التفسير المنير - ج ١٠

الدكتور وهبة الزحيلي

وقد أوجب الإمام الشافعي صرف جميع الصدقات الواجبة من الفطرة وزكاة الأموال إلى الأصناف الثمانية ؛ لأن الآية أضافت جميع الصدقات إليهم بلام التمليك ، وشرّكت بينهم بواو التشريك ، وحصرت صرفها في الأصناف الثمانية ؛ لأن لفظة (إِنَّمَا) تقتضي الحصر فيهم ، فدلت الآية على أن الصدقات كلها مملوكة لهم ، مشتركة بينهم. ولا يجوز الصرف لأقل من ثلاثة أشخاص من كل صنف ؛ لأن أقل الجمع ثلاثة.

وأجاز الأئمة الثلاثة الآخرون صرفها إلى صنف واحد ، وإلى شخص واحد من كل صنف في رأي أبي حنيفة ومالك ؛ لأن الآية للتخيير في هذه الأصناف دون غيرهم ، بدليل قوله تعالى : (وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) [البقرة ٢ / ٢٧١] وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما رواه الجماعة عن معاذ بن جبل : «أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم ، وأردها إلى فقرائكم» والمذكور فقط في الآية والحديث هو صنف واحد وهم الفقراء.

ودليلهم على جواز الاقتصار على شخص واحد : هو أن (أل) في الجمع المعرف هنا مجاز في الجنس ، أي جنس الصدقة لجنس الفقير ، وجنس الفقير يتحقق بواحد ، فتصرف إليه. وتحمل (أل) على المجاز ؛ لتعذر حملها على الحقيقة ، وهو استغراق جميع الفقراء ، وإعطاء الصدقة لكل فقير.

والسر في التعبير باللام المفيدة للملك في ستة أصناف (وهم الفقراء والمساكين والعاملون عليها ، والمؤلفة قلوبهم ، والغارمون ، وابن السبيل) أن أصحابها أشخاص يملكون. وأما التعبير ب (فِي) في صنفين (وهما : في الرقاب ، وفي سبيل الله) فلأن المراد الجهة أو الأوصاف والمصالح العامة للمسلمين ، وليس المراد الأشخاص ، وللإيذان بأنهم أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره ، فالتعبير بفي في قوله : (وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ) فيه ترجيح لهذين الصنفين على الرقاب والغارمين.

٢٦١

وأما بيان الأصناف الثمانية فهو فيما يأتي :

١ ـ الفقراء : وهم المحتاجون غير الأغنياء ، الذين لا يجدون كفايتهم.

٢ ـ المساكين : وهم فئة أخرى من المحتاجين.

وقد اختلف الفقهاء فيمن هو أسوأ حالا : الفقير أم المسكين ، فقال الشافعية والحنابلة : الفقير أسوأ حالا من المسكين ، فهو المعدم الذي لا يملك شيئا من مال ولا كسب يغطي حاجته ، وأما المسكين : فهو من يملك أقل من كفايته. وقال الحنفية والمالكية : المسكين أسوأ حالا من الفقير.

وليس للخلاف ثمرة في الزكاة ، وإنما تظهر فائدة الخلاف في الوصية للفقراء دون المساكين أو العكس ، وفيمن أوصى بشيء للفقراء وبشيء آخر للمساكين.

وأدلة الشافعية والحنابلة هي : أنه تعالى قدم الفقراء ؛ لأنهم أحوج من غيرهم ، وأنه تعالى بقوله : (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ ...) [الكهف ١٨ / ٧٩] وصف بالمسكنة من له سفينة ، وأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يتعوذ من الفقر ، ويقول فيما رواه الحاكم عن أبي سعيد الخدري : «اللهم أحيني مسكينا ، وأمتني مسكينا ، واحشرني في زمرة المساكين» ولا يعقل أن يتعوذ من شيء ، ثم يسأل حالا أسوأ منه ، فالمسكين يملك شيئا ؛ وقد نقل جماعة من أهل اللغة كابن الأنباري : أن المسكين : الذي له ما يأكل ، والفقير : الذي لا شيء له. وقالوا : والفقير : معناه في كلام العرب : الذي نزعت بعض فقرات ظهره من شدة الفقر ، فلا حال أشدّ من هذه.

وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «ليس المسكين بهذا الطوّاف الذي يطوف على الناس ، فترده اللّقمة واللقمتان ، والتمرة والتمرتان ، قالوا : فما المسكين يا رسول الله؟ قال : الذي لا يجد غنى يغنيه ، ولا يفطن له فيتصدق عليه ، ولا يسأل الناس شيئا».

٢٦٢

وأدلة الحنفية والمالكية على أن المسكين أسوأ حالا من الفقير هي : أنه تعالى وصفه بقوله : (أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) [البلد ٩٠ / ١٦] أي ألصق جلده بالتراب لمواراة جسده ، مما يدل على شدة حاجته ؛ وأن بعض أهل اللغة كالأصمعي وابن السّكّيت قالوا : المسكين : الذي لا شيء له ، والفقير : هو الذي له بعض ما يكفيه ؛ وأن المسكين : هو الذي يسكن حيث يحل ، مما يدل على نهاية الضرر والبؤس.

والظاهر أن المنقول في اللغة متعارض ، فيعذر الفريقان فيما ذهبا إليه ، وهما متفقان على أنهما صنفان. وروي عن أبي يوسف ومحمد : أنهما صنف واحد. وفائدة الخلاف : تظهر فيمن أوصى بثلث ماله لفلان وللفقراء والمساكين ؛ فمن قال : هما صنف واحد قال : يكون لفلان نصف الثلث وللفقراء والمساكين النصف الآخر ، ومن جعلهما صنفين قسم الثلث بينهم أثلاثا.

حدّ الفقر الذي يجوز معه الأخذ :

أجمع العلماء على أن من له دار وخادم لا يستغني عنهما : أن له أن يأخذ من الزكاة ، وللمعطي أن يعطيه. واختلفوا فيما عدا ذلك.

فقال أبو حنيفة : من معه عشرون دينارا أو مائتا درهم (نصاب الزكاة) فلا يأخذ من الزكاة. فاعتبر النصاب ، لقوله عليه الصلاة والسّلام فيما رواه الجماعة عن معاذ : «أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم ، وأردّها في فقرائكم».

وقال أحمد والثوري وإسحاق وغيرهم : لا يأخذ من له خمسون درهما أو قدرها من الذهب ، ولا يعطى منها أكثر من خمسين درهما إلا أن يكون غارما ؛ لما رواه الدارقطني عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «لا تحل الصدقة لرجل له خمسون درهما» لكن في إسناده ضعف.

٢٦٣

والمشهور عن مالك : ما رواه ابن القاسم عنه أنه سئل : هل يعطى من الزكاة من له أربعون درهما؟ قال : نعم. والفقير عند المالكية : هو من ملك من المال أقل من كفاية السنة.

وقال الشافعي وأبو ثور : من كان قويا على الكسب والتحرّف ، مع قوة البدن وحسن التصرف ، حتى يغنيه ذلك عن الناس ، فالصدقة عليه حرام ؛ لما أخرجه أبو داود والترمذي والدارقطني عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «لا تحلّ الصدقة لغني ، ولا لذي مرّة سوي» (١).

هل تعطى الزكاة للكفار وآل البيت؟

ظاهر الآية وإطلاق اللفظ يقتضي إعطاء الزكاة لمن اتصف بصفة الفقير والمسكين ، سواء في ذلك آل البيت وغيرهم ، وسواء الأقارب وغيرهم ، والمسلمون والكفار ، ولكن رأى الفقهاء أن الزكاة محصورة في المسلمين ، فلا يجوز دفع شيء منها إلى كافر ؛ لما جاء في الصحيحين عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن : «أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم ، فتردّ على فقرائهم».

وأباح أبو حنيفة رحمه‌الله دفع الفطرة إلى الكفار ؛ لأن الحديث مختص بالزكاة.

وكذلك رأى الفقهاء أنه لا يجوز دفع الزكاة إلى من تلزم المزكي نفقته من الأقارب (وهم الأصول والفروع) والزوجات ؛ لأن الزكاة لدفع الحاجة ، ولا حاجة بهم مع وجود النفقة لهم ، ولأنه بالدفع إليهم يجلب لنفسه نفعا.

واتفق العلماء على أنه لا يجوز دفع الزكاة إلى هاشمي ؛ لما رواه مسلم عن

__________________

(١) المرّة : القوة والشدة ، والسوي : الصحيح الأعضاء.

٢٦٤

المطلّب بن ربيعة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إن هذه الصدقة إنما هي أوساخ الناس ، وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد».

ولم يجز الشافعي أيضا دفعها إلى مطّلبي ؛ لما رواه البخاري عن جبير بن مطعم أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إن بني هاشم وبني المطلب شيء واحد ، وشبّك بين أصابعه».

مقدار ما يعطى للفقير والمسكين :

للعلماء آراء متفاوتة في ذلك ، فرأى أبو حنيفة : أنه لا يزاد على النصاب ، أي أنه يكره أن يعطى إنسان من الزكاة مائتي درهم.

وذهب مالك إلى أن الأمر راجع إلى الاجتهاد ، وأجاز مع الإمام أحمد إعطاء ما يكفي سنة.

ورأى الشافعي أنه يعطى الفقير والمسكين ما تزول به حاجته ؛ لأن المقصود من الزكاة سدّ الحاجة.

نقل الزكاة لفقراء بلد آخر :

للعلماء رأيان : فذهب الجمهور إلى أنه لا يجوز نقل الزكاة عن البلد الذي فيه المال إلى بلد آخر ، لكن أجاز المالكية والشافعية والحنابلة نقلها إلى بلد آخر دون مسافة القصر (٨٩ كم) لأنه في حكم موضع الوجوب. وأوجب الشافعية نقلها إلى أقرب البلاد لبلد الوجوب إذا لم توجد الأصناف الثمانية في بلد الزكاة ، أو فضل شيء عن بعض منهم.

وأباح ابن القاسم وسحنون نقلها لبلد آخر لضرورة أو حاجة شديدة ؛ فإن الحاجة إذا نزلت وجب تقديمها على من ليس بمحتاج ، «والمسلم أخو المسلم ،

٢٦٥

لا يسلمه (١) ، ولا يظلمه» قال ابن العربي : وهو الصحيح.

وقال الحنفية : يكره تنزيها نقل الزكاة من بلد إلى آخر إلا أن ينقلها إلى قرابته المحتاجين ليسد حاجتهم ، أو إلى قوم هم أحوج إليها وأصلح أو أورع أو أنفع للمسلمين ، أو من دار الحرب إلى دار الإسلام ، أو إلى طالب علم ، أو إلى الزهاد ، أو كانت معجلة قبل تمام الحول ، فلا يكره نقلها. ولو نقلها لغير هذه الأحوال جاز ؛ لأن المصرف مطلق الفقراء. والدليل قول معاذ لأهل اليمن : ايتوني بخميس (٢) أو لبيس آخذه منكم مكان الذرة والشعير في الصدقة ، فإنه أيسر عليكم ، وأنفع للمهاجرين بالمدينة. وقد دلّ هذا الحديث على أمرين :

أحدهما ـ نقل الزكاة من اليمن إلى المدينة ، فيتولى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قسمتها ، ويعضد هذا قوله تعالى : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ) ولم يفرق بين فقير بلد وفقير آخر.

والثاني ـ أخذ القيمة في الزكاة. وهو رأي الحنفية ؛ لأن المقصود من الزكاة سدّ حاجة الفقراء ، وأي شيء سدّ حاجتهم جاز ، وقال الله تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) ولم يخص شيئا من شيء.

ولم يجز الجمهور إخراج القيمة في شيء من الزكاة ؛ لأن الحق لله تعالى ، وقد علقه على ما نص عليه ، فلا يجوز نقل ذلك إلى غيره ، كالأضحية لما علقها على الأنعام ، لم يجز نقلها إلى غيرها ، وإنما يجب العلم بالمنصوص عليه.

والمعتبر عند الحنفية والشافعية والحنابلة في زكاة المال : المكان الذي فيه المال ، والمعتبر في صدقة الفطر مكان وجود الصائم.

__________________

(١) أي لا يتركه مع من يؤذيه ، بل يحميه. والحديث رواه أبو داود عن سويد بن حنظلة.

(٢) الخميس : لفظ مشترك : وهو هنا الثوب طوله خمسة أذرع ، وأول من عمله الخمس أحد ملوك اليمن.

٢٦٦

وعند المالكية قولان : قول يعتبر مكان المال وقت تمام الحول ، فتفرق الصدقة فيه ، وقول يعتبر مكان المالك ، إذ هو المخاطب بإخراج الزكاة ، فصار المال تبعا له.

ومن أعطى فقيرا مسلما ، ثم تبين له أنه عبد أو كافر أو غني ، أجزأه على الأصح عند مالك ، بدليل حديث مسلم عن أبي هريرة المتضمن قبول الصدقة على زانية وغني وسارق ، ولأن المطلوب منه الاجتهاد في المعطى ، فإذا اجتهد وأعطى من يظنه من أهل الزكاة ، فقد أتى بالواجب عليه.

ومن أخرج الزكاة عند حلول الحول ، فهلكت من غير تفريط ، لم يضمن عند المالكية ؛ لأنه وكيل للفقراء. فإن أخرجها بعد ذلك بمدة ، فهلكت ضمن ؛ لتأخيرها عن محلّها ، فتعلقت بذمته ، فلذلك ضمن.

وإذا كان الإمام يعدل في الأخذ والصرف ، لم يسغ للمالك أن يتولى الصرف بنفسه في الناضّ (١) ولا في غيره.

٣ ـ العاملون عليها : وهم السّعاة والجباة الذين يبعثهم الإمام لتحصيل الزكاة بالتوكيل على ذلك. روى البخاري عن أبي حميد الساعدي قال : استعمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجلا من الأسد على صدقات بني سليم يدعى ابن اللّتبيّة ، فلما جاء حاسبه.

واختلف العلماء في المقدار الذي يأخذونه على ثلاثة أقوال :

الأول ـ قال مجاهد والشافعي : هو الثمن ، فإن زادت أجرتهم على سهمهم ، تمّم لهم من بيت المال ، وقيل : من سائر السهمان. وهذا رأي موافق لظاهر الآية.

__________________

(١) الناض من المال : هو الدرهم والدينار ، وإنما يسمى ناضا إذا تحوّل نقدا بعد أن كان متاعا ، أي صار ذا سيولة.

٢٦٧

الثاني ـ قال الحنفية والمالكية : يعطون قدر عملهم من الأجرة ؛ لأنهم عطّلوا أنفسهم لمصلحة الفقراء ، فكانت كفايتهم وكفاية أعوانهم في مال الفقراء. وإذا استغرقت كفايتهم الزكاة ، فلا يزيدهم الحنفية على النصف ، ويعطون الوسط.

الثالث ـ يعطون من بيت المال ، وهو قول ضعيف الدليل ؛ فإن الله سبحانه أخبر بسهمهم في الزكاة ، فكيف لا يعطونه؟

والذي يعطى للعامل هو بمثابة الأجرة على العمل ، فيعطاها ولو كان غنيا ، لذا فإنه يعطاها ولو كان هاشميا في رأي مالك والشافعي ؛ لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث علي بن أبي طالب مصدّقا ، وبعثه عاملا إلى اليمن على الزكاة ، وولّى جماعة من بني هاشم ، وولى الخلفاء بعده كذلك ، ولأن العامل أجير على عمل مباح ، فوجب أن يستوي فيه الهاشمي وغيره كسائر الصناعات.

وقال أبو حنيفة : لا يعطى العامل الهاشمي ؛ لأن سهمه جزء من الصدقة ، وقد قال عليه الصلاة والسّلام فيما رواه مسلم عن المطّلب بن ربيعة : «إن الصدقة لا تحلّ لآل محمد ، إنما هي أوساخ الناس».

ودلّ قوله تعالى : (وَالْعامِلِينَ عَلَيْها) على أن كل ما كان من فروض الكفايات كالساعي والكاتب والقسّام والعاشر والعريف والحاسب وحافظ المال ، يجوز للقائم به أخذ الأجرة عليه. ومن ذلك الإمامة ، فإن الصلاة وإن كانت فرضا عينيا على كل واحد ، فإن التفرغ للإمامة من فروض الكفايات ، كما ذكر القرطبي.

ودلّ هذا القول أيضا على أنه يجب على الإمام أن يبعث السعاة لأخذ الصدقة (الزكاة) ؛ لأن بعض من يملك المال لا يعرف ما يجب عليه ، وبعضهم قد يبخل ، وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث عمر بن الخطاب

٢٦٨

رضي‌الله‌عنه على الصدقات. وروى أبو داود عن أبي رافع مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : ولى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجلا من بني مخزوم على الصدقة.

والنص على العامل في الآية يدل على أن أخذ الزكاة إلى الإمام ، ويجب دفعها له ، ولا يجزي رب المال أن يعطيها إلى المستحقين ، ويؤكده قوله تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) [التوبة ٩ / ١٠٣].

لكن يعارض ذلك قوله تعالى : (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) [المعارج ٧٠ / ٢٥ ـ ٢٤] والحق يجوز لمن يجب عليه دفعه للسائل والمحروم مباشرة. لذا فصل العلماء فقالوا :

أـ إن كان مال الزكاة خفيا (باطنا) كالنقود : فيجوز بالإجماع للمالك أن يفرقه بنفسه أو أن يدفعه إلى الإمام.

ب ـ وإن كان مال الزكاة ظاهرا كالماشية والزرع والثمر : فيجب دفعه إلى الإمام في رأي الجمهور ؛ لأن حق المطالبة فيه للإمام ، فيدفع إليه كالخراج والجزية.

وقال الشافعي في الجديد : يجوز للمالك توزيعه بنفسه ؛ لأنه زكاة كزكاة المال الخفي.

٤ ـ المؤلفة قلوبهم : وهم قوم كانوا في صدر الإسلام ممن يظهر الإسلام ، يتألّفون بدفع سهم من الصدقة إليهم لضعف يقينهم. وهم نوعان : مسلمون وكفار ، يعطون ليتقوى إسلامهم.

أما الكفار حال كونهم كفارا : فيعطون من الزكاة في مذهب الحنابلة والمالكية ، ترغيبا في الإسلام ؛ لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «أعطى المؤلفة قلوبهم من المسلمين والمشركين» (١).

__________________

(١) نيل الأوطار : ٤ / ١٦٦

٢٦٩

ولا يعطون من الزكاة في مذهب الحنفية والشافعية ، لا لتأليف ولا لغيره ؛ لأن إعطاءهم في صدر الإسلام إنما كان في حال قلة عدد المسلمين وكثرة عدوهم ، وقد أعزّ الله الإسلام وأهله ، واستغنى بهم عن تألف الكفار ، ولم يعطهم الخلفاء الراشدون بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال عمر رضي‌الله‌عنه : «إنا لا نعطي على الإسلام شيئا ، (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ ، وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ)».

وأما المسلمون من المؤلفة : فهم أصناف ، يعطون لتثبيت إسلامهم :

أولا ـ ضعفاء النية في الإسلام : يعطون ليتقوى إسلامهم.

ثانيا ـ الشريف المسلم في قومه الذي يتوقع بإعطائه إسلام نظرائه ، فقد أعطى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا سفيان بن حرب وآخرين ، وأعطى الزبرقان بن بدر وعدي بن حاتم ، لشرفهما في قومهما.

ثالثا ـ المقيم في ثغر من ثغور المسلمين المجاورة للكفار ، ليكفينا شر من يليه من الكفار بالقتال.

رابعا ـ من يجبي الصدقات من قوم يتعذر إرسال ساع إليهم ، وإن لم يمنعوها. وقد ثبت أن أبا بكر أعطى عدي بن حاتم حين قدم عليه بزكاته وزكاة قومه عام الردة.

وهل بقي سهم المؤلفة قلوبهم أو نسخ؟ رأيان :

قال الحنفية ومالك : قد سقط سهم المؤلفة بانتشار الإسلام وقوته ، فيكون عدد الأصناف من بعد صدر الإسلام وإلى الآن سبعة لا ثمانية ، ويكون سقوط هذا السهم من قبيل انتهاء الحكم بانتهاء علته ، كانتهاء جواز الصوم بانتهاء وقته وهو النهار.

وقال الجمهور منهم العلامة خليل من المالكية : حكم المؤلفة قلوبهم باق لم

٢٧٠

ينسخ ، فيعطون عند الحاجة ، ويحمل ترك عمر وعثمان وعلي إعطاءهم على عدم الحاجة إلى إعطائهم في خلافتهم ، لا لسقوط سهمهم ، فإن الآية من آخر ما نزل من القرآن ، ولأن المقصود من إعطائهم ترغيبهم في الإسلام ، لا لإعانتهم لنا ، حتى يسقط بانتشار الإسلام.

والخلاصة : أن هذا السهم حق للإمام يفعل فيه ما يراه محققا للمصلحة.

٥ ـ وفي الرقاب : أي في فك الرقاب ، كما قال ابن عباس وابن عمر ، أي أن فيه محذوفا ، والمراد به عند أكثر العلماء : المكاتبون (١) المسلمون الذين لا يجدون وفاء ما يؤدون لأسيادهم ، ولو مع القوة والتكسب ؛ لأنه لا يمكن الدفع إلى الشخص الذي يراد فك رقبته إلا إذا كان مكاتبا ، ويدلّ عليه قوله تعالى : (وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ) [النور ٢٤ / ٣٣] إلا أن أبا حنيفة وأصحابه قالوا : لا يعتق من الزكاة رقبة كاملة ، ولكن يعطى منها في رقبة ، ويعاون بها مكاتب ؛ لأن قوله : (وَفِي الرِّقابِ) يقتضي مشاركة المزكي في عتق الرقبة ، لا أن يستقل بالعتق.

وقال المالكية : يشترى بسهمهم رقيق ، فيعتق ؛ لأن كل موضع ذكرت فيه الرقبة : يراد بها عتقها ، والعتق والتحرير لا يكون إلا في القن (العبد الخالص العبودية) كما في الكفارات. ويكون ولاؤهم لبيت المال.

وقد ورد حديث يدل على جواز عتق الرقبة وإعانة المكاتب معا ، روى أحمد والبخاري والدارقطني عن البراء بن عازب قال : جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : دلّني على عمل يقربني من الجنة ، ويباعدني من النار ، فقال : «أعتق النسمة ، وفك الرقبة» فقال : يا رسول الله ، أو ليستا واحدا؟ قال : «لا ،

__________________

(١) المكاتب : من كاتبه سيده على أقساط معينة ، فإذا وفاها صار حرا. والكتابة مندوبة لقوله تعالى : فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً [النور ٢٤ / ٣٣] من أجل تحرير الرقاب.

٢٧١

عتق النسمة : أن تنفرد بعتقها ، وفكّ الرقبة : أن تعين في ثمنها».

وشرط إعطاء المكاتب : هو كونه مسلما محتاجا.

وقال بعض العلماء كابن حبيب المالكي : يفدى من هذا السهم الأسارى. ويؤخذ بهذا القول اليوم لإنهاء الرق من العالم.

٦ ـ الغارمون : وهم المدينون الذين ركبهم الدّين ولا وفاء عندهم به ، سواء استدان المدين في رأي الشافعية والحنابلة لنفسه أو لغيره ، وسواء كان دينه في طاعة أو في معصية. فإن استدان لنفسه لم يعط إلا إذا كان فقيرا ، وإن استدان لإصلاح ذات البين ، ولو بين أهل الذمة ، بسبب إتلاف نفس أو مال أو نهب ، فيعطى من سهم الغارمين ، ولو كان غنيا ؛لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تحل الصدقة لغني إلا خمسة : لغاز في سبيل الله ، أو لعامل عليها ، أو لغارم ، أو لرجل اشتراها بماله ، أو لرجل له جار مسكين ، فتصدق على المسكين ، فأهدى المسكين إليه» (١).

وقال الحنفية : الغارم : من لزمه دين ، ولا يملك نصابا فاضلا عن دينه ، أي أنه الفقير.

وقال المالكية : الغارم : هو من فدحه الدين للناس في غير سفه ولا فساد ، أي من ليس عنده ما يوفي به دينه ، أي أنه الفقير ، إذا كان الدين في غير معصية كشرب خمر وقمار ، ولم يستدن لأخذ الزكاة ، كأن يكون عنده ما يكفيه وتوسع في الإنفاق بالدين لأجل أن يأخذ من الزكاة ، فلا يعطى منها ؛ لأنه قصد مذموم ، بخلاف فقير استدان للضرورة ، ناويا الأخذ من الزكاة ، فإنه يعطى قدر دينه منها لحسن قصده. لكن إن تاب من استدان لمعصية ، أو بقصد ذميم ، فإنه يعطى على الأحسن.

__________________

(١) رواه أبو داود وابن ماجه عن أبي سعيد الخدري رضي‌الله‌عنه.

٢٧٢

وقال الجمهور : يقضى من الزكاة دين الميت ؛ لأنه من الغارمين ؛ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنا أولى بكل مؤمن من نفسه : من ترك مالا فلأهله ، ومن ترك دينا أو ضياعا (١) فإليّ وعلي» (٢).

٧ ـ وفي سبيل الله : وهم في رأي الجمهور الغزاة المجاهدون الذين لا حق لهم في ديوان الجند ، يعطون ما ينفقون في غزوهم ، كانوا أغنياء أو فقراء ؛ لأن السبيل عند الإطلاق هو الغزو ، وهو المستعمل في القرآن والسنة. وأما من له شيء مقدر في الديوان فلا يعطى ؛ لأن من له رزق راتب يكفيه ، فهو مستغن به. ولا يحج أحد بزكاة ماله ، ولا يغزو بزكاة ماله ، ولا يحج بها عنه ، ولا يغزى بها عنه ، لعدم الإيتاء المأمور به. وعلى هذا الرأي : لا يعطى الجيش الحالي من الزكاة لأن الجنود والضباط تصرف لهم اليوم رواتب شهرية دائمة ، وإنما يمكن المساهمة عند الضرورة أو الحاجة العامة في شراء السلاح ، أو إعطاء المتطوعة في الجهاد.

وقال أبو حنيفة : لا يعطى الغازي في سبيل الله إلا إذا كان فقيرا.

وقال أحمد في أصح الروايتين عنه : الحج من سبيل الله ، فيعطى مريد الحج من الزكاة ؛ لما روى أبو داود عن ابن عباس : «أن رجلا جعل ناقة في سبيل الله ، فأرادت امرأته الحج ، فقال لها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اركبيها ، فإن الحج من سبيل الله» وأجاب الجمهور بأن الحج سبيل الله ، ولكن الآية محمولة على الجهاد ، قال مالك : سبل الله كثيرة ، وقال ابن العربي : ولكني لا أعلم خلافا في أن المراد بسبيل الله هاهنا الغزو ، ومن جملة سبيل الله ، إلا ما يؤثر عن أحمد وإسحاق فإنهما قالا : إنه الحج.

__________________

(١) الضياع : مصدر ضاع ، فسمي العيال بالمصدر ، كما تقول : من مات وترك فقرا ، أي فقراء.

(٢) رواه أحمد والشيخان والنسائي والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه ، وهو صحيح.

٢٧٣

وفسر بعض الحنفية سبيل الله بطلب العلم ، وفسره الكاساني بجميع القرب ، فيدخل فيه جميع وجوه الخير مثل تكفين الموتى وبناء القناطر والحصون وعمارة المساجد ؛ لأن قوله تعالى : (وَفِي سَبِيلِ اللهِ) عام في الكل.

والخلاصة : المراد بسبيل الله : إعطاء المجاهدين ولو كانوا أغنياء عند الشافعية ، وبشرط كونهم فقراء عند الحنفية ، والحج من سبيل الله عند أحمد والحسن وإسحاق. واتفق العلماء إلا ما يروى عن بعضهم أنه لا يجوز صرف الزكاة لبناء المساجد والجسور والقناطر وإصلاح الطرقات ، وتكفين الموتى ، وقضاء الدين ، وشراء الأسلحة ونحو ذلك من القرب التي لم تذكر في الآية ، مما لا تمليك فيه.

٨ ـ ابن السبيل : هو المسافر المنقطع في أثناء الطريق عن بلده ، أو الذي يريد السفر في طاعة غير معصية ، فيعجز عن بلوغ مقصده إلا بمعونة. والطاعة : مثل الحج والجهاد وزيارة مندوبة. وأما السفر المباح كالرياضة والسياحة فلا يعطى في رأي بعض الشافعية لعدم حاجته ، ويعطي في رأي آخرين بدليل جواز القصر والفطر له.

ويعطى ابن السبيل ما يبلغ به مقصده إذا كان محتاجا في سفره ، ولو كان غنيا في وطنه.

ومن جاء مدعيا وصفا من الأوصاف السابقة ، فيطالب بإثبات ما يقول ، وعليه أن يثبت الدّين ، وأما سائر الصفات فظاهر الحال يشهد لها ، ويكتفى به فيها ، كما ذكر ابن العربي والقرطبي المالكيان.

وذكر الرافعي الشافعي أن الوصف الخفي كالفقر والمسكنة لا يطالب المدعي بإثباته ، ويعطى بلا بيّنة ، وأما الوصف الجلي فيطالب العامل والمكاتب والغارم بإثباته ، ولا يطالب المؤلف قلبه بإثبات ما يدعيه من ضعف نيته في الإسلام ،

٢٧٤

فإن ادعى أنه شريف مطاع في قومه طولب بالبينة. واشتهار الحال أو الاستفاضة قائم مقام البينة في حق من يطالب بها.

ولا يجوز إعطاء الزكاة من تلزمه نفقته وهم الوالدان والولد والزوجة. أما إن أعطى الإمام صدقة الرجل لولده ووالده وزوجته جاز.

والأفضل إعطاء الزكاة للأقارب المحتاجين ، قال مالك : أفضل من وضعت فيه زكاتك قرابتك الذين لا تعول. والدليل قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لزوجة عبد الله بن مسعود زينب فيما رواه البخاري ومسلم : «لك أجران : أجر الصدقة ، وأجر الصلة».

وقدر المعطى مختلف فيه ، فالغارم يعطى قدر دينه ، والفقير والمسكين يعطيان كفايتهما وكفاية عيالهما مدة سنة عند مالك وأحمد كما تقدم ، وبقدر الحاجة عند الشافعية ، وألا يزاد على نصاب الزكاة عند الحنفية.

ويلاحظ ضرورة الاهتمام في توزيع الزكاة بالترتيب المذكور في الآية ، فإن الترتيب مقصود ومراد ، لكن في سبيل الله وابن السبيل صنفان مفضلان على الرقاب والغارمين للتعبير بفي كما تقدم بيانه.

ثم قال الله تعالى بعد بيان أصناف مستحقي الزكاة : (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) أي فرض الله الصدقات فريضة ، أي حكما مقدرا بتقدير الله وفرضه وقسمه ، وذلك كالزجر عن مخالفة هذا الظاهر.

(وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي عليم بظواهر الأمور وبواطنها وبمصالح عباده ، لا يشرع إلا ما فيه الخير والصلاح للعباد ، فإنه سبحانه شرع الزكاة تطهيرا للنفس ، وتحصينا للمال ، وشكرا للخالق على ما أنعم به ، كما قال : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ ، وَتُزَكِّيهِمْ بِها) [التوبة ٩ / ١٠٣].

٢٧٥

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآية على بيان مصارف الزكاة ، وأنها لثمانية أصناف ، لكن اليوم تعطى الزكاة في الغالب من بعض الأغنياء لا من جميعهم للفقراء والمساكين ، وإعطاؤها نادر للغارمين المديونين وأبناء السبيل. أما الرقاب والعاملون على الزكاة وفي سبيل الله والمؤلفة قلوبهم فلا يصرف من الزكاة عليهم شيء ؛ لأن سهم (وَفِي الرِّقابِ) قد انتهى بسبب انتهاء الرق في العالم ، وأما العاملون أو الموظفون على جباية الزكاة فلم يعد لهم وجود بسبب ترك توزيع الزكاة لأصحابها ، وعدم جباية الحاكم لها ، إلا في بعض محاولات تقوم بها بعض الدول الإسلامية المعاصرة ، وأما سهم في سبيل الله فإن الجيوش النظامية أصبحت تزود بالمؤن والذخائر والأسلحة والرواتب الشهرية الدائمة من خزينة الدولة العامة ، ولم تعد تنتظر زكوات المزكين وإنما يمكن الإنفاق في شراء السلاح أو دعم المتطوعين للجهاد ، وأما المؤلفة قلوبهم حتى عند القائلين ببقاء سهمهم فقد أصبح وجودهم وتشجيعهم وترغيبهم في الإسلام نادرا ، ومحدودا جدا ؛ لأن نشاط الدول طغى على نشاط الأفراد ، ولم تعد الدول المعاصرة تفكر غالبا في أمر انتشار الإسلام ، ولا حول ولا قوة إلا بالله تعالى.

وفي الآية أحكام سبعة هي :

١ ـ قوله تعالى : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ) يدل على أن مصارف الصدقات لثمانية أصناف ، والمراد من لفظ الصدقات هنا هو الزكوات الواجبة ، بدليل إثباته تعالى هذه الصدقات بلام التمليك للأصناف الثمانية ، والصدقة المملوكة لهم ليست إلا الزكاة الواجبة ، ولأن الحصر المستفاد من إنما في هؤلاء الثمانية يصحّ لو حملنا هذه الصدقات على الزكوات الواجبة ، أما لو أدخلنا فيها المندوبات فلم يصح هذا الحصر ؛ لأن الصدقات المندوبة يجوز صرفها إلى بناء المساجد والرباطات في

٢٧٦

الثغور ، والمدارس ، وتكفين الموتى وتجهيزهم وسائر الوجوه. ثم إن قوله : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ) منصرف إلى الصدقات التي سبق بيانها وهي الصدقات الواجبة.

٢ ـ دلت الآية على أن هذه الزكاة يتولى أخذها وتفرقتها الإمام أو من يليه من قبله ، بدليل تعيين نصيب أو سهم للعاملين فيها ، فيدل على أنه لا بد في أداء هذه الزكوات من عامل ، والعامل : هو الذي يعينه الإمام لأخذ الزكوات ، فدلّ هذا النص على أن الإمام هو الذي يأخذ هذه الزكوات. وتأكد هذا النص بقوله تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) [التوبة ٩ / ١٠٣]. أما إخراج المالك زكاة أمواله الباطنة بنفسه فيستفاد من قوله تعالى : (فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) [المعارج ٧٠ / ٢٤ ـ ٢٥] وحق السائل والمحروم يجوز دفعه إليه من غير واسطة الإمام.

٣ ـ للعامل في مال الزكاة حق ، وإن كان غنيا في رأي الأكثرين.

٤ ـ ظاهر الآية يدل على وجوب تعميم الزكاة للأصناف الثمانية ، وقد ذكرت آراء العلماء وأدلتهم في جواز الصرف إلى ثلاثة منهم أو إلى واحد.

٥ ـ العامل والمؤلفة والرقاب مفقودون في هذا الزمان. وأما مصرف (فِي سَبِيلِ اللهِ) أي للمجاهدين فلم يعودوا بحاجة للزكاة ، لأخذهم مرتبات شهرية دائمة ، وإنما يعطى المتطوعون أو من أجل شراء السلاح عند الضرورة أو الحاجة الملحة.

٦ ـ قوله : (لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ) يشمل بعمومه الكافر والمسلم ، لكنه خصص بالسنة النبوية التي دلت على أنه لا يجوز صرف الزكاة إلى الفقراء والمساكين إلا إذا كانوا مسلمين.

٧ ـ المقصود من قوله : (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) الزجر عن مخالفة هذا الظاهر ، وتحريم إخراج الزكاة عن هذه الأصناف ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما رواه

٢٧٧

أبو داود عن زياد بن الحارث الصدائي ، وهو ضعيف : «إن الله تعالى لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو ، فجزأها ثمانية أجزاء».

حكمة الزكاة :

أبان الرازي في تفسيره (١) الحكمة في إيجاب الزكاة ، وذكر اثني عشر وجها من المصالح عائدة إلى معطي الزكاة ، وثمانية وجوه من المصالح عائدة إلى آخذ الزكاة ، أشير إليها بإيجاز وتصرف.

أما فوائد الزكاة للمزكي فهي ما يلي :

١ ـ الزكاة علاج صالح متعين لإزالة مرض حب الدنيا عن القلب ، وكسر شدة الميل إلى المال ، والمنع من انصراف النفس بالكلية إليه ، وهو المراد من قوله تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) [التوبة ٩ / ١٠٣] أي تطهرهم وتزكيهم عن الاستغراق في طلب الدنيا.

٢ ـ الحد من ملذات الدنيا ، والتوجه إلى عالم عبودية الله وطلب رضوانه ، بالإنفاق في طلب مرضاة الله.

٣ ـ الوقوف أمام طغيان المال وقسوة القلب ، كما قال تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) [العلق ٩٦ / ٦ ـ ٧] فإيجاب الزكاة يقلل الطغيان ويرد القلب إلى طلب رضوان الرحمن.

٤ ـ تربية النفس عن طريق الشعور بآلام الآخرين ، والإحسان إلى الناس ، والسعي في إيصال الخيرات إليهم ، ودفع الآفات عنهم ، وهذا من صفات الله ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: «تخلقوا بأخلاق الله».

٥ ـ توفير محبة الفقراء للأغنياء ؛ لأن الإنفاق عليهم يستدعي حبهم ، على

__________________

(١) انظر ١٦ / ١٠٠ ـ ١٠٤

٢٧٨

ما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما رواه ابن عدي وأبو نعيم البيهقي عن ابن مسعود وصححه : «جبلت القلوب على حب من أحسن إليها ، وبغض من أساء إليها» وإذا أحبوه دعوا له بالخير ، فيصير الدعاء سببا لبقاء الإنسان في النعمة ، كما قال تعالى : (وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) [الرعد ١٣ / ١٧] وقال عليه الصلاة والسّلام فيما رواه الطبراني وأبو نعيم والخطابي عن ابن مسعود ، وهو ضعيف : «حصّنوا أموالكم بالزكاة».

٦ ـ الزكاة تنقل الإنسان من درجة الاستغناء بالشيء إلى مقام أعلى وهو الاستغناء عن الشيء ، والأول صفة الخلق ، والثاني صفة الحق.

٧ ـ الإنفاق من المال في وجوه البر والخير والمصالح العامة يوجب المدح الدائم في الدنيا ، والثواب الدائم في الآخرة ، فيكون ذلك سببا لنقل المال إلى القبر وإلى القيامة ، بعد أن كان معرضا للزوال ؛ لأن المال غاد ورائح.

٨ ـ إن بذل المال تشبّه بالملائكة والأنبياء ، وإمساكه تشبه بالبخلاء المذمومين ، فكان البذل أولى.

٩ ـ إن إفاضة الخير والرحمة من صفات الحق تعالى ، والإنفاق يؤدي إلى التخلق بأخلاق الله.

١٠ ـ الإنفاق من المال يحقق السعادة الاجتماعية ، كما أن الإيمان يحقق السعادة الروحانية ، والصلاة تحقق السعادة البدنية.

١١ ـ الزكاة : شكر النعمة ، وشكر المنعم واجب ، وشكر النعمة : صرفها إلى طلب مرضاة المنعم.

١٢ ـ إن إيجاب الزكاة يوجب حصول الألفة بالمودة بين المسلمين ، وزوال الحقد والحسد عنهم.

وأما فوائد الزكاة للآخذ ، فهي ما يأتي :

٢٧٩

١ ـ دفع الحاجة وسد الخلّة ، وذلك مقصد راجح على مراعاة جانب المالك الذي اكتسب المال وتعلق قلبه به ، لكنه فضل عنده فائض زائد على قدر حاجته ، فأبقينا له الكثير ، وأخذنا منه اليسير.

٢ ـ عدم تعطيل المال الفاضل عن الحاجات الأصلية ، وقد خلق الله تعالى المال وسيلة لتوفير الحوائج ، لا للاكتناز والادخار والإمساك.

٣ ـ المال مال الله ، والأغنياء خزّان الله ، والفقراء عيال الله ، ولا بد من تضامن الفريقين وتعاطفهم وتعاونهم ، وتنفيذ أمر الله المالك الحقيقي للكون بالإنفاق على المحتاجين من عباده ، والإنفاق على عيال الله تعالى.

٤ ـ الحكمة والرحمة تقتضيان صرف الغني بعض ماله غير المحتاج إليه إلى الفقير العاجز عن الكسب بالكلية الذي هو أحوج إليه ، وهذا يحقق معنى التكافل الاجتماعي في الإسلام.

٥ ـ الزكاة جبران للنقص الحادث عند الفقير ، ويستطيع المالك جبر النقصان الذي حدث بسبب الزكاة ، عن طريق الاتجار فيه.

٦ ـ الحد من ارتكاب الجرائم واللحاق بالأعداء ، فلو لم ينفق الأغنياء على مهمات الفقراء ، لأقدم هؤلاء على الأفعال المنكرة كالسرقة وغيرها ، أو على الالتحاق بأعداء المسلمين.

٧ ـ أداء الزكاة يساعد جميع المكلفين على الاتصاف بصفة الصبر والشكر معا ، وقد قال عليه الصلاة والسّلام فيما رواه البيهقي عن أنس ، وهو ضعيف : «الإيمان نصفان : نصف صبر ، ونصف شكر» فإذا أدى الغني الزكاة شكر النعمة ، وصبر على نقصان جزء من المال ، وإذا أعطي الفقير الزكاة ، صار شاكرا بعد أن كان صابرا.

٨ ـ أخذ الزكاة فيه مساعدة الفقير الغني بتخليصه في الدنيا من الذم والعار ، وفي الآخرة من عذاب النار ، فيكون الفقير كالمنعم على الغنى بتخليصه من النار.

٢٨٠