التفسير المنير - ج ١٠

الدكتور وهبة الزحيلي

الوفاء بالمعاهدات والمصالحات ، ويحرم المبادرة إلى الغدر والخيانة ونقض العهود.

وقد أثير خلاف حول هذه الآية ، هل هي منسوخة أو لا؟ فقال قتادة وعكرمة : نسخها (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة ٩ / ٥] وقوله : (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) [التوبة ٩ / ٣٦] وقالا : نسخت براءة كل موادعة ، حتى يقولوا : لا إله إلا الله. وقال ابن عباس الناسخ لها : (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ) [محمد ٤٧ / ٣٥].

وقال جماعة : ليست بمنسوخة ، لكنها تضمنت الأمر بالصلح إذا كان فيه المصلحة ، فإذا رأى الإمام مصالحتهم ، فلا يجوز أن يهادنهم سنة كاملة ، وإن كانت القوة للمشركين ، جاز مهادنتهم للمسلمين عشر سنين ، ولا يجوز الزيادة عليها ، اقتداء برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنه هادن أهل مكة عشر سنين ، ثم إنهم نقضوا العهد قبل كمال المدة.

وصالح أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في زمن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ومن بعده من الأئمة كثيرا من بلاد العجم ؛ على ما أخذوه منهم ، وتركوهم على ما هم فيه ، وهم قادرون على استئصالهم.

وصالح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أهل خيبر على شروط نقضوها ، فنقض صلحهم. وقد صالح الضّمري (مخشي بن عمرو ، من بني ضمرة بن بكر ، في غزوة الأبواء) وأكيدر دومة (أكيدر بن عبد الملك ، من كندة ، ودومة : هي دومة الجندل ، مدينة قريبة من دمشق) وأهل نجران. وقد هادن قريشا لعشرة أعوام حتى نقضوا عهده.

وما زالت الخلفاء والصحابة على هذه السبيل عاملة وسالكة.

والخلاصة كما ذكر ابن العربي : إذا كان للمسلمين قوة وعزة ومنعة فلا صلح ،

٦١

وإن كان لهم مصلحة في الصلح ، لنفع يجتلبونه ، أو ضرر يدفعونه فلا بأس بالصلح. (١)

وقد نقلت سابقا عن ابن كثير ترجيحه أن الآية غير منسوخة وغير مخصصة ، ولا منافاة بينها وبين أوامر القتال ، فهذه الأوامر عند الاستطاعة ، والصلح عند العجز وقوة العدو وعدم التكافؤ بين قوتنا وقوته. وكذلك قال الجصاص : قد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عاهد حين قدم المدينة أصنافا من المشركين منهم النضير وبنو قينقاع وقريظة ، وعاهد قبائل من المشركين ، ثم كانت بينه وبين قريش هدنة الحديبية إلى أن نقضت قريش ذلك العهد بقتالها خزاعة حلفاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولم يختلف نقلة السير والمغازي في ذلك ، وذلك قبل أن يكثر المسلمون. فلما كثر المسلمون لم يقبل من مشركي العرب إلا الإسلام أو السيف بقوله تعالى: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) ويقاتل أهل الكتاب حتى يسلموا أو يعطوا الجزية بقوله تعالى : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ). وما ذكر من الأمر بالمسالمة إذا مال المشركون إليها حكم ثابت أيضا.

وعقد الصلح جائز غير لازم للمسلمين باتفاق العلماء ، فيجوز نبذه إذا ظهرت أمارات الخيانة والنقض والغدر.

ويجوز ـ كما ذكر ابن العربي ـ عند الحاجة للمسلمين عقد الصلح بمال ، يبذلونه للعدو ، بدليل موادعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعيينة بن حصن وغيره يوم الأحزاب ، على أن يعطيه نصف تمر المدينة ، فقال له السعدان : إن كان هذا الأمر من قبل الله فامض له ، وإن كان أمرا لم تؤمر به ، ولك فيه هوى ، فسمع وطاعة ، وإن كان الرأي والمكيدة ، فأعلمنا به ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنما هو الرأي والمكيدة ؛ لأني رأيت العرب قد رمتكم بقوس واحدة ، فأردت أن أدفعها عنكم إلى يوم. فقال

__________________

(١) أحكام القرآن : ٣ / ٦٩

٦٢

السعدان : إنا كنا كفارا ، وما طمعوا منها بتمرة إلا بشراء أو بقرى ، فإذ أكرمنا الله بك ، فلا نعطيهم إلا السيف ، وشقّا الصحيفة التي كانت كتبت (١).

ودلت آية : (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ) على حكم من أحكام الصلح ، وهو أنهم إن صالحوا على سبيل المخادعة ، وجب قبول ذلك الصلح ؛ لأن الحكم يبنى على الظاهر ، كما يبنى الإيمان على الظاهر.

وأرشدت آية (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) إلى أن تألف القلوب الشديدة في العرب من آيات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومعجزاته ؛ لأن أحدهم كان يلطم اللطمة ، فيقاتل عنها حتى يستقيدها ، وكانوا أشد خلق الله حميّة ، فألف الله بالإيمان بينهم ، حتى قاتل الرجل أباه وأخاه بسبب الدّين.

والله تعالى أيّد نبيه بمناسبة الصلح مع المشركين في حالين : خاصة وعامة ، وليس ذلك من قبيل التكرار ، ففي الآية الأولى : (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ) كفاية خاصة ، وهي حال الخديعة ، أي وعده بالنصر عند مخادعة الأعداء. وفي الآية الثانية: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ) كفاية عامة أي حسبك الله وكافيك وناصرك في كل حال.

واستدل أهل السنة بقوله تعالى : (وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) على أن أحوال القلوب والعقائد والإرادات والكرامات ، كلها من خلق الله تعالى ، بسبب الإيمان ومتابعة الرسول عليه الصلاة والسّلام (٢).

ودلت هذه الآية أيضا على أن العرب كانوا قبل الإسلام في خصومة دائمة ومحاربة شديدة ، يقتل بعضهم بعضا ، ويغير بعضهم على بعض ، فلما آمنوا بالله

__________________

(١) أحكام القرآن لابن العربي : ٢ / ٨٦٥

(٢) تفسير الرازي : ١٥ / ١٨٩

٦٣

ورسوله واليوم الآخر ، زالت الخصومات ، وحصلت المودة التامة والمحبة الشديدة.

وقد أيد الله رسوله بمعونته ونصرته وبالمؤمنين من المهاجرين ، وهذه آية ربانية ومعجزة أخرى للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي كان فردا وحده يدعو إلى الإسلام ، فأيده الله بتوفيقه ، وحماه بالمؤمنين التابعين من حوله ، في مكة والمدينة.

وأرشدت آية : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ) إلى أن الواجب على المسلمين الإقدام على الجهاد بروح وثابة عالية ، وشجاعة فائقة ، وصبر شديد ، وعزيمة لا تلين ، حتى إنه كان المسلم مطالبا في مبدأ الأمر بالصمود أمام العشرة من الأعداء ، ثم خفف الله عنه ، فاكتفي بمطالبته بالثبات أمام اثنين فقط.

وهذا بدليل قول ابن عباس المتقدم ، فإن الثبات أمام العدو فرض على المسلمين ، لا اختيار لهم فيه ، ويحرم عليهم الانهزام أمام ضعفي العدد ؛ لأن قوله تعالى : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ ...) وإن ورد بصيغة الخبر ، فالمراد به الأمر ، والأمر يقتضي الوجوب ؛ لأن التخفيف إنما يكون في المأمور به ، لا في المخبر عنه. ونظرا لوجود التخفيف ، فلا محالة ـ كما قال الجصاص ـ قد وقع النسخ عن المسلمين فيما كلفوا به أولا ، ولم يكن أولئك القوم قد نقصت بصائرهم ، ولا قلّ صبرهم ، وإنما خالطهم قوم لم يكن لهم مثل بصائرهم ونياتهم ، وهم المعنيون بقوله تعالى : (وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً)(١).

ودل قوله : (بِإِذْنِ اللهِ) على أنه لا تقع الغلبة إلا بإذن الله ، أي إرادته. ودل قوله : (وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) على تأييد الله الصابرين وإعانتهم.

__________________

(١) أحكام القرآن للجصاص : ٣ / ٧١

٦٤

ودل قوله تعالى : (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) على وجود فوارق بين قتال المسلمين وقتال الأعداء ، وتلك الفوارق توضح علة الغلبة والنصر وهي :

١ ـ من حيث الهدف : إن هدف غير المؤمن بالله وبالمعاد هو مجرد الاستمتاع بالحياة الدنيا والسعادة فيها ، فيكون متمسكا بها ، حريصا عليها ، هيابا من الموت. أما المؤمن فيعتقد ألا سعادة في هذه الحياة ، وأن السعادة لا تكون إلا في الآخرة ، فلا يبالي بالحياة الدنيا ، ويقدم على الجهاد بقلب قوي وعزم صحيح ، حتى إنه يقاوم العدد الكثير.

٢ ـ من حيث الوسيلة : يعتمد الكفار على قوتهم وشوكتهم ، ويستعين المسلمون بربهم بالدعاء والتضرع ، فيكون النصر والظفر لهم أولى.

٣ ـ من حيث الباعث : إن قلب الكافر خاو من نور الله والإيمان به والعلم والمعرفة ، فيكون جبانا ضعيفا عند القتال. وأما قلب المؤمن فيستضيء بنور الله ومعرفته ، فيقوى قلبه وتكمل روحه ، فيقدم على القتال بروح عالية لا تعرف التردد والضعف.

شرط اتخاذ الأسرى وقبول الفداء منهم وإباحة الانتفاع به

(ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٧) لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٦٨) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٩) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ

٦٥

لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٠) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٧١))

الإعراب :

(لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ كِتابٌ) : مبتدأ مرفوع ، (مِنَ اللهِ) : صفة له ، تقديره : ثابت من الله ، و (سَبَقَ) : فعل ماض ، محله إما مرفوع على أنه صفة أخرى لكتاب ، وإما منصوب على أنه حال من الضمير الذي في الظرف أي (مِنَ اللهِ). وخبر المبتدأ محذوف تقديره : لو لا كتاب بهذه الصفة تدارككم ، لمسّكم. ولا يجوز جعل (سَبَقَ) خبر المبتدأ ؛ لأن الخبر بعد لو لا لا يجوز إظهاره.

(حَلالاً طَيِّباً حَلالاً) : منصوب على الحال من (مِمَّا) أي المغنوم ، أو صفة للمصدر ، أي أكلا حلالا ، وفائدته : إزاحة ما وقع في نفوسهم منه بسبب تلك المعاتبة ، أو حرمتها على الأولين ، ولذلك وصفه بقوله : (طَيِّباً).

وقوله : (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ) أي من الفدية ؛ فإنها من جملة الغنائم ، والفاء للتسبب ، ولسبب محذوف تقديره : أبحت لكم الغنائم فكلوا ، وهو دليل لمن قال : إن الأمر الوارد بعد الخطر للإباحة.

المفردات اللغوية :

(ما كانَ لِنَبِيٍ) ما صح وما ينبغي له وما شأنه. (يُثْخِنَ) يكثر القتل ويبالغ فيه. (تُرِيدُونَ) أيها المؤمنون. (عَرَضَ الدُّنْيا) حطامها بأخذ الفداء من الأسرى. (وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) يريد لكم ثواب الآخرة بقتلهم. (وَاللهُ عَزِيزٌ) قوي لا يغلب وإنما يغلب أولياءه على أعدائه. (حَكِيمٌ) في صنعه وحكمه يعلم ما يليق بكل حال ويخصه بها. (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ) لو لا حكم من الله سبق إثباته في اللوح وهو ألا يعذب المخطئ في اجتهاده ، أو ألا يعذبكم والرسول فيكم وأنتم تستغفرونه من ذنوبكم ، أو بإحلال الغنائم والأسرى لكم. (لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ) من الفداء.

(إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً) إيمانا وإخلاصا. (يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ) من الفداء بأن يعوضكم عنه في الدنيا ويثيبكم في الآخرة. (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) ذنوبكم.

٦٦

(وَإِنْ يُرِيدُوا) أي الأسرى. (خِيانَتَكَ) بما أظهروا من القول. (مِنْ قَبْلُ) قبل بدر بالكفر. (فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ) ببدر قتلا وأسرا ، فليتوقعوا مثل ذلك إن عادوا. (عَلِيمٌ) بخلقه. (حَكِيمٌ) في صنعه.

سبب النزول :

نزول الآية (٦٧):

(ما كانَ لِنَبِيٍ) : روى أحمد وغيره عن أنس قال : استشار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الأسارى يوم بدر ، فقال : إن الله قد أمكنكم منهم ، فقام عمر بن الخطاب فقال : يا رسول الله ، اضرب أعناقهم ، فأعرض عنه ، فقام أبو بكر فقال : نرى أن نعفو عنهم ، وأن تقبل منهم الفداء ، فعفا عنهم ، وقبل منهم الفداء ، فأنزل الله : (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ) الآية.

وروى أحمد والترمذي والحاكم عن ابن مسعود قال : لما كان يوم بدر ، وجيء بالأسارى ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما تقولون في هؤلاء الأسارى؟ الحديث. وفيه : فنزل القرآن بقول عمر: (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى) الآيات.

وأخرج الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : لم تحل الغنائم ، لم تحل لأحد سود الرؤوس من قبلكم ، كانت تنزل نار من السماء ، فتأكلها ، فلما كان يوم بدر وقعوا في الغنائم قبل أن تحل لهم ، فأنزل الله : (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ ، لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ).

وأخرج ابن المنذر عن نافع عن ابن عمر قال : اختلف الناس في أسارى بدر ، فاستشار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا بكر وعمر ، فقال أبو بكر : فادهم ، وقال عمر : اقتلهم ، فقال قائل : أرادوا قتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهدم الإسلام ، ويأمره أبو بكر بالفداء ، وقال قائل : لو كان فيهم أبو عمر أو أخوه ما أمر بقتلهم.

٦٧

فأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقول أبي بكر ، ففاداهم فنزل : (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) فقال رسول الله : إن كاد ليمسّنا في خلاف ابن الخطاب عذاب عظيم ، ولو نزل العذاب ما أفلت إلا عمر».

فهذه الروايات تدل بالاتفاق على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذ برأي أبي بكر ، وقبل الفداء من أسرى بدر ، وتذكر الرواية الثانية والرابعة أن القرآن نزل تشريعه موافقا لرأي عمر ، وتنفرد الرواية الثانية عند الترمذي أن نزول الآية كان بسبب أخذ الغنائم قبل أن تحل لهم.

وفي رواية خامسة عند ابن أبي شيبة والترمذي وابن مردويه والبيهقي عن الأعمش عن ابن مسعود توضيح أكثر ، يجعل الآراء ثلاثة ، قال : لما كان يوم بدر وجيء بالأسرى ، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما تقولون في هؤلاء الأسرى؟ فقال أبو بكر : يا رسول الله ، قومك وأصلك استبقهم واستأن بهم لعل الله عزوجل يتوب عليهم. وقال عمر : كذبوك وأخرجوك ، فقدمهم فاضرب أعناقهم. وقال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله ، انظر واديا كثير الحطب ، فأدخلهم فيه ، ثم أضرم عليهم نارا ، فقال العباس : قطعت رحمك ، فسكت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يجبهم.

ثم دخل ، فقال ناس : يأخذ بقول أبي بكر ، وقال ناس : يأخذ بقول عمر ، وقال ناس : يأخذ بقول عبد الله ، ثم خرج عليهم فقال : إن الله عزوجل ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن ، وإن الله عزوجل ليشدّد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة. وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم قال : (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ، وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [إبراهيم ١٤ / ٣٦] وإن مثلك يا أبا بكر كمثل عيسى قال : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ ، فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [المائدة ٥ / ١١٨]. وإن مثلك يا عمر كمثل موسى قال : (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ ،

٦٨

وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ) [يونس ١٠ / ٨٨] ومثلك يا عمر كمثل نوح قال : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) [نوح ٧١ / ٢٦].

ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنتم اليوم عالة ، أنتم اليوم عالة ، فلا ينفلتنّ منهم أحد ، إلا بفداء أو ضرب عنق؟ قال ابن مسعود : فأنزل الله عزوجل : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) الآيات (١).

وتنفرد رواية سادسة ذكرها مسلم وأحمد عن عكرمة بن عمارة عن ابن عباس في وصف حال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصاحبه أبي بكر بعد نزول الآية ، وتصرح بأن الذين اختاروا الفداء كثيرون ، قال : حدثني عمر بن الخطاب قال : لما كان يوم بدر والتقوا ، فهزم الله المشركين ، وقتل منهم سبعون رجلا ، وأسر سبعون رجلا ، استشار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا بكر وعمر وعليا ، فقال أبو بكر : يا رسول الله هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان ، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية ، فيكون ما أخذنا منهم قوة لنا على الكفار ، وعسى الله أن يهديهم ، فيكونوا لنا عضدا. فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما ترى يا ابن الخطاب؟

قال : قلت : والله ما أرى ما رأى أبو بكر ، ولكن أن تمكنني من فلان قريب لعمر فأضرب عنقه ، وتمكّن عليا من عقيل فيضرب عنقه ، وتمكّن حمزة من فلان أخيه ، فيضرب عنقه ، حتى يعلم الله عزوجل أنه ليس في قلوبنا موادة للمشركين ، هؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم ، فهوي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما قال أبو بكر ، ولم يهو ما قلت ، فأخذ منهم الفداء.

فلما كان من الغد ، قال عمر : غدوت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإذا هو قاعد ، وأبو بكر الصديق ، وإذا هما يبكيان ، فقلت : يا رسول الله ، أخبرني ، ماذا يبكيك أنت وصاحبك ، فإن وجدت بكاء بكيت ، وإن لم أجد بكاء تباكيت؟

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي : ص ١٣٦ وما بعدها.

٦٩

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أبكي للذي عرض على أصحابك من الفداء ، لقد عرض علي عذابكم أدنى من هذه الشجرة ، لشجرة قريبة ، وأنزل الله عزوجل : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) إلى قوله : (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي من الفداء وهذه الرواية أجمع الروايات وأصحها وأولاها بالاحتجاج بها.

والخلاصة : كان الأولى قتل الأسرى ، وكان أخذ الفداء باجتهاد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكل اجتهاد عرضة للخطأ والصواب ، لكن اجتهاد المصطفى لا يقر فيه على الخطأ.

روى ابن المنذر عن قتادة قال : أراد أصحاب محمد الفداء يوم بدر ، ففادوهم بأربعة آلاف ، أربعة آلاف. وفي مصنف أبي داود عن ابن عباس رضي‌الله‌عنه أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جعل فداء أهل الجاهلية يوم بدر أربعمائة.

نزول الآية (٧٠):

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ) : روى الطبراني في الأوسط عن ابن عباس قال : قال العباس : فيّ والله نزلت حين أخبرت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإسلامي ، وسألته أن يحاسبني بالعشرين أوقية التي وجدت معي ، فأعطاني بها عشرين عبدا ، كلهم تاجر بمالي في يده ، مع ما أرجو من مغفرة الله.

وفي رواية أخرى أكثر إيضاحا ، قال الكلبي في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى) الآية : نزلت في العباس بن عبد المطلب ، وعقيل بن أبي طالب ، ونوفل بن الحارث ، وكان العباس أسر يوم بدر ، ومعه عشرون أوقية من الذهب ، كان خرج بها معه إلى بدر ليطعم بها الناس ، وكان أحد العشرة الذين ضمنوا إطعام أهل بدر ، ولم يكن بلغته التّوبة حتى أسر ، فأخذت معه وأخذها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منه ، قال :

٧٠

فكلمت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يجعل لي العشرين أوقية الذهب التي أخذها مني من فدائي ، فأبى عليّ وقال : أما شيء خرجت تستعين به علينا فلا ، وكفلني فداء ابن أخي عقيل بن أبي طالب عشرين أوقية من فضة ، فقلت له : تركتني والله أسأل قريشا بكفي ، والناس ، ما بقيت. قال : فأين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل مخرجك إلى بدر ، وقلت لها : إن حدث بي حدث في وجهي هذا ، فهو لك ولعبد الله والفضل وقثم ، قال : قلت : وما يدريك؟ قال : أخبرني الله بذلك ، قال : أشهد أنك لصادق ، وإني قد دفعت إليها ذهبا ، ولم يطلع عليها أحد إلا الله ، فأنا أشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك رسول الله.

قال العباس : فأعطاني الله خيرا مما أخذ مني ، كما قال : عشرين عبدا ، كلهم يضرب بمال كبير ، مكان العشرين أوقية ، وأنا أرجو المغفرة من ربي (١).

وروى أبو الشيخ ابن حيان عن ابن عباس : أن العباس وأصحابه قالوا للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : آمنا بما جئت به ، ونشهد أنك رسول الله ، فنزل : (إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً) الآية.

المناسبة :

الآيات متصلة بما قبلها في بيان الأحكام الحربية بمناسبة غزوة بدر ، فهي لتبيان حكم آخر من أحكام الجهاد في حق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو حكم الأسرى في مبدأ قيام الدولة الإسلامية وهو القتل.

التفسير والبيان :

ما صح لنبي وما استقام له وما كان شأنه الذي ينبغي أن يكون له أسرى يختار فيهم إما المنّ أو الفداء في مبدأ أمره حتى يكثر القتل في الكفار ويبالغ

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي : ص ١٣٨

٧١

فيه ، لإظهار عزة الإسلام والمسلمين. وإرهاب الدولة أعداءها ، واشتداد أمرها ، فلا يتجرأ على النيل منها أحد ، ولا يقدم على إضعافها والتجسس عليها أحد من الأسرى الذين تركوا يعودون لديارهم بفداء مالي.

فالذين يرون قبول الفداء إنما يريدون الحصول على عرض الدنيا (١) أي حطام الدنيا الفاني ، والله يريد لكم ثواب الآخرة الدائم وما هو سبب الجنة بما يشرعه لكم من الأحكام المؤدية إليه ، ومنها الإثخان في القتل في الأرض ، وإعزاز الدين ، والقضاء على الأعداء ، لإعلاء كلمة الحق ، وإقامة العدل ، وإقرار النظام الأصلح للبشرية.

والله عزيز يغلّب أولياءه على أعدائه ، ويمكنهم منهم قتلا وأسرا ، حكيم في أفعاله وأوامره ، يشرع لكل حال ما يليق به ، ويخصه به ، كالأمر بالإثخان ومنع أخذ الفداء حين كانت الشوكة والقوة للمشركين ، وبذلك تتحقق عزة المؤمنين كما قال تعالى : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) [المنافقون ٦٣ / ٨].

لو لا كتاب من الله سبق أي لو لا حكم من الله سبق إثباته في اللوح المحفوظ (٢) : وهو أنه لا يعاقب المخطئ في اجتهاده ؛ لأن أصحاب هذا الرأي نظروا ورأوا أن استبقاءهم ربما كان سببا في إسلامهم وتوبتهم ، وأن فداءهم يتقوّى به على الجهاد في سبيل الله ، وخفي عليهم أن قتلهم أعز للإسلام ، وأهيب لمن وراءهم ، وأضعف لشوكتهم.

وقيل : إن الحكم الذي سبق هو ألا يعذب أهل بدر فهم مغفور لهم ، أو ألا يعذب قوما إلا بعد تأكيد الحجة والبيان ، والتصريح المتقدم بالنهي عن الفداء ، ولم يكن قد تقدم نهي عن ذلك ، أو أنهم استعجلوا في استباحة الغنائم ، ولم تكن قد أحلت لهم ، والله تعالى سيحلها لهم.

__________________

(١) إنما سميت منافع الدنيا ومتاعها عرضا ؛ لأنه لا ثبات له ولا دوام ، فكأنه يعرض ثم يزول.

(٢) سيأتي جواب : لو لا في مطلع الصفحة الآتية.

٧٢

لو لا هذا الحكم الإلهي السابق إبرامه لنالكم أيها المؤمنون فيما أخذتم من الفداء عذاب عظيم وقعة ، شديد هوله. وفي هذا تهويل لخطر ما فعلوا.

وبعد أن عاتبهم الله تعالى على أخذ الفداء ، أباحه لهم وجعله من جملة الغنائم المباحة التي أبيحت لهم في مطلع السورة ، فقال : (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ ...) أي أبحت لكم الغنائم فكلوا مما غنمتم من الفدية ، حال كونه حلالا لكم ، طيبا بنفسه لا حرمة فيه لذاته ، كحرمة الدم ولحم الخنزير ، أو كلوه أكلا حلالا لا شبهة فيه. والفائدة إزاحة ما وقع في نفوسهم من أكل الفداء بسبب تلك المعاتبة أو حرمة الغنائم على الأولين.

واتقوا الله في مخالفة أوامره ، ولا تعودوا لشيء من المخالفة لأمره ونهيه ، ولا ترتكبوا المعاصي بعد ذلك ، إن الله غفور لذنوبكم بأخذ الفداء ، رحيم بكم بإباحته لكم ما أخذتم ، ومن رحمته : قبوله التوبة عن عباده وعفوه عن السيئات.

والخلاصة : أن مفاداة الأسرى أو المنّ عليهم بإطلاق سراحهم لا يكون إلا بعد توافر الغلبة والسلطان على الأعداء ، وإظهار هيبة الدولة في وجه الآخرين.

وبعد أن أخذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الفداء من الأسرى ، وشق عليهم أخذ أموالهم منهم ، أنزل هذه الآية : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ ...) استمالة لهم ، وترغيبا لهم في الإسلام ببيان ما فيه من خيري الدنيا والآخرة ، وتهديدا وإنذارا لهم إذا بقوا على الكفر.

ومعنى الآية : يا أيها النبي قل لمن وقع في أيديكم من أسرى المشركين الذين أخذتم منهم الفداء : إن يعلم الله في قلوبكم الآن أو في المستقبل إيمانا وإخلاصا وحسن نية وعزما على طاعة الله والرسول في جميع التكاليف ، والتوبة عن الكفر ، وعن جميع المعاصي ، ومنها العزم على نصرة الرسول والتوبة عن محاربته ، يؤتكم

٧٣

خيرا مما أخذ منكم من الفداء ، ويغفر لكم ما كان منكم من الشرك والسيئات ، والله غفور لمن تاب عن المعاصي ، رحيم بالمؤمنين ، فهو يمدهم بعنايته وتوفيقه وإسعاده.

قال ابن عباس : الأسرى في هذه الآية العباس وأصحابه ، قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : آمنا بما جئت به ، ونشهد أنك رسول الله ، لننصحنّ لك على قومك ، فنزلت هذه الآية.

وفي هذا حض على إعلان الإسلام وقبول دعوته. وإن يريدوا أي الأسرى خيانتك يا محمد بإظهار الإسلام والمسالمة ، ثم نقض ما عاهدوك عليه ، فلا تخف من خيانتهم ، فإنهم قد خانوا الله من قبل بدر بالكفر ، ونقض ميثاقه الذي أخذه على البشر في قوله : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا : بَلى) [الأعراف ٧ / ١٧٢] ، وأقام الأدلة الكونية والعقلية عليه ، وآتاهم من العقل الذي يرشد المتأمل بحق إلى الإقرار بوحدانية الله تعالى.

فأمكن منهم ، أي فأمكنك منهم يوم بدر ، وإن عادوا إلى الخيانة فسيمكّنك منهم ، ويسلطك عليهم فتهزمهم.

والله عليهم بنو إياهم ، حكيم في تدبيره وصنعه ، فينصر المؤمنين على الكافرين.

وفي هذا تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بوعده بالنصر ، ووعيده لهم بالهزيمة ؛ لأن الله مطلع على كل شيء في الوجود ، ومهيمن على جميع البشر ، وقادر على تحقيق ما يريد.

فقه الحياة أو الأحكام :

آية : (ما كانَ لِنَبِيٍ) نزلت يوم بدر ، عتابا من الله عزوجل لأصحاب

٧٤

نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. والمستفاد منها أنه ما كان ينبغي لكم أن تفعلوا هذا الفعل الذي أوجب أن يكون للنبي أسرى قبل الإثخان أي القتل والتخويف الشديد.

وهذه الآية إحدى موافقات الوحي لرأي عمر ، وقد بلغت بضعا وثلاثين.

ولقد كان هذا الحكم مناسبا لبدء قيام الدولة الإسلامية ، ولا شك أن لكل دولة في بداية تأسيسها أحكاما وظروفا وقتية ، تستدعيها المصلحة واستكمال قيام الدولة ، وهذا الحكم القتل المشروع للأسرى من الأعداء مجرمي الحرب ، وليس التقتيل الداخلي للشعب بعد قيام الثورة مثلا.

ولم يكن فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلا اجتهادا واختيارا لأحد أمرين مشروعين : هما القتل وأخذ الفداء. فهو فعل لخلاف الأولى ، وليس في ذلك مساس أصلا بعصمة الأنبياء عليهم‌السلام كما فهم بعضهم ؛ لأن المساس بالعصمة يحصل إذا خالف النبي نصا صريحا أو أمرا قائما ، ولم يكن هناك نص أو أمر سابق بالقتل ، بدليل مشاورة الصحابة ، إذ لا يجوز له بحال ترك حكم النص ، وطلب الحكم من مشاورة الصحابة.

وأما بكاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيحتمل أن يكون بسبب الخطأ في الاجتهاد ، وحسنات الأبرار سيئات المقرّبين ، وقد أقدم على البكاء لأجل هذا المعنى ، بسبب حرصه الشديد على الإصابة فيما ارتاه ، وموافقة اجتهاده حكم الله في المسألة.

وعلى كل حال ، فقد قتل بعض أسرى بدر وهم اثنان أو ثلاثة وهم : النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط وطعيمة بن عدي ، لكنه لم يحقق الإثخان في الأرض ، وحاول بعض المستشرقين الطعن بذلك ، فكيف لو قتل جميع الأسرى ، وكان عددهم سبعين ، فيهم العباس عم النبي وعقيل بن أبي طالب ابن عمه؟!

أسند الطبري وغيره أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال للناس : «إن شئتم أخذتم فداء

٧٥

الأسارى ، ويقتل منكم في الحرب سبعون على عددهم ، وإن شئتم قتلوا وسلمتم» فقالوا : نأخذ الفداء ، ويستشهد منا سبعون.

وإذا كان التخيير بين القتل وأخذ الفداء ، فكيف وقع التوبيخ بقوله : (لَمَسَّكُمْ)؟ الجواب : أن التوبيخ وقع أولا لحرصهم على أخذ الفداء ، ثم وقع التخيير بعد ذلك.

وأما قوله تعالى : (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ) في أنه لا يعذب قوما حتى يبين لهم ما يتقون ، فأصح الأقوال ـ في رأي ابن العربي والقرطبي ـ في كتاب الله السابق : ما سبق من إحلال الغنائم ، فإنها كانت محرمة على من قبلنا ، فلما كان يوم بدر ، أسرع الناس إلى الغنائم ، فأنزل الله عزوجل : (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ) أي بتحليل الغنائم.

وبما أن هذه الآية في إحلال الغنيمة ، واستحقاق العذاب بما اقتحموا فيها مما ليس لهم اقتحامه إلا بشرع ، استنبط ابن العربي من ذلك بأن الآية دليل على أن العبد إذا اقتحم ما يعتقده حراما ، مما هو في علم الله حلال ، إنه لا عقوبة عليه ، كالمرأة إذا قالت : هذا يوم حيضتي فأفطر ، والصائم إذا قال : هذا يوم نوبتي في سفري فأفطر ، ثم حدث الحيض والسفر فعلا ، ورجح ابن العربي ألا كفارة في هذه الحالة ؛ لأن حرمة اليوم ساقطة عند الله ، فصادف هتك حرمة الصوم محلا لا حرمة له في علم الله ، فكان بمنزلة ما لو قصد وطء امرأة قد زفّت إليه ، وهو يعتقد أنها ليست بزوجة ، فإذا هي زوجة. وهذا رأي أبي حنيفة. ومشهور مذهب المالكية والشافعي أن فيه الكفارة (١).

والمعنى الراجح لقوله : (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ) في رأي الرازي : لو لا أنه تعالى حكم في الأزل بالعفو عن هذه الواقعة لمسهم عذاب عظيم.

__________________

(١) أحكام القرآن : ٢ / ٨٧٢

٧٦

وظاهر قوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ) يقتضي أن تكون الغنيمة كلها ملكا للغانمين ، وأن يكونوا مشتركين فيها على السواء ؛ إلا أن قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) المتقدم بيّن وجوب إخراج الخمس منه وصرفه إلى مصارفه المذكورة. وفي الآية أيضا إباحة الغنائم التي كانت محظورة قبل ذلك ، عن أبي هريرة أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما رواه الترمذي عن أبي هريرة قال : «لم تحل الغنائم لقوم سود الرؤوس من قبلكم».

وأرشدت الآية : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى) إلى أنه يجب على المؤمنين ترغيب الأسرى في الإيمان. وتضمنت بشارة للمؤمنين باستمرار النصر على المشركين ، ما داموا آخذين بأسباب النصر المادية والمعنوية.

روى البخاري عن أنس : «أن رجالا من الأنصار استأذنوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ترك فداء عمه العباس رضي‌الله‌عنه ، وكان في أسرى المشركين يوم بدر ، فقالوا : ائذن لنا ، فنترك لابن أختنا (١) العباس فداءه ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : والله لا تذرون منه درهما».

وكان فداء الأسير أربعين أوقية ذهبا ، فجعل على العباس مائة أوقية (لأنه كان موسرا) وعلى عقيل ثمانين ، فقال له العباس : أللقرابة صنعت هذا؟ قال : فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى : إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ) فقال العباس (بعد إسلامه) : وددت لو كان أخذ مني أضعافها ، لقوله تعالى : (يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ).

وذكر ابن العربي أنه لما أسر من أسر من المشركين ، تكلم قوم منهم بالإسلام ، ولم يمضوا بذلك عزيمة ، ولا اعترفوا به اعترافا جازما. ويشبه أنهم أرادوا أن يقربوا من المسلمين ، ولا يبعدوا من المشركين ، فنزلت الآية.

__________________

(١) لأن جدته كانت أنصارية.

٧٧

قال المالكية : إن تكلم الكافر بالإيمان في قلبه وبلسانه ، ولم يمض به عزيمة لم يكن مؤمنا. وإذا وجد مثل ذلك من المؤمن ، كان كافرا إلا ما كان من الوسوسة التي لا يقدر المرء على دفعها ، فإن الله قد عفا عنها وأسقطها.

وقد بيّن الله لرسوله الحقيقة فقال : (وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ) أي إن كان هذا القول منهم خيانة ومكرا (فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ) بكفرهم ومكرهم بك وقتالهم لك ، فأمكنك منهم ، وإن كان هذا القول منهم خيرا ويعلمه الله ، فيقبل ذلك منهم ، ويعوضهم خيرا مما خرج عنهم ، ويغفر لهم ما تقدم من كفرهم وخيانتهم ومكرهم (١).

والمراد بالخير في قوله : (يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ) يشمل خيري الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فيخلفهم الله أفضل مما أخذ منهم ، وأما في الآخرة فيعطيهم الثواب ويدخلهم الجنة. وذلك يشمل كل من أخلص من الأسارى.

أصناف المؤمنين في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمقتضى الإيمان والهجرة

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٧٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (٧٣) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ

__________________

(١) أحكام القرآن لابن العربي : ٢ / ٨٧٤

٧٨

حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٧٤) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧٥))

الإعراب :

(فِي سَبِيلِ اللهِ) متعلق ب (جاهَدُوا) ، ويجوز أن يكون من باب التنازع في العمل بين (هاجَرُوا وَجاهَدُوا إِلَّا تَفْعَلُوهُ) الهاء : إما أن تعود على التوارث ، وإما أن تعود على التناصر. و (تَكُنْ) : تامة بمعنى : تقع لا تفتقر إلى خبر. و (فِتْنَةٌ) : فاعل تكن. والمعنى : إلا تفعلوا ما أمرتكم به من تواصل المسلمين ، وتولي بعضهم بعضا حتى في التوارث ، تفضيلا لنسبة الإسلام على نسبة القرابة ، ولم تقطعوا العلائق بينكم وبين الكفار ، ولم تجعلوا قرابتهم كلا قرابة ، تحصل فتنة في الأرض ومفسدة عظيمة ؛ لأن المسلمين ما لم يصيروا يدا واحدة على الشرك ، كان الشرك ظاهرا ، والفساد زائدا (الكشاف : ٢ / ٢٥).

المفردات اللغوية :

(وَهاجَرُوا) أي تركوا مكة التي كانت دار حرب وكفر ، وذهبوا إلى المدينة دار الإسلام (آوَوْا) أنزلوا وأسكنوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَنَصَرُوا) هم الأنصار (أَوْلِياءُ بَعْضٍ) في النصرة والإرث (وَلايَتِهِمْ) أي توليتهم في الميراث ، والولاية في الأصل : ملك الأمر والسلطة عليه والقيام به (مِنْ شَيْءٍ) أي فلا إرث بينكم وبينهم ولا نصيب لهم في الغنيمة (حَتَّى يُهاجِرُوا) وهذا أي التوارث بالهجرة كان في مبدأ الأمر ، ثم نسخ بآخر السورة وأصبح التوارث بقرابة الرحم (مِيثاقٌ) عهد ، أي فلا تنصروا المسلمين على المعاهدين وتنقضوا عهدهم. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) في النصرة والإرث ، فلا إرث بينكم وبينهم.

(إِلَّا تَفْعَلُوهُ) أي تولي المسلمين وقمع الكفار (تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ) أي تحدث فتنة عظيمة بقوة الكفر وضعف الإسلام (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) في الجنة (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ) بعد السابقين إلى الإيمان والهجرة (فَأُولئِكَ مِنْكُمْ) أيها المهاجرون والأنصار (وَأُولُوا الْأَرْحامِ)

٧٩

ذو القرابات (بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) في الإرث من التوارث بسبب الإيمان والهجرة المذكورة في الآية السابقة (فِي كِتابِ اللهِ) اللوح المحفوظ (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ومنه حكمة الميراث وتدرجها من التوارث بالهجرة إلى التوارث بالرحم ، إلى التوارث بشدة القرابة في سورة النساء.

سبب النزول :

نزول الآية (٧٣):

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا) : أخرج ابن جرير الطبري ، وأبو الشيخ ابن حيان عن السّدّي عن أبي مالك قال : قال رجل : نورّث أرحامنا المشركين؟ فنزلت : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ...) الآية.

نزول الآية (٧٥):

(وَأُولُوا الْأَرْحامِ) : أخرج ابن جرير عن ابن الزبير قال : كان الرجل يعاقد الرجل : ترثني وأرثك ، فنزلت : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ).

وأخرج ابن سعد عن عروة قال : آخى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين الزبير بن العوام وبين كعب بن مالك ، قال الزبير : فلقد رأيت كعبا أصابته الجراحة بأحد ، فقلت : لو مات ، فانقلع عن الدنيا وأهلها ، لورثته ، فنزلت هذه الآية : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ ، إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فصارت المواريث بعد للأرحام والقرابات ، وانقطعت تلك المواريث في المؤاخاة.

المناسبة :

بعد أن أبان الله تعالى قواعد الحرب والسلم مع الكفار ، وحكم معاملة الأسرى ، ختم السورة ببيان قرابة الإسلام ورابطته البديلة عن علاقة الكفر ، وهي ولاية المؤمنين بعضهم لبعض بمقتضى الإيمان والهجرة ، في مقابلة ولاية الكافرين بعضهم لبعض ، ولكن بشرط المحافظة على العهود والمواثيق مع الكفار مدة العهد.

٨٠