تفسير من وحي القرآن - ج ٢١

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ٢١

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٦٠

الآيتان

(هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٢٥) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) (٢٦)

* * *

معاني المفردات

(تَطَؤُهُمْ) ؛ الوطء : الدوس.

(مَعَرَّةٌ) : إثم وجناية وأذى.

(تَزَيَّلُوا) : تميزوا وتفرقوا.

(الْحَمِيَّةَ) : الأنفة والاستكبار.

* * *

١٢١

صدّ المسلمين عن المسجد الحرام

(هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالرسول والرسالة ، وهم مشركو مكة الذين أصرّوا على البقاء في دائرة الوثنية بعيداً عن التوحيد ، (وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) حيث أصدروا قرارهم بمنع المسلمين من دخول مكة والحج إليها ، لأنهم يخافون من امتدادهم فيها ، ومن تحولها إلى مركز من مراكز النفوذ الإسلامي الذي يعني ترسيخ التوحيد في العبادة ، وطرد الأصنام من وعي الناس ومن تقاليدهم ، بعد طردها من حياتهم ، (وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً) أي ممنوعاً من الذهاب إلى جهةٍ ، بالإقامة في مكانه ، فحبسوه عن السير (أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) وهو الموضع الذي ينحر فيه أو يذبح ، وهو مكة في هدي العمرة ، ومنى في هدي الحج ... وقد كان النبي وأصحابه محرمين بالعمرة آنذاك ، وساقوا الهدي معهم إلى مكة.

(وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ) من المسلمين المقيمين بمكة الذين لا تعرفونهم بأعيانهم ، (أَنْ تَطَؤُهُمْ) أي أن تدوسوهم وتسحقوهم في هجومكم على قريش ، (فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ) أي يحدث لكم مكروه من قتلهم إذا قتلتموهم (بِغَيْرِ عِلْمٍ) منكم ، لما كفَّ الله أيديكم عنهم ، لأن الظروف كانت سانحة لتحقيق النصر ، ولكنه أراد حفظ الأقلية المؤمنة في مكة ليوم آخر ، ليحقق الفتح بالقوّة الشاملة دون قتل أو قتال.

(لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) من المؤمنين والمؤمنات الذين لا تعرفونهم أو الذين أسلموا بعد الصلح ، كما قيل ، ليحفظ لهم سلامتهم إلى وقت ما ، وليدخلكم في رحمته بحيث لا تقعون في قتل هؤلاء ، (لَوْ تَزَيَّلُوا) أي تفرقوا عن بعضهم البعض وامتاز المسلمون عن المشركين بحيث أمكن الفصل بينهم (لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) بإيقاع القتل عليهم ، ولكن الحفاظ على سلامة المؤمنين كان مشكلة تفرض نفسها على الساحة ، (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ) التي يحركها الانفعال

١٢٢

والعصبية ومشاعر الإخلاص للعشيرة ، دون أي وعي فكري يربط المشاعر الإنسانية والعلاقات بالقضايا الفكرية والروحية والمعاني الإنسانية ...

وهذا ما جعلهم يصرّون على عدم التنازل عن امتيازاتهم العصبية ، ولا ينفتحون على منطق العقل والحوار باعتباره سبيل الوصول إلى نتائج إيجابية في ما يختلف فيه الناس ، لكن هذه الحميّة الجاهلية ، لم تخلق لدى المؤمنين ردّ فعل انفعالي لمواجهة الحمية بحمية مماثلة ، بل حافظوا على هدوئهم النفسي ، وطمأنينتهم الروحية ، (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) ليحافظوا على التوازن في دراسة الأمور ، ويتحركوا في خط التقوى الذي يضع المسألة في نصابها الصحيح من الوقوف مع التوجيه الإلهي الذي يحدد لهم مواقعهم في الساحة من خلال الحلال والحرام ، (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) وهي كلمة التوحيد التي تربط الناس بالله في العبادة والطاعة في كل قضاياهم العامة والخاصة ، ليقفوا حيث يريد منهم الوقوف ، وليتحركوا حيث يريد منهم التحرك ، (وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها) لأن المؤمنين هم الحاملون لها ، المنفتحون عليها ، العاملون بمضمونها في كل أمورهم ، مما يجعلها كلمة لاصقة بكل حياتهم ، مرتبطة بكل واقعهم الفكري والعملي ، فهم أحقّ السورة بها من غيرهم ، وهم أهل التوحيد في كل مواقع الحياة ، (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) في ما يحيط به من سرّهم وعلانيتهم في الأمور كلّها.

* * *

١٢٣

الآيتان

(لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (٢٧) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) (٢٨)

* * *

رؤيا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تتحقق

(لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِ) فلم يره في منامه إلا الصدق الذي يتضمن الوحي في داخله ، (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ) في ما يعلمه من الأسباب والحوادث والظروف التي تلتقي فيها مشيئته (آمِنِينَ) لا يعرض لكم أحد بسوء ، (مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ).

وهكذا دخل المسلمون مكة في العام القادم معتمرين ، وطافوا بالبيت كما يشاءون ، وحلق من حلق ، وقصّر من قصّر ، وذلك في ما سمّي ب «عمرة القضاء» ، (فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا) فالله يعلم أن مصلحة الإسلام تكمن في الابتعاد

١٢٤

عن القتال ، وإيجاد هدنة يراجع فيها الناس أفكارهم عن الإسلام والشرك ، بعيدا عن الضغوط القاسية التي تثيرها ساحة الصراع الحادّ ، وهو أمر أتاح للعديد من المشركين دخول الإسلام ، (فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً) وهو صلح الحديبية الذي عبّر عنه بالفتح ، أو هو فتح خيبر ، الذي كان يمثل حركة القوة الإسلامية التي خلقت توازنا جديدا في مواقع القوّة في المنطقة ، وخلقت جوّا نفسيّا إيجابيا لمصلحة الإسلام.

* * *

رسالة الهدى

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِ) الذي يفتح عقول الناس وقلوبهم على الحقّ ، ويمهّد لهم سبيل الوصول إلى ما يقرّبهم من الصلاح ويبعدهم عن الفساد ، (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) ليهيمن الإسلام على الواقع ويسيطر الطرح الإسلامي على كل طروحات الباطل ذات العناوين الدينية أو غير الدينية ، بحيث يصبح في عقلانية عقيدته وواقعية شريعته وتوازن منهجه ، هو الطرح الأعلى والأقوى ، (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) على الدين كله وعلى صدق الرسالة والرسول.

* * *

١٢٥

الآية

(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) (٢٩)

* * *

معاني المفردات

(يَبْتَغُونَ) : يطلبون.

(سِيماهُمْ) ؛ السيماء : العلامة.

(شَطْأَهُ) ؛ شطء النبات : أفراخه التي تتولّد منه وتنبت حوله.

(فَآزَرَهُ) ؛ الإيزار : الإعانة.

(فَاسْتَغْلَظَ) : أي غلظ.

(سُوقِهِ) ؛ السوق : جمع ساق.

* * *

١٢٦

صفات الرسول وأتباعه

ما هي ملامح محمد رسول الله الذي أرسله الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله؟ وما هي ملامح أصحابه الذين تربّوا في أجواء رسالته ، وفي دائرة تعاليمه ومواقفه وأخلافه؟ وما هي عناصر نجاح الحركة التي تريد أن تضغط على الواقع ليحتضن الدين كله ، ليكون لله وحده؟

(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) هذه هي الصفة التي يقدّمه الله بها إلى الناس ، ولم يقدمه بصفته العائلية أو النسبية ، لأن الله لا يريد للناس أن يرتبطوا به من خلال قيمة النسب والعلاقة بالعائلة .. لذا قدمه بصفته الرسالية ، ليبقى الناس مع شخص الرسول في خط الرسالة ، لا مع الشخص ـ الذات في الخط الذاتي ، ليتفاعلوا مع رسالته ، وليمتد تفاعلهم بها إلى ما بعد حياته ، لأن الرسول يبقى برسالته من حيث الدعوة ومن حيث القدوة ، أمّا الشخص ، فإنه يموت بموت الجسد ، ويتحول إلى مجرد ذكرى. (وَالَّذِينَ مَعَهُ) في حربه وسلمه ، في المسجد ، وفي ساحات يثرب كلها ، في سفره وحضره ، هؤلاء الذين عاشوا معه واعترفوا بنبوّته ، والتزموا بقيادته ، وشاركوا في دعوته ، وتألّموا معه ، وعاشوا المعاناة في خط مسيرته ...

* * *

بين دور القيادة ودور القاعدة

ويوحي إلينا الحديث عن أتباع الرسول في معرض الحديث عن الرسول نفسه ، أن الله يريد أن يثير أمامنا قاعدة رسالية تطال علاقة القيادة بالقاعدة ، وهي أن القيادة لا تلغي دور القاعدة ، ولا تأثيرها في عملية صنع القوّة وتحريك النصر ، فالقيادة ليست هي كل شيء ، ليكون الدور كله لها ، بل إن للقاعدة دورا

١٢٧

يتأكد على أساس التكامل مع القيادة ، والتفاعل مع حركتها ، والاندماج بأخلاقيتها الرسالية ، ليشكلا معا مجتمعا موحدا.

هذا ما ينبغي لنا أن نتمثله في وعينا الحركي في خط الرسالة ، فلا نستغرق في الشخص إلا من خلال الفكرة التي يحركها ويقود الحياة من خلالها ويطلّ من نافذتها على الآخرين ، بحيث يكون الشخص بطل الخط ولا تكون الرسالة خط البطل.

* * *

أصحاب الرسول أشدّاء رحماء

(أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) من موقع أنهم أشدّاء على الكفر بالتزامهم الإيمان ودفاعهم عنه ، ووقوفهم ضد كل من يريد تأكيد قوة الكفر وإضعاف الإيمان .. وشدّتهم هنا ليست حالة لا إنسانية ، تمثل القسوة والتعصب والانغلاق ، بل هي حالة إنسانية غرضها الانفتاح على الإنسان من مواقع الحق الذي يمثله الإيمان ، لإغناء قيم الحرية والعدالة وتحريكها في آفاق الانفتاح على الله ، لتكون عنصرا إيجابيا في معنى تعزيز الإنسانية بدلا من أن تكون عنصرا سلبيا مضمونه الكفر.

وفي ضوء ذلك ، نفهم أن الشدّة هنا ناظرة إلى مواقع المسلمين في ساحة الصراع لا إلى موقعهم في ساحة الدعوة ، أو في ساحة التعايش ، أو في أجواء الحوار ، وهم كذلك (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) من خلال روحانية الإسلام الذي يشدّ جميع الناس إلى بعضهم البعض ، ليكونوا كالجسد الواحد ، تتفاعل المعاناة بين أعضائه ، وتناسب الرحمة في كل خلاياه ، انطلاقا من الخط الاجتماعي الذي أراد الله للمؤمنين أن يسيروا عليه في بناء علاقاتهم الاجتماعية ، وهو خط التواصي بالمرحمة ، بكل ما يعنيه ذلك من تبادل المشاعر الرحيمة والأحاسيس الحميمة والتكافل الاجتماعي.

* * *

١٢٨

الراكعون الساجدون

(تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً) في مظهر العبودية الخالصة لله سبحانه ، الذي يعبّر عن ركوع الكيان كله له ، وسجود العقل والروح والوجدان والحياة كلها لعظمته ، بما يوحيه ذلك من روحانية فيّاضة بالطهر والحب والصفاء والنقاء ، (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) فهم مشدودون إلى الله في كل حاجات الحياة المادية والمعنوية ، لا يتطلعون إلى غيره في أي من حاجاتهم ، ويتطلعون إليه بأحلامهم في الحياة الاخرة حيث ينتظرون لطفه ورضوانه ، مما يجعل حياة المجتمع الإسلامي مرتبطة بالله في جميع أوضاعها العامة والخاصة.

(سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) وهي علامة الإيمان الواضح في وجوههم ، ذلك أن كثرة السجود على جباههم التي تلتصق بالأرض ، يترك فيها تأثيرا بارزا عليها يميزهم عن غيرهم.

* * *

مثلهم في التوراة والإنجيل

(ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ) في ما جاءت الإشارة فيهما إليهم عند الحديث عن رسول الله وأصحابه ، (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ) وهو أفراخ الزرع المتولدة منه ، (فَآزَرَهُ) أي : فأعانه ، (فَاسْتَغْلَظَ) أي أخذ في الغلظة من حيث الحجم ، (فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ) أي استطال على ساقه ، (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) الذين ينظرون إليه فيجدون فيه زرعا قويّا يانعا مثمرا.

وهذا تصوير للمجتمع المؤمن الذي يتكامل ويتنامى ويقوّي بعضه بعضا حتى يشكل قوّة كبيرة في العدد والعدّة (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) الذين تزعجهم الوحدة التي تشمل أفراد المجتمع الإسلامي والقوّة المتمثلة فيه (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) لأن الإيمان والعمل الصالح هما

١٢٩

الأساس الذي يرتكز عليه رضي الله عن عباده ، وتنطلق منه المغفرة ، ويستحق عليه الجزاء الكبير في ثواب الله سبحانه.

وقد أثير حديث حول شمول هذا الوعد الإلهي لجميع الصحابة أو اختصاصه بالمؤمنين العاملين بالصالحات ، وذلك بالسؤال عن كلمة «منهم» ؛ هل هي للتبعيض ، كما هو الظاهر ، وهو رأي يتبناه أصحاب القول الثاني ، أم أنها بيانية ، كما يقول أصحاب القول الأول ، والذين يواجهون الردّ بأن «من» البيانية لا تدخل على الضمير مطلقا في كلامهم؟!

ويضيف أصحاب القول الثاني إلى هذه المناقشة ، أنه «لو كانت العدة بالمغفرة أو نفس المغفرة شملتهم شمولا مطلقا من غير اشتراط بالإيمان والعمل الصالح وكانوا مغفورين ـ آمنوا أو أشركوا ، وأصلحوا أو فسقوا ـ لزمته لزوما بيّنا لغويّة جميع التكاليف الدينية في حقهم وارتفاعها عنهم ، وهذا مما يدفعه الكتاب والسنة ، فهذا الاشتراط ثابت في نفسه وإن لم يتعرض له في اللفظ ، وقد قال تعالى في أنبيائه : (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام : ٨٨] فأثبته في أنبيائه وهم معصومون ، فكيف فيمن هو دونهم»(١).

ويردُّ أولئك على هذا التعليق ، أن الآية تتحدث عن واقع الصحابة ، لا عن حالة مطلقة لتخضع للاحتمالات المتنوّعة ، وبالتالي لتوضع لها الشروط هنا أو هناك على هذا الأساس ، فهي شهادة من الله بأنهم واجدون لهذه الصفات ، بقرينة صدر الآية.

وقد نلاحظ على ذلك ، أن القرآن يتحدث عمن كان مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنهم قد ينكثون وقد ينحرفون ، وقد تحدث عن الذين مردوا على النفاق من أهل المدينة ، وعن الذين ارتدّوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى ، وغيرهم ، في الوقت الذي لم يدّع أحد العصمة للصحابة لا نظريا ، ولا واقعيا ، والله أعلم.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٨ ، ص : ٣٠٥ ـ ٣٠٦.

١٣٠

سورة الحجرات

مدنيَّة

وآياتها ثماني عشرة

١٣١
١٣٢

أجواء ، السورة وتسميتها

لعلاقة المسلم بالله ورسوله آداب في الإسلام يفترض بالمسلم احترامها عند مخاطبتهما ، كما أنّ هناك آدابا لعلاقة المسلم بالآخرين تلزمه باحترام أسرارهم وخفاياهم وعيوبهم وأوضاعهم ، بحيث لا ينفذ إليها إلّا بإذن إلهيّ ، أو بإذن أصحابها أنفسهم ، ولا يذكر من تلك الخفايا إلا ما كان فيه خير للمسلم ، ويمتنع عن الحكم عليهم حتى عند ما يسمع بوقوعهم في المعصية ، إذ يتوجب عليه التثبت من شخصية المخبر وطبيعة الخبر قبل إصدار الحكم ، كما يتوجب على المسلم أن لا يسخر من أحد مهما كانت دوافع السخرية ... وعلى المسلمين أن يعيشوا الانفتاح على التنوّع البشري في ما قسّم الله الناس إليه من شعوب وقبائل ، ليكون ذلك أساسا للتعارف والتفاعل ، بدلا من أن يكون أساسا للعصبية والتنابذ ... وأن يؤكدوا الإيمان كعمق للإسلام الذي ينتمي إليه المسلمون الذين يرون في الإسلام نعمة من الله عليهم ، لا منّة منهم على رسوله.

وهكذا أراد الله بهذه السورة أن يركز قواعد الاستقرار ـ عمليا ـ في حياة المسلم ، من خلال المبادئ الأخلاقية التي تحكم الواقع ، وتتحرك ضمنها العلاقات ، وتتأسّس عليها المواقف ، وتخضع لها الأحكام والانطباعات عن الأشياء والأشخاص.

١٣٣

وسورة الحجرات هي من السور التي تثير الحسّ التربوي في المجتمع الإسلامي على اختلاف أوضاعه ، على صعيد الحياة والإنسان ، ليتفاعل الإيمان مع الواقع في عملية تزاوج روحيِّ وعمليِّ يتحول فيه الإسلام إلى موقف.

وقد أطلق على السورة اسم «الحجرات» من خلال مناسبة الآية الكريمة : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ* وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

* * *

١٣٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الآيات

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٢) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣) إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٤) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٥)

* * *

معاني المفردات

(تَجْهَرُوا) ؛ الجهر : ظهور الصوت.

(يَغُضُّونَ) : يخفتون.

* * *

١٣٥

آداب التعامل مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ). إن إطلاق النداء للناس من خلال صفة الإيمان ، يوحي بأن هذا التعليم ينطلق من مضمون الإيمان في حركته الروحية والسلوكية. والظاهر أن المراد بالتقدم هو الوقوف أمام الله ورسوله بمعناه الكنائي ، حيث يدل التقدم عليهما على خضوع الإنسان لهواه أو لفكره الشخصي أو لمزاجه الذاتي ، بعيدا عن خط الإيمان الذي يوحي بالله ، أو يلهم به رسوله ، في الحكم الذي يشرّعه ، أو في النهج الذي يقرّره ، أو في الخط الذي يخططه ، مما يوحي بأن من الواجب على المؤمن أن يبقى مشدودا إلى أوامر الله ونواهيه ، وإلى شرع الرسول ونهجه في ما ينفتح عليه من قضايا السلوك والحياة ، فلا يسبق بكلامه كلام الله ، وبسلوكه شرع رسول الله ، ليكون الخاضع لله ولرسوله في كل شيء ، (وَاتَّقُوا اللهَ) بالانضباط على الخط المستقيم والشعور بالمسؤولية على قاعدة الإحساس الدائم بحضور الله ورقابته ، (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) فهو الذي يسمع كل كلمات عباده ويعلم كل خفاياهم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ). وهذا لون من ألوان الأدب الإسلامي في مخاطبة المسلمين للنبي ، تقضي بمراعاة الإخفات في الكلام ، أو الهدوء في الخطاب ، بحيث تكون أصوات المسلمين أخفض من صوته ، لتتميَّز طريقتهم في الحديث معه عن طريقتهم في الحديث العادي مع بعضهم البعض ، لأن تلك الخطوط السلوكية هي سبيل إشاعة جوِّ من الاحترام والتعظيم يفرضه موقع النبي من أمّته ، ويوحي بالهيبة والتوقير اللذين يؤثّر إشاعتهما في نفس المسلم إيجابا في علاقته برسول الله ، بحيث يلتقي لديه احترام الوجدان باحترام الطاعة والالتزام.

(أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) أي حذرا من أن تحبط أعمالكم إذا أسأتم احترام النبيّ ، مما قد يؤدي إلى الاستهانة به وبأمره ونهيه ، فيقودكم ذلك إلى الابتعاد عن خط الإيمان بطريقة تلقائية لا شعورية ، تبعا لما تتركه بعض

١٣٦

الأوضاع من تأثير على بعضها الآخر ، فالناحية السلوكية قد تترك تأثيرها على الناحية النفسية ، وتؤدي بالتالي إلى لون معيّن من الانحراف في اتجاه آخر.

* * *

احترام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من التقوى

(إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) تأدبا واحتراما ومراعاة للجو الروحي الرفيع الذي يخلقه حضور الرسول في المجلس ، وللموقع الذي يمثله الرسول في ساحة الرسالة ، مما يفرض على الحاضرين حوله أن يغضوا أصواتهم عند الحديث معه ، أو مع بعضهم البعض ، ليستوعبوا فكريا وروحيا كلماته في ما يعظهم به ، أو يوجههم إليه ، أو يخطط لهم من سبل ، أو يفتح لهم من آفاق ، وهي أمور تحتاج إلى كثير من الهدوء لدى سماعها ، ليتعلمها الآخرون من الحضور ...

(أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى) لأنهم ضغطوا على مشاعرهم وتغلّبوا على عاداتهم ، طاعة وانقيادا لأمر الله ، والتزاما وإيمانا ، فنجحوا في الامتحان الإلهي في ما يكلف الله به عباده من تكاليف تضغط على أوضاعهم التي اعتادوها في حياتهم العامة وتدفعهم إلى الابتعاد عنها لمصلحة أوضاع أخرى.

(لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) ذلك هو الجزاء الذي أعدّه الله لمن يعيشون النقياد المطلق له ، والتسليم الروحي إليه في خطّ التقوى والإيمان.

* * *

عدم توقير النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علامة على اللاعقل

(إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ) التي يشتمل عليها بيتك ، عند ما

١٣٧

تكون في حالة استرخاء تستسلم إليه طلبا لبعض الراحة الجسدية ، واستعدادا لمرحلة جديدة من العمل ، فيرفعون أصواتهم ليقتحموا عليك لحظات نومك وراحتك دون اعتبار لمقامك وحالتك ، (أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) لأن العقل يدفع صاحبه إلى احترام أوضاع الناس الخاصة ومشاعرهم الذاتية ، وإلى عدم الإساءة إليهم في ذلك كله ، الأمر الذي يجعل من لا يراعون ذلك في سلوكهم العملي ممن لا يعقلون.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ) بعد حصولك على ما تريد من الراحة ، أو بعد تخفّفك من مسئولياتك العائلية الخاصة التي قد تشغل الإنسان عن بعض من حوله ، (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) لأن ذلك هو سبيل الانسجام مع حركة المسؤولية في نطاق العلاقة بالآخرين ، لا سيّما إذا كانت المسألة تتصل بالنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي ينبغي للمسلمين أن يراعوا قضاياه الخاصة وموقعه المميز ، (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) في إشرافه على سلوك عباده وغفرانه ذنوبهم ، إذا تابوا ورجعوا إليه ، وفي رحمته لهم في كل أوضاعهم العامة والخاصة في نقاط ضعفهم التي يخضع لها وجودهم كله.

* * *

١٣٨

الآية

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) (٦)

* * *

معاني المفردات

(فاسِقٌ) : الخارج عن الطاعة إلى المعصية.

(بِنَبَإٍ) ؛ النبأ : الخبر العظيم الشأن.

* * *

مناسبة النزول

جاء في أسباب النزول للنيسابوري قال : «نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، بعثه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى بني المصطلق مصدّقا ، وكان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية ، فلما سمع القوم تلقّوه تعظيما لله تعالى ولرسوله ، فحدّثه الشيطان أنهم يريدون قتله فهابهم ، فرجع من الطريق إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال :

١٣٩

إنّ بني المصطلق قد منعوا صدقاتهم وأرادوا قتلي ، فغضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهمَّ أن يغزوهم ، فبلغ القوم رجوعه ، فأتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا : سمعنا برسولك ، فخرجنا نتلقاه ونكرمه ونؤدي إليه ما قبلنا من حق الله تعالى ، فبدا له في الرجوع ، فخشينا أن يكون إنما ردّه من الطريق كتاب جاءه منك بغضب غضبته علينا ، وإنّا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله ، فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) ، يعني الوليد بن عقبة» (١).

وإذا صحّ هذا الخبر ، فإنه يمنح الفهم القرآني للآية الجوّ الميداني الذي انطلقت منه وتحركت به في الواقع الإسلامي آنذاك .. فهناك فاسق لا يتورع عن الكذب ، جاء إلى النبي يخبر عن جماعة مسلمين ، وهناك مشكلة كان من الممكن أن تحدث عند الاستجابة لهذا الخبر ، وهي إعلان محاربة هؤلاء الناس لمنعهم الصدقات ، وتصدّيهم لرسول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالطرد ، لولا أن يكشف الله لرسوله حقيقة هذا الشخص في فسقه وفي كذبه.

هكذا عاش المسلمون هذه المسألة في واقعهم بشكل حيّ ، لتتحرك القاعدة الشرعية على أرض الواقع ، بحيث تصبح أكثر تأثيرا في وجدانهم ، مما لو كانت مجرد فكرة في الذهن.

* * *

وجوب تبين خبر الفاسق

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) في ما يوحي به الإيمان من استقامة على خط الحقّ والعدل ، وانفتاح على الله ، في ما يأخذ به المؤمن أو يدعه في مواقع المسؤولية ، (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ) يتعلق بحياتكم الخاصة أو بحياة الآخرين مما

__________________

(١) النيسابوري ، أبو الحسن ، علي بن أحمد الواحدي ، أسباب النزول ، دار الفكر ، بيروت ـ لبنان ، ١٤١٤ ه‍ ـ ١٩٩٤ ، م ، ص : ٢١٧.

١٤٠