تفسير من وحي القرآن - ج ١٩

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٩

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٧٦

١
٢

٣
٤

سورة سبا

مكية

وآاتها أربع وخمسون

٥
٦

في أجواء السورة

وتطلّ هذه السورة المكيّة للتحدث عما كان يشغل ساحة الصراع في دائرة المواجهة بين الإسلام والشرك ، لتجيب بطريقتها القرآنية عن تعجل الفكرة المستمدة من مبادئ العقيدة الإسلامية ، التي يراد تعميقها في شخصية الإنسان المسلم ، ليكون ذلك هو الخط الذي يتحرك في الحياة.

هل الله واحد ، أهناك شريك له في خط العقيدة أو العبادة؟ هل محمد نبيّ أم لا؟

هل هناك حياة أخرى ، أم أنّ الموت هو نهاية المطاف للحياة؟

وتطوف السورة ـ في نطاق الأسئلة الثلاثة ـ في أجواء الأفكار والشبهات المطروحة في الساحة العامة فتثير الدخان حول هذه الأسس الثلاثة للعقيدة ، ولكن بذهنية ، لا تلامس العمق ، من حيث إن الذين يثيرونها لا يملكون عمقا من الأفكار ، أو جدّيّة في إثارة التساؤل ، لأن العقيدة المضادّة لم تنطلق من فكر مضادّ خاضع لقناعة فكرية يقينية ، بل من فكر تقليديّ خاضع لتأثير عقائد

٧

الآباء والأجداد ، ولذا فلم تكن الآيات تتجه لرد الشبهات المطروحة ، بل لتأكيد العمق الذي تتجذر فيه العقيدة في قضايا الحياة.

* * *

٨

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الآات

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (٢) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٣) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ)(٥)

* * *

معاني المفردات

(يَلِجُ) الولوج : الدخول.

٩

(يَعْرُجُ) العروج : الصعود.

(لا يَعْزُبُ عَنْهُ) : لا يغيب عنه.

(مُعاجِزِينَ) : من عاجزه أي سابقه ليظهر عجزه.

(رِجْزٍ) : المراد به في الآية أسوأ العذاب.

* * *

صفات الله في حركة العقيدة

وتنطلق البداية في الحديث عن الله في مواقع حمده ورحاب ملكه ، وساحات عظمته وقدرته ، وفي آفاق علمه ليكون ذلك أساسا للانفتاح عليه في خط الإيمان به والثقة برحمته ، على طريق تكوين القناعات الفكرية والعقيدية بالآخرة ، عبر الرسالة والرسول.

(الْحَمْدُ لِلَّهِ) في مواقع الحمد في رحاب الكون الواسع الذي أبدعه الله بقدرته ، وأداره بحكمته ، ويسّر فيه سبل الحياة للمخلوقات ، بحيث تتحرك فيه بيسر وسهولة ، مما يجعل من الحمد في الفكر واللسان حالة وجدانية تستمد مفرداتها من جولة الإنسان في رحاب الكون كله ، حيث يعيش مع الله (الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فليس هناك شيء إلّا وهو مملوك له ، خاضع لتدبيره وإرادته في كل ما يتصل به من كل نواحي الحياة والموت ، وفي كل تفاصيل الحركة في شؤونه العامة والخاصة. فكيف يكون ما هو مملوك له شريكا له في الألوهية ، أو في الطاعة والعبادة؟

(وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) التي يجتمع فيها الخلق في ساحاتها في دائرة المسؤولية بين يدي الله ، ليحاسبهم جميعا ، من موقع إحاطته بكل أمورهم

١٠

الماضية الخفية والعلنية ، وليجزيهم جميعا ، من موقع قدرته المتحركة في آفاق عدله ورحمته ، ليجد الجميع مواقع حمده في ذلك كله ، فهو أهل الحمد في كل شيء. (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) الذي أقام نظام الدنيا وفق الحكمة الخفية الشاملة ، والظاهرة آثارها في أسرار الخلق وإبداع التدبير ، وأدار نظام الآخرة في خط الحق والعدل والرحمة والمغفرة ، على أساس من الدّقة البالغة الحكمة من خلال خبرته بالأشياء كلها في كلياتها وجزئياتها.

(يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ) من كل مخلوقاته الدقيقة الحيّة ، من نبات تختبئ حباته في زواياها وفي أعماقها ، ومن حشرات وديدان وزواحف وهوامّ تتحرك في حفرها وأخاديدها وعروقها وخباياها وأعماقها ، ومن قطرات الماء التي تنفذ إلى ترابها لتتحوّل ـ في تراكماتها ـ إلى بحار جوفيّة ، وإلى ينابيع متفجرة ، وغير ذلك مما ينفذ إليها من غازات وإشعاعات وعناصر خفية ، (وَما يَخْرُجُ مِنْها) من النبات الذي ينبثق من قلب الأرض ، والينبوع الذي يتفجر منها ، والحشرات الصغيرة ، والديدان الدقيقة ، والزواحف المخيفة ، وما إلى ذلك مما تنفتح عنه الأرض في ما خلّفه الله فيها من مكامن ، وما يسره فيها من السبل التي تربط الظاهر بالباطن ، والسطح بالعمق.

(وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها) من مطر وشعاع وهوامّ وطير ، ومن ملائكة تهبط وتصعد لتدبّر ما أوكل الله إليها تدبيره ، ومن أرواح تصعد إلى بارئها بعد أن أكملت حياتها في الأرض ، وأخرى تنزل من خلال إرادته التي تحركها في الأجساد لتنطلق الحياة ، ومن قطرات الماء التي تتصاعد لتكون بخارا فيكون ماء بإذن الله ، وهكذا يحيط علمه بكل شيء مما دقّ وخفي مما لا يحصيه عدّ ، ولا يحيط به فكر ، لأنه الخالق لذلك كله ، فكيف يخفى عنه شيء منه (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك : ١٤].

(وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ) الذي يطّلع على أعمال عباده ، في ما يخطئون

١١

ويتمرّدون وينحرفون ، فيطلّ عليهم من مواقع رحمته التي تعرف خفاياهم وظروفهم وأوضاعهم التي تثير فيهم نوازع الخطيئة ، وتقودهم إلى مواضع الانحراف ، فيغفر لهم ذنوبهم ، ليمنحهم الفرصة للرجوع إليه.

* * *

بين الحكمة والعبث

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ) لأن الذهنية المحدودة التي يحملونها لا تلتقي بالأفق الواسع الممتد في رحاب قدرة الله وإحاطته وحكمته ، فهو الذي لا يعجزه شيء ، فلا مجال لاستبعاد إعادته الخلق من جديد ، بعد أن خلقهم من عدم. وهو الذي لا يتحرك من عبث ، إذ كيف يخلق الحياة والناس ويدفعهم إلى مواجهة الموقف تحت وطأة المسؤولية ، ثم يتركهم إلى العدم؟ أفلا تكون الحياة إذا فرصة عبث ، تماما كما هي الفقّاعات التي تنتفخ ثم تنفجر لتغيب في الفراغ؟ ولماذا كان التكليف ، والمسؤولية ، إذا كانا لا ينتهيان إلى شيء ، فلا يلاقي المحسن جزاء إحسانه ، ولا يلاقي المسيء جزاء إساءته؟

إنّ الحكمة تفرض الهدف ، وإن الهدف يفرض الآخرة التي تعطي للحياة معناها العميق والممتد في النتائج المتصلة بالإنسان وبالمسؤولية ، ولكن مشكلة هؤلاء أنهم مشدودون للحس ، غارقون في تفاصيله ، متخبّطون في دياجيره ، سابحون في أوحاله ، ولذلك كانوا خاضعين للفكرة المادية التي تستند إلى الاستبعاد الحسي للبعث ، لأنهم لم يشاهدوا نموذجا مماثلا ، في الوقت الذي يشاهدون اختلاط الأبدان وتبدلها وتحوّلها إلى تراب لا أثر فيه للحياة حتى بنحو الاختلاجة. ولهذا كان الردّ بتأكيد الحقيقة ، من دون مقدّمات ، لأنها تحمل في داخلها معنى ثبوتها وثباتها من خلال الفكر المتحرك

١٢

الذي يطلّ على الله في آفاق الكون الذي كان عدما فوجد بقدرته ، ومن موقع الصدق الذي يتمثل في الوحي الصادق الذي جاء به الصادق الأمين ، مما يجعل للتأكيد الحاسم عمق الصدمة التي تهز المشاعر لتخلق في داخلها الرهبة في ما يشبه المفاجأة التي تخاطب الأعماق. (قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ) إنه القسم العظيم الذي يجعل الله شاهدا على الحقيقة التي تأخذ وضوحها من عظمة قدرته التي لا ينكرها المشركون في كلّيّتها وإن غفلوا عن تفاصيلها. إنه الإيحاء الذي ينفصل فيه النبي عن خصوصيته الذاتية في ما هي القناعة الخاصة ، ليسمو إلى رحاب الله ، ليقول لهم إنه ربي الذي أوحى بذلك وهو الشاهد عليه ، والقادر على إبداع كل شيء ، مهما كان كبيرا أو عظيما في ذاته.

(عالِمِ الْغَيْبِ) الذي يحيط به ، سواء كان غيب الحاضر ، مما خفي عن الناس أمره ، أو غيب المستقبل الذي لا يملكون الطريق إلى معرفته ، فهو الذي يلاحق في علمه ذرّات التراب التي كانت جزءا من إنسان ، ويميز بينها وبين ذرأت إنسان آخر ، فيمنح هذه الحياة التي كانت لها دون أن يشتبه عليه ما يختلط منها بالذرات الأخرى ، و (لا يَعْزُبُ عَنْهُ) لا يغيب عنه (مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ) لأن مقادير الأشياء سواء كانت صغيرة في منتهى الدقة والخفاء ، أو كانت كبيرة في ضخامة الحجم ، تحضر في علمه الذي ينفذ إلى كل موجود في داخله ، كما تنفذ قدرته إليه في أصل وجوده وتدبيره في حركته في الحياة. (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) في اللوح المحفوظ ، أو في ساحة علمه الممتدة امتداد قدرته في آفاق عظمته.

(لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) بما يعفو عنهم من الذنوب التي أسلفوها وتابوا عنها ، أو ما بقي منها من الصغائر في ما غفلوا عنه ولم يتذكروه. وهؤلاء كانت قلوبهم قد انفتحت في حياتهم على الله ، من موقع الإخلاص له. (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) جزاء لهم على ما عملوه ، حيث يرزقهم من نعيم الجنة ورضوان الله.

١٣

(وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ) فكانوا يواصلون السعي المضاد المتعسف في مواجهة آيات الله في دلائل وجوده ووحدانيته ومواقع عظمته ، مستهدفين إظهار عجزها بأساليبهم المختلفة ، وألاعيبهم المتنوّعة ، ليعطلوا مسيرة الإيمان ، ويسقطوا حركة الإسلام في مدارج صعوده في الحياة ، (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) والرجز : هو القذر كناية عما يصيبهم من القذارة المعنوية والمادية في طبيعة العذاب من حيث طبيعته وتأثيره ، فذلك هو جزاؤهم الذي ينتظرهم في الآخرة ، ليعرفوا أنهم لن يستطيعوا أن يعجزوا الله ، أو يسبقوه في أمره ، لأنهم أعجز من أن يعطلوا شيئا من إرادته ، أو يضعفوا شيئا من قضائه.

* * *

١٤

الآية

(وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)(٦)

* * *

العلم يحدد موقع الحق في الوحي ويهدي إليه

(وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) الذين ينطلقون في قناعاتهم الفكرية وفي رؤيتهم للأمور وحكمهم عليها حين يختلف الناس حولها ، من مواقع تأمّلاتهم الهادئة وتفكيرهم العميق وحساباتهم الدقيقة في مواطن الضعف والقوّة وفق موازين الحق والباطل في داخلها ، فلا يتحركون من نوازع الذات ، ولا يخضعون لنزوات الهوى ، ولا يثيرون القضايا ، في مجالات الأطماع ، بل يتحركون من مواقع العلم في دلائله وبراهينه الناظرة أبدا إلى عمق الأشياء في طبيعتها البعيدة عن كل شيء طارئ. ولذلك فإنهم يواجهون رسالة النبيّ في طروحاتها من خلال النظرة الهادئة المتوازنة ، في ساحة الحياد الفكري

١٥

الخالي من الخلفيات الذاتية التي تشوّه ملامح الأمور ، فيرون أن (الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَ) من خلال مضمونه الذي يوحي بأنه وحي من الله في ما يعنيه ذلك من تجسيده للحقيقة الواضحة (وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) وهو الطريق الذي خطّه الله لعباده ليسيروا عليه ، ليبلغوا سعادتهم في الدنيا والآخرة في ما يكتشفونه من مواقع رضاه ، في قناعة عميقة توحي إليهم بالقوّة في الموقف ، لأنه العزيز الذي لا يغلب على أمره ، وبالحكمة في المنهج والحركة ، لأنه المحمود الذي تتحرك حكمته في أوامره ونواهيه لتكون آية على حمده في كل ذلك ، في ما يمثله من المصلحة الكامنة في مضمون الخط كله.

إن القضية التي يثيرها القرآن ـ دائما ـ في ساحة الصراع العقيدي ، بين ما يطرحه من عقائد وأفكار ، وما يطرحه الآخرون من أضاليل وأكاذيب ، تحتاج إلى الأجواء الفكرية الهادئة التي يتحرك في داخلها العلماء المفكرون الذين يحاكمون الأمور بدقّة ، ويفكرون فيها بعمق ، فهم ، وحدهم ، الذين يستطيعون الوصول إلى الحقيقة من أقرب طريق ، لأن القضايا الفكرية لا تحلّ بالمشاعر الملتهبة والنظرات السريعة التي تتحرك في نطاق الغوغاء.

* * *

١٦

الآيات

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (٨) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ)(٩)

* * *

معاني المفردات

(مُزِّقْتُمْ) التمزيق : التقطيع والتفريق ، والمراد بها بليتم في القبور.

(خَلْقٍ جَدِيدٍ) : البعث.

(جِنَّةٌ) الجنة : الجنون.

(كِسَفاً) : قطعا.

١٧

(مُنِيبٍ) : راجع.

* * *

الكافرون يستغربون فكرة البعث والقرآن يردّ

هل يملك الكافرون بالآخرة غير أساليب السخرية والاستهزاء ، عند ما تعوزهم أساليب الفكر والعلم؟

هكذا كان موقفهم أمام فكرة الإيمان بالآخرة التي قدّمها النبيّ ، كما قدّمها الأنبياء من قبله ، على أساس إمكان الفكرة في مضمونها العقيدي ، وعلى أساس صدقها من خلال صدق الوحي النازل من الله سبحانه وتعالى.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالآخرة ، وهم يشيرون إلى رسول الله بإشارات توحي بالاستهزاء ، وتدعو إلى الإنكار والاستغراب ، ليطرحوا المسألة التي يثيرها في دعوته ، كما لو كانت من المسائل غير القابلة للنقاش ، لأن الفكر العاديّ يرفضها بشكل عفويّ سريع من دون مناقشة ، (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) وتقطعت أوصالكم ، وتفرقت أجسادكم ، حتى تحوّلت إلى عظام نخرة موزعة بين نواحي الأرض ، وإلى ذرأت ضائعة في التراب ، (إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) كما كنتم في الخلق الأوّل في حيوية الحياة وحركتها ونضارتها وتجدّدها وفاعليتها! إنه كلام غير معقول ، ومع ذلك ، فإنه ينسبه إلى وحي الله ، (أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) فهو شخص يملك عقله ، ويفكر بطريقة واعية ، للوصول إلى هدف شخصيّ معين ، فيتعمّد الكذب على الله ، ليعطي لكلامه قداسة الأنبياء ، (أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) فهو يتكلم بما لا يعقل ، فيلقي الكلام جزافا ، من دون وعي لما يدل عليه ، ومن غير قصد لما ينتهي إليه من أمور.

١٨

إنهم يخاطبون السطح الساذج للذهنية العامة ، ويطرحون المسألة على أساس أنها دائرة بين احتمالين ، لا ثالث لهما ، ليبعدوا الناس عن التفكير في المضمون الجدي والنتيجة الحاسمة المتصلة بقضية المصير ، لأنهم لا يريدون للناس أن تفكر ، ويعملون على أساس تطويق الحالة الفكرية بالحرب النفسية التي لا تسمح للفكر أن يتحرك في الاتجاه السليم لمناقشة القضايا المطروحة ، بالإيحاء بأنها ليست مما يوحي بالتأمل ، بل مما يوحي بالدهشة والاستغراب أو الاستهزاء (بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ) وهذا هو الرد القرآني الذي يطرح المسألة بالأسلوب نفسه الذي يطرحون به هذين الاحتمالين ، ليصدم الموقف بطريقة سريعة ، تحتوي المشاعر ، وتخفف تأثير الآخرين عليها ، ثم تبدأ في مناقشة الأمور بطريقتها الخاصة. فهؤلاء هم الذين يعيشون في الضلال الغارق في التيه البعيد في مواقعه الممتدة في صحراء الجهل والتخلف والظلام ، كما يعيشون في مواقع العذاب الذي ينتظرهم جزاء لكفرهم الذي لا يملكون فيه أيّة حجّة ، ولا يستندون معه إلى ركن وثيق. إن المشكلة في الموقف ، هي مشكلتهم في ما يتخبّطون به ، وليست مشكلة النبي في ضلال طروحاته ليدور الأمر بين احتمال كذبه واحتمال جنونه.

(أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) ومن هو الذي يمسك السماء أن تسقط ، وهو القادر على أن يسقطها ، أو يسقط الشهب قطعا ، أو يرسل الصواعق الملتهبة الحارقة فيصيب بها من يشاء؟ ومن الذي يمسك الأرض السابحة في الفضاء ، أن تهتز وتزول ، وهو القادر على أن يخسفها ويزلزلها؟ وكيف تتحركان بإرادته وقدرته وتدبيره (إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ) كما خسفنا بمن قبلهم من الذين ابتلعتهم الأرض بزلزالها (أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) بتساقط الشهب ، أو تحريك الصواعق. فلما ذا لا يفكرون بقدرة الله الشاملة التي لا تقف عند حدّ ليدركوا من خلالها كيف يتّقونه ويخافونه ويحسبون حسابه في كل الأمور ، ولا يستعجلون الحكم على الأشياء ، لا سيّما

١٩

التي تتصل برسله وبرسالاته؟ إن القضية المطروحة ، هي أن يدفعهم ذلك إلى إثارة التفكير الجديّ المسؤول الذي يواجهون فيه المسؤولية بكل دقّة وعمق ، (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) في ما ينفتح فيه قلبه على الله ، ليرجع إليه ، فيفكر بمسؤولية ، ويثوب إلى عقله ، ويتحرك في طريق الهدى والرشاد.

* * *

٢٠