحهم إليه وأعمالهم بين يديه ، وأدخلهم (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) التي أعدّها للمخلصين من عباده ، وهؤلاء ليسوا كثرة في تاريخ حركة الإنسان ، لأن الإيمان الأعلى ، والالتزام الأفضل ، والسبق المميز ، يحتاج إلى روحية عالية تتجاوز الوضع العاديّ ، مما يفرض كثيرا من المعاناة والجهد والتضحية داخل النفس وخارجها ، ولذلك فإن حجم هؤلاء العدديّ يختلف بين التاريخ القديم وبين الحاضر الجديد ، فهم (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ) ، ولعل ذلك ناشئ من قلّة التعقيدات ، في ما يمكن أن يزحف إلى الذات من مشاغل ومشاكل وأوضاع تشغل الإنسان عن ربه ، وتبعد الصفاء عن روحه ، وتثير فيه النوازع المادية التي توجهه إلى شهواته وملذاته وأطماعه ، وتنطلق به في ساحات الأنانية الذاتية ، ولذلك فإن فرص الوصول إلى الانفتاح على الله كثيرة ، (وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) الذين يعيشون كثيرا من التعقيدات التي يفرضها تقدم الحياة ، ذلك أن المفردات التي تعبث بحياة الإنسان في جزئياتها الصغيرة وعناوينها المختلفة كثيرة ، مما يجعله يخلد إلى الأرض بشكل كبير في العمق والامتداد ..

(عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ* مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ) في جلسة استرخاء حافلة بالمشاعر الأخوية في جوِّ من الاندماج الروحيّ في مجتمع الجنة الجديد ، انطلاقا مما كانوا يعيشونه من محبة أخوية في الدنيا ، (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) في إشراقة الروح وجمال الوجه ودوام الحيوية ، فلا يهرمون ، ولا يموتون ولا يضعفون ، وتبقى مهمتهم الطواف على هؤلاء المتّقين السابقين إلى الخيرات ، في ما يريده الله لهم من الكرامة ، (بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ* لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ) أي لا يأخذهم صداع الخمر الذي يحصل من خمر الدنيا ، (وَلا يُنْزِفُونَ) أي لا يزول عقلهم بالسكر الحاصل منها. وبذلك نعرف أنَّ مشكلة الخمر ليست في اسمها ، بل في تأثيراتها السلبية على عقل الإنسان وحياته ، فإذا

٣٢٩

زالت هذه النتائج ، واستبدل بها نتائج طيبة ، ولم يبق منها إلا النشوة الهادئة التي تفرح القلب ، وتسعد الروح ، فلا مشكلة في شربها ، كما هو الحال في خمر الجنة التي ليس فيها شيء ممّا يضرّ الإنسان ويؤذيه.

(وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ) تبعا لما يختارونه منها ممّا يتوافق مع مشتهياتهم ، (وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) في ما يريدون من الغذاء القوي الذي يبني الجسم ، (وَحُورٌ عِينٌ* كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) أي اللؤلؤ المصون المخزون في الصدف الذي لم تمسّه الأيدي ، بما يوحيه ذلك من صفاء وإشراق فيه ، (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) فليس ذلك مجرد عطيَّة سببها كرم الله دون مناسبة ، بل هو جزاء على آمالهم الصالحة المنطلقة من روحية الإيمان بالله.

(لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً) فلا يخاطب أحد صاحبه بما لا فائدة فيه من القول ، لأنهم لا يعيشون حالة فراغ روحيّ تستثير اللّغو ، بل يعيشون حالة امتلاء روحيّ بالله وبكل المعاني التي تقرب منه ، مما يجعل كلامهم غنيّا بالمعاني النافعة لكل ما حول الإنسان ومن حوله.

وإذا كانوا لا يتخاطبون باللّغو من القول ، ولا يتحدّثون بالكلام الآثم الذي يتضمن الكذب والفحش والخيانة والنميمة ونحوها مما يخوض الناس فيه أو يسمعونه في الدنيا بعيدا عن الأخلاق الإسلامية ... فكيف يفعلون ذلك في الجنة وهي دار المتقين الذين عاشوا روحية الطاعة لله في أقوالهم وأفعالهم؟!

(إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً) فهذا هو الكلام الذي يسمعونه في الجنة التي هي دار السلام ، مما يجعل السلام في كل معاني الروح والصفاء والنقاء في العقل والقلب والروح والواقع ، هو الطابع الذي يطبع حياة أهل الجنة في علاقاتهم الأخوية ، فهم يسمعونه من الله الذي ينزل عليهم‌السلام ليوحي لهم بسلام رضوانه ولطفه ورحمته ، ويسمعونه من الملائكة الذين يتحدثون معهم بالسلام في إيحاء بالجوّ الجديد الذي يستقبلونه في الجنة ، ويتخاطبون به فيما بينهم في نطاق التحية والعلاقة والممارسة ، لأنهم لا يحملون في قلوبهم أيّ معنى من

٣٣٠

معاني الحقد والأنانية والبغضاء ، ولا يعيشون أساسا أيّ صراع في أي جانب من الجوانب المتصلة بحياتهم حتى يتحول الصراع إلى نزاع وخلاف وقتال ، مما كان يعيشه الناس في الدنيا من خلال المشاكل المتنافرة التي كانوا يواجهونها في علاقاتهم الخاصة والعامة. ومن هنا ، كانت الحياة في الجنة سلاما بكل معانيها ، فهي ، وحدها ، دار السلام بالمعنى المطلق للكلمة ، وهكذا يتحول الإيحاء إلى الدنيا ، ليتعلم المؤمنون روح السلام فيها ويتعرفوا كيف ينطلقون بهذه الروحية إلى السلام في الآخرة.

* * *

٣٣١

الآيات

(وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (٢٧) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (٢٨) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ(٢٩) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (٣٠) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (٣١) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (٣٢) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (٣٣) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (٣٤) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (٣٥) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (٣٦) عُرُباً أَتْراباً (٣٧) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (٣٨) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (٤٠) وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (٤١) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (٤٢) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (٤٣) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (٤٤) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (٤٥) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (٤٦) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٤٧) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (٤٨) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (٤٩) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٥٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (٥١) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (٥٢) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٥٣) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (٥٤) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (٥٥) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ) (٥٦)

* * *

٣٣٢

معاني المفردات

(سِدْرٍ) : شجر النبق.

(مَخْضُودٍ) : ما قطع شوكة ، فلا شوك له.

(وَطَلْحٍ) ؛ الطلح : شجر الموز.

(عُرُباً) ؛ العرب : جمع عروب ، وهي الممتحنة إلى زوجها ، أو الغنجة أو العاشقة لزوجها.

(أَتْراباً) : جمع ترب ، بمعنى المثل.

(حَمِيمٍ) : ماء شديد الحرارة.

(يَحْمُومٍ) : الدخان الأسود.

(الْحِنْثِ) : نقض العهد المؤكد بالحلف.

(الْهِيمِ) : الإبل العطاش التي لا تروى من الماء لداء يصيبها.

* * *

بين أصحاب اليمين وأصحاب الشمال

(وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) هذا هو الصنف الثاني من الناس يوم القيامة ، هل تعرف هؤلاء الذين آمنوا بالله ، والتزموا بخطه المستقيم في هدوء الإيمان وسلامة العمل ، دون أن يبلغوا السبق في الدرجة العليا؟ وهل تعرف جزاءهم عند الله ، ومكانهم في جنة الرضوان عنده؟ إنهم (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ* وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) وهو شجر الموز الذي نضِّد ثمره بتراكب بعضه فوق بعض ، (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) لا تزيله الشمس ، على سبيل الكناية ، لكثافة الشجر ، (وَماءٍ مَسْكُوبٍ) يجري بلا انقطاع ، (وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ) في عددها وتنوّع أشكالها وخصائصها ، (لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ) فليس لها فصل معيّن لتنقطع في فصل

٣٣٣

آخر ، وليس هناك ما يمنع أحدا في الجنة من تناولها ، لأن فاكهة الدنيا تختلف عن فاكهة الآخرة ، فإذا كانت تنقطع في زمان وتأتي في زمان ، فإن فاكهة الآخرة لا تنقطع أبدا. (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) عالية وثيرة ، وقيل : إن المراد بالفرش : النساء المرتفعات قدرا في عقولهنّ وجمالهنّ وكمالهنّ ، كما ورد التعبير الشائع عن المرأة بأنها فراش الرجل ، ولعل الحديث في الآية التالية يقرّب ذلك.

(إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً* فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً* عُرُباً أَتْراباً) فقد أوجد الله لهؤلاء المؤمنين في الجنة نساء عذارى متحنِّنات إلى أزواجهنَّ أو مغنّجات أو عاشقات لهم ، حسب اختلاف الأقوال في معنى العروب ، مساويات لأزواجهنَّ في السنّ (لِأَصْحابِ الْيَمِينِ* ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ* وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) فهم كثرة في الجيل الماضي ممن عاش مع الأنبياء وثبت في إيمانه معهم ومن بعدهم ، وهم كثرة في الأجيال اللاحقة التي التزمت الإسلام وسارت في خطه المستقيم ...

(وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ) وهم الذين انحرفوا عن خط الإيمان ، وتمرّدوا على الله ورسله ، وانحرفوا عن نهج الاستقامة ، وعاشوا في أجواء المعصية اللاهية العابثة ، وارتكبوا الجرائم الوحشية ، أين هم في يوم القيامة؟ إنهم (فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ) فهم في الأجواء التي تتحرك فيها الريح الساخنة المحرقة اللاهبة التي تنفذ إلى داخل الجسم ، فإذا ظمئوا ، فهناك الماء الشديد الحرارة الذي يغلي في البطون ، (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) فليس هو الظل الذي يبعث الانتعاش في الجسم ، بل هو ظلّ من الدخان الأسود الذي يخنق الأنفاس ، (لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ) مكما هو الظل الظليل المنعش الذي يخفف حرارة الجسد ، بل إنه لا يدفع حرا ولا بردا ، إنما يكون صاحبه كالمستجير من الرمضاء بالنار.

(إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ) ممن يعيشون بطر النعمة وطغيانها ، فلا يشكرون الله عليها ، ولا يتحملون مسئوليتها في ما يجب أن يوجهوها إليه من مواقع رضى الله سبحانه ، ولذلك فقد نسوا الله من خلالها ، وشغلوا بلذاتها وشهواتها عما عند الله من النعيم الباقي.

وإذا كان بعض أصحاب الشمال غير مترفين ، فإنهم كانوا ضحية المترفين

٣٣٤

في اتّباعهم وتقليدهم لهم في كل عاداتهم وتقاليدهم وأوضاعهم التي تشبه أوضاع المترفين في ما توحي به من الغفلة عن الله وعن أوامره ونواهيه ، والإخلاد إلى الأرض في شهواتها وأطماعها.

(وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ) المراد بالإصرار عليه الإقامة على نقض العهد وعدم الإقلاع عنه ، وربما كان المراد به الاستكبار عن عبودية الله التي عاهدوه عليها من خلال فطرتهم ، في ما يمثله ذلك من ميثاق طبيعيّ في شخصية الإنسان. وقيل : إن المراد به : الذنب العظيم ، أو الأيمان الكاذبة التي تنفي البعث والجزاء.

(وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ* أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ) قالوا ذلك ، كما قال أمثالهم ، في مقام الاستغراب الذي يوحي بالسخرية والإنكار ، لكن لا من موقع الشبهة الفكرية ، بل من موقع استبعاد ما ليس مألوفا ، لأن العقل لا ينفي إمكان البعث ، والوحي يثبت وقوعه ، ولذلك كان الحديث حول تأكيده ، كحقيقة حاسمة مطلقة.

(قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ* لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) ليقفوا أمام الله فيحاسبهم على أعمالهم التي مارسوها في الدنيا من خير أو شر ، (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ) الذين لم ينطلق ضلالكم من موقع وعي لما أنتم عليه ، بل من موقع تكذيب متعمّد للحقيقة الفطرية التي تفرض نفسها عليكم ، (لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ* فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) وقد لا تكون هذه الشجرة واضحة المعنى في طبيعتها ، ولكنها توحي بما تشتمل عليه من ثمر سيئ يتحوّل إلى عذاب شديد في جوف الإنسان ، (فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ) الذي يغلي فيحرق الجوف ، (فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) وهي الإبل التي يصيبها داء العطش فلا يرويها شيء ، وقيل : الهيم : الرمال التي لا تروى بالماء.

(هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ) أي يوم الجزاء ، والنزل ـ كما قيل ـ ما يقدّم للضيف النازل من طعام وشراب إكراما له ، وقد أطلق على هؤلاء الذين هم في موقع المهانة والذلّ على سبيل التهكّم.

* * *

٣٣٥

الآيات

(نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ (٥٧) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (٥٩) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (٦١) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٦٧) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ (٧٠) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (٧٢) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (٧٣) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (٧٤)

* * *

معاني المفردات

(تُمْنُونَ) ؛ الإمناء : قذف المني وصبُّه في الرحم.

٣٣٦

(تَحْرُثُونَ) ؛ الحرث : العمل في الأرض ، وإلقاء البذر فيها.

(فَظَلْتُمْ) : فظللتم وصرتم.

(تَفَكَّهُونَ) : تتعجبون.

(لَمُغْرَمُونَ) ؛ المغرم : الذي ذهب ماله بغير عوض.

(الْمُزْنِ) : السحاب.

(أُجاجاً) ؛ الأجاج : الماء الذي اشتدت ملوحته.

(تُورُونَ) ؛ الإيراء : إظهار النار بالقدح.

(لِلْمُقْوِينَ) ؛ المقوي : النازل بالقواء من الأرض ليس بها أحد.

* * *

جولة مع نعم الله على الإنسان

وهذه جولة قرآنية في رحلة وجود الإنسان ، بدءا بتشكل النطفة وتطور نموها التي تحمل سرّ خلقه ، مرورا بشروط الحياة التي يمتد بها وجوده ، من الماء الذي يشربه ، ومن غذاء يتغذَّى به ، ونار يتدفّأ عليها ويستخدمها في كثير من حاجاته الخاصة والعامة ، ليثير تفكير الإنسان بقدرة الله في الوجود وفي أسبابه ، وفي حكمته في تدبيره ، وفي حاجة الخلق إليه في كل شيء ، ليأخذ من ذلك فكرة الإيمان بالآخرة من خلال فكرة الإيمان بالمبدأ على أساس التلازم بينهما فيما هو الإيمان بالقدرة الإلهية التي لا يعجزها شيء وإن عظم ، وأن القدرة على البداية أكثر أهميّة من القدرة على الإعادة.

(نَحْنُ خَلَقْناكُمْ) وكنتم عدما ، فهل تنكرون تلك الحقيقة الثابتة التي تفرض نفسها عليكم؟! (فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ) أي فلا بد لكم من أن تصدقوا بذلك وتؤمنوا به ، فالله هو الذي يملك القدرة كلها ، وهو الذي يخبركم بالحقيقة التي لا بد من أن تصدقوا بها ، لأنه المهيمن على الأمر كله والمطّلع على الخلق كلهم.

* * *

٣٣٧

قدرة الله في خلق النطفة

(أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ) هذه النطفة التي يقذفها الرجل في رحم المرأة ، هل تعرفون طبيعة خصائصها وقدرتها على النموّ المتنوّع الذي تتحول فيه إلى علقة ، ثم إلى مضغة ، ثم تتحول إلى عظام ، ثم يكسو الله العظام لحما ، وهكذا تتنوع خصائص هذا المخلوق داخل خلاياه ، فهذه خلايا عظام ، وهذه خلايا عضلات ، وهذه خلايا جلد ، وهذه خلايا أعصاب ... ثم خلايا لعمل عين وأذن وغدد ، وكل واحدة منها تعرف كيف تقوم بالمهمّة الموكولة إليها ، فلا تتداخل في مواقعها ، ولا تضيع عن طريقها. وينطلق السؤال : كيف حدث هذا؟ وما هو سرّ وجود هذه الخلايا وحركتها وتجدّدها وطبيعتها في استمرار الحياة؟ وكيف يتجلى فيها سرّ القدرة ، وعظمة الإبداع؟ وهل أدركتم من خلال ذلك من هو الخالق لها ، ومن هو الذي أودع فيها كل فاعلية الحياة وحركيّة السرّ الكامن فيها الذي يختزنها؟ (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ) والترديد ليس في مقام الاستفهام ، لأن كل واحد من الناس يعرف أن دوره هو قذف المني في الرحم ، دون أن يكون له أيّ دخل في تكوينه ، بل كل ما هناك أنه حرّك الجوّ الذي أطلق المني من جسده ، ولكن مهمته تنتهي عند هذا الحدّ لتبدأ النطفة رحلة كاملة في صنع إنسان بقدرة الله ...

وهكذا يبدأ الإنسان رحلة الحياة ، وتمتد به هذه الرحلة إلى أمد ، مهما طال به ، فإنه يبقى محدودا بالموت الذي لا بدّ من أن يطاله مهما امتد به العمر ، ومهما تحركت في داخله القوّة ، فمن هو الذي قدّر ذلك؟ ومن هو الذي دبّره؟ (نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) فلن يملك أحد أن يسبقنا في تقديره ، ولن يستطيع أحد أن يسبقنا بالإفلات من ذاك التقدير ، لأننا إذا أردنا شيئا فلا يملك أيّ مخلوق أن ينال من إرادتنا في عمقها التكويني وفي حركتها.

وتمضي السنّة الإلهية التكوينية ، لتجعل من الموت سنّة الحياة التي تؤمّن للحياة التنوع ، فلا تموت الحياة بموت جيل وأفوله ، بل تتجدد مع جيل جديد

٣٣٨

يأتي فيطوّر حركة الفكر فيها. (عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ) ليعمروا الأرض ، كما عمرتموها ، وليديروها كما أدرتموها حتى ينتهي الأجل ، (وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) في عالم الغيب الذي لا يدرك كنهه أحد ، فلا طريق إلى معرفته إلا من خلال الله ، ولن يستطيع الإنسان أن يتعرف إلى طبيعته ، لأن معرفة الإنسان الذهنية تقوم غالبا على التجربة الحسية.

(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) فهل فكرتم كيف يمكن لوعي البداية أن يفسح المجال لوعي النشأة الأخرى؟ إن المسألة لا تحتاج إلى جهد من التفكير الفلسفيّ ليقتنع الإنسان بها ، بل إن طبيعة الفطرة وإحساس الوجدان ، يفرضان القناعة لمن تذكّر ، لذلك كان من المهمّ أن لا يغفل عن ذلك ولا ينسى ، بل تنطلق الذكرى لتكون النور الذي ينفتح على الحق كله.

* * *

أفرأيتم ما تحرثون .. من زرعه؟

(أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ) من هذا الزرع الذي ينبت تحت بصركم ، هل تعرفون طبيعة البذرة الأولى التي بعثت الحياة ، وكيف تنوَّعت في طبيعتها ، لتتنوع في خصائصها ، وفي طريقة نموّها وفي تفاعلها مع التراب والشمس والهواء والماء والعناصر المتنوعة المبثوثة في الجو من حولها وفي داخلها؟ ثم في كل هذه الأشكال المتنوعة في أحجامها وفي ملامحها ، هذه النبتة تتحول إلى نخلة ، وتلك تتحول إلى شجرة مخضرّة الأوراق أو محمرة ، أو مصفرّة ، أو ما إلى ذلك ، وهذه تتحول إلى سنبلة ، وتلك إلى زهرة ، ونحو ذلك ؛ من أبدع هذا كله ومن خلقه؟

(أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) ما دوركم في إنباته سوى أنكم تحرثون الأرض ، وتلقون البذرة فيها ، وتجرون الماء عليها؟ .. ثم تنتظرون السنّة الإلهية لتبدأ رحلة الحياة في البذرة ، وتنمو نموا كاملا إلى أن يحين موعد حصاد

٣٣٩

الحب ، وقطف الثمر ، ونزع الورق الأخضر ... (لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً) أي هشيما تذروه الرياح ، فلا تحصلون منه على شيء ، بتحريك عوامل تقتله وتمنعه من الاكتمال ، (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) أي تتعجبون مما حلّ بزرعكم من الآفات وتقولون لبعضكم البعض : (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) أي واقعون تحت ضغط الغرامة وهي الديون والمسؤوليات المترتبة عليها ، فقد كنا ننتظر نتائج الموسم لنحصل عليها ، فإذا بالموسم يتبخّر بسبب العوامل القاسية التي أهلكت الزرع كله ، (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) من كل المنافع التي كنا نترقّبها منه ، مما يجعلنا نواجه الحرمان بأبشع صوره في حياتنا.

* * *

والماء الذي تشربون .. من أنزله؟

(أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ) وتحصلون منه على عنصر الحياة الذي لولاه لما امتدت بكم ، ولما استطعتم الحصول على الغذاء الحيواني والنباتي ، لأنه الشرط لبقاء كل حيّ ... (أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ) فما ذا تملكون منه سوى أن تنتظروا تساقطه لتجمعوه في أماكنه التي تعدُّونها ، أو لتأخذوه من مواقع الأنهار ومساقط الينابيع ، ولكن الله هو الذي يملك تحريكه وإنزاله وتكوين العناصر الطبيعية ، لينزله عليكم عذابا سائغا يروي العطاشى ، ويحيى موات الأرض ، (لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً) أي لولا أن الله أراد لعباده الخير في حياتهم بتحريك نعمه ، لجعل الماء ملحا أجاجا لا ينتفع به في شرب ولا زرع ، بما في ذلك من مشكلة لكم في كل مواقع حياتكم ، (فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ) الله على ذلك بالانفتاح على مواقع نعمه.

* * *

٣٤٠