تفسير من وحي القرآن - ج ١٨

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٨

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨٠

١
٢

٣
٤

سورة العنكبوت

مكية

وآياتها تسع وستون

٥
٦

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الآيات

(الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (٣) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٤) مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ)(٧)

* * *

معاني المفردات

(أَحَسِبَ) : الحسبان : الظنّ.

(يُفْتَنُونَ) الفتنة : الامتحان ، وقد تطلق على المصيبة والعذاب.

(لِقاءَ اللهِ) : المراد به : البعث ، وقيل : ملاقاة جزاء الله من ثواب أو عقاب ، وقيل غير ذلك.

* * *

٧

التجارب مختبر الإيمان

(الم) من الحروف المقطعة التي مر الحديث عنها في سورة البقرة ، (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) ليس الإيمان كلمة ليقتصر دور الإنسان على التلفظ بها في التأكيد على صدق إيمانه ، ولكنه فكر يتحرك في عقل الإنسان ، وعاطفة تجيش في قلبه ، وكلمة تعبّر عن موقفه ، وحركة في الخط المستقيم الذي يربط بين البداية والنهاية في ما هو عمق الفكرة وامتدادها في الحياة ، في كيانه ووجوده.

وفي ضوء ذلك ، لا بد من علامات واضحة ، تدلّ على كل هذه العناصر في ذاته ، في ما هو الجانب الخفيّ من شخصية الإنسان ، الذي لا يظهر إلا بالتجربة الحيّة المتنوعة المتحركة على أكثر من صعيد ، وفي أكثر من أفق ، بحيث تعمل على أن تجرح داخله بالألم وبالمعاناة ، وتهزّ مواقعه بالكثير من مواطن الاهتزاز ، وتربك خطواته بالعديد من أوضاع التعقيد ، وتثير انفعالاته في أكثر من موقع مثير ، ليكون ذلك كله امتحانا للعمق الداخلي للإيمان في فكر الإنسان وحركته.

* * *

تنوّع التجارب

فهناك التجربة الفكرية ، التي تثير أمامه الشبهات في خط العقيدة وتفاصيلها وفي خط الشريعة ومفرداتها ، وفي مناهج الحركة وأساليبها ، في ما يفكر به الآخرون من التيارات الفكرية المضادة والمنحرفة ، وفي ما يرسمونه من علامات استفهام ، تحرّك الشك في الفكر ، وتزرع الاهتزاز في القلب ، وتحوّل الاطمئنان الداخلي إلى قلق مجنون ، لتكون حركته ضائعة بين خطوط

٨

الفكر وخطوط الإيمان.

وهناك التجربة العاطفية التي تقترب فيها الانفعالات من إيمانه ، على مستوى الحالة النفسية التي تتحرك من خلال النوازع الذاتية في علاقات الإنسان بأقربائه وأصدقائه ورغباته ، ممّا قد ينحرف به الإنسان عن خط الاستقامة في العاطفة ، فيحب من لا يحبه الله ، ويبغض من لا يبغضه الله.

وهناك التجربة الواقعية التي تتحرك فيها المصالح والأهواء والشهوات الذاتية ، لتعبّر عن نفسها في الضغوط العملية التي تضغط على المواقف الرسالية وتنحرف بالكثير من المواقع الإيمانية عن الاتجاه الصحيح ، وفي الاهتزازات الحركية التي تمنع الإنسان عن الثبات والتوازن والاستقامة في علاقاته وشؤونه وأوضاعه ، وفي التخطيط المعقّد الذي يخطط للمشاريع العامة والخاصة في دائرة العقد النفسية المنطلقة من الارتباكات الداخلية والخارجية المحيطة به.

وهكذا تتحرك كل هذه التجارب في حياته ، لتصنع له أكثر من عاصفة تهز أوضاعه الإيمانية ، فتزلزل عقيدته ، وتضلّل مسيرته ، وتبعده عن أهدافه .. ولتثير في حياته أكثر من عنصر من عناصر الإغراء التي تفتنه عن دينه ، وتوجهه إلى الخضوع للجانب الغريزيّ في حياته ، مما يوحي بأن إيمانه من صنف الإيمان المستودع الطارئ لا من صنف الإيمان العميق المستقر.

أما إذا تمرّد على الخضوع لذلك كله ، فاستقام في مواقع الانحراف ، وثبت في مواضع الاهتزاز ، واهتدى في الدروب الضائعة الى مواقع الهدى ، فإنه يؤكد صدق إيمانه ، وقوّة موقفه ، وسلامة خطّه.

* * *

٩

الإيمان الشكلي والإيمان الحقيقي

إن مسألة المؤمنين في مسئولية الإيمان في حياتهم ، هي مسألة السابحين ضد التيّار القويّ الجارف ، فلا يثبت أمامه إلا الأقوياء الذين يملكون فنّ السباحة في الأمواج الهائجة التي تتلاعب بها التيارات ، ويتمتعون بقوّة العضلات التي يستطيعون من خلالها أن يضربوا اندفاع التيار ، ويتلقوا ضرباته ، أمّا الضعفاء الذين تعوّدوا السباحة في المياه الهادئة ، في مجرى التيار ، واستراحوا لنقاط ضعفهم في شخصياتهم الخائفة وعضلاتهم الخاثرة ، فإنهم سوف يسقطون في قلب الأمواج ليدفعهم التيار إلى أعماق البحر.

وهكذا يريد الله أن يقول للذين آمنوا بالكلمة وبالانتماء الشكلي للإسلام ، إن الدخول في الإسلام ليس نزهة ينتقل الإنسان في أجوائها في الأرض المعشبة الخضراء الزاهية بألوان الورود ، وليس استرخاء يرتاح فيه الإنسان للخمول وللكسل ليعيش أحلام اليقظة البهيجة ، أو ليغطّ ـ من خلاله ـ في نوم عميق ، وليس هروبا من واقع تزدحم فيه مشاكل الحياة ، إلى واقع بعيد عن المشاكل ، بل هو حركة في داخل المعاناة ، ورحلة طويلة إلى الله في الدروب الشائكة والمواقع الخطرة ، حيث يتنقل فيها بين العقبات والصعاب ، في أعماق الوديان ، وفي وعورة الجبال في الليالي المظلمة ، وفي الأيام القاتمة المليئة بالغيوم ، مما يفرض على السائرين معها الكثير من الصبر على الآلام ، والتمرّد على الحرمان ، والاستمرار في السير على الطريق المستقيم ، والتباعد عن الطفيليات النفسية التي تستنزف روحية الإنسان المسلم فتبعده عن الآفاق الروحية في رحاب الله.

وقد يلتقي الإنسان المسلم في ما يلتقي في طريقه إلى الله ، القوى

١٠

المهيمنة على الواقع كله في دوائره الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تحاول أن تفرض سيطرتها على المسلمين جميعا ، وتدعوهم إلى الخضوع لمفاهيمها وللانسحاق تحت إرادتها ، بحيث لا تبقى لهم أيّة إرادة ، وتزرع في نفوسهم مشاعر الخوف والقلق والضياع لتبدّد من داخلهم أيّ شعور بالأصالة الإسلامية كخطّ ثابت يحتوي الإنسان والحياة ، ليعيشوا كهامش جانبيّ على امتدادات الطريق للآخرين ، وقد يسقط الكثيرون أمام ذلك ، وقد يبقى البعض منهم متماسكا متوازنا ثابت القدم ، قويّ العزيمة ، منفتح الروح ، رحب الأفق .. من خلال انفتاحه على الله سبحانه.

وفي هذه الأجواء ، لا بد من دخول الإيمان ساحة الامتحان ، في مواقع فتنة الفكر والروح والجسد ، ليظهر جوهره الأصيل في دائرة الثبات والاهتزاز في حركة الحق والباطل في الحياة.

* * *

فتنة الأولين

(وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم السابقة عند ما أرسلنا إليهم الرسل وأنزلنا عليهم الكتب ، وعرّفناهم طريق الخطأ والصواب والضلال والهدى ، وجاءتهم الحياة الدنيا بكل زخارفها وبهارجها ، وحليت ، في أعينهم ، وعاشت في قلوبهم ، حتى بدأ البعض ينجذب إليها ، ويستغرق في شهواتها ، فتمردوا على الأنبياء ، وكذبوهم ، واضطهدوهم ، وقتلوا الكثيرين منهم ، وعاثوا في الأرض فسادا واستعبدوا الناس واستكبروا عليهم ، حتى أعلنوا أنفسهم آلهة من دون الله. وبقيت هناك قلّة منهم ممن فهموا الدنيا على حقيقتها في مواقع المسؤولية التي تواجههم ، وتفتح قلوبهم على مواقع الخوف من الله ، والمحبة له ، وتوحي إليهم بأن الحياة رسالة لا بد للإنسان من أن يحملها ، ويتحمّل

١١

الكثير من الآلام في سبيلها. وكانت المسألة في ما بين هؤلاء وهؤلاء هي مسألة الصدق في العقيدة وفي الموقف ، ومسألة الكذب فيهما. وكان الله يريد للصادقين أن يظهروا في مواقفهم الحقيقية للناس ليقتدوا بهم ، كما يريد للكاذبين أن يظهروا في جوهرهم المزيّف ، ليتجنب الناس الاغترار بهم.

(فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) وليس المراد حدوث العلم لله ، كما يوحي به التعبير ، لأن الله يعلم مستقبل الإنسان ، في ما يفعله عن سوء اختياره أو حسن اختياره ، وما لا يفعله كذلك ، قبل خلقه ، بل المراد ظهور المسألة للناس من خلال ملامح الصدق في سلوكهم العملي ، أو من خلال ملامح الكذب في ذلك ، فكان التعبير بمثابة استعارة كلمة العلم في تعلقها بالله على الطريقة التي تتعلق بها بالناس.

* * *

انتصار الكافرين وهمي مؤقت

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) من المشركين الذين كانوا يمارسون الضغوط على المؤمنين ليفتنوهم عن دينهم ، ومن الضالين الذين يتحركون في طريق الله ، في ما يخيّل إليهم من قوّة الموقع ، وعمق الحيلة ، وبما يدبرونه من مكائد في مواجهة الإسلام والمسلمين (أَنْ يَسْبِقُونا) في ما يمثله السبق من الغلبة ، على أساس ما يحققونه من نجاح في إضلال المؤمنين ، وما يثيرونه من غبار في وجه الدعوة إلى الله ، مما يوحي لهم بالانتصار على الله وعلى رسله ، عند ما تتقدم مواقعهم في الشرك على مواقع الإيمان.

١٢

(ساءَ ما يَحْكُمُونَ) فهذه النظرة لا تنطلق من عمق الدقّة في الحكم على الأشياء ، لأن الله قد يسهّل للكافرين بعض الوسائل ، ويهيئ بعض الظروف ، للوصول إلى بعض غاياتهم ، في فترة معينة ، ولكن المسألة لن تأخذ الكثير من ذلك في امتداد الزمن ، لأن الله يريد للصراع أن يأخذ مداه ، في ما أودعه الله للحياة من السنن الاجتماعية ، في ما تخضع له حياة الناس من سنن في دائرة النظام الشامل للكون. ثم تنطلق الدعوة للإيمان من مواقع الصراع قويّة صلبة في أجواء المعاناة ، بعد أن تكون قد اكتسبت الكثير من خصائص النجاح ، وعناصر القوّة ، وفتحت أكثر من ثغرة في جدار الكفر ، ليسقط الكفر على أساس تحطيمه في النفوس في دائرة الصراع ، قبل تحطيمه في ساحة الواقع.

إن الكثيرين من الناس قد يتخيلون أن مسألة التقدم والتأخر في حركة الرسالات والمبادئ الأخرى ، تمثل الانطلاقة الأولى في الحركة ، مما يجعل هؤلاء أو بعضهم يسقطون أمام أيّة انتكاسة للإيمان على يدي قوى الكفر ، أو أيّة هزيمة للمسلمين تحت ضغط الكافرين ، ويفكرون أن الله قد خذلهم في ما يريدون ، وما يؤمنون به. ولكن هؤلاء يخطئون في ذلك ، فإن الله لا يريد لدينه أن ينطلق في الساحة العامة للحياة ، من قاعدة المعجزة التي تختصر كل الأسباب التي ترتبط بها النتائج في المواقع ، بل يريد له أن يبدأ في حركته في نطاق عملية النموّ الطبيعيّ الذي تتكامل به الموجودات في وجودها التكويني أو العملي ، لأن ذلك هو السبيل الذي يعمّق الفكرة في العقول وفي القلوب ، ويصنع للإنسان تجاربه المتنوعة في مواجهة التحديات ، ويحقّق له القوّة في وجوده. فإن الصراع كلما اشتد في ضغطة ، كانت النتائج الإيجابية لمصلحة الإيمان ، والنتائج السلبية ضد الكفر ، أكثر تأثيرا ، في ما يعنيه ذلك من أن الله يريد للإنسان أن يحقّق إرادة الله باختياره ، بحيث يعطي الرسالة شيئا من فكره وجهده في ما يؤمن ، وفي ما يحقق للآخرين من فرض الإيمان.

١٣

ولهذا ، فإن الله قد يمهل الإنسان في غيه وكفره ، ولكنه لا يهمله ، بل يهيئ لعباده الصالحين أكثر من فرصة داخلية وخارجية للانتصار على الكافرين ولو بعد حين ..

ثم قد تحقق المسألة لهؤلاء في بعض المواقع انتصارا في الدنيا ، ولكن ما ذا بعد الموت ، فهل يسبقون إرادة الله في ذلك؟ ومن الذي يحميهم من الله؟ ولكن ، كيف يفكر هؤلاء ، وبما ذا يحكمون ، هل ينطلقون من قاعدة ، أو يتحركون من فراغ؟ ساء ما يحكمون.

* * *

هوية الذين يعملون السيئات

وقد اختلف المفسرون في هؤلاء الذين يعملون السيّئات ، في تحديد هويتهم فقيل : إنهم المشركون الذين كانوا يفتنون عن دينهم ، وقيل : إنهم المؤمنون العصاة في ما يقترفونه من عصيان أمر الله ونهيه في تفاصيل الحياة. وقيل : إن المراد بعمل السيّئات أعم من الشرك وعمل المعاصي ، مما يجعل الآية عامّة لكل من يمارس السيّئة على مستوى العقيدة وعلى مستوى العمل.

وقد اختار صاحب الميزان الوجه الأول ، ورفض الوجهين الأخيرين على أساس مخالفة السياق الذي انطلقت فيه بداية السورة في الحديث عن الفتنة في نطاق مسألة الإيمان والكفر ، مما يجعل الآية في دائرة المشركين الذين كانوا يتحركون في اتجاه إيجاد أجواء الفتنة للمؤمنين ، في ما يقدمونه من إغراءات ، وما يثيرونه من ضغوط ، وما يحركونه من أوضاع. ثم استدرك بعد ذلك ، أن الآية لو كانت مستقلة في نزولها ، بعيدا عن السياق ، لكان مقتضاها العموم،

١٤

لأنه لا موجب لتخصيصها بخصوص الشرك ، أو بخصوص سائر المعاصي دون الشرك (١).

ونحن نلاحظ على ذلك ، أن بداية السورة لم تقتصر على الفتنة في العقيدة ولكنها قد تشمل الفتنة في العمل ، في ما يرتبط به الإيمان في صدقه وكذبه ، بالعمل على أساس الشريعة التي يفرضها الإيمان في الانسجام معها ، والابتعاد عنها ، مما يجعل العموم هو طبيعة هذه الآية ، كما هو طبيعة ما قبلها.

* * *

الذين يرجون لقاء الله

(مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ) من هؤلاء المؤمنين الذين أحسنوا السير في خط الإيمان في الفكر والعمل ، وراقبوا الله في سرّهم وعلانيتهم ، ورأوا في ذلك فرصة للقاء الله في الدار الآخرة للحصول على رضوانه ، والدخول في جنته ، ولذا فإنهم يرجون ذلك ويحبونه وينتظرونه ، إذ لا سبب لديهم يدعوهم إلى الخوف من ذلك ، لأنهم لن يجدوا أيّة مشكلة في لقاء الله والوقوف بين يديه ، في لحظة الحساب التي يواجه فيها الناس نتائج مسئوليتهم عن أعمالهم في الدنيا ، في ما قدموه من خير أو شر.

(فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ) في الوقت المحدّد له ، فليعمل الإنسان في الدائرة الإيمانية التي يريد الله أن يتحرك فيها ، في ما يقوله ويعبر عن سرّه الخفي وفي ما يتحرك به في عمله ، فسيحفظ الله له ذلك كله ، ولن يضيع من عمله شيء

__________________

(١) الطباطبائي ، محمد حسين ، الميزان في تفسير القرآن ، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ، ط : ١ ، ١٤١١ ه‍ ـ ١٩٩١ م ، ج : ١٦ ، ص : ١٠٣. [بتصرف].

١٥

(وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) الذي يسمع ما يقوله عباده في سرّهم وعلانيتهم ويعلم ما تخفيه صدورهم من نواياهم وأفكارهم.

* * *

من جاهد فإنما يجاهد لنفسه

(وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ) لأن الجهاد يمثل حركة الإرادة في مواجهة النوازع المضادّة في الداخل في ما تشتمل عليه شخصية الإنسان من شهوات ورغبات ، وفي مواجهة القوى المنحرفة في الخارج ، في ما تحتويه الساحة من أعداء ومعتدين. وذلك من أجل خلق التوازن الداخلي في شخصية الإنسان المسلم بين خصائصه المادية وتطلعاته الروحية في ما يتطلبه الجسد من تلبية نداء الرغبة وإرواء ظمأ الشهوة ، وفي ما يتطلبه العقل والروح من تنظيم الحاجات ، وتحديد النزوات ، وذلك هو السبيل للحصول على طمأنينة النفس ، وسلامة الجسد ، واستقرار الحياة وسعادة المصير في رحاب الله ، مما يعود بالخير على نفسه.

وإذا أردنا أن ننظر إلى الجهاد الذي يعيشه المؤمن ضد كل عوامل الفتنة والإغراء والتهويل التي تريد إبعاده عن دينه وتحويله إلى مواقع الكفر ، فإننا سنجد في ذلك الخير كل الخير له ، لأن الثبات على الإيمان يمثل الثبات على قاعدة الخير في الحياة من خلال الخط المستقيم الواحد الذي يضم الحياة كلها في تصوّر واحد في كل مجالاتها العامة ، لتلتقي في بداياتها بالله ، وتنتهي في نهاياتها الخيّرة السعيدة إليه.

أمّا جهاد القوى المضادة التي تعمل على تأكيد سيطرة الظلم والشر والفساد ، وتتحرك للعدوان على البلاد والعباد ، وتحمل الكفر كعقيدة ، والبغي

١٦

كمنهج حياة ، فإنه يحقق للحياة سلامها واستقرارها وتوازنها ، لينعكس ذلك على الإنسان خيرا وبركة ومحبة وسلاما.

وعلى ضوء هذا ، كان الجهاد الإنساني في مواجهة عوامل الانحراف في نفسه وقوى الشر في حياته ، حاجة إنسانية للاستقرار والطمأنينة يجلب فيها الإنسان الخير لنفسه ، وليس حاجة إلهيّة في ما قد يتخيله البعض من حاجة الله إلى عباده في ما يكلفهم به من شؤون الإيمان والعمل الصالح ، ليكون الأمر بالجهاد من بعض ذلك ، لأن الله لا يحتاج إلى أحد في أي شيء ، لقدرته على كل شيء (إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) بل هم الفقراء إليه لأن كل ما يملكونه من وجودهم ومن تفاصيل هذا الوجود ، هو نعمة منه في طبيعته وفي استمراره ، وهو القادر على أن يذهبهم جميعا بإرادته كما كان القادر على إيجادهم وتدبير أمورهم بقدرته.

* * *

ثواب من امن وعمل صالحا

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) وثبتوا على إيمانهم في مواقع الزلزال وأصروا على الاستقامة في العمل في دروب الانحراف ، فلم تغيّرهم الظروف الصعبة ، والإغراءات الحلوة ، والتهاويل القاسية ، بل زادتهم إصرارا على الثبات ، ولذلك استحقوا رضا الله ومحبته وغفرانه (لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) في ما قد يكونون مخطئين فيه في بعض أجواء الغفلة ، أو في ما عاشوه سابقا في زمان الكفر والعصيان بعد ما انتقلوا إلى رحاب الطاعة والإيمان ، فلا يبقى من الماضي شيء للمستقبل ، بل يتحرك الحاضر والمستقبل من دون أية عقدة تثير الحزن ، أو أيّة مشكلة تربك الحياة ، لأن الله لا يريد للإنسان أن يبقى خاضعا

١٧

لعقدة الذنب في ما أخطأ فيه في الماضي ، بل يريده أن يتحرر من ذلك ، لتتجدد روحيته في الجو النظيف الطاهر ، والأفق الصافي المشرق ، ليكون الإنسان الجديد التائب الذي تمحو توبته كل سواد الماضي ، ليبقى مجرد درس للمستقبل ، ووعي لكل مشاكل الطريق (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) فلا يؤثر على درجتهم التي يرفعهم الله إليها ، أيّ شيء مما فعلوه ، أو مما قد يعلق بها من سيئات صغيرة ، ولا ينقص من ثوابهم شيء ، لأن طبيعة العمق في إيمانهم والثبات في مواقفهم والاستقامة في خطهم ، تجعل العمل منطلقا من الروحية العالية التي يجتمع فيها الإيمان والخير ، فيعطيه روحا جديدة ، ومعنى كبيرا من معاني الإخلاص لله ، والانفتاح على رضوانه.

* * *

١٨

الآيتان

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ)(٩)

* * *

معاني المفردات

(وَوَصَّيْنَا) : التوصية : العهد ، وهنا : الأمر.

(جاهَداكَ) : أي استفرغا مجهودهما في إلزامك.

* * *

الإحسان إلى الوالدين في غير معصية الله

قد تكون مشكلة بعض المؤمنين ، انحراف والديه بالكفر والشرك والضلال ، فيضغطان عليه من خلال الناحية العاطفية في علاقته بهما ، لينحرف

١٩

من حيث انحرفا ، وليكفر من حيث كفرا ، فيتحرّج من ذلك عند ما يقف بين عاطفته التي تضغط على قلبه لينفتح على والديه في ما يحبانه منه ، وبين إيمانه الذي يضغط على إرادته لتؤكد الموقف في الانفتاح على الله في ما يحبه منه من الثبات على الاستقامة. وقد أراد الله أن يبين للإنسان المؤمن أن العاطفة التي تشدّه إلى والديه ، في ما أوصاه الله به من ذلك ، وفي ما يتحسسه مما قدّماه إليه من الجميل ، لا تفرض عليه الانشداد إليهما في مقام الطاعة ، بل تفرض عليه التعاطف معهما في مقام الإحسان ، أمّا الطاعة فهي لله ، فإذا أمراه بما يحبه الله ، فعليه أن يطيعهما في مواقع طاعة الله ، وإذا أمراه بغير ذلك ، فعليه أن يطيع الله ، ويعصيهما في ذلك.

* * *

الوصية بالإحسان للوالدين

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً) أي توصية حسنة أو ذات حسن ، أي أمرناه أن يحسن إليهما. وقد تحدثنا في هذا التفسير عن الخط القرآني في مسألة الوالدين ، الذي جعل المسألة في دائرة الإحسان في مقابل العقوق ، ولم يجعلها في دائرة الطاعة ، لأن طبيعة العنصر الذي يربط الولد بالوالدين ، لا يمنح الوالدين هذا الحق ، لأنه لا يرتبط بالجانب العاطفي من شخصيته ، بل يرتبط بالجانب الواقعي في إدراك المصلحة والمفسدة في الأشياء ، مما قد لا يدركه الوالدان في أكثر الحالات .. ولهذا فإن الطاعة إذا التقت بالإحسان ، بحيث كان تركها عقوقا من دون أن يسيء ذلك إلى مبادئ الود ومصالحه الحقيقية ، فلا بد للإنسان من العمل على أساسها وإلا فلا.

* * *

٢٠