تفسير من وحي القرآن - ج ٢١

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ٢١

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٦٠

١
٢

٣
٤

سورة الأحقاف

مكية

وآياتها خمس وثلاثون

٥
٦

في أجواء السورة

هذه السورة من السور المكية التي تتناول أصول العقيدة الثابتة ، ومنها التوحيد ، الذي يعيش فيه الوجود كله حضور الله في تدبيره الشامل للكون وما فيه ، ومنها الإيمان بالوحي الذي أنزله الله على رسوله بما يشتمل عليه من رسالة تخرج الناس من الظلمات إلى النور ، والإيمان البعث الذي يلتقي عنده الناس ليواجهوا الحساب هناك ، مع إطلالة متحركة على آفاق السماوات والأرض ومشاهد القيامة ، وعلى حركة التاريخ في مصارع قوم هود ، ومصارع القرى من حول مكة.

ويتحرك المضمون القرآني ليناقش مسألة الشركاء الذين لم يختلقوا شيئا ولا يملكون أيّ شيء ، مما لا يجعل لديهم أساسا للربوبية ، كما يجعل الذين يعتقدون فيهم ذلك قوما متخلّفين ، لا ينطلقون في عقيدتهم من كتاب أو علم ، بل ينطلقون من الأوهام والخيالات الباطلة.

ويقف عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ليتحدّث عن دوره وطاقته في نطاق هذا الدور ، وتتوزع السورة بعد ذلك في الحديث عن كتاب موسى عليه‌السلام وعن تأثير الإيمان في السلوك الإنساني ، ومنه رعاية الوالدين واحتضانهما ورحمتهما والاستجابة إلى ندائهما الإيماني الذي تصوغه اللهفة الوالديّة والإيمان العميق ..

٧

وتنتهي السورة بالحديث عن موقف الكافرين والمستكبرين والفاسقين يوم القيامة ، حيث يعرضون على النار ، التي هي مصير أمثال هؤلاء.

* * *

اسم السورة

وقد سميت السورة بالأحقاف بلحاظ الآية التي تحدثت عن عاد قوم هود ، الذين كانت مساكنهم في منطقة تحمل هذا الاسم ، في جنوب الجزيرة العربية ـ كما قيل ـ ، واختلفوا أين هي ، فقيل : «واد بين عمان ومهرة ، وقيل : رمال بين عمان إلى حضرموت ، وقيل : رمال مشرفة على البحر بالشحر من أرض اليمن ، وقيل غير ذلك» في ما نقله صاحب الميزان (١).

* * *

__________________

(١) الطباطبائي ، محمد حسين ، الميزان في تفسير القرآن ، مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات ، بيروت ـ لبنان ، ط: ١ ، ١٤١١ ه‍ ـ ١٩٩١ م ، ج : ١٨ ، ص : ٢١٤.

٨

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الآيات

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (٣) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (٥) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (٦) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) (٧)

* * *

معاني المفردات

(شِرْكٌ) : شركة.

(أَثارَةٍ) : بقية.

٩

(حُشِرَ) ؛ الحشر : إخراج الشيء من مقره بإزعاج.

* * *

وما خلقنا السموات والأرض إلا بالحق

(حم) من الحروف المقطعة في القرآن ، (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) والقرآن هو وحي الله الذي شمل الكون كله بحكمته وسيطر عليه بعزته ، فلا إرادة له إلا في مواقع الحكمة العميقة التي تنفذ إلى أعماق الأشياء لتضع فيها سرّ الوجود والحركة ، وإذا أراد شيئا فلن يستطيع أحد أن يقف ضدّه ، مهما كانت قوّته ، وهذا ما ينبغي للناس أن يتمثلوه في وعيهم للكتاب باعتباره الحق ، ليعرفوا أنه الحكمة التي يجب اتّباعها ، وأنه الحق الذي يفرض نفسه على الحياة كلها.

(ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) الذي يريد الله له أن يتحرك في الوجود ليكون السرَّ الأعمق فيه وفي حركته ؛ على مستوى التكوين الذي يدخل في معنى الخلق ، وعلى مستوى التشريع الذي يدخل في مضمون الإرادة الإنسانية في حركة الالتزام ، (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) فقد جعل الله للأشياء عمرا محدودا بالغاية التي خلقت لأجلها ، في ما تحتاجه ، مما يوحي بالتخطيط الذي يخضع للحكمة الدقيقة.

ولكن هناك من يواجه الحق بمنطق العبث ، وبروح اللّامبالاة ، ويتصرف تماما كما لو كانت الحياة فرصة للهو وللهزل ، ويأخذ من دعوة الحق التي تنذره العذاب موقفا سلبيا ، (وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ) فهم لم يستجيبوا للإنذار استجابة الإنسان المنفتح على الحق ، أو استجابة الإنسان الجدّي في ملاحقة الفكرة المطروحة عليه حول اليوم الآخر ، المنفتح على عالم المسؤولية في خط الثواب والعقاب ، مما يجعل ردة فعلهم اللامبالية تلك ، نذير خطر مستقبليِّ يمكن أن يواجهوا بفعله عذاب النار لإعراضهم عن الإنذار واستهانتهم به.

١٠

إنّ اللامبالاة بدعوة الحق ، مشكلة الكثيرين من الناس الذين يعيشون الحياة من موقع العبث لا من موقع المسؤولية ، وخطة القرآن هي العمل على النفاذ إلى عقول هؤلاء وقلوبهم لإخراجهم من اللامبالاة ، وهذا ما تثيره الآيات التالية التي تطرح عليهم علامات استفهام غرضها تحريك فكرهم ووجدانهم ، في اتجاه المزيد من التأمل والتفكير ومناقشة قناعاتهم الكافرة المشركة.

* * *

في صفات الآلهة المزعومة

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) من هذه الأصنام التي تعبدونها ، أو غيرها من الأشخاص الذين تطيعونهم في معصية الله ، وتعبدونهم من دونه ؛ هل يملكون شيئا من قدرة الخلق ، أو حركة الوجود ، ليكون لهم بعض خصائص الألوهية والربوبية ، في أيّ مستوى من المستويات ، إذ إن هذا الموقع يفرض ذلك؟ (أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) إذا كانوا قد شاركوا الله في خلق بعض الأرض ، فأين ما خلقوه؟ (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) في ما قد يخيّل إليكم من شراكتهم في خلقها ، أو في ما تفرضه الصفة من ذلك (ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا) من الكتب التي أنزلت كالتوراة والإنجيل يقول بشراكتهم الله في الخلق ، إن كنتم تؤمنون به ، وتعتبرونه وثيقة صحيحة من وثائق الحقيقة في العقيدة (أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) أي شيئا منقولا من علوم الأوّلين ، أو سببا علميا يثبت ذلك ، (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) لأن إثبات الصدق في القضايا التي لا تخضع للحس ، خاضع لتقديم البرهان اليقيني الذي يثبت الموضوع الذي يدور الحديث عنه.

* * *

١١

سراية الشعور في الجماد؟

(وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) فإن هذه الدعوة لا تحمل في مضمونها الفكري أيّ أساس منطقي يحترم عقل الإنسان ، فإذا كان هؤلاء الشركاء لا يستجيبون لمن يعبدونهم في حاجاتهم وقضاياهم ومشاكلهم ، لأنهم بين حجر أو خشب جامد لا حياة فيه ولا حركة ، وبين شخص إنسانيّ أو جني أو ملائكي ، لا يملك أيّة قدرة ذاتية على الاستجابة لهم ، فكيف يمكن أن يكونوا آلهة أو رموزا تحمل أسرارا إلهية تجعلهم وسطاء بين الناس والآلهة؟! هل هناك أساس لهذه الدعوة سوى الانجرار العاطفي الساذج نحو تقليد أوهام الآباء والأجداد بعيدا عن العقل؟! (وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ) وهذه صفة أخرى لهؤلاء الآلهة ، فهم لا يعون الدعوة لعبادتهم ، لأنهم غافلون عنها غفلة الجماد عما حوله ، لفقدانهم الإحساس ، أو غفلة الشخص الحيّ عما يعتقد الآخرون فيه ، لعدم اطلاعه على ذلك ، مما يجعل دعاءهم من قبل الداعي تعبيرا ذاتيا يتبخَّر في الهواء دون أن يترك أيّ أثر يستجلب الاستجابة من تلك الآلهة.

وربما كانت كلمة «غافلون» جارية على سبيل الكناية عن عدم الوعي الذاتي والفعلي لدى هؤلاء الشركاء ، سواء بسبب كونهم من الجماد أو من الموجودات الحيّة ، فلا وجه لما استفاده صاحب الميزان من الآية في ما قاله في تفسيره : «وفي الآية دلالة على سراية الحياة والشعور في الأشياء حتى الجمادات ، فإن الأصنام من الجماد ، وقد نسب إليها الغفلة ، والغفلة من شؤون ذوي الشعور لا تطلق إلا على ما من شأن موصوفه أن يشعر» (١) .. فإن الآية ليست في مجال الإيحاء بتفاصيل الموضوع ، بل هي ـ في ما يظهر ـ في مقام الحديث عن طبيعته من حيث الدلالة على عمق ضلال المشركين.

(وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً) لأنهم يواجهون اتهام الناس لهم

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٨ ، ص : ١٩٢.

١٢

بالمسؤولية عن شركهم بالله في الدنيا وعن عذابهم في الآخرة جزّاء ذلك بالتبرّؤ الكامل منهم ونفي أي علاقة لهم بالموضوع ، وتحميلهم مسئولية ضلالهم الذاتي بسبب تصوراتهم المتخلّفة ، مما يجعل الموقف موقفا عدائيا يتبادل فيه الطرفان الرفض والبراءة ، (وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ) فهم يرفضون عبادتهم من قبل أولئك ، لأنهم لا يرون لأنفسهم هذه الدرجة التي وضعوهم فيها.

ويتابع صاحب تفسير الميزان طريقته في استيحاء حياة الجمادات في عمقها الداخلي من هاتين الآيتين فيقول : «وفي سياق الآيتين تلويح إلى أن هذه الجمادات التي لا تظهر لنا في هذه النشأة أنّ لها حياة لعدم ظهور آثارها ، سيظهر في النشأة الآخرة أن لها حياة وتظهر آثارها» (١).

ونلاحظ على قوله هذا ما لاحظناه على ما قاله سابقا ، فهذه الآيات قد تكون جارية على سبيل الكناية ، أو أنها مختصة بالآلهة العاقلة المزعومة ، فإن استتار الحياة في الجمادات ، لا معنى له فيها ، أمّا خلق الحياة من جديد كما في نطق الأعضاء والجلود وشهاداتها يوم القيامة ، فهذا أمر آخر ، لا يرتبط بما ذكره في كلامه ، إلا أن يريد به ما يشمل هذا ، فنلاحظ عليه ما استوحيناه من دلالة الآيتين ؛ والله العالم.

* * *

من أساليب الكافرين في تشوية الرسالة

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) فقد كانوا يعملون على التهرب منه ، عنادا واستكبارا ، ويبحثون عن مبرّر لذلك يمكن للناس موافقتهم عليه ، فيلجئون إلى عناوين تفسّر الأشياء بطريقة تقليدية (هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) لما يفهمه الناس من السحر باعتباره فنّا ومهارة لا يمثّل الحقيقة

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٨ ، ص : ١٩٢

١٣

التي تعطي القداسة ، بل يمثل مهارة على مستوى الظاهر تبعث على الانبهار بالخفة السريعة التأثير على البصر وعلى الجانب السطحي من وجدان الإنسان. وهذا أحد الأساليب التي يعمل الكافرون من خلالها على تشوية صورة الرسالة في إيحاءاتها الروحية والعقلية ، وتشوية صورة النبيّ الذي يتحرك بوحي من الله ، ليضعوا ـ بدلا منها ـ صورة الساحر الذي يتحرك بالألاعيب التي تشد انتباه الناس بطريقة سريعة.

* * *

١٤

الآيات

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٨) قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (١١) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (١٢) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٤)

* * *

١٥

معاني المفردات

(تُفِيضُونَ) ؛ الإفاضة في الحديث : الخوض فيه.

(بِدْعاً) ؛ البدع : ما كان غير مسبوق بالمثل.

(إِفْكٌ) : كذب.

* * *

اتهام الرسول بالسحر والافتراء

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) على الله ، فنسب إليه ما صنعه بأسلوبه البلاغي الذاتي ليعطي كلامه لونا من القداسة. وهذا هو الأسلوب الثاني الذي حاولوا من خلاله الإساءة إلى شخص الرسول بوصفه بالكذب ، وإلى القرآن باعتباره كلام مخلوق لا كلام الله.

(قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً) فإن الله لا يغفر لمن يكذب عليه ، ولن يستطيع أحد منهم ولا من غيرهم أن ينصره من الله أو يخلّصه من عذابه ، مما يجعل الافتراء على الله عملا غير عقلاني بالنسبة لمن لا يملك أيّة فرصة لحماية نفسه من تأثير عمله السلبي. ولا أريد أن أردّ عليكم حول هذا الموضوع بشكل مباشر ، ولكني أرجع الأمر إلى الله ، (هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ) وهو الذي يحدّد قضية الصدق والكذب في هذه المسألة بشكل حاسم ، (كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) فهو يعلم أن القرآن الذي أتلوه عليكم ، هو الوحي الذي أنزله عليَّ ، وهو الشاهد القادر على إظهار الحق أو الباطل بطريقته الخاصة ، وشهادته بصدق كلامي ستظهر إن عاجلا أو آجلا ، (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) الذي يغفر لعباده خطاياهم ، عند ما يرى أنهم يتحركون في مواقع الإيمان ، فيخطئون من حيث يريدون الإصابة ، وينحرفون تحت تأثير نقاط الضعف ، ويرحمهم في حركة وجودهم بعد أن عاشوا رحمته في أصل خلقتهم ، وهو الذي يفتح لكل

١٦

عباده النافذة الواسعة التي يستطيعون من خلالها أن يطلّوا على الأفق الواسع من لطفه ورحمته ، في حركة رسله الذين يبعثهم لإبلاغ رسالاته إلى الناس كافة ، ليحتوي الجميع في ساحة رضوانه.

* * *

عدم معرفة النبي بالغيب

(قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) فإن رسالتي هي في الخط الذي تحركت به رسالات الأنبياء السابقين ، كما أن دوري هو دورهم في الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ، فليس لكم أن تفرضوا ما توحي به خيالاتكم وأوهامكم من دور للنبي وشخصيته وقدرته على تغيير الواقع الكوني وحركة الكون ونظامه ، فليس لذلك أيُّ موقع في ساحة الحقيقة الرسالية ، (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) فلست ـ في ما أملكه من طاقة المعرفة ـ أعلم الغيب ، لأن للغيب أدواته وأسبابه ووسائله التي لا أملكها بصفتي الذاتية كإنسان ، ولا بصفتي الرسالية كنبيّ في ما تفرضه طبيعة الرسالة من دور للرسول ، لأن الرسول يتحرك على ضوء التعليمات الإلهية التي ينزل بها الوحي عليه ، مما يلقي الله إليه من علمه ، ومما يفتح عليه من غيبه ، فإن طاقاته محدودة بما يمنحه الله منها.

(إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) فالوحي هو الذي يحدّد لي خط الحركة ، وهو الذي يحدد لي الخطوات من البداية إلى النهاية ، (وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أبلّغكم آيات الله وأثير في قولكم معانيها ، لتكون نذيرا لكم بين يدي عذاب شديد ، وذاك هو كل شيء في الدور ، وفي الحركة ، وفي الهدف.

وقد نلاحظ في هذا الجوّ القرآني الذي يضع قدرات النبي الذاتية في حدود بشريته ، أن ذلك لا يعني انتفاء علم الأنبياء بالغيب من خلال الوحي الذي يحمل إليهم بعض غيب الله ، كما جاء في حديث القرآن عن عيسى عليه‌السلام ممّا كان يتحدث به مع بني إسرائيل : (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ)

١٧

[آل عمران : ٤٩] ، وكما جاء في قوله تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) [الجن : ٢٦ ـ ٢٧] ، وهذا ما تؤكده الآية القائلة : (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) [الأنعام : ٥٠]. فالوحي هو مصدر معرفة النبي في قضايا العقيدة والشريعة والحياة والدار الآخرة ، ضمن ما يريد الله له أن يعلمه لحاجة الرسالة إليه في ساحتها العامة والخاصة.

* * *

تواصل الوحي

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ) في موقفكم هذا الذي يتميز بالعناد القائم على العصبية ، (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ) ممن انفتحوا على الحق البارز في الوحي القرآني ، جزاء ثقافته التوراتية التي تحمله على تصديق رسول الله في رسالته ، وفي وحي الله الذي يبلّغه للناس ، (فَآمَنَ) عند ما رأى عمق الحقيقة في مسألة الإيمان (وَاسْتَكْبَرْتُمْ) عليه ، فلم تخضعوا لله في وحيه ورسالاته بعد قيام الحجة عليكم ، الأمر الذي يوحي بأن من يفتح قلبه على آفاق المعرفة ، لا بد من أن يصل إلى الإيمان ، وأنّ من يعيش روح العصبية والاستكبار يبقى في دائرة الجهل والعناد ، بعيدا عن الإيمان.

ويقول المفسرون : إن هذه الآيات نزلت في عبد الله بن سلام حيث أسلم في المدينة ، وكان عالما كبيرا ممن يملكون ثقافة التوراة في بني إسرائيل (١) ، وبذلك تكون هذه الآية مدنيّة داخل السورة المكية.

(إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم بالبقاء في ساحة الجهل ، والبعد عن نور المعرفة ، والانطلاق في خط الكفر والشرك والضلال ،

__________________

(١) انظر : السيوطي ، جلال الدّين ، الدر المنثور في التفسير بالمأثور ، دار الفكر ، بيروت ـ لبنان ، ١٩٩٣ م ـ ١٤١٤ ه‍ ، ج : ٧ ، ص : ٤٣٧ ـ ٤٤٠.

١٨

ورفضوا الأخذ بأسباب الهداية وهي في متناول أيديهم ، مما أغلق باب الهداية الإلهية عنهم ، لأنّ الله لا يهدي من يصرّ على اختيار الضلال كنهج لحياته.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا) في معرض تبرير تركهم للإيمان والتأكيد على أنهم يتميزون عن غيرهم في وعي القضايا الفكرية والعملية ، وفي التزامهم بخط الخير الواضح في طبيعته ، وسبقهم الدائم إليه ، وعدم قبولهم تقدّم أحد عليهم في ذلك ، (لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) لأننا السابقون إلى الخير في كل المواقع ، لكننا لم نر فيه ملامح الخير للبشرية (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ) أي بالقرآن ، أو بالإيمان في مضمونه الفكري والعملي ، (فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) أي من الأكاذيب القديمة ومن أساطير الأولين ، ولا يستند قولهم هذا إلى قاعدة فكرية تميز بين الصدق والكذب ، وبين الأسطورة والواقع ، بل إلى عقدة الكبرياء الكامنة في عمق شخصياتهم التي تحاول إعطاء مواقفها السلبية من القضايا بعدا منطقيا بادعاء وجود خلل ما في مضمونها. وهذا هو الأساس في كلامهم المذكور في الفقرة السابقة من الآية : (لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) ليصوّروا أن رفضهم للرسالة يتحرك من موقع عدم قبولهم إلا بالخير الذي اكتشفوا أن الدعوة القرآنية لا تمثّله.

(وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً) فقد أنزل الله الكتاب على موسى ليكون إماما للناس ، فيكون في الموقع المتقدم الذي يحرك أفكارهم ومواقفهم وأوضاعهم ، لأنه يمثل وحي الله مما يصلح أمر الأمة ويبعدها عن الفساد ، كما كان رحمة في مضمونه العقيدي والتشريعي والحركي ، باعتبار أنه يفتح لهم أبواب الخير ، ويغلق عنهم أبواب الشرّ.

(وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ) لما قبله من الكتب السماوية ، بما تسعى إليه في مضمونها من تثقيف تدريجي للناس ، وتوعية متحركة لهم ، تلاحق المتغيرات ، والحاجات الجديدة والمواقع المختلفة. ومضمون الكتاب ، في حقائقه الخالدة ، وفي مواقعه المتغيرة ، وفي لغته التي تتنوّع بتنوع مواقع الرسالة التي قد تفرض أن يكون بلغة الأمّة التي أرسل إليها ، لتكون طليعة الرسالة كما يكون

١٩

الرسول طليعة الرسل ، هو تصديق لما قبله من كتب سماوية ، فقد جاء القرآن بعد التوراة ، فاحتوى في داخلة الكثير من معانيها وشرائعها ، وصدّقها جملة وتفصيلا ، وكان (لِساناً عَرَبِيًّا) ينطق بلغة الرسول الذي نزل عليه ، وبلغة الأمّة التي نزل فيها ، (لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) أنفسهم بالكفر والشرك والبغي والعدوان (وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ) الذين عاشوا الإحسان في فكرهم إيمانا منفتحا على الله وعلى الحياة ، كما عاشوه في حياتهم عملا صالحا والتزاما بالصراط المستقيم.

* * *

التوحيد والاستقامة سبيل الأمن في الآخرة

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) على التوحيد وساروا على الخط الذي يحدده

الإيمان بالله وبربوبيته من منهج فكري وعملي يوحد التصور والشريعة والحركة ، حيث يلتقي الإنسان في كل تلك المواقع بالله ، فلا يلتفت إلى غيره ، ولا ينقاد إلا له ، ولا يلتزم إلا بمنهجه وشريعته وقرآنه.

إن القضية الأساس في الإسلام ، هي قضية التوحيد التي تحتوي الوجود كله ، فهو عقيدة لا تقف حدودها عند حدود اللّاهوت في الأعماق الفلسفية ، بل تدخل في كل شؤون الحياة الخاصة والعامة ، فلا يكون الإنسان توحيديا إلّا إذا استقام في هذا الخط في كل دروب الواقع وساحات الصراع ، فلا ينحرف ذات اليمين وذات الشمال ، استجابة لما يدعوه الآخرون إلى الالتزام به مما لا يرجع الأمر فيه إلى الله ، فإذا اختزن الإنسان التوحيد الإلهي في عقيدته ، وسار في غير دروب الله في نهجه وشريعته ، لم يكن موحّدا بالمعنى العملي أو الحركي. ولذلك فإن معنى الاستقامة في خط ربوبية الله ، الالتزام بالربوبية في كل المواقع التي تتسع لها في الإيجاد والتشريع والتدبير ، بحيث تكون شمولية الإيمان منطلقة من شمولية الله في عمق الوجود وحركته ، فيكون الإيمان كاملا بذلك في البداية والنهاية وخط السير.

٢٠