تفسير من وحي القرآن - ج ٢١

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ٢١

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٦٠

طبيعتها الحيّة ، (بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) انطلاقا من المعنى المطلق في قدرته ، كما هو كذلك في كل صفاته ، لأن المحدودية تعني الفقر والحاجة ، مما ينفي معنى ألوهيته للوجود كله.

(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ) لأن غذاء النار الطبيعي وقود بشري من هؤلاء الذين كفروا بالله وكذّبوا رسله ، وكانوا يكذبون باليوم الآخر ، ويسخرون من أحاديث الأنبياء الذين ينذرونهم بعقاب نار جهنم ، فينطلق السؤال الذي يريد لهم أن يعلنوا الإيمان بما كذّبوا به ، بعد أن فرض الواقع الحسي عليهم ذلك ، ليكون موقفهم هذا منطلق تفكير لأمثالهم ممن يكذبون به بعدهم : (أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِ) الذي أنذركم به الرسل؟ (قالُوا بَلى وَرَبِّنا) في تأكيد للجواب السابق بالقسم بالله ، وهدفهم منه التأكيد على إيمانهم ، رغبة في أن يشفع ذلك لهم في الخلاص من العذاب ، أو التخفيف منه ، (قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) فذلك هو جزاء الكافرين.

* * *

لا يهلك إلّا القوم الفاسقون

ثمّ يعود الكلام إلى النبيّ تثبيتا له : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) فإن الدعوة التي تسعى إلى التغيير الشامل للحياة وللإنسان ، فكريا وعمليا ، لا بد من أن تصطدم بألوف العقبات ، وتواجه الكثير من المشاكل ، وتلتقي بالصعوبات الكبيرة في ساحة التحديات ، لتصلّى إلى بعض النتائج الإيجابية الحاسمة مرحليا أو بشكل كامل. ولست بأوّل الرسل الذين يواجههم قومهم ، أو تستقبلهم أمتهم بالكفر والتكذيب والعناد والاضطهاد ، فاصبر كما صبر نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليه‌السلام ، الذين ذكرهم حديث أئمة أهل البيت بأنهم هم أولو العزم ، أو كما صبر الرسل من قبلك ، فقد جاء عن بعض المفسرين أن أولي العزم هم جميع الرسل ، ولا تتعقد وتنفعل ، أو تتراجع ،

٤١

وتابع مسيرتك حتى النهاية ، (وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) العذاب فتدعو عليهم ، نتيجة ضيق صدرك بهم في بعض الحالات ، فإن هناك أملا في هدايتهم للإيمان بالله والالتزام بدينه. فبعض الناس قد يحتاج إلى أمد طويل لتخفيف مقاومته النفسية ، أو لإبعاده عن الموثرات العاطفية ، أو الرواسب التاريخية ، أو فصله عن الجو الذي يعيش فيه ، وغيرها من عوامل تفرض عليه عدم الإذعان للحق ، ولذلك فلا بد للدعاة إلى الله من أن يرسموا خططا متحركة على مستوى المراحل والظروف من الزمان والمكان والأشخاص ، لاحتواء الساحة كلها في جميع الأوضاع.

أمّا إذا أصروا على الكفر والعناد ، فإن الله سوف يجمعهم لعذابه ، فلا داعي لاستعجال العذاب ، (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ) من العذاب (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ) لأن الإحساس بالحاضر الذي يختزن العذاب في داخله ، ويحرق بناره كل حياة الإنسان ، سوف يختصر الزمن كله في إحساس الإنسان ، بحيث لا يشعر إلّا وكأنه لم يلبث إلا ساعة من نهار ، هذا (بَلاغٌ) للناس (فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) الذين استحقوا الهلاك بفسقهم في العقيدة وفي العمل؟!

* * *

٤٢

سورة محمَّد

مكيَّة

وآياتها ثمان وثلاثون

٤٣
٤٤

في أجواء السورة

وهذه سورة مدينة ، تتحرك آياتها في خط المقايسة بين صفات المؤمنين والكافرين ، وتتحدث عن ضلال الكافرين الذين وقفوا حاجزا بين الناس وبين سبيل الله ، والتزموا الباطل في فكرهم وحركتهم ، مما جعل المؤمنين يتخذون منهم موقفا حاسما يقضي بقتالهم لتعطيل تحرّكهم المضادّ للإسلام وأهله في الدعوة والامتداد.

أمّا المؤمنون ، فقد ساروا في خط الهدى ، وعملوا الصالحات ، وآمنوا بالقرآن ، وهو الحق النازل من الله ، واتبعوا الحق ، وجاهدوا في سبيل الله ، فأصلح الله بالهم ، وهداهم إلى مواقع رضاه ، وأدخل الشهداء منهم الجنة التي عرّفها لهم.

ثم تطوف السورة في تفاصيل المواقع والمواقف والأشخاص ، فتخاطب المؤمنين لتدفعهم إلى الجهاد كتعبير حيّ عن نصر المؤمن لربّه ، ولتطمئنهم إلى أن الله ينصرهم ـ في اتجاههم هذا ـ ويثبّت أقدامهم ، ثم تحدثهم عن مستقبلهم في الآخرة وعن الجنات التي تجري من تحتها الأنهار ، وتحتوي على كل ما يستلذّه الإنسان وما يشتهيه ، وعن مغفرة الله ورضوانه ...

أمّا الكافرون ، فإنهم التعساء الذين كرهوا ما أنزل الله ، فأضلّ أعمالهم وعاشوا الغفلة المطبقة التي منعتهم من أخذ العبرة من تاريخ الكافرين من قبلهم

٤٥

الذين دمّر الله كل مواقعهم ، واستغرقوا في ذواتهم حتى زيّن لهم سوء أعمالهم ، ولحقوا بشهواتهم التي يمارسونها كما تمارسها الأنعام ، أمّا النهاية ، فهي قيام الساعة ، وأمّا العذاب ، فهو عذاب جهنم وبئس المصير ...

ثم تنطلق السورة مع المنافقين الذين كانوا يمثلون خطرا على الإسلام والمسلمين ، لتحالفهم مع اليهود الذين كانوا يقومون بدورهم التخريبي نفسه. وتتناول السورة تنوع أساليب المنافقين في مواجهة الرسول ، وتحدّد ملامحهم عند نزول التشريع الجهادي.

وتبقى السورة في جو التشديد لعزم النبي ومن آمن معه ، والتحذير من المنافقين والجبناء والمفسدين والمخالفين لرسول الله ، وتؤكد لهم أنهم لن يضروا الله شيئا.

وتختتم السورة بنداء للمؤمنين ، تطلب منهم فيه الطاعة والصبر والبذل في سبيل الله ، وتدعوهم إلى فهم الحياة جيدا ، وإلى معرفتها بأنّها لعب ولهو ، وأن عليهم الاستمرار في هذا الخط الرسالي الجهادي الواعي المتحرك في كل الساحات ، المنفتح على الله ، وعدم الابتعاد عن الساحة ، لأن الله سيستبدل بهم قوما غيرهم ثم لا يكونون أمثالهم.

وفي ضوء ذلك ، نفهم أن هذه السورة تمثّل الحركيّة الإسلامية في خط الدعوة والجهاد ، وتفتح للمؤمنين نوافذ الوعي للمستقبل ، وللمجتمع الذي يعيش فيه الإنسان المجاهد أو الداعية ، ليعرف كيف يحرّك الرسالة في خط الواقع.

* * *

٤٦

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (٢) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (٣) فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ) (٦)

* * *

معاني المفردات

(وَصَدُّوا) : منعوا.

(أَضَلَ) : أحبط.

٤٧

(بالَهُمْ) ؛ البال : الحال والشأن ، والبال : القلب أيضا.

(فَضَرْبَ الرِّقابِ) : فاضربوا الرقاب ضربا.

(أَثْخَنْتُمُوهُمْ) ؛ الإثخان : إكثار القتل ، وغلبة العدوّ.

(فَشُدُّوا الْوَثاقَ) : أحكموا وثاقهم في الأسر.

(أَوْزارَها) ؛ الأوزار : الأثقال ، وهنا السلاح.

(لِيَبْلُوَا) : ليمتحن.

* * *

ضلال أعمال الكافرين وإصلاح بال المؤمنين

(الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله ، وبالتوحيد ، وبالنبوّات ، وباليوم الآخر ، (وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) فوقفوا حاجزا بين الدعوة وبين الناس الذين يحتاجون ما تدعوهم إليه من سير في طريق الله ، لأنه يؤدي إلى الخير والعدل والحرية في الدنيا ، وإلى الجنة في الآخرة ، فهو الطريق الوحيد الذي يملكون فيه خلاص الروح ، وطمأنينة القلب ، واستقامة الجسد ... وابتدعوا كل الوسائل التي تعمّق هذا الحاجز بين الناس وبين الله ، بحيث يخيّل للإنسان أن الطريق إلى الله مسدود أمامه من كل الجهات. هؤلاء المحاربون لرسالة الله في فكرهم وفي ساحة الحياة العامة كلها ، كيف يعاملهم الله؟ وما هي النتائج المترتبة على مشاريعهم؟ لقد (أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) فهي ضائعة ضياع السائر في التّيه على غير هدى ، وهي باطلة بطلان البحث عن النجاح من دون أساس ، لأنّ الإنسان إذا أضاع الله في فكره وروحه ، وفقد هداه في قلبه وبصيرته ، وابتعد عن نهجه في حياته ، لن يلتقي بالهدى الذي يحفظ خطاه من الزلل ، ونهجه من الانحراف ، وعمره من الضياع.

وقد نستوحي من إضلال الأعمال ، إبطال كل المشاريع التي أريد بها

٤٨

نصب الحواجز في طريق الدعوة ، لأن الدعوة سوف تنتصر بإذن الله على كل تحديات الكفر والشرك والضلال.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا) بالله ورسله ورسالاته واليوم الآخر ، (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) التي تمثل التجسيد العملي للتشريع الرسالي في خط الصلاح المرتكز على الإيمان ، (وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ) من القرآن ، (وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) الذي لا ريب فيه ، (كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) التي عاشوها في تاريخهم المليء بالانحرافات الفكرية والعملية ، (وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) فلم يعد في بال المؤمن المنفتح على الله أيّ مكان للقلق ، وللحيرة ، وللتعفّن الروحي والأخلاقي ، وللفساد في النوايا والدوافع التي تتحوّل ـ غالبا ـ إلى واقع ، بل هناك المعنى الروحي الذي يوحي بالرشاد والطمأنينة والثقة والطهارة الروحية ، والصلاح الفكري والأخلاقي الداخلي الذي يفكر بخطة الصلاح العملي.

وتلك هي القضية التي ركز القرآن على كونها غاية الرسالات على امتداد تاريخ الإنسان ، وهي أن يصبح البال مسكونا بالإنسانية المؤمنة الصالحة المنفتحة على الله ، وبالطمأنينة الروحية ، والاستقرار الفكري ، بحيث تكون كل مفردات الرسالة في خدمة هذا الهدف الذي تمثّله كلمة «النفس المطمئنة الراضية المرضيّة».

* * *

سرّ إضلال أعمال الكافرين وإصلاح بال المؤمنين

ولكن ، ما هو سرّ إضلال الأعمال هنا ، وإصلاح البال هنا؟

(ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ) الذي يبتعد بالحياة عن الصراط المستقيم وبالإنسان عن الإيمان بالله ، وعن الحق والخير والعدل في بناء الوجود ، مما يجعل الباطل ضد الله والحياة والإنسان ، ويؤدي بالإنسان إلى السقوط والضياع في متاهات الأوهام (وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ) بحيث

٤٩

حافظوا على التوازن بين الحق الذي يقوم عليه الكون ، والحق الذي يتحرك فيه الإنسان مع الله. وإذا كان الكون والإنسان مع الله ، فهناك الانسجام الروحي والفكري بين الخط ومصلحة الواقع.

(كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ) ليعرفوا الخط الذي يسيرون عليه ، من خلال النماذج الإنسانية التي تمثل حركة الخط في دائرة الصراع بين الحق والباطل ، وليحددوا لأنفسهم الفواصل التي تفصل بينهم وبين الباطل على مستوى المصير المرتبط بواقع الإنسان الفكري والعملي.

* * *

ضرب رقاب الذين كفروا

(فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ) لأن الساحة مفتوحة لأن تكون تحت سيطرة الكفر والشرك ، أو تحت سيطرة الإيمان والإسلام ، وليس هناك مجال للحوار الهادىء العاقل الذي طرح النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إجراءه معهم استجابة لأمر الله الذي دعاه إلى الدعوة إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة ، والجدال بالتي هي أحسن ، لأنهم رفضوا الحوار ، وواجهوا المسلمين بالقتل والاضطهاد والتهجير ، وبالفتنة عن دينهم ، ومحاولة منعهم الناس من دخول الإسلام بمختلف الوسائل ، وبإضعاف قوّة الإسلام ، للإيحاء بأن الانتماء إليه ، لا يمنح الإنسان قوّة في المجتمع الذي يتحرك أفراده بمنطق القوّة.

وهكذا كانت الحرب التي يضعف فيها الشرك ، هي الحلّ الوحيد في تلك الظروف وفي كل الظروف المماثلة ، من أجل إضعاف القوّة المضادّة. وهذا ما جعل القضاء عليهم بضرب الرقاب أمرا حاسما ، (حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ) بما يوحي به الإثخان من إكثار القتل

وغلبة العدوّ وقهره والسيطرة على المعركة ، (فَشُدُّوا الْوَثاقَ) أي فأسروهم ليكون الأسر لونا آخر من ألوان الاستيلاء على الساحة ،

٥٠

وذلك من أجل إدارة المعركة في اتجاه آخر ، يحاول أن يدخل هؤلاء المقاتلين من الكفار إلى الدائرة الإسلامية بعد أن ضعفت قوّتهم ، وتساقطت مواقعهم ، بحيث لم يعد وجودهم في تلك المرحلة خطرا على الإسلام ، لأنه ـ أي الإسلام ـ لا يستهدف القتل من عقدة ذاتية ، بل من مصلحة واقعية ، ولذلك كانت الغاية حسم المعركة لصالح المسلمين ، فإذا تحقق ذلك ، فرض الواقع إيجاد جوّ تنمو فيه الدعوة في نفوس هؤلاء الأسرى ، أو تقوى به ماليا.

(فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ) إما تمنّون عليهم منّا بإطلاقهم والعفو عنهم ، إذا ما رأى وليّ الأمر مصلحة في ذلك لأن فيهم القابليّة للإسلام ، أو لأنه يرى العفو أسلوبا يخدم الإسلام كدين متسامح وإنساني لا يخاف من إطلاق الأسرى من الأعداء ، ويحافظ على إنسانيتهم ؛ (وَإِمَّا فِداءً) بالمال يدفعه الأسرى الأغنياء أو أقرباؤهم ، لتقوية الموقع المالي للمسلمين ، في الظروف التي يحتاجون فيها إلى المال تبعا لتقدير وليّ الأمر ، (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) أي أثقالها ، فيلقي المحاربون السلاح ، وتنتهي الحرب بانتصار المسلمين.

* * *

تشريع الأسر بين سورتي محمد والأنفال

وقد يلاحظ البعض أن هذا الحكم المذكور في الآية مناف للحكم المذكور في سورة الأنفال في قوله تعالى : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) [الأنفال : ٦٧] ، الدالّة على عدم تشريع الأسر في المعركة إلا بعد الإثخان في الأرض ، الذي قد يوحي بسيطرة المسلمين الشاملة في أكثر من معركة ، بحيث يكونون قد حققوا انتصارا في أكثر من موقع على الأرض ، لا في داخل المعركة نفسها ، لذلك ذهب هذا البعض إلى اعتبار هذه الآية ناسخة لآية الأنفال ، لأن هذه السورة نزلت بعدها.

وأجاب صاحب تفسير الميزان ، وغيره ، بعدم المنافاة بين الآيتين ، لأن آية

٥١

«الأنفال» تتحدث عن المنع عن الأسر قبل الإثخان ، بينما آية «محمد» تتحدث عن الأسر بعد الإثخان (١) ، فأين المنافاة؟.

وقد نلاحظ على هذا الجواب ، أنّ لقائل أن يقول : إن الإثخان الذي تتحدث عنه الآية في هذه السورة ، هو الإثخان في المعركة التي يقع الأسر فيها ، بينما تتحدث الآية الأخرى عن الإثخان في الأرض الذي هو كناية عن امتداد القوّة في مجمل المعارك التي يخوضها الإسلام ضد الكفر وينتصر فيها.

ولكن لا مانع من التصرف في ظهور الآية الأولى التي عالجت الأسر في دائرة خاصة ، حيث شغل المسلمين الإكثار من الأسرى في معركة بدر ، عن التركيز على قتل أكبر عدد ممكن من الأعداء لتحطيم قوتهم القتالية بالقضاء على قوتهم العددية ، مما يجعل من مسألة الإثخان في الأرض ، كناية عن الحصول على القوة التي يضعف أمامها العدوّ ، لا سيّما في تلك الظروف التي يكون فيها الانتصار على العدوّ في المعركة الأولى ، حيث لا تكافؤ في ميزان القوّة بين المسلمين والمشركين ، عنوانا كبيرا من عناوين تأكيد القوّة الإسلامية في الساحة.

وقد ذكر بعضهم أن هذه الآية منسوخة بآية السيف في قوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة : ٥] ، ولكن هذه الآية خاصة بالمشركين ، ولا مانع من أن يكون خاص مخصصا للعام الوارد بعده ، لا ناسخا له ، وقد ذكر علماء الأصول أنّ التخصيص مقدّم على النسخ ، مع ملاحظة أخرى ، وهي أن جوّ آية التوبة هو جوّ ملاحقة المشركين بعد انتهاء المعاهدة ، ليكون الموضوع إنهاء حالة السلم ، دون نظر إلى طبيعة التفاصيل ، في الوقت الذي كان الإسلام فيه يملك السيطرة الشاملة على الموقف ، بينما تتحدث هذه الآية عن سير الموقف القتالي في الطبيعة العامة للحرب.

وقد يتساءل القارئ للقرآن ، بأن هذه الآية لم تتحدث عن قتل الأسير

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٨ ، ص : ٢٢٩.

٥٢

وعن استرقاقه ، في الوقت الذي يجد الإنسان فيه بعض الروايات الدالة على تخيير الوليّ للمسلمين ، في دائرة الاسترقاق أو القتل. وقد جاء في مجمع البيان للطبرسي قال : «والمرويّ عن أئمة الهدى ـ صلوات الرحمن عليهم ـ أن الأسارى ضربان : ضرب يؤخذون قبل انقضاء القتال ، والحرب قائمة ، فهؤلاء يكون الإمام مخيّرا بين أن يقتلهم أو يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ويتركهم حتى ينزفوا ، ولا يجوز المنّ ولا الفداء.

والضرب الآخر ، الذين يؤخذون بعد أن وضعت الحرب أوزارها وانقضى القتال ، فالإمام مخيّر بين المنّ والفداء ، إمّا بالمال أو بالنفس ، وبين الاسترقاق وضرب الرقاب ، فإذا أسلموا في الحالين ، سقط جميع ذلك ، وكان حكمهم حكم المسلمين» (١).

وقد يكون ذلك منطلقا من الحكم الخاضع للمصلحة التي يجدها وليّ الأمر في ذلك ، أو في عدم الاحترام الذاتي للكفار إلا أن يسلموا ، مما يجعل الخيار طبيعيا من هذه الناحية ، لا من الحكم الخاص بالأسرى ، أو من نسخ هذا الحكم بالآيات المذكورة في سورة التوبة التي ألمحنا إليها وإلى مناقشة فكرة النسخ آنفا.

* * *

لو شاء الله لأنتم منهم

(ذلِكَ) الحكم الذي أصدره الله بالقتال ، هو الموقف الذي تقتضيه طبيعة الصراع القويّ ، (وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ) فأهلكهم وعذّبهم من دون حاجة إليكم في إنفاذ ذلك ، (وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) ليمتحن المؤمنين بالكفار ،

__________________

(١) الطبرسي ، أبو علي ، الفضل بن الحسن ، مجمع البيان في تفسير القرآن ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ـ لبنان ، ط : ١ ، ١٤٠٦ ه‍ ـ ١٩٨٦ م ، ج : ٩ ، ص : ١٢٦.

٥٣

ويختبر صبرهم وطاعتهم وقوّتهم في مواجهة التحديات الصعبة الموجّهة إليهم من قبل الآخرين ، ليزدادوا قوّة وخبرة في خط المواجهة ، وليمتحن الكافرين بالمؤمنين ، ليتميز الناس في خط الكفر والإيمان في ساحة المعاناة ، لتكون الإرادة الإنسانية هي التي تحدد ساحة الصراع وتحسم الموقف فيها ، والله لم يجعل النصر خاضعا للغيب ، لأنه أراد للناس الإيمان عن إرادة واختيار.

(وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) من المؤمنين الّذين خاضوا معركة الكفر والإيمان بإخلاص وصدق وتضحية لتكون كلمة الله هي العليا ، (فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ) لأنها تحتوي في داخلها على العمق الإيماني الذي يحقق لهم ما أرادوه فيها من رضوان الله ونعيمه في جنته. ولهذا ، فإن الله الذي اطّلع على الصدق في النية ، والإخلاص في الموقف ، لن يبطل أعمالهم كما أبطل أعمال الكافرين ، بل يمنحهم أجرها العظيم ، حيث إنه (سَيَهْدِيهِمْ) إلى رضوانه وجنته (وَيُصْلِحُ بالَهُمْ) ، فيحقق لهم الرضى القلبي والطمأنينة الروحيّة ، التي تتحول إلى واقع حيّ يعيشون فيه الراحة والاستقرار والسعادة ، ويحقّقون فيه لأنفسهم ـ من خلال ألطاف الله ـ الكثير من الخير ، (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ) قبل ذلك ، فكانت غاية لأعمالهم ، أو عند الموقف في القيامة ، فأقبلوا على الدخول فيها إقبال العارف بها المشتاق إليها ، المنفتح عليها بكل عقله وروحه وحياته.

* * *

٥٤

الآيات

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (٧) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (٨) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٩) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (١٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (١١) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (١٢) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ) (١٣)

* * *

معاني المفردات

(فَتَعْساً) ؛ التعس : الانحطاط والعثار.

(مَثْوىً) : منزل.

٥٥

(إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ)

ما هو دور المؤمن ، وما هي مسئوليته تجاه الإيمان بالله؟ هل هو الاستسلام للجوّ العباديّ الروحيّ الذي يستسلم للّذّة الروحية في حالة السلم والاسترخاء الأمني ، أم هو الاندفاع في خط مواجهة التحديات الصعبة التي تثيرها معركة الإيمان والكفر ، ليقف بقوّة يستمدها من روحه المرتبطة بالله ، لأن الروح أليست مجرد حالة في المزاج ، بل هي ـ في العمق ـ موقف متصل بقوّة الله وعظمته؟

إن الآية الأولى تتحدث عن نصرة الإنسان المؤمن لله ، وذلك بنصرة دينه وأوليائه ، ومواقع طاعته ورضاه ، فذلك هو الموقف الحاسم الذي لا بد للمؤمن من أن يقفه في ساحة الصراع.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ) هل يحتاج الله إلى نصرة وهو ناصر المؤمنين؟ النصرة هنا ليست نصرة الذات الإلهية التي هي فوق العالمين جميعا ، بل هي نصرة الموقف الذي يرتبط بالله في مواقع الرسالة ، عند ما يندفع المؤمنون ليواجهوا أعداء الله ، ليكون الدين كله له. وبذلك يمدّكم الله بأسباب النصر بعين رعايته وعنايته (وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) فلا تهتزّ أمام تهاويل الرعب التي يحشدها الأعداء في وجوهكم ، وزلزال الخوف الذي يثيرونه في أفكاركم وقلوبكم ، ولن يفلح الكافرون الذين يخططون ويتحركون في ساحتكم.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ) فهم غارقون في وحول التعاسة التي تثقل أرواحهم ، وضائعون في متاهات الخيبة والخذلان والخسران التي تضيع فيها مواقفهم ، وأية تعاسة أشد من أن يتطلع الإنسان إلى مستقبله ، فلا يرى إلا الفراغ القاتل والضياع الهائل ، وينظر إلى مصيره ، فلا يبصر إلا النار ، ويلتفت في الأعالي ، فلا يجد إلا غضب الله وسخطه والدعاء عليه بالتعاسة المطلقة في كل شيء؟! (وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) لأنها في طبيعتها في خط الضلال ، لا علاقة لها برحمة الله في شيء ، (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ) من قرآنه وشريعته ونهجه

٥٦

في تنظيم حياة الإنسان ، لأنه لا يتفق مع مزاجهم الشهواني ، ومع امتيازاتهم الذاتية أو الطبقية ، ومع انفعالاتهم العصبية التي نشأوا عليها بفضل قيم الفكر والشرك ، حتى أصبحت من ذاتياتهم الشخصية المفتوحة على كل آفاق اللذّات والأطماع والشهوات ، والمنغلقة على كل دعوات الأديان والرسالات ، (فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) وأبطلها ، حتى لم يبق منها أيّ شيء ، ولم ينتج عن الجهد المبذول فيها أي ثواب يرجوه العاملون عادة من أعمالهم لا في الدنيا ولا في الآخرة ، فتحوّلت إلى رماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون على شيء مما كسبوا. وتلك هي القاعدة التي ترتكز عليها إنتاجية الأعمال الصالحة التي يقوم بها الناس في الدنيا ، فإنّ كل عمل لا ينطلق من الإيمان الداخلي العميق بالله ويمتد إلى الواقع على هذا الأساس ، لا يملك عمقا في رضى الله ولا امتدادا في قضية المصير ، فلا بدّ من أن ينفتح الإنسان على محبة ما أنزله الله ، ليتبذّر؟؟ الحب في الوجدان ، ويتجسد حركة في الواقع ، ليكون عمله صالحا منتجا ، وإلّا كان الإحباط في العمل.

* * *

الله مولى المؤمنين والكافرون لا مولى لهم

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) مسيرة فكر وتأمل وملاحظة عميقة واعية تلاحق الحقيقة في الظواهر الإنسانية في ولادة المجتمعات وحركتها وهلاكها ، (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ممن كفروا بالله ورسله ورسالاته ، وتمرّدوا على أوامره ونواهيه ، (دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ) أهلك كل ما يتعلق بهم من أهل ومال وأولاد ومساكن ، (وَلِلْكافِرِينَ) الّذين كفروا بالنبي (أَمْثالُها) من العقوبة ، بسبب كفرهم ، لأنّه لا فرق في مسألة الكفر التي يستحق عليها الناس التدمير بين الأوّل والآخر.

(ذلِكَ) الذي يرعى الله به المؤمنين من نصره ، ويوقع بالكافرين من

٥٧

عذابه (بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا) يلطف بهم ويحنو عليهم ويرحمهم ، ويتعهدهم بالرعاية الدائمة التي تنفتح على كل قضاياهم في آلامهم وآمالهم ، (وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) لأنهم ابتعدوا عن الله ، ولم يكن لهم أولياء من دونه ، لأن الولاية لله وحده ، فلا ولاية لغيره في كل شيء.

(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) لما يفرضه الإيمان والعمل الصالح من نتائج طيبة على مستوى المصير ، مما يعوّض الكثير من ألوان الحرمان المادي الذي عانى منه المؤمنون في الدنيا ، بما فيها من طعام وشراب ولذات وشهوات حسية في أجسادهم ، (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ) بالحياة الدنيا في أجسادهم ، الباحثة عما يسد رمقها ويرضي شهوتها ، دون أيّ هدف آخر يتصل برضوان الله في حركة المسؤولية ، تماما كما هي الأنعام التي تتمتع وتأكل من غير هدف معنويّ ، لتكون نهايتها الذبح ، (وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) في نهاية المطاف ، حيث تأكل النار أجسادهم ولذاتهم وشهواتهم ولا يبقى منها شيء.

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ) كان لأهلها السلطة والمنعة والقوّة والبأس والشدة ما لا يملكه أولئك المشركون من أهل مكة الذين كانوا يضطهدونك في رسالتك ، (أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ) ينصرهم من الهلاك ، ولن يكون مصير قومك بأفضل من مصير تلك القرى.

* * *

٥٨

الآيتان

(أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٤) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) (١٥)

* * *

معاني المفردات

(آسِنٍ) : غير متغير لطول المقام.

(لَذَّةٍ) : لذيذة.

(حَمِيماً) : شديد الحر.

* * *

٥٩

(أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ)؟!

(أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) في ما استطاع أن يصل إليه من أدلّة وبراهين ، في ما توصّل إليه عقله ، وما استفاده من وحي الله ، مما جعله يملك وضوح الروية في الموقع الأعلى الذي يمثله الله من ساحة وجوده وحركته ، وفي المصير الذي ينتهي إليه عنده من خلال عمله ، فعرف الفرق بين الحق والباطل ، والخط الفاصل بين الخطأ والصواب ، والخير والشرّ ، (كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) فاختلطت عليه الأشياء ، فلم يميز بين العمل الحسن والعمل السيّئ ، بسبب خضوعه لنوازعه الذاتية التي جعلها مقياس الحسن والقبح في الأشياء ، مما جعله ينظر إلى عمله السيّئ ، فيتطلع إليه بعين الرضى التي تجعله يرى القبيح حسنا ، فيخيّل إليه أنه يتحرك في الخير ، في الوقت الذي يتخبط فيه في وحول الشر.

وهذا هو الفرق بين من يملك قاعدة موضوعية منفصلة عن ذاته بحيث يخضع لها في نظرته إلى الأمور ، وبين من تحرّكه الأهواء الذاتية بحيث يختلط عليه عنصر الغريزة التي تثير الرغبة ، بعنصر المصلحة التي تحدّد الموقف ، فلا يتميز الموقف لدى هؤلاء في دائرة العمق الواقعي للمصلحة ، فيسقطون أمام النتائج السيئة في نهاية المطاف ، لأنهم تركوا عقولهم (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) التي تهتز في ذواتهم وفي حياتهم ، فتهزلهم وجودهم في الحياة.

* * *

صفة مأوى المتقين

(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) في صفتها الحسيّة التي تجتذب الإحساس الباحث عمّا يروي ظمأه ، ويشبع جوعه ، ويثير لذته ، (فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) أي غير متغير ، كما يتغير الماء الذي يطول مكثه في مكان واحد ، (وَأَنْهارٌ

٦٠