تفسير من وحي القرآن - ج ١٢

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٢

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٠٢

١
٢

٣

٤

سورة هود

مكية

وآياتها مائة وثلاث وعشرون

٥
٦

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الآيات

(الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣) إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٤)

* * *

كتاب أحكمت آياته

(الر) من الحروف المقطعة في القرآن التي تحدثنا عن الوجوه المتصوّرة فيها في أوّل تفسير سورة البقرة. (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ) أي أحكمت آيات هذا الكتاب ، والمراد بالإحكام ـ في ما يذكره صاحب تفسير الميزان ـ «ربط بعض الشيء ببعضه الآخر ، وإرجاع طرف منه إلى طرف آخر بحيث يعود الجميع شيئا واحدا بسيطا غير ذي أجزاء وأبعاض» (١). (ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ) والمراد بالتفصيل ـ في رأيه ـ هو إيجاد الفصل بين أجزاء الشيء

__________________

(١) الطباطبائي ، الميزان في تفسير القرآن ، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ، الطبعة الأولى المحققة ، ١٤١١ ه‍ ١٩٩١ م ، ج : ١٠ ، ص : ١٣٠.

٧

المتصل بعضها ببعض ، والتفرقة بين الأمور المندمجة كلّ منها في آخر. وقد أوضح ذلك بقوله: «وعلى هذا فكون آيات الكتاب محكمة أوّلا ثم مفصلة ثانيا ، معناه أن الآيات الكريمة القرآنية على اختلاف مضامينها ، وتشتت مقاصدها وأغراضها ، ترجع إلى معنى واحد بسيط وغرض فارد أصلي لا تكثّر فيه ، ولا تشتت ، بحيث لا تروم آية من الآيات الكريمة مقصدا من المقاصد ، ولا ترمي إلى هدف إلا والغرض الأصلي هو الروح الساري في جثمانه ، والحقيقة المطلوبة منه.

فلا غرض لهذا الكتاب الكريم على تشتت آياته وتفرّق أبعاضه إلا غرض واحد متوحد ، إذا فصّل كان في مورد أصلا دينيا ، وفي آخر أمرا خلقيا ، وفي ثالث حكما شرعيا ، وهكذا كلّ ما تنزّل من الأصول إلى فروعها ، ومن الفروع إلى فروع الفروع لم يخرج من معناه الواحد المحفوظ ، ولا يخطئ غرضه ، فهذا الأصل الواحد بتركبه يصير كل واحد واحدا من أجزاء تفاصيل العقائد والأخلاق والأعمال ، وهي بتحليلها وإرجاعها إلى الروح الساري فيها الحاكم على أجسادها تعود إلى ذاك الأصل الواحد.

فتوحيده تعالى بما يليق بساحة عزه وكبريائه ـ مثلا في مقام الاعتقاد ـ هو إثبات أسمائه الحسنى وصفاته العليا ، وفي مقام الأخلاق هو التخلّق بالأخلاق الكريمة من الرضى ، والتسليم ، والشجاعة ، والعفة ، والسخاء ، ونحو ذلك ، والاجتناب عن الصفات الرذيلة ، وفي مقام الأعمال والأفعال الإتيان بالأعمال الصالحة ، والورع عن محارم الله» (١).

* * *

__________________

(١) م. س. ، ج : ١٠ ، ص : ١٣٠ ـ ١٣١.

٨

مناقشة مع صاحب الميزان

وقد يكون هذا التفسير جميلا ، في ما يوحي به من ارتكاز الخط العقيدي ، والأخلاقي ، والعملي ، على قاعدة واحدة وهي التوحيد الخالص ، ولكننا لا نجد في سياق الآيات ما يدل على تعيينه ، كما لا نلاحظ في كلمتي الإحكام والتفصيل ما يوحي بذلك ، لأن المفسّر الجليل ، لاحظ في الآية المقابلة بين الكلمتين ، فاعتبر الإحكام في مقابل التفصيل ، مما يعني أن هناك شيئا مجموعا أريد تفصيله ، وذلك من خلال تواردهما على موقع واحد.

ولكننا نستقرب تفسير كلمة الإحكام بالإتقان في ما يريده الله من عدم وجود خلل في ترتيب هذه الآيات وتنظيمها ، ودلالتها على المعاني بوضوح كما يكون المراد من التفصيل ـ في ما يظهر ـ الأسلوب المبسّط الذي يعمل على توضيح الأفكار وتنويعها ، بطريقة واضحة لا مجال فيها للغموض والإبهام الحاصل من الإجمال في عرض الفكرة. وبذلك تكون الآية ـ والله العالم ـ واردة في سياق التعرّض للجانب الفني للآيات ، من حيث الشكل المتضمن في تركيب الكلمات وتأليفها ، بالمستوى الذي لا يوجد فيها أيّة ثغرة لجهة توازن الحركة الفنية وتكاملها ، ولجهة المحتوى ، الذي يتضمّن تفصيل الأفكار وتوضيحها ، في ما يريد القرآن أن يبلّغه للناس من أحكام ومفاهيم بالطريقة التي لا لبس فيها ولا خفاء.

وقد تكرّر الحديث في القرآن عن هاتين النقطتين ، للإيحاء بمدى ما يتوفر عليه من عناصر البلاغة التي تجمع إلى جانب التماسك والدقّة في الأسلوب ، الوضوح في العرض الحاصل من تفصيل الفكرة ... والله العالم بحقائق آياته.

* * *

٩

التوحيد في خط المنهج

(أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) هذا هو الأساس في دعوة الرسول بما تتضمنه من معنى الربوبيّة التي تفرض العبادة ، وبما تحتويه من معنى التوحيد الذي يدفع إلى الإخلاص ، فإذا كان الله هو الرب الخالق المنعم ، فلا بد أن تعبده المخلوقات شكرا لنعمه ، واعترافا بعظمته ، وإذا كان هو الواحد الذي لا إله غيره ، فلا بد أن تتوجه العبادة إليه ولا تتوجه إلى غيره.

ومن خلال ذلك يلقى الإنسان النتائج الإيجابية في الدنيا والآخرة ، على خط الالتزام في العقيدة والعمل ، والنتائج السلبية على خط الانحراف ، لما تمثله حياة الإنسان الذي يعبد الله ـ انطلاقا من حركة الفكر إلى حركة الالتزام ـ من خضوع لله ، في خدمة الحياة وتنميتها ، وتطويرها على الصورة التي يرضاها الله ، في مقابل ما يمثله سلوك الإنسان الذي يعبد الشيطان حيث تتحرك به حياته في أجواء الفوضى والعبث والقلق والتمرد ، على كل قيم الحياة الكبيرة ، وتلك هي قصة العبادة الحيّة المتحركة المنفتحة على كل النشاطات الفكرية والعملية للإنسان في الحياة التي تجعل الزمن كله في خدمة الله ، في ما يريد النبيّ أن يدعو إليه وأن يثيره في أذهان الناس ليقرّبهم إلى الحياة من خلال قربهم إلى الله ، في عملية إنذار بالعقاب ، وبشارة بالثواب.

(إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ) في ما أوحاه من رسالاته ، وفي ما سنّه من شرائع أحكامه ، في ما ينتظركم من خير في الدنيا والآخرة ، إذا سرتم في صراطه المستقيم ، وما ينتظركم من شرّ في الدنيا والآخرة ، إذا انحرفتم عنه واتبعتم سبل الشيطان ، وهذا هو عنوان الدعوة وطابع الرسالة ، أمّا خطّ السير وحركة العمل فخطواته ، (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) لينطلق الخطّ الجديد من موقع التراجع النفسي والعمليّ عن الخطوط المنحرفة ، حيث كانت الخطى تضطرب ،

١٠

والأجواء ترتبك ، ليلجأ الإنسان إلى الله بروحيّة النادم الذي يحسّ بالذنب بعمق ، ويعيش ثقل الخطيئة بمسؤولية ، فيطلب من الله المغفرة والرضوان في خشوع المذنب الخاطئ ، ليشهده على قلبه وفكره ، إنه يريد أن يفتح صفحة بيضاء جديدة معه ، لا يفكر معها بخطيئة ، في ما يحمل من همّ المصير ، (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) بما توحيه التوبة من موقف عملي حاسم يؤكد النيّة بالعمل والإرادة بالحركة ، ويحوّل الإنسان إلى طاقة جديدة تتحرك على طريق الحق والخير والإيمان ، لتنفتح على الله في أوامره ونواهيه ، بعد أن كانت تتحرك على طريق المعصية والضلال ، وبذلك كان الاستغفار يمثل الخطوة النفسية الأولى نحو التوبة التي يعلن فيها الإنسان خضوعه لله ، وخوفه منه ، ومحبته له ، وطلبه العودة إليه وإلى ساحة رضوانه. أما التوبة فتمثل الخطوة الثانية العملية التي يبدأ بها تأكيد الموقف على الخط الصحيح ، وتجسيد الرغبة بالعمل في الاتجاه السليم في نطاق الالتزام بالمبادئ ، والانضباط أمام الحكم الشرعي.

وهذا ما يجعل الإنسان موضعا لرحمة الله ، ولاستقبال فيوضاته وألطافه (يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) بما يرزقكم من نعمه ، وبما ينزل عليكم من بركاته ، وينشره حولكم من رحمته بإشاعة الأجواء الروحية التي تفتح حياتكم على الاطمئنان النفسي الذي يطرد من الداخل كل عوامل القلق والحيرة والضياع ، وعلى العلاقات الإنسانية التي تتسم بالصدق والإخلاص ، وعلى الطيّبات المتنوعة ، في ما تأكلون وتشربون وتتلذذون ، وتحققون من رغائب وشهوات ، وغير ذلك من نتائج الانضباط على خطّ الله ـ سبحانه ـ في دينه ، وشريعته ، وهداه الذي يحقق لكم الاستقرار المادّي والروحي على مستوى الأشياء الكبيرة والصغيرة في الحياة ، إلى الأمد الذي حدّده الله للإنسان من عمر.

(وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) في ما قام به من عمل الخير وهجران الشر ، وتحقيق الغايات التي أراد الله للحياة أن تصل إليها من طاعة الطائعين ، وجهد

١١

المجاهدين ، وهداية الضالين ، ومواجهة كل تحديات الكفر والظلم والطغيان ، فالله لا يضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى.

والظاهر أن المراد من الفضل ، والقيمة الروحية العملية الصادرة عن الإنسان المؤمن ، في ما يمثله عمله من طاعة الله ـ وليس المراد به الزيادة في ما ذكره بعض المفسرين ـ لأن الكلمة وإن كانت بحسب مدلولها اللغوي تعني ذلك ، إلا أنها بحسب مدلولها العرفي في استعمالات الناس ، تعطي معنى الخير كله في العمل.

(وَإِنْ تَوَلَّوْا) أى تتولوا عبر انسياقكم في خطّ الإعراض عن الاستجابة لنداء الله الذي يوجهه إليكم من خلال رسوله ورسالته (فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) لما ينتظر العاصين المنحرفين من عقاب وعذاب في ذلك اليوم الكبير في أهواله وشدائده ومواقف الناس فيه ، لأنه يوم الحساب الذي يحاسب فيه الناس على أعمالهم ، إن خيرا فخير وإن شرّا فشرّ ، عند ما يقف الناس أمام الله ، ويقومون لربّ العالمين ، (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ) لتجدوا عنده النتائج النهائية لأعمالكم الخيّرة أو الشريرة ، (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) في الدنيا والآخرة ، بما يتصرف به من شؤون عباده في الحياة والموت ، والنفع والضرر ، والثواب والعقاب ، لأن الأمر كله بيده ، فلا يملك معه أحد أى شيء ، في ما يريد وفي ما لا يريد.

* * *

١٢

الآية

(أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ)(٥)

* * *

مناسبة النزول

قيل : نزلت في الأخنس بن شريق وكان حلو الكلام يلقى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما يحب وينطوي بقلبه على ما يكره ، عن ابن عباس. وروى العياشي بإسناده عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : أخبرني جابر بن عبد الله أن المشركين إذا مروا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طأطأ أحدهم رأسه وظهره ، هكذا ، وغطى رأسه بثوبه ، حتى لا يراه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأنزل الله هذه الآية(١).

* * *

__________________

(١) الطبرسي ، مجمع البيان في تفسير القرآن ، دار المعرفة ، ط. الأولى ، ١٤٠٦ ه‍ ـ ١٩٨٦ م ، ج : ٥ ، ص: ٢١٦.

١٣

الله يكشف سر المشركين

كان المشركون ينطوون على حقد دفين لرسول الله ، ولكنهم كانوا يظهرون له المحبة والصداقة ، ليتمكنوا من الدسّ والكيد للإسلام بطريقتهم الخاصة ، ولكن الله يكشف سرّهم ويظهر أمرهم لرسوله ، لينجيه من كيدهم ومكرهم ، وهذا ما أثارته هذه الآية.

(أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ) ـ وثنى الشيء : عطف بعضه على بعض فطواه ـ أي إنهم يطوون صدورهم وقلوبهم على العداوة للرسول ، والبغض لرسالته ، (لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ) فلا يظهرون ذلك في فلتات لسانهم ، لئلا يطلع عليه ، فينكشف أمرهم لديه ، (أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ) أي يغطون أنفسهم بها ، بما توحيه الكلمة من الحالات النفسية الخفية ، (يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) فيطلع على كل ما يخفونه أو يضمرونه ، لأنه المطلع على كل شيء ، العالم بخفايا الأمور ، (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) فلا يخفى عليه شيء من خلجات المشاعر ، ونبضات القلوب ، وخفايا الضمائر ... فإذا استطاعوا أن يستخفوا عن الرسول ، فهل يستطيعون الاستخفاء عن الله؟ وهل يضمنون لأنفسهم ، أن الله لا يطلع رسوله على كل ما في داخلهم من خفايا وأسرار؟!.

* * *

١٤

الآية

(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٦)

* * *

معاني المفردات

(دَابَّةٍ) من حيث اللغة : الحي الذي من شأنه أن يدبّ ، وقد صار في العرف مختصا بنوع من الحيوان.

(مُسْتَقَرَّها) : مستقرّ الشيء : موضع قراره.

(وَمُسْتَوْدَعَها) : مستودع الشيء : هو الموضع الذي كان فيه قبل استقراره من صلب أو رحم أو بيضة.

* * *

الإمداد الإلهي الدائم

... وإذا كان الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ، ويراقب ما يفكر فيه الناس ، ليحاسبهم على أعمالهم من خلال علمه بخلفيات العمل من نوايا ،

١٥

وليحمي رسله وعباده من مكر الماكرين وكيد الظالمين ، فإن الله يعلم كل شيء عن مخلوقاته ، ويدبّر أمورها وما تحتاجه من شؤون الرزق الذي يحفظ استمرار وجودها وقوّة حياتها ، وذلك بما قدره وقضاه في كتاب الكون ، حيث جعل لكل شيء مستقرّا يعيش فيه ويتحرك ، ومستودعا ينمو فيه ويتطور ، ويستعد لرحلة الحياة في الأصلاب أو الأرحام أو البيض أو غير ذلك ...

وفي ضوء ذلك ، كانت العلاقة بين الله وخلقه ، لا سيما ما يدبّ من مخلوقاته الحية في الأرض ، تتمثل في الإمداد الدائم لتلك المخلوقات بالنعم المتنوعة التي تكفل استمرار وجودها ، مما يجعلها تتحرك في طمأنينة دون قلق ولا ارتباك. وهي تعرف في الوقت نفسه أنها تقع ـ أينما تكون ـ تحت الإشراف الإلهي الذي يرعاها ، لأنه يعرف مستقرّها ومستودعها ، ويحيط بكل شؤونها وأمورها ...

* * *

الله مصدر الرزق لكل حي

(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ) سواء كانت من الزواحف ، أو من ذوات القوائم التي تمشي على رجلين ، أو على أربع ، أو التي تطير في الهواء ، (إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) فهو الذي خلقها ، وتكفل برزقها بما أعدّه من أسباب الرزق ومفرداته وعناصره في الكون ، وفي ما سخّره من ظواهر وقوى تدفعها إلى السعي والكفاح للأخذ بتلك الأسباب والحصول على نتائجها ، الأمر الذي يبعدها عن الاتكالية التي تعكس الاسترخاء ، وتوجهها نحو التوكل الذي يعكس الثقة ويدفع إلى الحركة. (وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها) الذي يتحرك فيه وجودها ، (وَمُسْتَوْدَعَها) الذي يمثل الموضع الذي بدأت فيه عملية النمو في طريقها إلى الوجود ، و (كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) في ما قدره الله للوجود من قوانين وأسباب وسنن طبيعيّة ، في نطاق النظام الكوني الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلما وتدبيرا.

* * *

١٦

الآيتان

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)(٨)

* * *

معاني المفردات

(أُمَّةٍ) : تطلق على الجماعة ، وعلى المدة من الزمن وهي المرادة هنا.

(وَحاقَ) : أي نزل وأحاط.

* * *

معرفة البشر محدودة

إن الإنسان إذا أراد أن يستوحي من عظمة الله ، وعلو قدرته ، وسعة سلطانه من خلال التأمل الواعي الكبير ، فلينظر إلى السماوات والأرض التي

١٧

خلقها الله ، حين لم يكن هناك أيّ موجود يعي ذلك بفكره وعقله ، ولم يكن هناك إلّا هو. ولكن ، لن يستطيع أحد أن يدرك كيف حدث هذا ، وماذا كان قبل خلق السماوات والأرض ، وما صورة الكون في ذلك الوقت ، وما أبعاد الزمن ، إذ لم تكن مقاييسنا الفلكية لحركة الزمن قد وجدت آنذاك ، وليس عندنا من خلال المعرفة الذاتية ، المنطلقة من مواقع التأمّل والملاحظة والتجربة ما يعطينا المعرفة الكافية حول كل علامات الاستفهام وغيرها ... وكل ما هناك ليس إلا تخمينا يتخبّط في ظلام الشك ، وضباب الوهم.

ولكن الله لم يحجب عنا علمه ، فقد أوحى الله لرسله ببعض اللمحات ، التي توضح بعض ملامح الصورة ، بالمستوى الذي لا يخرجنا من آفاق الضباب ، لأن ما أراد الله لنا أن نعلمه ، هو بعض لمحات الصورة ، لا كلها ، وفي هذا المجال ، فليس لنا إلّا أن نقف حيث أراد الله لنا أن نقف ، (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) قد تقدم الحديث عن هذه الفقرة في صورة الأعراف في الآية ٥٤ ، وربما كان من المفيد الإشارة إلى أن تقدير اليوم بالفترة الزمنية المحددة لليوم في هذا الكون الذي نعيش فيه الآن ، لا دليل عليه ، إلا بما يتبادر إلى الذهن من أن إطلاق الخطاب القرآني يوجب انصراف الذهن إلى ما يفهمه الناس الذين أنزل عليهم القرآن ، ولو كان المراد غيره ، لبيّن لنا حدوده كما ورد في الحديث عن يوم الآخرة في تقديره بألف سنة ، أو خمسين ألف سنة ، حسب اختلاف الموارد ، والظاهر من خلق السماوات والأرض في ستة أيّام ، إتمام عملية الخلق بجميع ما قدّره الله فيها من أنظمة وموجودات ، فلا ينافي ذلك ما ورد في سورة حكم السجدة من خلق السماوات في يومين ، وخلق الأرض في يومين مما سيأتي الحديث عنه في محله في السورة المذكورة إن شاء الله.

(وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) فلم يكن هناك إلا الماء الذي كان مظهر قدرة الله وسلطانه ، مما أستعير له لفظ «العرش» وهو التعبير الكنائي عن موضع

١٨

الملك والسلطة ، وقد يطرح البعض تساؤلا حول العمق الذي ينتهي إليه الماء : هل هو الأرض ، أو شيء آخر؟ وإذا كان هو الأرض ، فما المراد من الأرض التي تأخّر خلقها عن الماء؟ هل هي اليابسة التي يقف الماء على حدودها ، أو ماذا؟ ونحن لا نريد أن نخوض في تفاصيل ذلك ، لأننا لا نملك علمه ، فلنترك أمره إلى الله ، كما تركنا كثيرا من الأمور التي لا طريق لنا إلى معرفتها إلا من خلال وحيه.

* * *

الإنسان وغاية الخلق

(لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) فتلك هي الغاية من خلق الإنسان في ما توحيه كلمة خلق السماوات والأرض ، أو تتضمنه من خلق إنسان في نطاق ذلك ، وتحديد خط السير له في ما يريده الله ، من عمارة الأرض على حسب ما خطّطه الله ، لتكون الحركة المتنوعة موضع اختبار وابتلاء وامتحان له ، في طاعة الله في ما أمره به ، أو نهاه عنه ، وفي معصيته له ، وليدفع الناس إلى التسابق في العمل الأفضل ، والكلمة الأحسن ، والخلق الأرحب ، والفكر الأعمق ، والنتائج الفضلى ، في ما يبني الحياة على أساس العلم والخير والتقوى ، ويرفع مستوى الإنسان ويجعل من نظام الحياة القائم على جهد الإنسان وإرادته ، مثالا للنظام الكونيّ المتناسق ، ليتحقق التناسب الذي أراده الله بين انضباطية الإنسان ونظامية الكون.

وهكذا نفهم أن ربط الحديث عن خلق السماوات والأرض ، بإثارة التسابق نحو العمل الأحسن ، ينطلق من الدور المميّز لموقع الإنسان في عملية الخلق هذه ، ومن تحمله المسؤولية بعد أن تحدد للخلق معناه على مستوى الغاية التي تخرجه من العبثيّة الجامدة.

١٩

وإذا كان الإنسان مدعوا إلى المبادرة نحو العمل الأحسن ، فإن ذلك لا يمثل الحالة النهائية ، بل يعتبر انطلاقة إيمانية نحو المواقع الجديدة في الآخرة ، ليقف الإنسان هناك عند حدود مصيره ، من خلال طبيعة عمله في الدنيا.

* * *

أساليب الضلال وبيّنات الهدى

ولكن بعض الناس لا يواجهون هذه المسألة بالجدية اللازمة ، في مات يجب أن يفكر الإنسان به ، أو يحاور فيه ، فيعملون على إثارة علامات الاستفهام حوله ، بطريقة السخرية السطحية ، وهذا ما تحدثنا عنه الفقرة التالية : (وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ) ليكون ذلك حافزا للاستعداد الفكري والعملي لهذا المستقبل الجديد المثير للانتباه ، (لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) في ما يمثله السحر عندهم من حالة غيبيّة ترتبط بالقضايا التي لا تتصل بالحسّ ، أو في ما يتمثلونه في شخصية النبي الذي يخبرهم بالغيب ، من شخصية الساحر في مضمون دعوته المرتبطة بالآخرة ، أو في أسلوبه الذي يدهش العقول ويؤثر في النفوس ، ولكن كيف حكموا على هذه الدعوة بالسحر؟ وما الذي يربط بين السحر الذي يمثّل حالة استعراضية ، وبين هذه الفكرة التي توحي بأن هناك عالما آخر ، يحاسب فيه الناس على أعمالهم في هذه الدنيا؟ ليس هناك جواب ولا تعليق إلا أنهم لا يريدون إثارة التفكير ، وامتداد الحوار ، بل كل ما يريدونه هو إثارة الغبار في وجه الدعوة ، لينصرف الناس عنها ، تماما كما يفعل الكثيرون الآن عند ما يحاولون الإيحاء للبسطاء بضرورة الابتعاد عن الفكر الديني ، من خلال وصفه بكلمات «الخرافة» و «الرجعية» و «الابتعاد عن المنهج العملي» ، وغير ذلك من الكلمات التي لا

٢٠