التفسير المنير - ج ٥

الدكتور وهبة الزحيلي

١
٢

٣
٤

حرمة الزواج بالمتزوجات وإباحة الزواج بغير المحارم بشرط المهر

(وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٢٤))

الإعراب :

(كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ) منصوب على المصدر بفعل دل عليه قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) ؛ لأن معناه : كتب ذلك كتابا الله ، ثم أضيف المصدر إلى الفاعل. مثل قوله تعالى : (صُنْعَ اللهِ) [النمل ٢٧ / ٨٨] : منصوب على المصدر بما دل عليه الكلام قبله ، وتقديره : صنع ذلك صنعا الله ، ثم أضيف المصدر إلى الفاعل.

(وَأُحِلَّ لَكُمْ) بالضم فعل ماضى مبني للمجهول ، وما نائب الفاعل ، وقرئ بفتح الهمزة على أنه مبني للمعلوم ، وما مفعول به. و (أَنْ تَبْتَغُوا) إما منصوب على أنه بدل من ما إذا كانت في موضع نصب مفعول به ، أو على أنه مفعول لأجله ، أي لأن تبتغوا بأموالكم. وإما مرفوع على أنه بدل من ما على أنها نائب فاعل. (مُحْصِنِينَ) و (غَيْرَ مُسافِحِينَ) حال من ضمير (تَبْتَغُوا).

البلاغة :

يوجد طباق بين (مُحْصِنِينَ) و (مُسافِحِينَ).

(آتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) : استعار لفظ الأجور للمهور ؛ لأن المهر يشبه الأجر في الصورة.

٥

المفردات اللغوية :

(وَالْمُحْصَناتُ) أي حرمت عليكم ذوات الأزواج ؛ لأنهن دخلن في حصن الزوج وحمايته ، ويطلق الإحصان في القرآن الكريم على أحد أربعة معان :

١ ـ التزوج : كما في الآية : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ) [النساء ٤ / ٢٤] يقال : أحصن الرجل : إذا تزوج.

٢ ـ الإسلام : كما في الآية : (فَإِذا أُحْصِنَ) أي أسلمن ، يقال : أحصن : إذا أسلم.

٣ ـ العفة : كما في الآية : (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) [النساء ٤ / ٢٥] يقال: أحصن : إذا عف ، وفي آية أخرى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ، ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) [النور ٢٤ / ٤].

٤ ـ الحرية : كما في الآية : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ) [النساء ٤ / ٢٥] يقال : أحصن : إذا صار حرا ، وفي الآية نفسها : (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ).

وفي جميع ذلك : معنى المنع وتحصين النفس من الوقوع في الحرام ، فالرجل إذا تزوج ، منع نفسه من الزنى ، وإذا أسلم ، منع نفسه من القتل ، والعفيف يمنع نفسه من الفحش ، وإذا عتق منع نفسه من الاستيلاء.

وورد الإحصان في السنة بمعنى التزوج ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أحصنت؟ بمعنى تزوجت ، قال : نعم. وقال عليه الصلاة والسلام فيما رواه أبو داود عن علي : «أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم» من أحصن منهم ومن لم يحصن.

(ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) أي المملوكات بالسبي في جهاد مشروع ، فينفسخ نكاحهن من أزواجهن الكفار في دار الحرب ، ويحل الاستمتاع بهن بعد استبراء الحامل بوضع حملها ، وغير الحامل (الحائل) بحيضة ثم تطهر ، واشترط الحنفية اختلاف الدار بينها وبين زوجها ، فلو سبيت هي وزوجها لم تحل لغيره.

(كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ) أي كتب الله تحريم ذلك عليكم (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) أي أبيح لكم من النساء سوى ما حرم عليكم (أَنْ تَبْتَغُوا) تطلبوا النساء (بِأَمْوالِكُمْ) بصداق ، فالأموال : المهور (مُحْصِنِينَ) متزوجين أو متعففين (غَيْرَ مُسافِحِينَ) غير زانين ، والمسافح : الزاني ، وذلك لئلا تضيعوا أموالكم وتفقروا أنفسكم فيما لا يحل لكم ، فتخسروا دنياكم ودينكم ، ولا مفسدة أعظم مما يجمع بين الخسرانين.

(أُجُورَهُنَ) مهورهن ، والأجر في الأصل : الجزاء في مقابلة شيء من عمل أو منفعة ، والمهر في مقابل الاستمتاع المباح. (فَرِيضَةً) مفروضة ومقدرة (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) لا حرج ولا إثم ولا تضييق (فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ) أي اتفقتم أنتم وهن من حط بعض الفريضة أو كلها أو الزيادة عليها (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) بخلقه فيما يصلحهم (حَكِيماً) فيما دبره لهم.

٦

سبب النزول :

روى مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي سعيد الخدري قال : أصبنا سبايا من سبي أوطاس لهن أزواج ، فكرهنا أن نقع عليهن ، ولهن أزواج ، فسألنا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) يقول : إلا ما أفاء الله عليكم ، فاستحللنا بها فروجهن.

وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال : نزلت يوم حنين ، لما فتح الله حنينا ، أصاب المسلمون نساء من نساء أهل الكتاب لهن أزواج ، وكان الرجل إذا أراد أن يأتي المرأة قالت : إن لي زوجا ، فسئل صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك ، فأنزلت : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ).

أما قوله تعالى : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ ..) الآية ، فنزل بسبب ما يأتي ، أخرج ابن جرير الطبري عن عمرة بن سليمان عن أبيه قال : زعم حضرمي أن رجالا كانوا يفرضون المهر ، ثم عسى أن تدرك أحدهم العسرة فنزلت : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ).

المناسبة :

هذه الآية ملحقة في مطلعها بالمحرمات من النساء بسبب النسب أو الرضاع أو المصاهرة أو بسبب عارض كأخت الزوجة وعمتها ، في الآية السابقة. وناسب أن يذكر سبيل إباحة غير المحرمات من النساء بشرط المهر وبقصد التعفف لا الزنى.

التفسير والبيان :

قوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ) معطوف على (أُمَّهاتُكُمْ) في الآية السابقة ، فهن من المحرمات. والمعنى : وحرم عليكم نكاح المتزوجات إلا المسبيات في جهاد

٧

مشروع بيننا وبين الأعداء الكفار ، دفاعا عن الدين ، لا حرب استعمار واستغلال. فالآية تدل على تحريم ذوات الأزواج إلا ما ملكتموهن بسبي ، فسباؤكم إياهن هادم لنكاحهن السابق أو فاسخ له ، إذا بقي أزواجهن الكفار في دار الحرب.

والزواج بإحدى السبايا طريق لكفالة المسبية وصونها عن التبذل ببذل العرض أو البحث عن الرزق.

وجيء بقيد (مِنَ النِّساءِ) لإفادة التعميم ، فيشمل كل متزوجة.

وقوله : (كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ) مصدر مؤكد ، أي كتب الله ذلك (وهو تحريم ما حرم عليكم) كتابا وفرضه فرضا ، وبعبارة أخرى : كتب عليكم تحريم هذه الأنواع كتابا مؤكدا ، وفرضه فرضا ثابتا ، موافقا للمصلحة دون شك ولا تغيير.

وأحل الله ما وراء ذلكم مما هو عدا المحرمات المذكورات ، فقوله : (وَأُحِلَّ لَكُمْ) معطوف على قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ) عند من قرأ (وَأُحِلَ) بالبناء للمعلوم ، أما على قراءة البناء للمجهول (وَأُحِلَ) فهو معطوف على كتب المقدر المفهوم من قوله تعالى : (تابَ اللهِ عَلَيْكُمْ).

أحل لكم ما وراء ذلكم لأجل أن تطلبوا النساء بأموالكم التي تدفعونها مهرا للزوجة ، حالة كونكم أعفاء غير زناة ، فلا تضيعوا أموالكم في الزنى ، فتذهب أموالكم وتفتقروا.

وأي امرأة من النساء اللواتي أحللن لكم تزوجتموها فأعطوها الأجر أي المهر ؛ وسمي المهر أجرا لأنه في مقابلة الاستمتاع ، وهذا الحكم مفروض من الله فريضة ، فقوله (فَرِيضَةً) إما حال من الأجور بمعنى مفروضة ، أو مصدر مؤكد أي

٨

فرض الله ذلك فريضة ؛ لأن المهر يفرض ويعين في عقد الزواج ، ويسمى ذلك إيتاء وإعطاء ، كما في آية : (وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً) وآية : (ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) أو أن المقصود الحث على إيفاء المهر الذي هو حق للزوجة بفرض الله وشرعه وحكمه المبرم ، لا مجال للمساومة فيه أو التهرب منه.

ولكن لا إثم ولا تضييق على الأزواج بالاتفاقات التي تحدث عقب الزواج ، فلا مانع من التراضي على أن تحط المرأة عن الرجل المهر كله أو بعضه أو تهبه له ، أو على الزيادة في مقدار المهر ، فكل من النقص في المهر بعد تقديره أو تركه كله أو الزيادة فيه أمر مباح مشروع ؛ لأن المقصود بالزوجية أن تكون قائمة على أساس متين من المودة والمحبة ، والتعاون والتعاطف ، والله تعالى عليم بما فيه صلاح خلقه وبنواياهم ، حكيم فيما دبره لهم من أحكام ، فهو لا يشرع لهم تفضلا ورحمة منه إلا ما فيه خيرهم وصلاحهم.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآية على الأحكام السبعة التالية :

الأول :

تحريم الزواج بالمتزوجات من النساء ، رعاية لحق الأزواج ، ما دامت الزوجية قائمة فعلا أو في أثناء العدة ، فإذا طلقن وانقضت عدتهن فهن لكم حلال ، وأكد الله تعالى وجوب احترام مبدأ تحريم المحرمات بقوله : (كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ) أي كتب الله عليكم ما قصه من التحريم ، فهو عهد وميثاق ، وهو أيضا إشارة إلى التحريم الحاجز بين الناس وبين ما كانت العرب تفعله.

الثاني :

إباحة المسبيات المملوكات بسبب السبي في الجهاد ، أو بسبب الشراء ؛ لأن

٩

السبي يؤدي إلى فسخ زواجهن السابق ، ما دام أزواجهن كفارا في دار الحرب ، واشترط الحنفية اختلاف الدار بين المسبية وزوجها ، فلو سبيت هي وزوجها لم تحل لغيره ؛ لأن الزوج قد صار له عهد وعصمة لما يملكه ، وزوجته من جملة ما يملكه ، فلا يحال بينه وبينها.

ولا فرق في رأي المذاهب الأخرى بين أن يسبى الزوجان مجتمعين أو متفرقين.

ولا بد من استبراء المسبية بوضع الحمل إن كانت حاملا ، وبحيضة إن كانت حائلا غير حامل ، قال الحسن البصري : كان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستبرءون المسبيّة بحيضة ؛ وروى أبو داود وصححه الحاكم عن أبي سعيد الخدري حديثا في سبايا أوطاس : «لا توطأ حامل حتى تضع ، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة».

والعلماء كافة رأوا استبراء المسبية بحيضة واحدة ، سواء أكانت ذات زوج أم لا زوج لها.

هذا .. ويلاحظ أن الإسلام لم يفرض السبي أو الاسترقاق ، وإنما كان مشروعا لدى الأمم جميعها ، أما إنه لم يحرمه فمن أجل المعاملة بالمثل ؛ لأن الرقيق كان عماد الحركة والحياة الاقتصادية والاجتماعية ، ولا يعقل أن يسترق العدو أسرانا ونحن لا نسترق أسراه.

وكان الرق أحيانا من أجل توفير سبل المعيشة عند السيد ، ويظهر هذا بنحو خاص بالنسبة للمرأة ، إذ الغالب أن يكون زوجها قتل في الحرب ، فمن مصلحتها أن تعيش في ظل من يعيلها وينفق عليها ، ويعفها حتى لا تصبح أداة فساد أو عالة على المجتمع.

الثالث :

إباحة الزواج بجميع النساء الأجنبيات غير المحارم المذكورة في الآية :

١٠

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) [النساء ٤ / ٢٣] وما أضيف إليها في السنة النبوية كالجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها ، لما روى مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يجمع بين المرأة وعمّتها ولا بين المرأة وخالتها».

وضابط حرمة الجمع عند العلماء : ما ذكر عن الشعبي قال : كل امرأتين إذا جعلت موضع إحداهما ذكرا ، لم يجز له أن يتزوج الأخرى ، فالجمع بينهما باطل.

وعلة التحريم : هو ما يفضي إليه الجمع من قطع الأرحام القريبة ، مما يقع بين الضرائر من البغضاء والشرور بسبب الغيرة ، قال ابن عباس : نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يتزوج الرجل المرأة على العمّة أو على الخالة ، وقال : «إنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم» (١).

الرابع :

أباح الله تعالى الاستمتاع بالنساء بعقد الزواج المشتمل على المهر ، وهو المال المتقوم الذي يباح الانتفاع به شرعا ، وهذا دليل على وجوب المهر ، فإذا حصل الزواج بغير المال لم تقع الإباحة به ؛ لأنها على غير الشرط المأذون فيه ، كما لو عقد على خمر أو خنزير أو ما لا يصح تملكه.

الخامس :

دلّ قوله تعالى : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) على أن المهر يسمى أجرا ، وأنه في مقابلة البضع (الاستمتاع) ؛ لأن ما يقابل المنفعة يسمى أجرا. والظاهر أن المعقود عليه: هو بدن المرأة ، ومنفعة البضع ، والحلّ ؛ لأن العقد يقتضي كل ذلك.

واختلف العلماء في معنى الآية على قولين :

__________________

(١) رواه ابن حبان وغيره.

١١

١ ـ قال الحسن ومجاهد وغيرهما : المعنى فما انتفعتم وتلذذتم بالجماع من النساء بالنكاح الصحيح فآتوهن مهورهن (أجورهن) فإذا جامعها مرة واحدة ، وجب المهر كاملا إن كان مسمّى ، أو مهر مثلها إن لم يسمّ.

أما إذا كان النكاح فاسدا فيجب مهر المثل ؛ لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها ، فنكاحها باطل ، فإن دخل بها ، فلها مهر مثلها بما استحلّ من فرجها» (١).

ولا يجوز في رأيهم أن تحمل الآية على جواز نكاح المتعة : (وهو نكاح المرأة إلى أجل معين كيوم أو أسبوع أو شهر) ؛ لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن نكاح المتعة وحرّمه ؛ ولأن الله تعالى قال : (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَ) [النساء ٤ / ٢٥] ومعلوم أن النكاح بإذن الأهلين هو النكاح الشرعي بولي وشاهدين ، ونكاح المتعة ليس كذلك.

٢ ـ وقال الجمهور : المراد نكاح المتعة الذي كان في صدر الإسلام ، فقد كان مرخصا فيه في بدء الإسلام ، أذن فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرة أو مرتين في الجهاد ، لبعد المجاهدين عن نسائهم ، وخوفا من الزنى ، فهو من قبيل ارتكاب أخف الضررين ، وعلى أساس مبدأ العفو الذي لم يتعلق به تحريم في مبدأ الأمر ، وذلك في غزوة أوطاس ، وعام فتح مكة ، ثم حرّمه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعدئذ واستقر الأمر على التحريم ، بدليل آية : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) [المؤمنون ٢٣ / ٦ / ٥] وليست المتعة نكاحا ولا ملك يمين. وروى الدارقطني عن علي بن أبي طالب قال : نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن المتعة ، قال : وإنما كانت لمن لم يجد ، فلما نزل النكاح والطلاق والعدة والميراث بين الزوج والمرأة نسخت. وثبت في الصحيحين عن علي قال : «نهى رسول الله

__________________

(١) أخرجه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي عن عائشة.

١٢

صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر» وفي لفظ آخر في صحيح مسلم عن الربيع بن سبرة بن معبد الجهني عن أبيه أنه غزا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم فتح مكة فقال : «يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء ، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة ، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله ، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا».

ونهى أيضا عنها عمر رضي‌الله‌عنه ، ودلت الأحاديث الكثيرة على تحريمها تحريما مؤبدا إلى يوم القيامة ، كما تقدم.

بل إن نكاح المتعة على النحو الذي يجيزه الشيعة الإمامية بشروط كثيرة غير مطبّق الآن في الواقع ؛ لأن المتمتع لا يقصد بالمتعة الإحصان ، وإنما يقصد السفاح ، وهو لا يلتزم بتوابع الوطء ، والمرأة لا تلتزم أيضا بالعدة.

قال ابن العربي : وقد كان ابن عباس يقول بجوازها ، ثم ثبت رجوعه عنها ، فانعقد الإجماع على تحريمها. واتفقت المذاهب الأربعة ما عدا زفر على بطلانه. وقال زفر : الزواج صحيح وشرط التأقيت باطل.

وهل يحد من دخل بامرأة في نكاح المتعة؟

قال الحنفية والشافعية والحنابلة : لا يحد للشبهة وإنما يعزر ويعاقب لشبهة العقد. وقال المالكية في مشهور المذهب : يحد بالرجم.

السادس :

قوله تعالى : (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) يعم المال وغيره من منافع الأعيان ، وبه قال جمهور العلماء إلا أن أبا حنيفة قال : إذا تزوج على المنفعة فالنكاح جائز ، وهو في حكم من لم يسمّ لها ، ولها مهر مثلها إن دخل بها ، وإن لم يدخل بها فلها المتعة.

١٣

احتج الجمهور بحديث سهل بن سعد في حديث الموهوبة ، وفيه فقال : «اذهب فقد ملّكتكها بما معك من القرآن». وفي رواية قال : «انطلق فقد زوجتكها فعلّمها من القرآن»(١). وقد زوج شعيب عليه‌السلام ابنته من موسى عليه‌السلام على أن يرعى له غنما في صداقها.

السابع :

دل قوله تعالى : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ) على جواز الزيادة والنقصان في المهر ، فهو سائغ عند التراضي بعد استقرار الفريضة ، والمراد إبراء المرأة عن المهر ، أو توفية الرجل كل المهر إن طلّق قبل الدخول.

شروط الزواج بالأمة وعقوبة فاحشتها

(وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٥))

__________________

(١) متفق عليه بين أحمد والشيخين.

١٤

الإعراب :

(طَوْلاً) الطول : مصدر : طلت القوم ، أي علوتهم ، وهو مفعول به لفعل : (يَسْتَطِعْ أَنْ يَنْكِحَ) منصوب بطول انتصاب المفعول به. ولا يجوز نصبه ب (يَسْتَطِعْ) ؛ لأن المعنى يتغير ، ويصير : ومن لم يستطع أن ينكح المحصنات طولا ، أي للطول ، فيصير الطول علة في عدم نكاح الحرائر ، وهذا خلاف المعنى ؛ لأن الطول به يستطاع نكاح الحرائر ، فبطل أن يكون منصوبا ب (يَسْتَطِعْ) فثبت أنه منصوب بالطول. (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) ابتداء وخبر.

(الْمُحْصَناتُ) منصوب على الحال من الهاء والنون في (وَآتُوهُنَ) وكذلك قوله تعالى : (غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ).

البلاغة :

يوجد طباق في (الْمُحْصَناتِ) .. و (مُسافِحاتٍ) ويوجد جناس ناقص أو مغاير في (الْمُحْصَناتِ .. فَإِذا أُحْصِنَ).

المفردات اللغوية :

(وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ) الاستطاعة : كون الشيء في مقدورك (طَوْلاً) الطول : الغنى والفضل الزائد من مال أو قدرة على تحصيل المطلوب (الْمُحْصَناتِ) هنا : الحرائر. (الْمُؤْمِناتِ) هو جري على الغالب ، فلا مفهوم له. (فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) ينكح. (مِنْ فَتَياتِكُمُ) إمائكم (وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ) أي اكتفوا بالظاهر واتركوا السرائر إلى الله ، فإنه العالم بتفصيلها ، وربّ أمة تفضل الحرة ، وهذا تأنيس بنكاح الإماء. (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) أي أنتم وهن سواء في الدين ، فلا تستنكفوا من نكاحهن. (بِإِذْنِ أَهْلِهِنَ) مواليهن (وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) أعطوهن مهورهن (بِالْمَعْرُوفِ) من غير مطل ولا نقص.

(الْمُحْصَناتِ) عفائف (غَيْرَ مُسافِحاتٍ) زانيات جهرا (أَخْدانٍ) أخلاء يزنون بهن سرا. والأخدان جمع خدن : وهو الصاحب ، ويطلق على الذكر والأنثى (فَإِذا أُحْصِنَ) تزوجن (بِفاحِشَةٍ) زنى (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ) الحرائر الأبكار إذا زنين (الْعَذابِ) هو الحد المقدر شرعا وهو مائة جلدة ، ونصفها وهو عقوبة الرقيق خمسون ، ولا رجم عليهن ؛ لأنه لا يتنصف (خَشِيَ) خاف (الْعَنَتَ) الجهد والمشقة ، والمراد هنا : الزنى ، سمي به الزنى ؛ لأنه سبب المشقة بالحد في الدنيا والعقوبة في الاخرة (مِنْكُمْ) أي أن من لا يخاف الوقوع في الزنى من الأحرار ، فلا يحل له نكاح الأمة ، وكذا من استطاع طول حرة أي مهرها ، في رأي الشافعي. وبشرط كون

١٥

الأمة مؤمنة لقوله : (مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) فلا يحل نكاح الإماء الكافرات ولو عدم الرجل مهر الحرة وخاف الوقوع في الزنى. (وَأَنْ تَصْبِرُوا) عن نكاح المملوكات (خَيْرٌ لَكُمْ) لئلا يصير الولد رقيقا.

المناسبة :

هذه الآية تابعة لما قبلها ، تبيّن حكم التّزوج بالإماء وحكم عقوبتهن عند ارتكاب الفاحشة ، بعد أن بيّنت الآية المتقدّمة إباحة الزواج بكل النّساء الأجنبيّات غير المحرّمات ، فلما بيّن الله من لا يحل من النّساء ومن يحلّ منهنّ ، بيّن لنا هنا فيمن يحلّ أنه متى يحلّ ، وعلى أي وجه يحلّ؟

التفسير والبيان :

ومن لم يجد لديه زيادة في المال والسعة ليتمكن من الزواج بالحرائر ، فله أن يتزوج بالإماء ، وعبّر عنهنّ بالفتيات تكريما لهنّ وإرشادا لمناداة الأمة والعبد بلفظ الفتاة والفتى ، روى البخاري أنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يقولنّ أحدكم عبدي أمتي ، ولا يقل المملوك : ربّي ، ليقل المالك : فتاي وفتاتي ، وليقل المملوك : سيدي وسيدتي ، فإنكم المملوكون ، والرّب : هو الله عزوجل».

والمراد بالمحصنات هنا : الحرائر بدليل مقابلتهن بالمملوكات ، وشأن الحرّة الإحصان ، كما أن شأن الأمة البغاء ، لذا قالت هند للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على سبيل التعجب : أوتزني الحرّة؟

وظاهر الآية يدلّ على أن زواج الإماء مشروط بشروط ثلاثة :

الأول ـ ألا يجد الزّوج صداق الحرّة.

الثاني ـ أن يخشى العنت أي الوقوع في الزنى.

الثالث ـ أن تكون الأمة المتزوّج بها مؤمنة غير كافرة.

١٦

ومهر الحرّة يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال والأزمنة والأمكنة ، فلكلّ شخص وبيئة ما يناسبهما عرفا ، فقد يقدر الرجل على مهر الحرّة ، ولكن النساء تنفر منه لسوء خلقه أو خلقه ، وقد يعجز عن القيام بحقوق الحرّة من النفقة والمساواة بينها وبين غيرها ، وليس للأمة مثل هذه الحقوق.

وقدّر الحنفية المهر بربع دينار (ثلاثة دراهم) ، وقال بعضهم : عشرة دراهم. ولا أجد لهذا التحديد مستندا في الأدلة الشرعية ، وإنما الثابت في السّنة أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لمن يريد الزواج : «التمس ولو خاتما من حديد» (١). وتزوّج بعض الصحابة على تعليم امرأته شيئا من القرآن.

وإنما اشترط التشرع هذه الشروط في نكاح الإماء تفاديا لما يشتمل عليه من أضرار ، أهمها صيرورة الولد رقيقا ؛ لأن الولد يتبع الأم في الرّق والحرية ، لذا قال الله تعالى في آخر الآية : (وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ).

وذهب أبو حنيفة إلى جواز نكاح الأمة لمن لم يكن عنده حرّة ، سواء أكان واجدا مهر الحرّة أم لا ، وسواء أخشي العنت أم لا ، وسواء أكانت الأمة مسلمة أم لا ، عملا بالعمومات الكثيرة ، كقوله تعالى : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) [النساء ٤ / ٣] ، وقوله : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ) [النور ٢٤ / ٣٢] ، وقوله : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) [النساء ٤ / ٢٤] ، وقوله : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [المائدة ٥ / ٥] ، وجميع ذلك يتناول الإماء والكتابيّات.

ولم يشرط فيه عدم الطّول ولا خوف العنت ، وهذه الآية لا تصلح لتخصيص العمومات السابقة ؛ لأنها أولا تدلّ على الشروط بمفهوم الشرط ومفهوم الصفة ، وهما ليسا بحجة عند أبي حنيفة رحمه‌الله. وثانيا على تقدير الحجية يكون

__________________

(١) متفق عليه بين أحمد والشيخين عن سهل بن سعد.

١٧

مقتضى المفهومين عدم الإباحة إذا اختلّ الشرط أو عدمت الصفة ، وعدم الإباحة أعم من ثبوت الحرمة أو الكراهة ، فيجوز أن يكون المراد ثبوت الكراهة عند فقدان الشرط ، كما يجوز ثبوت الحرمة ، ولكن الكراهة أقلّ في مخالفة العمومات فتعينت. وأما قوله تعالى : (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ) فليس بشرط ، وإنما هو إرشاد للإصلاح لعموم مقتضى الآيات.

وأجاب الشافعية : بأن هذه العمومات لا تعارض هذه الآية ، إلا معارضة العام للخاص ، والخاص مقدّم على العام. والحنفية خصصوا عموم الآيات فيمن لم يكن عنده حرّة ، صونا للولد عن الإرقاق ، وهذا المعنى يقتضي التخصيص أيضا بما إذا لم يكن لديه مهر الحرة ، وخاف العنت. ثم إن الآية أباحت نكاح الأمة لضرورة من خشي العنت وفقد مهر الحرّة ، بشرط كون الأمة مسلمة ، وفيما عدا ذلك يرجع إلى الأصل وهو المنع من النكاح.

وأما معنى قوله : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ ، بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) فهو أنكم أيها المؤمنون مكلّفون بظواهر الأمور والله يتولى السرائر ، فاعملوا على الظاهر في الإيمان ، والإيمان الظاهر في الأمة كاف ، ولا يشترط العلم بالإيمان يقينا ؛ إذ لا سبيل لكم إليه. وأنتم مع الإماء إما من جنس واحد وهو البشرية والرجوع إلى أصل واحد وهو آدم ، وإما أنكم مشتركون مع الإماء في الإيمان ، والإيمان أعظم الفضائل فلا تأنفوا نكاح الإماء عند الضرورة. وهذا رفع من شأن الإماء وتسوية بينهن وبين الحرائر.

ثم أعاد الله تعالى الأمر بنكاح الإماء لزيادة الترغيب ، وجعل نكاحهن مثل الحرائر بكونه بإذن أي رضا أهلهنّ ، والأهل : المولى ، أو المالك لهن ؛ لأن الإيمان رفع من قدرهن.

واتفق الفقهاء على أن نكاح الأمة والعبد مشروط بإذن السيّد ، لهذه الآية

١٨

ولحديث ابن عمر عند ابن ماجه : «أيّما عبد تزوّج بغير إذن مولاه فهو عاهر». فإذا لم يتوافر الإذن ، كان النكاح في رأي الشافعي باطلا غير صحيح ، وموقوفا غير نافذ كعقد الفضولي في رأي الفقهاء الآخرين.

والأمة كالحرة أيضا في وجوب المهر لها ، لقوله تعالى : (وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) أي أدّوا إليهنّ مهورهنّ بالمعروف بينكم في حسن التعامل ومهر المثل وإذن الأهل.

ومهر الأمة عند الجمهور (أكثر الأئمة) للسيّد ؛ لأنه وجب عوضا عن منافع البضع المملوكة للسيّد ، وهو الذي أباحها للزوج بالنكاح ، فوجب أن يكون هو المستحق لبدلها ، ولأن الرّقيق لا يملك شيئا أصلا ؛ لقوله تعالى : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) [النحل ١٦ / ٧٥] ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «العبد وما في يده لمولاه».

وقال الإمام مالك : المهر حق للزّوجة على الزّوج ، ومهر الأمة لها ، عملا بظاهر الآية. ورد الجمهور بأن المراد بالآية : وآتوهن مهورهن بإذن أهلهن ، أو أن المراد : وآتوا أهلهن مهورهن. وإنما أضاف إيتاء المهور إليهن لتأكيد إيجاب المهر.

لكن شرط استحقاق الإماء المهور أن يكنّ عفائف متزوجات منكن ، لا مستأجرات للبغاء جهرا وهنّ المسافحات ، ولا سرّا وهنّ متخذات الأخدان. وهكذا كان عرف الجاهلية في قسمة الزنى نوعين : علني وهو السّفاح ، وسرّي وهو اتّخاذ الأخدان. وقد حرّم الله النّوعين بقوله : (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) [الأنعام ٦ / ١٥١] ، وقوله : (قُلْ : إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) [الأعراف ٧ / ٣٣].

فالمراد بالمحصنات هنا : العفائف ، والمرأة المسافحة : هي التي تؤاجر نفسها

١٩

مع أي رجل أرادها ، والتي تتخذ الخدن : هي التي تتخذ صاحبا معينا.

والسبب في اشتراط كون الأمة محصنة مصونة في السرّ والجهر إذا أراد الحرّ التزوّج بها : هو أن الزّنى كان غالبا في الجاهلية على الإماء ، وكانوا يشترونهن للاكتساب ببغائهن ، حتى إن عبد الله بن أبيّ كان يكره إماءه على البغاء بعد أن أسلمن ، فنزل في ذلك : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً ، لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) [النور ٢٤ / ٣٣].

ثم أبان الله تعالى عقوبة الحدّ على الزّانية الأمة ، فجعل عقوبتها نصف عقوبة الحرّة ، وذلك بقوله : (فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ ...) أي أن الإماء إذا زنين بعد إحصانهن بالزّواج ، فحدّهنّ نصف حدّ الحرائر ، وإذا كان حدّ الحرّة مائة جلدة بقوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) فحدّ الأمة هو خمسون جلدة. هذا ما دلّ عليه القرآن ، فلا رجم للإماء ؛ لأن الرّجم لا يتنصف ، ودلّت السّنّة على حدّ الأمة غير المزوجة ، روى الشيخان عن زيد بن خالد الجهني أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن؟ فقال : «اجلدوها ، ثم إن زنت فاجلدوها ، ثم إن زنت فاجلدوها ، ثم بيعوها ولو بضفير».

والسبب في تصدير الآية بقوله : (فَإِذا أُحْصِنَ) هو دفع توهم أن التزوّج يزيد في حدهنّ ، فهو قيد لم يجر مجرى الشرط ، فلا مفهوم له.

ثم ذكر الله تعالى بقوله : (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ) شرطا آخر لإباحة نكاح الإماء وهو الخوف من الزنى ، وهذا ما أخذ به الشافعي رضي‌الله‌عنه ، أما أبو حنيفة فلم يجعل ذلك شرطا ، وإنما هو إرشاد للأصلح.

ثم أوصى الله تعالى في نكاح الإماء بوصية أدبيّة خلقية عامة فقال : (وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ) أي أن صبركم عن نكاح الإماء خير لكم من نكاحهنّ ، وإن أبيح

٢٠