تفسير من وحي القرآن - ج ٣

السيد محمد حسين فضل الله

١
٢

٣
٤

سُورَةُ البَقَرة

مدَنيَّة

وَآياتَها مئتَان وَسَبع وَثمانون

(١٢٤ ـ ١٧٨)

٥
٦

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الآية

(وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (١٢٤)

* * *

نموذج الشخصية النبوية

يدور الحديث هنا ، عن بعض الجوانب الحيّة من شخصية إبراهيم عليه‌السلام في رسالته ، حيث نلاحظ في هذه الشخصية التي يصوّرها القرآن طابعا مميزا في ما يتحدث الله عنه ، في صفاته الذاتية من الملكات الروحية التي تزخر بها روحه وتتحرك بها حياته ، وفي مواقفه الإيمانية الرسالية المتمثلة في هذا الاستسلام المطلق لله في أشدّ المواقف صعوبة وحراجة ، سواء في ابتلاء الله في ذبح ولده أو في موقفه من أبيه ومجابهته

٧

لقومه ومواجهته لطاغية زمانه ، من دون أن نلمح في أيّ موقف من هذه المواقف شعورا بالضعف أو الإحراج أو الصعوبة ، بل هو الانسجام القوي مع المهمة والمسؤولية ، والانطلاق معها في قوّة وإخلاص ، والانسياب الروحي في عمق الإيمان الكبير بالله الذي يتفايض بالحب والوداعة والحياة في كل كلمة وفي كل موقف ، فلا نجد ، حتى في أشدّ المواقف صعوبة وخطورة ، أيّ ابتعاد عن جو الإيمان ، أو أيّ غياب عن الله ، بل هو الحضور الدائم الذي يشعر معه بوجود عين نفّاذة في القلب والضمير واللسان والفكر والشعور والوجدان وهي تحدّق بالله هنا وهناك ، في كل مظهر من مظاهر الخلق وفي كل سرّ من أسرار الوجود.

وفي هذا الجو الرائع من ملامح شخصيته ، يمكن للعاملين ، في كل زمان ومكان ، استيحاء هذا النموذج النبوي الرسالي في وداعة الروح الرسالية وصفائها ، وفي استغراقها في الله في حضور روحيّ منفتح لا في غيبوبة صوفية غارقة في الضباب.

وقد لا تكون شخصية النبي إبراهيم عليه‌السلام هي النموذج الأوحد للأنبياء في هذا الفيض الروحي من الإيمان والوداعة والصفاء ، ولكن القرآن لم يفض في الحديث عن نبي من الأنبياء كما أفاض في الحديث عن إبراهيم عليه‌السلام في التأكيد على ملامح الشخصية الواحدة المتنوعة في مجالاتها مع وحدة المشاعر وطهارتها وصفائها ، فإننا نلاحظ ، في ما يأتي من حديث التفسير ، أنه أثار أمامنا قضية إيمانه في حوارة مع نفسه ومع قومه ومع الله ، فنجد أنه يأخذ مساحة كبيرة من قصته ، وقد لا يكون من الضروري أن تتحرك القصة من موقع المعاناة الذاتية لإبراهيم عليه‌السلام في كل ما قاله ، فربما كانت بعض الأحاديث أسلوبا من أساليب الرسالة في عرض الفكرة بطريقة الحوار .. ولكنها لا تخلو من إيحاء بالروح التي توحي بهذه الكلمة أو تلك ، أو بهذا الأسلوب أو ذاك ، فإن للكلمات وللأساليب روحا لا تختفي في المعنى اللغوي للكلمات ، أو في

٨

القواعد الفنية للأساليب ، بل تنطلق من عمق الروح التي تنطق بالكلمة وتتحرك في الأسلوب.

وربما كان للأبوّة النسبيّة للرسل من بعده ، وللأبوّة الروحية للرسالات المتأخرة التي يمتاز بها إبراهيم في شخصه ورسالته ، أكبر الأثر في ذلك ، انطلاقا من الشعور الذاتي الذي يربط كل أتباع الديانات به ، مما يجعل للإيحاء بملامح الشخصية عمقا يتصل بالمشاعر الحميمة من جهة ، وبالقداسة الإيمانية من جهة أخرى ، ولا سيّما أننا لا نجد في التفاصيل التي نقلها القرآن لنا من رسالته أيّ اختلاف مع الرسالات الأخرى ، في التفاصيل التي تختلف فيها الرسالات حسب اختلاف المراحل الزمنية التي تؤدي إلى ذلك في حدود المفهوم والتشريع ، فقد يكون ذلك سببا في تأكيد شخصيته باعتباره ملتقى للرسالات من جهة ، وللرسل من جهة أخرى ، فيمكن اعتبار رسالته حكما في مواضع الاختلاف بين أتباع الرسل ، كما يمكن أن تكون شخصيته نموذجا موحّدا في ما يتنازعون فيه من شخصيات الأنبياء.

وعلى أيّ حال ، فإننا نشعر بالحاجة الرساليّة إلى الامتداد في الأجواء الرحبة لهذا النبي العظيم ، لنستعين بذلك على صنع الشخصية الإسلامية في النماذج الرائعة من مواقفه وأساليبه وإيمانه.

* * *

اختبار الله لإبراهيم

ونلتقي في هذه الآية بإبراهيم ، في موقف الإنسان الذي يتعرض للابتلاء والاختبار ليظهر ، من خلال ذلك ، ما يملك من طاقات كبيرة تؤهله لحمل الرسالة وللقيادة ، ونلاحظ أن القرآن قد أجمل الكلمات التي كانت

٩

وسيلة للابتلاء فلم يفصح بالحديث عنها ، ولكنه حدّثنا عن إتمامها من دون أن يتضح هل كان الإتمام من إبراهيم عليه‌السلام أو من الله في ما يحتمله الضمير في الكلمة ، ولم يفصّل لنا كيف كان هذا الإتمام ، هل هو في وعي إبراهيم عليه‌السلام للكلمة وحفظها في فكره في مقابل النسيان ، أم في تجسيدها العملي في الواقع التطبيقي للحياة ، لأن القضية لا تختلف باختلاف التفاصيل في ما يريد القرآن أن يفيض فيه أو يفصح عنه من انطلاق العهد الإلهي من موقع الاختبار والكفاءة لا من موقع الاختيار التلقائي ، فإن ذلك هو ما نحتاج أن نتعرفه ، أمّا التفاصيل ، فقد يحتاج المؤمنون الذين عاشوا في عهد إبراهيم أن يعرفوها لأنها تتصل بخطواتهم الفكرية والعملية في الحياة ، ولا بد أن يكونوا قد عرفوها في ما دعاهم إليه من أحكام وتعاليم.

* * *

نجاح إبراهيم في الاختبار وجعله إماما للناس

(وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ) أي اختبره في حركته في خط المسؤولية الرسالية التي تعمل على تغيير الحياة ، من الواقع الكافر الضالّ إلى الواقع الإيماني المستقيم في الخط الذي يحقق للإنسان سعادته في الدنيا والآخرة ، ليظهر إخلاصه لله وقدرته على تحمّل المسؤولية ، كما يختبر الله رسله وعباده الصالحين في المواقع الصعبة التي تتحدى طاقاتهم لتعبّر عن نفسها بقوّة وصلابة وإخلاص ، (بِكَلِماتٍ) مما أوحى به إليه من آياته في الصحف التي أنزلها عليه ، وفي المسؤولية المتنوعة التي حمّله إياها ، (فَأَتَمَّهُنَ) ووفّاهنّ حقّهن بالدعوة تارة وبالانقياد أخرى ، وبالحركة المتحدية في مواجهة الكفر والاستكبار ثالثة ، فلم ينقص شيئا من دعوته ، ولم يهمل موقفا من مسئوليته ، ولم يبتعد خطوة واحدة عن ساحات التحدي الكبير ، وبذلك استحق درجة

١٠

القدوة الحسنة الكبيرة التي يراد للناس الأخذ بها وموقع الولاية التي هيّأه لها ، لتفتح النبوّة المنطلقة في خط التبليغ على الإمامة المتحركة في خط الواقع ، مما يوجد تكاملا بينهما لا انفصالا. وهناك وجه آخر لتفسير (فَأَتَمَّهُنَ) بإرجاع الضمير إلى الله في إتمام كلماته ، (قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) في تطوّر النبوة ـ الدعوة إلى الإمامة ـ الحركة.

وربما كانت المسألة كناية عن الرسالة كلها في خطها الفكري والعملي ، بحيث يكون الاختبار الإلهي بالكلمات واستيعاب إبراهيم لهن في موقع التكليف بالرسالة ، حركة مترتبة متدرجة ، إذ لا دليل على أنّ الجعل كان بعد النبوّة ، بل كل ما هناك أنّ الآية توحي بأن ثمّة هناك إيحاء من الله بالكلمات الرسالية ، وإعلانا له بأنها تمثل خط الإمامة بمعنى الولاية النبوية والقدوة الحركية في حياته. وقد لا نجد في القرآن الكريم أيّ شاهد على أن الإمامة تحمل مفهوما مقابلا للنبوّة في مفهومها الواقعي العام ، لأن الوحي الذي ينزل على النبي أو الرسالة التي يحملها الرسول ، ليسا تعبيرا عن حالة ثقافية في وعي النبي ترتبط بذاته أو تنفتح على غيره في عملية سماع مجرّد لآياتها ، بل هما معنيان حركيان في عملية الاهتداء والاقتداء والمتابعة ، مما تختزنه كلمة الإمامة في مضمون الائتمام الذي يعني الاقتداء والمتابعة ، مما تختزنه كلمة الإمامة تعالى : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ) [الأنبياء : ٧٣]. وقوله تعالى : (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ) [السجدة : ٢٤]. فإن الصفات المذكورة للأئمة هي صفات الأنبياء في مهمّة نبوّتهم ورسالتهم ، من الهداية بأمر الله والوحي المنفتح على فعل الخيرات ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، من خلال وعيهم اليقيني لآيات الله ، وصبرهم الحركي في مواجهة التحديات والعقبات من قبل أعداء الله. وأمّا ما استدل به البعض أن مورد الآية قد جاء في أواخر عهد إبراهيم عليه‌السلام بعد كبره وولادة إسماعيل وإسحاق له ،

١١

وذلك لكونه لم يكن يعلم عليه‌السلام أنه ستكون له ذرية تخلفه إلا من بعد ما بشرته الملائكة بالأولاد ، مما يلزم عنه أن الإمامة المجعولة لإبراهيم عليه‌السلام هي غير النبوّة ، لا يصلح دليلا على الموضوع ، إذ من الممكن للإنسان أن يتحدث عن مستقبل أولاده الذين يرجو أن يرزق بهم ـ بحسب طبيعة الأنبياء ـ لاهتمامه بامتداد الخط في ذريته ، ولا سيما إذا عرفنا أنه لم يتحدث عن ذريته بشكل مباشر بل كان يتحدث عن الأجيال القادمة من أولاده ممن لم يكونوا موجودين.

وقد نستوحي من القرآن أن إبراهيم كان عارفا بطبيعة المهمّة ومطمئنا إليها ، فلما أتمّ الكلمات ، أو أتمّ الله له الكلمات ، ونجح في الامتحان ، لم يفاجأ بالعهد الإلهي في قوله تعالى : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) فلم يصدر عنه أيّ ردّ فعل في ما واجهه من مسئولية جديدة في نطاق ذاته ، بل كان ردّ فعله منطلقا من التفكير في مستقبل العهد وامتداده ، فهل هو من العهود التي تقتصر عليه من خلال المهمّة المحدودة بالزمان والمكان والشخص ، أم هو من العهود التي تمتد بامتداد الذريّة في مدى الزمن ، فتساءل : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) في استفهام متطلّع مستشرف يحمل طابع الأمنية التي يحملها الإنسان في فطرته لذرّيته في كل خير يحصل له. وكان الجواب حاسما ينطلق في عملية تحديد للقاعدة الرسالية التي تبرر إعطاء العهد لأي إنسان في كل زمان ومكان (قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) ، فليست القضية امتيازا إرثيا أو تكريما شخصيا يتصل بالذات ، كما هو شأن الملوك الذين يعيشون هاجس وراثة الملك عند ما يفكرون في الذرية ، بل القضية مسئولية رسالية تتصل بحياة الناس في ما يفكرون وفي ما يعيشون ، وبخلافة الله في الأرض في ما يريد من تنظيم وتدبير ، وبعبادة الله الواحد الأحد في ما تحقق من وحي وما تثير من روحانية ، فلا بد لمن يحملها من كفاءة روحية وفكرية وعملية في ما تمثله الكفاءة من معاني الاستقامة والانسجام مع الخط العام للرسالة وللدعوة ، فهي

١٢

عهد الله الذي يجعله للصالحين من عباده المنسجمين مع خط العدل في أنفسهم من أجل أن يقوم الناس بالقسط ، فلا ينال عهده الظالمين الذين يظلمون من فوقهم بالمعصية ، ومن دونهم بالغلبة ، ويظاهرون القوم الظلمة ، كما جاء في نهج البلاغة عن الإمام علي عليه‌السلام في الكلمات القصار : للظالم من الرجال ثلاث علامات : يظلم من فوقه بالمعصية ، ومن دونه بالغلبة ، ويظاهر القوم الظلمة» (١) ، ويظلمون أنفسهم في ذلك كله ، وهكذا كان الجواب دستورا عمليا لكل رسالة ورسول.

* * *

بين الابتلاء والتكريم

وتستوقفنا في التفاصيل التفسيرية للآية نقاط عدة ..

١ ـ إن الابتلاء في كل ما أمر الله به عباده أو نهاهم عنه ـ ومنه ابتلاء الله لإبراهيم ـ لا يراد منه الاختبار من أجل المعرفة ، لأن الله عالم بكل ما سيقع من عباده ، فلا يحتاج إلى أية وسيلة للمعرفة ، بل المراد منه إظهار ذلك ليكون حجّة عليهم في ما لله من حجة ، وتكريما لهم في ما يريد الله لهم من إظهار التكريم.

٢ ـ اختلف المفسرون ، تبعا لاختلاف الروايات ، في معنى الكلمات التي أبقاها القرآن غامضة ، وقد جاء في بعض الأحاديث عن أحد أئمة أهل البيت ، وهو الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام : «أنه ما ابتلاه الله به في نومه من ذبح ولده إسماعيل ـ أبي العرب ـ فأتمها إبراهيم وعزم عليها ، وسلّم لأمر

__________________

(١) ابن أبي طالب ، الأمام علي عليه‌السلام ، نهج البلاغة ، ضبط نصّه ، الدكتور صبحي الصالح ، دار الكتاب اللبناني ، بيروت ـ لبنان ، ط : ٢ ، ١٩٨٢ م ، ص : ٥٣٦ ، حكمة : ٣٥٠.

١٣

الله ، فلما عزم قال الله ثوابا له لما صدّق وعمل بما أمره (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) ، ثم أنزل عليه الحنيفية وهي الطهارة» (١). وقد يبعث هذا الحديث على التأمل في تفسير الإمامة بالنبوّة كما يوحي به جوّ الآية في ما نرى من حديث ، لأن ابتلاء الله لإبراهيم بذبح ولده كان متأخرا عن النبوّة ، لأن الله رزقه به في آخر أيامه ، كما يتحدث القرآن عن ذلك في بشارة الملائكة له به وبأخيه بعد اليأس .. وقد نلتقي بتفسير آخر للإمامة ينسجم مع الحديث في الفقرة الثالثة منه.

* * *

معنى الإمامة

٣ ـ للإمام معنيان : أحدهما ما يوحي به المعنى اللغوي ، وهو : «المقتدى به في أفعاله وأقواله ، والثاني : إنه الذي يقوم بتدبير الأمّة وسياستها والقيام بأمورها ، وتأديب جناتها ، وتولية ولاتها ، وإقامة الحدود على مستحقيها ، ومحاربة من يكيدها ويعاديها» ، وغير ذلك مما يرادف السلطة الكاملة في خطواتها التنفيذية.

«فعلى الوجه الأول ، لا يكون نبيّ من الأنبياء إلا وهو إمام ، وعلى الوجه الثاني ، لا يجب في كل نبي أن يكون إماما ، إذ يجوز أن يكون مأمورا بتأديب الجناة ، ومحاربة العداة ، والدفاع عن حوزة الدين ومجاهدة

__________________

(١) الطبرسي ، أبو علي ، الفضل بن الحسن ، مجمع البيان في تفسير القرآن ، دار المعرفة ، بيروت ـ لبنان ، ط : ١ ، ١٤٠٦ ه‍ ـ ١٩٨٦ م ، ج : ١ ، ص : ٣٧٧.

١٤

الكافرين ، فلما ابتلى الله سبحانه إبراهيم بالكلمات فأتمهن ، جعله إماما جزاء له على ذلك» (١) ، هذا ما ذكره صاحب مجمع البيان.

وقد يكون لهذا الحديث صلة بالحديث عن دور النبوّة ، ولا سيّما دور أولي العزم من الأنبياء ، فهل هو مجرد التبليغ أم يمتد إلى دور التنفيذ؟ ربما يخطر بالبال ـ من خلال متابعة الآيات القرآنية ـ أن الدور النبوي في حياة الناس هو التبليغ والتنفيذ معا ، لأن مهمّة النبوّات هي تغيير العالم والإنسان على الصورة التي يريدها الله في مسيرته ونظامه ، ومن الطبيعي في مثل هذا الاتجاه ، أن يكون النبي هو القائد التنفيذي لعملية التغيير بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ، لأنه الإنسان الوحيد الذي يملك الوعي الكبير المنفتح على تفاصيل عملية التغيير من خلال وعيه للرسالة التي يحملها ويبلغها كأساس للتغيير.

وقد تتضح الصورة أمامنا أكثر إذا تابعنا الآيات القرآنية التي تتحدث عن دور النبوّات في حياة الناس ، وذلك بملاحظة عدة آيات :

(كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [البقرة : ٢١٣].

(لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحديد : ٢٥].

(يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ

__________________

(١) (م. ن) ، ج : ١ ، ص : ٣٨٠.

١٥

الْحِسابِ) [ص : ٢٦].

فقد نلاحظ أن قيام الناس بالقسط والحكم بين الناس بالحق ، والحكم بين الناس في ما اختلفوا فيه ، من أجل إلغاء الاختلاف على صعيد الواقع ، لا يتحقق بالتبليغ المجرّد ، بعيدا عن التحرك العملي للتنفيذ ، ثم إنّ التركيز على اعتبار الحكم متفرعا عن جعل الخلافة يوحي باتجاه الخلافة ـ التي تعني النبوة ـ إلى الجانب العملي في الحياة.

* * *

المدلول القرآني

٤ ـ إن ملاحظة كلمة الإمام في القرآن قد تعطي المعنى المرادف للنبوّة في حديث الله عن الأنبياء ووصفهم بالأئمة ، مما يجعل من الكلمتين تجسيدا لمهمّة واحدة في حركة الرسالة ، وهذا ما نلمحه في الآيات التالية :

(وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ) [الأنبياء : ٧٣].

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ* وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ) [السجدة : ٢٣ ـ ٢٤].

وربما نستوحي من ذلك إرادة الإمامة بمعنى القدوة في الأقوال والأفعال ، وذلك من خلال التركيز في الآيتين على كلمة : (يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) في جانب التبليغ ، والتركيز على كلمة : (لَمَّا صَبَرُوا) في الآية الثانية في جانب الشخصية القيادية التي تمثل الثبات في مواجهة المزالق ،

١٦

مما يجعلها في موقع المسؤولية والقدوة العملية.

وقد تلتقي هذه الفقرة بالآية التي نحن بصدد تفسيرها ، حيث عقّب الابتلاء بجعل الإمامة ، وقد يؤكد انسجام الإمامة مع طبيعة النبوّة إلحاق الوحي بها في قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ) وبذلك تكون الإمامة صفة لحركة النبوّة في الحياة من خلال طبيعة الشخصية التي يملكها النبي ، مما يجعله قدوة في نفسه وموضعا للتوجيه الإلهي للناس بالاقتداء به في قوله وفعله ، أمّا الإمامة بالمعنى الآخر ، فلا نجد في الآية أساسا لاستفادته بتفاصيله المذكورة في علم الكلام ، ولكننا نستطيع استيحاءه من طبيعة المهمّة الموكلة إلى النبي كما ألمحنا إلى ذلك في الفقرة الثانية من الحديث.

وقد نستطيع التأييد لالتقاء كلمة الإمامة المجعولة لإبراهيم بالنبوّة في معناها الواسع ، بالتساؤل الصادر من إبراهيم حول إعطاء هذا الامتياز لذرّيته ، فإن الظاهر أنه كان يقصد النبوّة التي منحها الله له ، وذلك من خلال الجواب بأن عهد الله لا ينال الظالمين ، وذلك لأننا نلاحظ أن كثيرا ما يعبّر عن النبوّة بأنها عهد الله لرسله ولأنبيائه.

٥ ـ تؤكد بعض الأحاديث الواردة عن أئمة أهل البيت عليه‌السلام أن مرحلة الإمامة كانت متأخرة عن مرحلة النبوّة ، فقد ورد في حديث : «عن محمد ابن سنان ، عن زيد الشحام ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : إن الله تبارك وتعالى اتخذ إبراهيم عليه‌السلام عبدا قبل أن يتخذه نبيا ، وإن الله اتخذه نبيا قبل أن يتخذه رسولا ، وإن الله اتخذه رسولا قبل أن يتخذه خليلا ، وإن الله اتخذه خليلا قبل أن يجعله إماما ، فلما جمع له الأشياء قال : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) ، قال : فمن عظمها في عين إبراهيم عليه‌السلام قال : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ). قال : لا يكون السفيه إمام

١٧

التقي (١). ومثله ما رواه سهل بن زياد عن محمد بن الحسين عن ابن أبي السفاتج ، عن جابر ، عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام (٢)

. وقد نحتاج إلى زيادة التأمل في هذه الأحاديث ـ بعد التأكد من صحتها (٣) ـ فإنها جارية على أساس الترتيب بين الصفات المجعولة لإبراهيم عليه‌السلام ، ولكن قد يكون المراد منها تعدد جوانب الشخصية في شخصية إبراهيم في ما أولاه الله من ألطاف وامتيازات نابعة من امتداد المعاني الروحية في حياته ، وعلى ضوء ذلك يكون الترتيب بينها منطلقا من طبيعة العلاقة التي تجعل بعضها متوقفا على توفّر البعض الآخر من دون أن يكون هناك ضرورة لوجود فترة زمنية بين هذه الأمور ، ولعل عظمة الإمامة في وعي إبراهيم كانت منطلقة من شعوره بضخامة الموقع الذي وصل إليه حيث جعل إماما للناس في كل أقواله وأفعاله ، فأصبح يمثّل القاعدة التي ينطلق من خلالها الناس إلى القيم التي يؤمنون بها ، لتكون حياته الوجه الأمثل للقيمة الروحية للحياة ... وبهذا تفترق الإمامة عن النبوّة في مفهومها الداخلي ، فإن النبوّة تعتبر منطلقا للدعوة على أساس الوحي والرسالة ، بينما تعتبر الإمامة قاعدة للاقتداء والاتّباع على أساس الطاقات الفكرية والروحية والعلمية التي يملكها ، فكأن النبوّة صفة تأتيه من الخارج ، أما الإمامة فهي صفة ترتبط بالذات من خلال المعاني الكامنة في الداخل.

__________________

(١) المجلسي ، محمد باقر ، بحار الأنوار ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ـ لبنان ، ط : ١ ، ١٤١٢ ه‍ ، ١٩٩٢ م ، م : ٥ ، ج : ١٢ ، باب : ١ ، ص : ١٢ ، رواية : ٣٦.

(٢) انظر : (م. ن) ، م : ٥ ، ج : ١٢ ، باب : ١ ، ط : ١٢ ، رواية : ٣٧.

(٣) هذه الأحاديث غير صحيحة الإسناد ، ففي الرواية الأولى مجهول «محمد بن سنان» ، وفي الرواية الثانية سهل بن زياد ، وإسحاق بن عبد العزيز «أبي السفاتج». ولذلك لا يعتمد عليها ، كما أن دراسة المضمون تدعو إلى التأمل والمناقشة الحذرة. فإنه لا معنى لاتخاذ الله الإنسان عبدا ، فإنها ذاتية في الإنسان من موقع خلقه ، ومنطقة منه من خلال خضوعه لربه وطاعته له.

١٨

وهناك وجه آخر نحتمله في استيحاء معنى إمامة إبراهيم التي جاءت بعد النبوّة في ما تدل عليه الروايات التي تفسر الابتلاء بقضية ذبح إسماعيل ، وهو أن إمامة إبراهيم ليست محدودة بزمنه كبقية الأنبياء الآخرين ، بل هي إمامة تتعداه إلى ما بعد ذلك من المراحل الزمنية التي عاش فيها الأنبياء الآخرون ، حتى أن الشرائع المتأخرة عنه كانت مطبوعة بطابع الشريعة الإبراهيمية ، وقد نستوحي ذلك من الآية الكريمة : (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ* كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) [الصافات : ١٠٨ ـ ١١٠].

وخلاصة الفكرة ، أن الإمامة تعتبر الصفة المتحركة للنبي في حياته ، فكانت النبوّة والرسالة تنطلقان في اتجاه المهمة التي كلفه الله بها ، بينما كانت الإمامة تتحرك في اتجاه اعتباره قدوة وقاعدة لمن أراد الاقتداء به والانطلاق من القاعدة الإيمانية المتجسّدة ، وبذلك يظهر كيف تتأخر الإمامة عن النبوّة عند ما يعبّر النبي عن طاقاته وملكاته في خطواته العملية في الحياة ، في جهاده من أجل الرسالة ، وفي صبره أمام التحديات الداخلية والخارجية ... والله هو العالم بحقائق أحكامه وآياته ، وليس لنا إلا إثارة الاحتمال من أجل الوصول إلى حقيقة الحال ، ولو بعد حين.

* * *

من وحي الآية

أمّا ما نستوحيه من هذه الآية ، فهو قضيتان أساسيتان :

١٩

المسؤولية تمنح بعد الاختبار

١ ـ إن المسؤولية لا تمنح إلّا بعد الابتلاء والاختبار ، ولا سيما إذا كانت تتعلق بالأمر الذي يستدعي تغيير الأمة في حاضرها ومستقبلها ، فلا يمكن أن تجعل على أساس انطباعات عامة ، أو على أساس المجاملات والمحسوبيات الخاصة ...

وإن القدوة في الأفعال والأقوال لا يمكن أن تجعل لإنسان إلا بعد أن تثبت كفاءته في مجال الإخلاص في السلوك والتعامل والعلاقات ، لأن معنى القدوة ، أن يكون الشخص هو الوجه الذي يتجه الناس إليه والقاعدة التي يتحرك المجتمع منها ، فكيف يمكن أن يتحقق ذلك من دون الابتلاء والخبرة الطويلة؟!

* * *

الظالمون لا يصلحون للقيادة

٢ ـ إن القائمين على شؤون الأمة لا بد أن يكونوا بالمستوى الذي يرتفعون به عن صفة الظلم في حياتهم ، لأن الإنسان الذي يعيش الظلم في حياته لا يمكن أن ينطلق بعيدا في محاربة الظلم ورفعه عن حياة الناس. وقد وردت الأحاديث الكثيرة عن أئمة أهل البيت عليه‌السلام توضح ـ من خلال هذه الآية ـ أن الخلافة لا يمكن أن تجعل للظالمين أنفسهم بالمعصية وبالكفر حتى قبل حصولهم على الخلافة ، لأن قضية المسؤولية ترتبط بالتاريخ العميق للشخصية ، بالإضافة إلى الحاضر الذي يمثل الانضباط في

٢٠