تفسير من وحي القرآن - ج ٢٢

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ٢٢

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٤٤

١
٢

٣
٤

سورة الحديد

مدنية

وآياتها تسعه وعشرون

٥
٦

في أجواء السورة

هذه السورة من السور المدنية ، كما هو المعروف بين المفسرين ، وكما هو الظاهر من آياتها التي يتحرك فيها التأكيد على الإيمان الفكري الذي يختزن في داخل الشخصية الإسلامية الإحساس بعظمة الله في آفاق الإبداع الكوني المنطلق من قدرته وتدبيره ، الخاضع له كل شيء ، لينطلق ـ من خلال هذا الامتلاء الروحي بالله ـ إلى التحرك في خط الانقياد العملي إليه ، في حركة الإرادة الإلهية في احتواء الإرادة البشرية الإيمانية ، في عملية التصور النقي للعناوين الكبرى في أوامر الله ونواهيه ، والممارسة الدقيقة المنضبطة ، ليكون الإنسان المؤمن إنسان الله الخاضع له في ساحة العبودية في تحويل الحياة إلى ساحة واسعة في طاعته.

ومن هنا ، كانت هذه السورة ، في فاتحتها ، حركة إيحائية في مسألة الإيمان الذي يخترق القلب ليعيش في كل إحساساته الإخلاص لله ، ليسبحه في كل إمكانات التعبير لديه ، ولينضم إلى كل ما في السماوات والأرض في حركة التسبيح الكوني الذي تختلف تعابيره ، وتتنوع مظاهره ، ولكنها تتوحد في الحقيقة الناطقة بوحدانية الله وعظمته ، ليتعمق الإيمان ، وليصفو ، وليتجرد من كل الأثقال التي تمنعه من الانطلاق بعيدا في رحاب الله ، مما يفرض عليه ملاحقة كل الأوضاع والمتغيرات التي تطرأ على الفكر لتغير بعض مفاهيمه ،

٧

وعلى الروح لتعكر بعض صفائها ، وعلى القلب لتشوه بعض أحاسيسه ، وعلى الحياة لتدفع بها إلى متاهات الضلال.

وهكذا بدأ الحديث عن البذل كعنوان إيمانيّ يوحي بالتضحية المالية في سبيل الله ، من أجل المشاركة في تحقيق عناصر القوة للمجتمع المسلم الذي كان يواجه التحديات التي تريد إبقاءه في مواقع ضعفه ، وأن تفرض عليه مواقع ضعف جديدة من خلال الحروب التي أثارها المجتمع الكافر في ساحته ، لتشغله عن حركة الدعوة في العمق والامتداد ولتسقطه في ساحة الصراع ، الأمر الذي يفرض على المسلمين التعاون من أجل تأصيل القوة بكل مستلزماتها ، وتوجيهها نحو الفتح على أكثر من صعيد.

وانطلق الحديث في أجوائها عن قيم الدنيا ، التي تستغرق في مظاهرها السطحية الزائلة ، وقيم الآخرة التي تحتضن الدنيا في دائرة الآخرة ، لتتكامل السنّة الإلهية التي أراد الله للإنسان أن يؤكدها في وجوده ، لتتداخل الآخرة في الدنيا ، كما تطل الدنيا من خلال الأهداف الكبيرة على الآخرة الدائمة التي توحي له بالخلود الكبير.

ويدور الحديث فيها عن المؤمنين في درجاتهم المتفاوتة ، وعن الجو الذي يتحركون فيه في الآخرة في أجواء رحمة الله ، وعن المنافقين كيف عاشوا في الدنيا ، وكيف واجهوا مواقع الذل في الآخرة ، بحيث كانوا يستجدون المؤمنين ليمنحوهم شيئا من النور ليطردوا بعضا من الظلام الروحي الذي يسيطر على كل واقعهم هناك.

ثم تطوف السورة بعض الشيء في أجواء اليهود والنصارى في بعض اللمسات الإيجابية ، في النقاط السلبية والإيجابية في سلوكهم العام وفي روحيتهم الذاتية ، وتوجّه التفكير والإحساس بعد ذلك إلى القدر المحتوم الذي يتحرك بقدرة الله في تنظيم الواقع الكوني والإنساني من خلال القوانين المودعة

٨

في داخله ، بحيث لا يمكن لأي شيء أن يحدث إلا بقدر مرتبط بالأسباب التي تحقق جانب الحتمية في حركة الحياة ، مما يفرض على الإنسان أن لا يبطره الفرح في ما يحصل عليه ، وأن لا يسقطه الحزن في ما لا يحصل عليه ، وأن ينطلق إلى الحياة بروح منفتحة على الله في نطاق ولايته الكونية ، ليتوكل عليه في كل أموره ، ليحصل على الثقة العميقة بأن الحياة لا تحمل إليه أيّ سقوط في الموقع ما دام يتطلع من خلالها إلى الله ، وما دام ينطلق من حبه له ، ليحب كل خلقه ، وليؤكد مصداقيته في القيم التي يحبها.

* * *

سبب التسمية

وقد جاءت تسمية السورة بالحديد ، انطلاقا من الآية الكريمة التي تشير إلى الحديد ، وذلك قوله : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) ليوجه الناس إلى التفكير في هذا المعدن الذي يختزن في داخل إمكاناته الكثير مما يحقق للإنسانية القوة والمنافع الكبيرة التي يكتشفها الإنسان من خلال بحثه الدقيق فيها ، ليرتفع مستواه من خلالها في جميع المجالات.

* * *

٩

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الآيات

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٥) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٦)

* * *

كل شيء يسبح لله

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) في ما يوحي به التسبيح من إعلان المخلوقات الكونية المتنوعة في طبائعها وخصوصياتها وأشكالها ، عن تفاعلها بعظمة الله ، وبما أودع في تكوينها من عناصر التعبير الذي قد ينطلق بالصوت ،

١٠

وبالإشارة ، وبالإيمان ، وبالإيحاء ، وبغير ذلك مما لا يدركه الإنسان الذي يتحرك في المعرفة بشكل محدود في نطاق تجربته الخاصة التي لا تمتد إلى أبعد مما تدركه الحواس ، ويستنتجه العقل ، وهذا ما عبر عنه القرآن الكريم في قوله تعالى (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ...) [الإسراء : ٤٤].

ولعل هذا التأكيد الدائم على التسبيح الكوني لكل مخلوقات الله في السماء والأرض ، يمثل الأسلوب التربوي للعقيدة الإسلامية بالله ، في ما يريد للإنسان أن يتمثله في حياته الخاصة ، وفي وعيه لحركة الوجود كله ، وعظمة الله في ما حوله ، وفيمن حوله ، فيجد الله في كل شيء.

(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فهو المنيع الذي لا يمكن أن يخترق ساحته أحد في أي موقع من مواقع الصراع والغلبة ، وهو الذي يتحرك فعله في إتقان كل شيء في خلقه وفي تدبيره ، الأمر الذي يجعل الإنسان يحس بالطمأنينة والثقة بأنه ـ في حركة الكون من حوله ـ تحت رعاية إله قوي قادر لا يغلب ، حكيم لا يخطئ في تقديره وفي تدبيره.

(لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فهو الحاكم من موقع أنه المالك المهيمن على الأمر كله ، (يُحْيِي وَيُمِيتُ) خالق الحياة في ما ركب فيها من العناصر المتنوعة ، هو خالق الموت في ما يحركه في داخله من أسباب الموت ، (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فلا حد لقدرته في كل مواقع خلقه ، مما يجعل حاجاتهم منفتحة عليه في كل أمورهم ، لأنه الذي يملك القدرة كلها في كل شيء ، فيشعرون بالقوة من خلال ارتباطهم بقوته ، وبالثقة من خلال إحساسهم بعظمة القدرة وشموليتها في قدرته.

(هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) فإن كل الموجودات مخلوقة له ، فلا يسبقه شيء منها في الوجود ، وكل الوجود خاضع له ، متحرك بتدبيره ، فلا يتصور بقاؤه من

١١

بعده ، في الفرضية المحالية للبعدية ، فلا بد من أن يكون هو الآخر بعد كل شيء ، (وَالظَّاهِرُ) لأنه الذي يمنح الأشياء كل ما يمنحها الظهور ، فكيف يمكن أن يكون هناك شيء أظهر منه (وَالْباطِنُ) الذي يسيطر على عمق الأشياء في كل عناصرها الداخلية الخفية ، وليس هناك ما ينفذ إلى مواقع السر العظيم في ذاته وفي صفاته وأفعاله.

(وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فلا يخفى عليه شيء من خلقه مهما كان دقيقا أو خفيا ، لأنه هو الذي ركب في كل شيء سره ، وأعطى كل موجود خلقه ، وبث في كل مواقع الوجود خفايا عناصرها ، فكيف يجهل ما فيها من خفايا وأسرار؟!

* * *

الله المطلق في كل شيء

وإذا كانت الكلمات القرآنية تتحدث عن صفات الله في أوليته وآخريته وظهوره وبطونه ، فإن الحديث لا ينطلق من مواقع الزمان والمكان ، ولا من حدود الأشياء التي تجعل للأول حدا وللآخر حدا ، وللظهور والبطون مواقع في طبيعة الأشياء ، فإن الله هو المطلق في كل شيء يتصف به ، بينما تعيش المخلوقات الأخرى ، من حية ونامية وجامدة ، حدودها الخاضعة للفواصل في حدود الزمان والمكان.

* * *

١٢

الله مدبر الخلق

(هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) وقد تقدم الحديث عنها في الآيات المماثلة لها ، (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) في تعبير كنائي عن التدبير الإلهي الذي يمثل السيطرة المطلقة التي تشرف على الوجود كله ، في ما يمثله الاستواء على العرش الذي هو رمز السلطة ، من هيمنة وإشراف فعلي من موقع السلطة على إدارة الحكم في مواقعه.

(يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها) لأنه هو الذي يخلق ويدبر الأشياء التي تدخل في أعماق الأرض من مصادر النعم ، كالماء الذي ينزل من السماء ، والبذور التي تكمن في الأرض ، ومن الموجودات الحية وغيرها ، كما يخلق الأشياء التي تخرج منها ، كأنواع النبات والحيوان والماء ، (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) من الأمطار والأشعة والملائكة (وَما يَعْرُجُ فِيها) من مخلوقاته أو من القضايا التي لا تعلم طبيعتها.

(وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) لأنه محيط بكل وجودكم ، فلا تغيبون عنه مقدار لحظة (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فلا يخفى عليه شيء من دقائق أعمالكم وأسرارها وخفاياها ، الأمر الذي يفرض عليكم الاستغراق في إيحاءات ذلك ، في ما يثيره في داخلكم من المشاعر التي تفتح العقل والحس والوجدان على الرقابة الداخلية التي ترصد كل شيء في القول والفعل ، ليكون ذلك كله في مواقع رضا الله في ساحات أوامره ونواهيه (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فليس لأيّة قوة أخرى علاقة بالخلق في دائرة المبدأ ، فلا يكون لها أي دخل في دائرة المعاد (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) ، فهو الذي يفصل بين عباده ، وهو الذي يحدد لهم مصيرهم ، فليس لأحد أن يتوجه إلى غيره أو يراقبه ، أو يتطلب رضاه بعيدا عن رضا الله ، لأن الله هو وحده الذي يرجع الأمر كله إليه.

١٣

(يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) في ما يعبر عنه اختلاف الليل والنهار من تداخل المسافات الزمنية ، عند ما يطول الليل فيمتد إلى الساعات التي كانت نهارا في هذا الفصل ، أو يطول النهار فيمتد إلى الساعات التي كانت ليلا في ذلك الفصل ، من خلال التدبير الكوني المتقن المبدع ، (وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) في ما يخفيه الناس من أفكارهم وأسرارهم التي تختفي في صدورهم التي تحتوي قلوبهم في تعبير كنائيّ عن المنطقة السرّية الخفيّة في داخل الذات وعن إحاطة الله بعمق الإنسان في داخل كيانه ، كما هي إحاطته في خارجه.

* * *

١٤

الآيات

(آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٩) وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٠) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) (١١)

* * *

معاني المفردات

(مُسْتَخْلَفِينَ) : استخلاف الإنسان جعله خليفة.

(يَسْتَوِي) : الاستواء بمعنى التساوي.

* * *

١٥

الإيمان بالله والإنفاق في سبيله

(آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) فإن الإيمان العميق المرتكز على أساس الفكر الهادىء والوجدان المنفتح ، يفتح للإنسان الكثير من الآفاق الرحبة في وعي الحركة الجادة في حياته ، ويبصره الكثير من الأوضاع الغامضة التي يمكن للإيمان في مفرداته العقيدية أن يمنحها شيئا من الوضوح ، ويعرفه طبيعة الدنيا ومواقع الأمان فيها في مواجهة مواقع الخوف ، ويربطه بالآخرة في اعتبارها هدفا متحرك في كل ما يقوم به الإنسان من أعمال ، وما يصدر عنه من أقوال ، وما يتخذه من مواقف ، وما يديره من علاقات ، لأن الإيمان هو عمق الفكرة والإحساس والحركة والخط والهدف لدى الإنسان المؤمن في كل وجوده ، ومن هنا كان هو العنوان لكل قضاياه وأوضاعه ، لأنه ليس كلمة تقال ، بل هو الكيان كله في معناه الشامل للإنسان.

(وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) فليس المال الذي تملكونه فيما بين أيديكم من النوع الثابت والمتحرك ، مما تملكون فيه حرية التحريك من ناحية ذاتية على أساس أنه شأنكم الذاتي الذي لا يحمل أيه مسئولية في حسابات العطاء الإنساني ، بل هو ملك الله الذي يملك منكم ما لا تملكونه من أنفسكم ، فهو من موقع خلقه للوجود كله ، يملككم ويملك ما تملكون ، وقد حدد لكم الوظيفة في تصرفكم فيه ، فحلل بعض الأشياء وحرّم بعضها ، وأراد لكم أن تنفقوا منه على كثير من موارد الإنفاق في سبيله ، في ما يحتاجه المحرومون بجميع فئاتهم ، ويحتاجه الجهاد بجميع مواقعه ، وتحتاجه الحياة العامة بكل جوانبها ، وذلك من صفة خلافتكم على المال ، ووكالتكم بالتصرف فيه ضمن الحدود التي حددها لكم ، مما يجعل من الملكية وظيفة شرعية ، لا حالة ذاتية مطلقة في ما يملكه الإنسان من امتيازات. وإذا كانت المسألة في هذا النطاق

١٦

الشرعي ، فليس لكم حرية الامتناع عن الإنفاق في ما يريده الله لكم من موارده ، لأن ذلك يعني خيانة الوكيل للموكل في ما حدده له من الحرية في التصرف بماله. فكيف إذا كان الله هو الموكل ، وكان الإنسان الذي هو عبد الله ، هو الوكيل؟

(فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) لأن الله قد جعل لهم الثواب العظيم على التحرر من سيطرة النزعة المادية على عقولهم ومشاعرهم وأوضاعهم ، وعلى الانفتاح على الله في خط الإيمان من أجل أن يطيعوه في ما أمرهم به أو نهاهم عنه ، بالرغم من تسويلات الشيطان وتهويلاته ، في ما ينذرهم بالفقر ويخوفهم بالهلاك ، مما يجعل من الإنفاق حركة إيمان ، وليس حالة في الذات ، فيكون طاعة الله وتمردا على خطوات الشيطان الفكرية والعملية.

(وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ) قد نلاحظ أن الخطاب للمؤمنين الذين آمنوا بالله والرسول ، فكيف كان الرسول يدعوهم للإيمان بربهم؟ وربما يجاب عن ذلك أن المقصود بالإيمان بربهم هو الإيمان العملي الذي يتحول إلى حالة وجدانية شعورية ، تتمثل في الانسجام مع أوامره ونواهيه ، وفي الرغبة في الحصول على رضاه ، من خلال الإحساس الوجداني بحضوره المهيمن على الكيان كله وعلى الوجود كله ، لأن الإيمان الذي لا يصدقه العمل ، قد يكون مجرد صورة في الفكر ، وفيما هي المعادلة العقلية الباردة التي لا تحمل في داخلها أية حرارة في حركة الوجدان والشعور ، مما قد يجعل اليقين أشبه شيء بالشك ، كما جاء في حديث الإمام الصادق (ع) عن الموت : «ما خلق الله عزوجل يقينا لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه من الموت» (١) ، والله العالم.

* * *

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ، ج : ١ ، ص : ١٩٤ ، رواية : ٥٩٦.

١٧

الإيمان عهد بين الله وبين عباده

(وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فإن الإيمان بالله عهد بين الله وبين عباده ، لأن الالتزام بالتوحيد في قاعدته الفكرية يفرض الالتزام بالحركة في خطه والاستقامة على دربه ، في قاعدته العملية في السير على هدى الشريعة في أحكامها ومنهج العقيدة في وسائلها وأهدافها. وعلى ضوء ذلك ، قد يحتاج الإنسان المؤمن إلى وعي المسألة في معنى الميثاق الإيماني ، ليمنعه ذلك من إعطاء أيّ ميثاق لأي إنسان أو جهة ، في أيّ التزام بعيد عن التزام الإيمان الفكري ، لأن ذلك يعني الخيانة للميثاق والنقض للعهد ، لأن القضية ليست من القضايا الجزئية التي تتجمد في زاوية معينة من زوايا الفكر أو مواقع العمل ، بل هي من القضايا الكلية التي تستوعب الحياة كلها في معناها الحركي في وجود الإنسان.

* * *

الله يخرج عباده من الظلمات إلى النور

(هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) فليس

القرآن مجرد كلمات وآيات تمنح الإنسان المفهوم الذي يختزنه العقل كنظرية ترقد إلى جانب النظريات الكثيرة التجريدية ، بل هو نور يشرق في العقل ليدفعه بعيدا عن ظلمات الفكر ، وشعاع ينفذ إلى الشعور ليبعده عن ظلمات العاطفة المنحرفة ، وينطلق إلى الحياة ليتحول إلى شعلة تضيء للسائرين في الظلمات دروبهم إلى الخط المستقيم.

١٨

وهكذا يريد الله للقرآن أن يكون شمسا فكرية وروحية وشعورية في حياة الإنسان المعنوية والحركية ، تماما كما هي الشمس التي تضيء للكون كهوفه وزواياه ودروبه لتقتحم كل ظلام الليل. وبذلك ، فلا بد للعاملين في الحقل التربوي من أن يحركوا القرآن بطريقة تجعل منه حالة إشراقية في عقل الإنسان ووجدانه ، وروحه وشعوره ، وذلك من خلال الأساليب المليئة بالحيوية التي تنفذ إلى الروح ، كما تتحرك في العقل وتطرد الكثير من الشبهات والأضاليل التي تسيء إلى وضوح الرؤية الأشياء وتمنع الأجواء الضبابية التي تبعد الإنسان عن وعي الرسالة والرسول ، (وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) فتتحرك رأفته لتشرق في حياتكم روحا وحبا وحنانا ، كما تنطلق رحمته لتضيء لكم دروب الحياة الطبية الحرة الكريمة الواعية السائرة في خط الاستقامة في رحاب الله.

* * *

الحث على الإنفاق في سبيل الله

(وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) وما الذي يمنعكم من ذلك ، فهل تتصورون أنكم إذا بخلتم وامتنعتم عن الإنفاق فسيبقى المال لكم ، وهل تبقون أنتم في خلود الحياة؟ لو فكرتم في الموضوع بطريقة واقعية فستعرفون أنكم ستموتون ، وأن المال سيترككم أو تتركونه ، لأن الله وحده هو الباقي وأنتم الزائلون ، (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فهو الذي يرث الأرض ومن عليها ، كما يرث السماوات وما فيها ومن فيها ، ولذلك فلا بد من تعميق الصلة بالله ، بالعمل بما يحبه ويرضاه ، وبالابتعاد عما يسخطه ويرفضه. وإذا كان الإنفاق في سبيل الله سببا لرضاه ، فلما ذا يمتنع الناس عنه ، وهو الذي يبقى لهم ذخرا عند الله عند ما يتركون الحياة ، أو تتركهم الحياة. وإذا أراد الإنسان أن يختار الإنفاق ، انطلاقا من إيمانه ، واقتناعا بنتائجه الأخروية ، فعليه أن يدرس طبيعة

١٩

الظروف التي يختار فيها العطاء ، فهناك حالات يمثل فيها الواقع وضعا صعبا في حاجة الإسلام والمسلمين إلى المال ، بحيث ترتبط به مسألة النصر في مواجهة الأعداء ، من خلال الحاجة إلى السلاح والأمور التي تتصل بحاجات المقاتلين في أنفسهم وأهليهم ، وهناك حالات لا تمثل أية مشكلة في ما هي الضرورة الملحة إلى المال ، لأن المسلمين يعيشون في ظروف عادية أو ممتازة ، بحيث لا يمثل الإنفاق حاجة عامة. ولذلك كان هناك فرق كبير بين الذين يختارون الإنفاق في الحالات الصعبة ، وبين الذين يختارونه في الظروف العادية.

* * *

الإنفاق في ساحات الجهاد

وكما هو الإنفاق المالي ، نلتقي بالتضحية في ساحات الجهاد ، فهناك الناس الذين يجاهدون ويقاتلون في ظروف التحديات الكبيرة التي يواجه فيها المسلمون الحصار ، ويعيشون فيها بعض حالات الضعف ويعملون على تحويلها إلى حالات قوة ، مما يجعلهم بحاجة إلى العناصر البشرية المجاهدة المقاتلة. وهناك الناس الذين يتقدمون للقتال في الظروف العادية التي استطاع فيها المسلمون الوصول إلى مراكز القوة من خلال الفتح الكبير الذي مهد لهم سبيل السيطرة على الواقع كله ، وهذا ما جاءت به الفقرة التالية من الاية (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا) لأن هناك فرقا كبيرا بين الذين يجاهدون وينفقون في الظروف الصعبة القاسية التي كان الإسلام فيها يعاني من قلة العدد والعدة ، في مواجهة القوة الكافرة التي كانت تتميز بكثرة العدد والعدة ، وبين الذين يجاهدون بعد الفتح

٢٠