تفسير من وحي القرآن - ج ٢١

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ٢١

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٦٠

على مواقع المسؤولية في آفاق الله ، (فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ) فانكشفت لك الحقيقة الإيمانية بكل وضوحها وإشراقها ، (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) لا يخفى عليك أيّ شيء تحتاج إلى رؤيته ، لأن الوضوح في قضايا الآخرة لجهة حساب الثواب والعقاب ، ولجهة المصير في رضوان الله وسخطه ، يفرض نفسه بحيث لا يترك مجالا للتعلّل بأيّ خفاء في الحقيقة ، في ما يعتذر به الشاكّون أو الجاحدون من عدم الوضوح.

* * *

١٨١

الآيات

(وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (٢٣) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (٢٤) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (٢٥) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (٢٦) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٢٧) قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (٢٨) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (٣٠) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (٣١) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (٣٢) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (٣٣) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (٣٤) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) (٣٥)

* * *

معاني المفردات

(عَتِيدٌ) : حاضر ومهيأ.

(عَنِيدٍ) : المعنى هنا : الذاهب عن الحق.

١٨٢

(أَطْغَيْتُهُ) : أجبرته على الطغيان.

(وَأُزْلِفَتِ) : قرّبت وأدنيت.

(أَوَّابٍ) ؛ من الأوب ، بمعنى : التوّاب الراجع إلى الطاعة.

(مُنِيبٍ) : راجع إلى الله.

* * *

حوار الإنسان مع قرينه يوم القيامة

وتبقى السورة على تحركها في أجواء القيامة التي يقف فيها الإنسان الكافر العنيد ، والمتقي المؤمن ، ليواجه كل منهما الموقف الحاسم الذي يحدّد مصيره النداء الإلهي الذي يأمر بالعذاب أو الثواب بشكل مباشر.

(وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ) ما المراد بالقرين هنا؟ هل هو الملك الذي يسوق الإنسان ليقدّمه إلى الله في مقام الحساب باعتبار أن الملك هو الذي كان يرافقه بحكم وظيفته في تسجيل أعماله؟ أم هو الشهيد الذي يشهد عليه بما عمله ويقدِّم أعماله بين يدي الله؟ أم هو الشيطان الذي يصاحبه ويزيّن له معاصيه ، لتكون المسألة كناية عن النهاية التي يوصل الشيطان صاحبه إليها في نار جهنم؟

وربما كان الأقرب إلى السياق هو الاحتمال الأول باعتبار أنه هو من يقدم هذا الشخص إلى الله معه بعد انتهاء مسئوليته ؛ والله العالم.

وينطلق النداء من الله سبحانه ليصدر الأمر بدخوله إلى نار جهنم (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ) ينطلق كفره من موقع العناد لا من موقع الفكر القائم على الحجة ، (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) لأنه لا يختزن الروحية الإيمانية التي تدفع الإنسان طواعية إلى فعل الخير والتشجيع عليه ، بل يعيش الأنانية التي تتعقد من الخير الذي يفعله الآخرون ، لأنه يثير في ذاته عقدا تمنعه عن العطاء وتجعله يرفض فعله من

١٨٣

الغير ، حتى لا يكون حجة عليه أمام الناس ، (مُعْتَدٍ مُرِيبٍ) لأن أنانيته تحركه نحو احتواء كل شيء لنفسه ، مما يجعله مستعدا للاعتداء على حقوق الناس بكل الأساليب التي تنطلق من شخصيته المريبة المختنقة بكل مشاعر الحسد والريب (الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ).

(قالَ قَرِينُهُ) الشيطاني الذي يقف موقف المسؤول عن ضلال صاحبه ، لأنه كان يحركه نحو الغواية ويدفعه إلى ساحات الضلال ، وهو الآن يعتذر عن موقعه ذاك ، ليبعد نفسه عن المسؤولية بعنوا أن الضلال يخضع لإرادة صاحبه الذاتية : (رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ) في طغيانه عليك وتجاوزه لحدودك ، (وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) فقد كان ضلاله خاضعا لروحية الضلال فيه ، فلم يكن موقفه هذا ناشئا عن إغواء خارجي ، بل هو ناشئ من الانحراف الداخلي الذي يختزنه في شخصيته.

ونستوحي من هذا المنطق الدفاعي ، أن هذا الكافر العنيد كان يحاول التهرب من مسئولية كفره ليضعها على عاتق هذا القرين أمام الله ، مما جعل القرين يدافع عن نفسه بهذه الطريقة في موقع التخاصم ، ولهذا جاء الجواب الزاجر من الله سبحانه لهما معا :

(قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَ) سواء كنتم من الظالمين أو من المضلّلين ، فليس هناك فرق بين أن يكون هذا الكافر خاضعا لضلال قرينه أو غير خاضع له ، لأن ذلك ليس عذرا له بعد أن أقام الله عليه الحجة القاطعة بالأسس التي يرتكز عليها الهدى في قاعدته الفكرية وخطّه العملي ، (وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ) والتحذير من يوم القيامة ، وتلك هي الكلمة الفاصلة التي يرتبط فيها المصير بالعمل ، ليكون الجزاء من نوع العمل (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ) في ما حددته من الكلمة الحاسمة في يوم الفصل ، (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) فقد جاء الحكم منسجما مع سلوكهم المنحرف عن الخط المستقيم ..

* * *

١٨٤

المصير النهائي في جهنم أو في الجنة

وهكذا يندفع كل هؤلاء المجرمين إلى نار جهنم التي تنتظر القادمين إليها من قاعدة كفرهم وإجرامهم ، (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ) بالناس الذين كفروا بالله وتمردوا عليه فلم يبق هناك مجال للزيادة ، ولكنها تستزيد (وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) فلا يزال هناك أكثر من مكان لأكثر من قادم جديد ، وربما كان هذا السؤال والجواب كناية عن اتساعها لكل الكافرين والمجرمين الذين فرضت إرادة الله دخولهم جهنم التي لا تضيق بهم ولا عنهم ، بل تسعهم جميعا.

(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ) أي أدنيت إليهم وقرّبت إلى مواقعهم كأنها تقدّم إليهم دون حاجة إلى أن يبذلوا أيّ جهد للوصول إليها ، كرامة لهم ، وكناية عن الرغبة في بذل الراحة لهم بكل الوسائل ، (هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ* مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) لأنهم لم يحتاجوا في الإيمان والالتزام به إلى الحسّ المباشر ، بل عاشوا الإحساس بوجوده وتوحيده بعمق فطرتهم ، حتى كأنه ماثل أمامهم بقوة تفوق قوة ما يراه الحسّ ، (وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) راجع إلى الله في كل أموره وفي كل تطلعاته وتوجهاته في مسألة الإيمان وفي قضايا الحياة.

(ادْخُلُوها بِسَلامٍ) فليس هناك أيّ خوف أو مكروه أو سوء ، مما قد يخشاه الإنسان لدى الدخول إلى أيّ مكان لا يعرف ما في داخله. وينطلق النداء بكل رحمة ومحبة ووداعة ليعمِّق في داخلهم السكينة الروحية التي لا مجال للقلق معها ، وليبشرهم بالخلود الذي هو عنوان هذا اليوم الذي يبدءون به حياتهم الجديدة : (ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ) الذي لا موت فيه.

(لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها) مما يتمنونه وتشتهيه أنفسهم من اللذائذ والشهوات ، وتتطلع إليه نفوسهم من رغبات ، (وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) مما لا تبلغه رغباتهم ، ولا تصل إليه تصوراتهم ، في ما أعدّه الله من النعيم لعباده المتقين.

* * *

١٨٥

الآيات

(وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (٣٨) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ(٤٠) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٤١) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (٤٢) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (٤٣) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (٤٤) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) (٤٥)

* * *

معاني المفردات

(فَنَقَّبُوا) : فساروا.

(مَحِيصٍ) : محيد.

١٨٦

(قَلْبٌ) : هنا بمعنى العقل.

(أَلْقَى السَّمْعَ) : استمع.

(شَهِيدٌ) : حاضر وشاهد.

(لُغُوبٍ) : تعب.

(وَأَدْبارَ) ؛ الأدبار : جمع دبر ، وهو ما ينتهي إليه الشيء وبعده.

(تَشَقَّقُ) : تتشقق : أي تتصدّع.

(سِراعاً) : مسارعين.

* * *

(كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ)

(وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ) من الناس الذين كانوا يمثلون المجتمع البشري في المراحل الزمنية السابقة ، (هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً) إذ كانوا يملكون القوّة والعدد والحضارة ، بالمستوى الذي لا يصل إليه من يكذبونك ويقفون ضد رسالتك ، وذلك من خلال سنّة الله الذي جعل للأمم عمرا محدودا وسببا للهلاك ، (فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ) وطافوا فيها واستولوا على خيراتها ، وبحثوا عن السبل التي تتيح لهم النجاة من الموت ، والهرب من قضاء الله ، فلم يجدوا سبيلا إلى ذلك ، ووقفوا أمام الطريق المسدود ليتساءلوا ، أو ليفرض الواقع عليهم السؤال في معرض الاستنكار : (هَلْ مِنْ مَحِيصٍ) أي هل من مهرب من الموت؟ فهل ينتظر قومك في مصيرهم غير ما حلّ بمن قبلهم من الناس (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) أي عقل يفكر فيه ، فيقيس الحاضر بالماضي ، ويأخذ منه الدرس للمستقبل ، (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ) أي اتجه بسمعه إلى حكاية التاريخ المشتمل على العبر والعظات ، (وَهُوَ شَهِيدٌ) حاضر بعقله وسمعه ، مستوعب لكل دروس الحياة المتحركة بأمر الله ، فلا يغيب عنه شيء مما حوله ، أو ممن حوله.

١٨٧

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) بكل ما توحي به من عظمة الخلق ، وجلال الصنع ، ودقة النظام ، وروعة الإبداع ، (وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) لأن الله ، في قدرته المطلقة ، لا يعرض على ما يعرض على المخلوقين من جهد وعناء ، فلا يعجزه شيء من مخلوقاته ، كما لا يعجزه الخلق نفسه بكل ما فيه من جوانب العظمة والإبداع.

* * *

اصبر على ما يقولون

(فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) مما يثيرونه حولك من شبهات وافتراءات وأكاذيب واتهامات ، فإن الرسالة لا تستطيع أن تشق دربها في عقول الناس وفي حياتهم ، إلا عبر مواقع الصراع ومقارع التحديات التي تحرّك المشاعر ، وتزرع الشكوك ، وتثير المشاكل ، الأمر الذي يستدعي من الرسل والرساليين الصبر وإعداد خطة ممتدة في الزمن لاحتواء الفكر كله بالحجة والبرهان والسيطرة على الواقع ، وتجاوز ضغط الظروف الصعبة والمراحل القاسية ، ليكون النصر حليف الرسالة في كل مسيرتها في حياة الناس ، لأن الزمن كفيل بتجاوز كل المشاكل الصغيرة في نطاق الحركة في القضايا الكبيرة.

(وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) فإن التسبيح بحمده يفتح كيانك على الإحساس بعظمته في ما يوحي به ذلك من احتقار كل من عداه ، وليكن تسبيحك (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) لتبدأ يومك في صلاة الفجر بالانفتاح على الله ، ليكون يوما إلهيا على طريق رضوانه والثقة به ، (وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) عند ما يتوسط النهار في صلاة الظهر والعصر ، ليتوقف الإنسان الداعية ، من رسول وغيره ، أمام كل ما يثيره جو الحركة العامة في حياته وحياة الآخرين من أوضاع وتحديات ، ليكون التسبيح مصدر ثقة روحية للثبات في الموقف ، (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) في صلاتي

١٨٨

المغرب والعشاء ، (وَأَدْبارَ السُّجُودِ) في التعقيب الدعائي أو الصلاتي في ما يستحبه الله من ذلك.

(وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) عند ما يحين موعد القيامة ، حيث ينطلق النداء الإلهي الذي يسمعه الجميع ، تماما كما يسمعون الصوت القادم من مكان قريب ، ليبعث الناس من قبورهم للوقوف بين يدي الله ، (يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ) التي يسمعها الناس (بِالْحَقِ) الذي لا ريب فيه ، (ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ) من القبور إلى لقاء الله ، (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ) لأننا نملك الوجود كله في بدايته ونهايته ، كما نملك إبداعه من جديد في قيامة الإنسان أمام قضية المصير.

* * *

تشقّق الأرض يوم القيامة

(يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً) أي تتصدع الأرض التي يرقدون داخلها ليخرجوا منها مسارعين إلى دعوة الداعي في يوم الله ، (ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ) لأن الله لا يتعسر عليه شيء من أمور خلقه ، (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ) من كل ما يتآمرون عليه في الخفاء للوقوف ضد الرسالة والرسول ، وفي كل ما يلفِّقونه من اتهامات وأكاذيب ، ومن أفكار يواجهون بها حقائق الإيمان. (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) تتحرك بينهم من موقع السيطرة القاهرة التي تلغي إرادتهم وتفكيرهم لتجبرهم على الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر ، لأن الله لا يريد للقناعات أن تخضع للضغط الذي لا يسمح للفكرة أن تنطلق بهدوء ، وللفكر أن يتحرك بالحوار ، بل أراد للأسلوب العقلاني الهادىء المتوازن القائم على أساس الحوار ، أن يذكّر الناس ويخرجهم من أجواء الغفلة ، لذلك (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ) الذي يشتمل على كل حقائق العقيدة ونهج العمل (مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) ممن يتحرك قلبه فيخشع لكل كلمات التذكر المنطلق من عمق الروح وصفاء العقل.

* * *

١٨٩
١٩٠

سورة الذّاريات

مكيّة

وآياتها ستّون

١٩١
١٩٢

في أجواء السورة

هذه السورة التي سميت باسم أوّل كلمة فيها ، هي من سور العقيدة التي كان القرآن المكي يستهدف تعميقها في وجدان الإنسان الإيماني ، ليبعد الذهنية العامة في تلك المرحلة وفي كل مرحلة ، عن الشرك العقيدي أو العبادي الذي يتحول إلى ما يشبه الفوضى الروحية ، حيث يعيش الإنسان الحيرة والتخبط بين أصناف الآلهة المتعددة بتعدد القبائل والبلدان والأشخاص ، مما لا يستقر معه على قاعدة ثابتة توجّه حياته في اتجاه صحيح.

ومن هنا ، كان تأكيد السورة على التوحيد الذي يرى الإنسان به الله وحده ؛ في الرزق الذي هو في السماء في ما يقدره الله للإنسان في الأرض ، وما يمنحه من الطمأنينة في تقديره الذي يغطي للإنسان حاجاته ، فلا يحس بالضياع معه ، وفي تخطيطه التشريعي ، فلا يشعر معه بالأنانية ، بل يطل من خلاله على السائل والمحروم ، ليكون ذلك عنوانا من عناوين التقوى.

ثم يثير الحديث عن العبادة ليجعل منها غاية خلق الجنّ والإنس ، بمعناها الذي يطال كل شؤون الحياة ، ليلتقي الإنسان بها من وحي الوحدة في التصور والتوجه والانقياد والتخطيط لكل ما حوله مما يتصل بعلاقة الإنسان بالله ودوره في الحياة ، في ما تفرضه هذه العلاقة من شروط وأوضاع.

وفي هذا الجو كله ، تنفتح السورة على خلق الأرض التي مهّدها ، وبنيان

١٩٣

السماء التي تتسع وتتسع في علم الله بقوّته التي لا يعجزها شيء ، وحركة الزوجية في الكون.

ويتصل ذلك كله بالمعاد باعتبار أنه المضمون الروحي للمسؤولية ، والغاية التي تخرج الحياة من العبثية ، ليكون الإيمان بالتوحيد في خط الرسالة حركة إيمانية عملية تتعلق بالمعاد كنتيجة نهائية لوعي المسؤولية في حركة الحياة والإنسان.

وتتحرك السورة مع إبراهيم ولوط وموسى ونوح وصالح وهود عليهم‌السلام ، ومع الأمم التي عاشوا معها ، في حركة سريعة أثارت بعض القضايا وأشارت إلى مواقع الإنذار ، فربطت تاريخ الرسالة الأخيرة بتاريخها القديم ، ليتصل الحاضر بالماضي في الأسس العامة للرسالة في فاعليتها وجهادها وصبرها وحركتها وكل مواقعها في ساحة الصراع.

* * *

١٩٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الآيات

(وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (١) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (٢) فَالْجارِياتِ يُسْراً (٣) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً(٤) إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (٥) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (٦) وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (٧) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (٨) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (٩) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ(١١) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (١٢) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (١٣) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) (١٤)

* * *

معاني المفردات

(وَالذَّارِياتِ) : جمع ذارية ، من قولهم : ذرت الريح التراب تذروه ذروا إذا طيّرته.

(فَالْحامِلاتِ) : السحاب.

(فَالْجارِياتِ) : السفن.

(الْحُبُكِ) : الطرائق الحسنة.

١٩٥

(مُخْتَلِفٍ) : متناقض.

(يُؤْفَكُ) : يصرف.

(الْخَرَّاصُونَ) : الكذابون.

(غَمْرَةٍ) هنا : بمعنى شبهة وغفلة ، أي : غمرهم الجهل.

(يُفْتَنُونَ) : يعذّبون.

* * *

(وَالذَّارِياتِ ذَرْواً)

(وَالذَّارِياتِ ذَرْواً) الواو للقسم ، المراد بالكلمة الرياح الذي تذرو التراب ، وربما يمتد المعنى ليشمل ما تذروه من حبوب لقاح وسحاب وغيرهما مما يمكن أن تتسع له الكلمة في المعنى الشموليّ الذي يطلّ على ما كان الإنسان يجهله من مواقعها في الذهنية العامة المألوفة.

(فَالْحامِلاتِ وِقْراً) أي السحب الحاملات الماء الذي يثقلها ، يسوقها الله إلى حيث يريد من مواقع نزول المطر ، (فَالْجارِياتِ يُسْراً) وهي السفن التي تخضع في سيرها في البحار والأنهار لقوانين إلهية تتصل بحركة الماء والريح ، تجعل من ذاك السير يسيرا وسهلا على سطح الماء بقدرة الله سبحانه.

(فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً) والمرويّ ، أن المراد بها الملائكة التي تحمل أوامر الله في أرزاق العباد وأوضاعهم وأعمارهم ، مما جعله الله من مهمّاتهم في دائرة أدوارهم الواقعية العملية.

ولعلّ القسم بما مرّ ، يوحي بالتدبير الإلهي الذي يطّلع عليه الإنسان بإحساسه الخارجي أو الداخلي ، من أجل أن يتعمّق وعيه بأنه لا يعيش في كون ضائع في حركته وفي أوضاعه ، بل يعيش في كون منفتح على الله في رعايته وعنايته ، خاضع لتدبيره في ما خلقه الله من الوسائل التي تحرك النظام الكوني

١٩٦

والإنساني بحكمته ، وقد جاء في تفسير الميزان أن : «الآيات الأربع ـ كما ترى ـ تشير إلى عامّة التدبير ، حيث ذكرت أنموذجا ممّا يدبّر به الأمر في البرّ وهو الذاريات ذروا ، وأنموذجا مما يدبّر به الأمر في البحر وهو الجاريات يسرا ، وأنموذجا مما يدبّر به الأمر في الجوّ وهو الحاملات وقرا ، وتمّم الجميع بالملائكة الذين هم وسائط التدبير وهم المقسّمات أمرا» (١).

وهو التفات لا يخلو من طرافة.

وقد جاء في البحار أن ابن أبي الكوّاء سأل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام : «ما (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً)؟ فقال : الرياح ، فقال : وما (فَالْحامِلاتِ وِقْراً)؟ قال : السحاب ، قال : (فَالْجارِياتِ يُسْراً)؟ قال : الفلك ، قال : (فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً)؟ قال : الملائكة» (٢) ، وقد ورد الحديث عن ذلك في تفسير ابن كثير (٣).

وعن الفخر الرازي في التفسير الكبير ، أن الأقرب حمل الآيات الأربع جميعا على الريح ، فإنها كما تذرو التراب ذروا ، تحمل السحاب الثقال وتجري

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٨ ، ص : ٣٦٩.

(٢) البحار ، م : ١٣ ، ج : ٤٠ ، باب : ٩٣ ، ص : ٣٢٨ ، رواية : ٥٤.

(٣) قال شعبة بن الحجاج عن سماك ، عن خالد بن عرعرة ، أنه سمع عليا رضي الله عنه ، وشعبة أيضا عن القاسم بن أبي بزة ، عن أبي الطفيل ، أنه سمع عليا رضي الله عنه ، وثبت أيضا من غير وجه عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، أنه صعد منبر الكوفة ، فقال : لا تسألوني عن آية في كتاب الله تعالى ، ولا عن سنَّة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلا أنبأتكم بذلك ، فقام إليه ابن الكواء ، فقال : يا أمير المؤمنين ، ما معنى قوله تعالى : (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً)؟ قال علي رضي الله عنه : الريح ، قال : (فَالْحامِلاتِ وِقْراً)؟ قال رضي الله عنه : السحاب ، قال : (فَالْجارِياتِ يُسْراً)؟ قال رضي الله عنه : السفن ، قال : (فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً)؟ قال رضي الله عنه : الملائكة.

[ابن كثير ، أبو الفداء ، إسماعيل بن كثير القرشي ، تفسير القرآن العظيم ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ـ لبنان ، ج : ٤ ، ص : ٣٧٥].

١٩٧

في الجو بيسر وتقسم السحب على الأقطار من الأرض (١). ولكن لا شاهد له ، بالإضافة إلى أنه قد لا ينسجم ، بحسب التعبير البلاغي ، مع بعض الكلمات ؛ والله العالم.

(إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ) هذا هو جواب القسم الذي أراد الله فيه أن يؤكد لهؤلاء الذين يقفون ضد الرسالة ، صدق الحديث عن المعاد الذي يواجهون فيه الموقف أمام الله ، (وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ) وهو الجزاء بالإحسان لمن عمل إحسانا وبالسوء لمن عاش حياة السوء.

وفي ضوء ذلك ، لا بد لهم من الالتفات إلى ذلك ، والاستعداد له ، ليبتعدوا عن مواقع الهلاك في المصير.

* * *

(قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ)

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ) التي بناها الله بتناسق محكم في نظامه ، تماما كما هو الزرد المنسّق المتشابك المتداخل الحلقات ، كما قيل ، ويذكر سيد قطب في تفسيره «في ظلال القرآن» أن هذه «قد تكون إحدى هيئات السحب في السماء حين تكون موشاة كالزرد مجعّدة تجعد الماء والرمل إذا ضربته الريح ، وقد يكون هذا وضعا دائما لتركيب الأفلاك ومداراتها المتشابكة المتناسقة» (٢).

(إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) وهذا هو جواب القسم بالسماء ، الذي يريد أن يؤكد واقع القول المختلف في مضمونه وأبعاده ، فلا يرجع إلى قاعدة واحدة ،

__________________

(١) انظر : الفخر الرازي ، التفسير الكبير ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ـ لبنان ، ط : ٣ ، م : ١٤ ، ج : ٢٨ ، ص : ١٩٥.

(٢) قطب ، سيّد ، في ظلال القرآن ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ـ لبنان ، ط : ٥ ، ١٣٨٦ ه‍ ـ ١٩٦٧ م ، م : ٧ ، ج : ٢٧ ، ص : ٥٧٣.

١٩٨

لأن الرأي عندهم يخضع للظن والتخمين ، دون اعتماد الأسس العلمية التي تؤدي إلى اليقين في مواقع الحوار مما يمكن أن يلتقي عليه الجميع. ولعل مكمن التناسب بين السماء ذات الحبك والتأكيد على القول المختلف ، هو أن التناسق في السماء ينبغي أن يوحي لهم باتخاذ موقف متناسق يقوم على قاعدة ثابتة ، خلافا لما هم عليه من اختلاف في مواقفهم ومواقعهم ، (يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) أي يصرف عنه من صرف ويبقى عليه من بقي.

(قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) الذين يبنون أحكامهم وقناعاتهم على الظنّ والحدس ، فيسيئون إلى الحقيقة ، عند ما يبعدونها عن العناصر اليقينية التي تؤكدها وتفتح عليها أكثر من نافذة. والدعاء عليهم بالقتل والهلاك أسلوب كنائيُّ للدعوة إلى سقوط مثل هذا الأسلوب في تكوين القناعات.

(الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ) أي في غفلة واستغراق في الأضاليل والأوهام التي يحركونها في خيالاتهم ، فيقودهم ذلك إلى السهو عن الله وعن حقائق العقيدة ، فيتساءلون فيما بينهم ، تساؤل الحائر الذي لا يجد أمامه ما يخلّصه من حيرته ، تماما كما لو كان بعيدا عن مواقع المعرفة وهي مطروحة بين يديه ، ولكن غفلته هي التي تبعده عنها (يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) كما لو كانوا لا يعرفونه ، فهم ينكرونه من قاعدة العناد والاستكبار لأنهم لا يريدون الاعتراف بالحقيقة الإيمانية الصارخة.

وتأتي الآية لتصدمهم بما سيواجهونه من حرارة نار جهنم ولهيبها ، كأنها تقول : هل هم جاهلون بهذا اليوم؟ (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) أي يختبر بالنار جوهرهم الحقيقي كما تختبر جودة المعدن في النار ، وهو وارد على سبيل الكناية للتعبير عن الإحراق والتعذيب ، (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ) أي ما يخصكم من العذاب ، (هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) في ما كنتم تتحدثون عنه بطريقة السخرية والاستهزاء.

* * *

١٩٩

الآيات

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (١٩)

* * *

معاني المفردات

(يَهْجَعُونَ) ؛ الهجوع : النوم ليلا.

* * *

المتّقون في جنات وعيون

وهذا نموذج آخر يختلف عن نموذج المكذبين ، فهؤلاء عاشوا تقوى الفكر ، فآمنوا بالعقيدة من موقع اليقين القائم على العلم المنفتح على الحوار وعلى رحاب الحجة والبرهان ، وعاشوا الإيمان من موقع الالتزام والانضباط على الخط الذي لا يهتز ولا ينحرف.

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ) تمتد فيها الخضرة امتداد البصر ، وتتدلى فيها الفواكه

٢٠٠